د. أبوبكر السقاف - لوم الضحية

د. أبوبكر السقاف - الوجوه الثلاثة لدولة الحرب على المجتمع

رغم اختلاف علماء التاريخ والاجتماع والقانون على تفاصيل كثيرة في أصل الدولة ، إلا أنهـم يـكادون يجمعون على أنها جهاز قهـر يوظف طبقياً لخدمة طبقـة دون أخرى . ويحـــدد أحدهم ، وهو ماكس فيبر ، أن من أهم وظائفها احتكار الحق العلني في استخدام القوة لحفظ السلام الاجتماعي . ولكنهم جميعا يشددون على أن هذا لا يستغرق وظائفها كافـة ، فهي لا بد أن تنظم العمل الاجتماعي والتضامن بين الأفراد والمؤسسات ، وتكون بذلك اللحمة والسدى .
ومع الدولة الديمقراطية الحديثة أصبحت قادرة ليس على إعادة إنتاج نفسها فحسب بل وتجديد نفسها .
وعندئذ لا يكون الصراع ، الذي يدور فيها مهددا وحدتها ، بل لعله دليل عافية ونمو . أما في حال انتفاء هذه المقومات والشروط ، كما هي الحال في بلادنا العربية ، فإن الديكور البراني المستعار يناقض جوهرها ، وتدل كل ملامحها على أنها ليست دولة للمجتمع كله ، دولة لمواطنيها ، بل تسفر عن أنها دولة حرب على المحكومين ، وهي لا تحكم المجتمع بل تحاربه ، إنها ضـداً على المجتمع ، وأقصـى درجات فشلها أن تكون حرباً عليه كله ، فتصبح عندئذ دولة الحروب المستدامة الكبيرة والصغيرة . فهي تتوحد بالقوة وحدها وتلغي كل وظائفها الأخرى ، التي هي أسـاس قيامها ، بل إنها تثبت أن القوة والحرب هما وسيلة أصحابها إلى المال والثروة ، وبذلك تكون لهذه الحروب وظيفة إقتصـادية واضحة ، فهي غنيمة مستمرة ، فتستقر الدولة على هكذا نهج وتقيم عليه .
صعدة والجنوب وشـرعب ، وجوه ثلاثة لهذه الدولة ، تضافرت مراكز القوى في الدولة في صـنع الحرب في صعدة ورافقتها حرب إعلامية تسـفه عقيدة جزء من المجتمع اليمني واضطهاد ديني سـافر لكل الذين ينتمون إلى الاسـلام السياسي الزيدي ، تخلله رهاب الشرعية الذي يقلق الحكام منذ انقلاب 26 سبتمبر .
وفي شـرعب جـاء رد فعل الدولة التي تتوحد بالجيش والأمن علـى دفاع الناس عن كرامتهم والمطالبة بالعدالة مفرطا في استخدام القوة ، وهي تستعديها على الشعب بمناسبة ، وبدون مناسبة ، كما يتضـح في كل خطب وزيارات رئيس الجمهورية للمرافق العسكرية والأمنية ، وما قاله أحد العسكريين لأهالي شرعب يفضح نظرة النظام إليهم ؛ فقد أنذرهم بأنهـم لا يستطيعون أن يكونوا مثل أهل مأرب ، فهم في نظـره أقرب إلى أهل الذمة الذين عليهم ا الاستكانة ، ودفع الجزية أو ما في حكمها .
وحديث الدولة عن البدء في سحب القوات يجعل المسـألة مأساوية ومضحكة في الوقت نفسه . فأرتال الراجمات والدبابات والمصفحات التي نشرت الصحف صور زحفها وانسحابها الجزئي تذكر الناس بجيوش الغزو وليس بصـدام في جزء من « دولة » يمكن أن يعالج بالوسائل البوليسية والادارية والقضائية ، تبدو الدولة السلطانية وكأنها تجعل من الشعار الذي يقوم عليه تحالفها مـع أمريكا : محاربة الارهاب ، ذريعة لشـن الحرب على منطقة شرعب ، مقلدة أمريكا ورئيسها المسدس الذي جعلها ذريعة لعولمة حرب الامبريالية ، بينما . مسألة بوليسية محدودة المدى والطابع في كل دولة . وهكذا أصبح الارهاب ذريعة للتحالف مع أمريكا ومشاركتها في قمع الشعوب العربية والاسلامية . بالأمس ، 2008/1/13 ، سقط قتيلان في ساحة الهاشمي بالشيخ عثمان وجرح سبعة عشـر من المواطنين . وهو استمرار للنزف الدموي الذي بدأ في 94/7/7 ، بساحة الحرية في خور مكسر . قال الجنوبيون جميعا باستثناء الملحقين بمركز صـنعاء « لا الكبرى » ( سعدي يوسف ) ، ولـن يتوقفوا إلا بعد بلوغ حقهم في تقرير مصيرهم . فكل ما بعد 94/7/7 ، لا يملك ذرة من الشرعية ، لأنه قوة عارية من كل معنى حقوقي وسياسي ومدني .
كل هذه الحروب تؤكد حرب الدولة على المجتمع ، وكان أكثرها وضـوحاً لجوء الدولة في حربهـا إلى القبيلة في الحرب الأخيرة في صعدة ، وهو ملمح اتخذ صـورة صـارخة في شرعب ، حيث جندت الدولة بوساطة الشرطة علناً مئات من الحداء ، ونظمت وصولهم إلى الحوبان وتعز ؛ مما أعاد إلى الأذهان صـورة الجيش الامامي . وكانت إرهاصـات هذا الملمح قد بدأت في إب عندما قام أفراد من الأمن ينتمون إلى القبيلة نفسها بقتل الرعوي في مركز الأمـن . إن الدولة تتضـح ملامحها أكثر فأكثر ، حيث يبدو فيها مـا قبل الدولة ، وما دونها ، فلم تعد تحرص حتى على احتكار استخدام العنف العلني لحماية السلام الاجتماعي ، لأنها تقوم على نقيضه ، ويحكمها مراوحتها بين السلطة / سلطانية قائمة على توازن دولي ، خلق من القبائل العربية وغير العربية رايات ودولا كاملة العضوية في الأمم المتحدة ، ومناوبة قبيلية دورية على هذه الملامح تتكون حقيقتها ، فهي ليست دولة حديثة البتة ، ولا السلطة . ومن دولة لمواطنيها ، فهي في حال انتقالية مستمرة .
ماذا يبقى لابتكار هويتها وشرعيتها فهي تحارب مذهباً وجماعة يمتد تاريخها نحو ألف عام ، وتضطهد إخوانها في القحطانية ، بممارسة زيدية جهوية ضاربة ، وتجعل من الجنوب منذ 94/7/7 ، دار حرب ، وكأنه أرض بلا شعب .
دولة الحرب على المجتمع لا يمكن أن تستحق اسم الدولة : إنها تقوض أسس وجودها . فلم يبق إلا أن يقرر الناس مصيرهم .

2008/1/14
أعلى