د. أبو بكر السقاف - مصطلحات في الفكر والفن والفلسفة والسياسة

مصطلحات في الفكر والفن والفلسفة والسياسة كانت قد نشرت عام 2007 في صحيفتي النداء والتجمع الاسبوعيتين اليمنيتين كتبها وقدمها المفكر العربي الكبير أبوبكر السقاف، وكان هذا المشروع التنويري قد استحوذ على اهتمام الكثير من القراء والمهتمين والباحثين، للاسف توقف هذا المشروع عن النشر لاسباب مازلنا نجهلها.
التعريفات
أوخلوقراطيا:
وتعني في اليونانية حكم الغوغاء، وهو مصطلح يندرج استخدامه. وقد ورد عند المؤرخ القديم بلليوس، كما وصف أرسطو طاليس هذا الحكم في سياق مقارنته بين أشكال الحكم في اليونان، وذكره أستاذه أفلاطون، وسمته الأساسية هي أن يستبدل بحكم القانون نزوات الدهماء التي تتغير باستمرار كلما وقع جمهورهم تحت تأثير الديماجوجيين ونادرا ما يوجد هذا النوع من الحكم في التاريخ، لأنه يظهر في الفترات الانتقالية وأيام الفتن والأزمات، ولا يتميز بطول العمر أو الاستقرار. بيد ان مشكلة الاوخلوقراتيا لم تفقدها أهميتها ودلالاتها حتى في عصرنا.
الأنموذج المثالي:
مركب نظري من نسق مفهومات، يصور مساراً، أو لحظة أو رابطة في الواقع الاجتماعي، كما يتصوره الوعي الفردي، ويبدو له متسقاً كعقلانية لا تتسم بالتناقض.
والهدف الذي يتوخى الوصول إليه، أنموذج منطقي خالص من ناحية، وهو أيضاً من ناحية أخرى معيار يقاس به ما ينجز في عالم الواقع التجريبي. وهو تصور صاغه ماكس فيبر، وقد حدد بذلك فكرة الفيلسوف ريكرت، التي مفادها أن القضايا التاريخية (العلم عن الثقافة) إنما تصاغ وفقاً لمبدأ النسبة الى القيم، أي أنها لا تقبل التعميم، مثل قضايا «العلم عن الطبيعة». ويرى فيبر أن تناقض الواقع والأنموذج المثالي، هو المكان الذي يجب ان نبحث فيه عن تأثير أسباب إمبيريقية، وذلك يتطلب بحثاً علمياً اجتماعياً. ويؤكد فيبر على أن الأنموذج المثالي، لا يقدم أي معارف عن الوقائع، ولا عن إعادة إنتاجها، فهو ليس إلا وسيلة منهجية، تساعد على فهم الواقع أثناء فحص إمبيريقي، لأسباب عينية في مجال من المجالات الاجتماعية. ويقوم الأنموذج المثالي بهذا الدور لأنه لا يعكس الواقع، بل ولأنه يختلف عنه اختلافاً جذرياً، ويقدم نفسه باعتباره مختلفاً عنه من حيث المبدأ، فهو يقع في بعد آخر: بُعد اللاوجود. إنه مركب أو بنية نظرية يصوغها الخيال، مثل اليوتوبيا، وبإطلاق فكرة ما أو مبدأ إلى نهاية التعبير الكامل عن مكوناته، وذلك بتركيب عدة أفكار أو مبادئ في «تصور واحد»، يكون متسقاً كل الاتساق.
يجيب هذا التصور المثالي عن السؤال: كيف تجري الأحداث، وتتبلور الوقائع لو أنها استجابت للمعيار أو القاعدة، وفي اتساقهما، أي دون تناقض؟ ويرى فيبر أننا إذ ندرس هذا المسار، لا ندرك درجة انحراف الواقع عن الممكن، والكائن عن الواجب، بل والأسباب التي أدت إلى هذا الإنحراف في الحياة الواقعية. والأنموذج المثالي بما هو يوتوبيا لا يمكن النظر إليه كفرضية، لأنه لا يمكن إثباته ولا نفيه، ولا يقبل الإقرار أو النقض بوساطة التجريب أو البحث الإمبيريقي، إنه يشير إلى اتجاه صوغ الفرضية، فهو «فرضية الفروض». وأنه في الوقت نفسه لما كان على علاقة ما بالبحث الإمبيريقي كعامل مساعد في سياق المعرفة، فإنه يربط المعايير القيمية، والإمبيريقية، في المجالات الثقافية. وما كان للمعرفة الإمبيريقية أن تجد طريقها إلى التطبيق لو لم يكن بين يديها ترسانة من الأنموذجات المثالية المتنوعة، وهي ترسانة يزداد تنوعها بأنساق ومنظومات عقيدية همها بلوغ أهداف عملية ومعيارية، مثل نظرية الحق (الحقوق)، الاقتصاد النظري...إلخ. وترتبط في بنية الأنموذج المثالي، قضايا معيارية ومنطقية، وهو يلقي ضوءاً على الوقائع الإمبيريقية التي تبدو محايدة، وينسبها إلى عالم القيم. ويحذر فيبر، من افتراض أن الأنموذج المثالي هو الحقيقي أو الصواب، فذلك خلط «النظرية والتاريخ»، وله عواقب وخيمة نظرياً وعملياً.
والأنموذج المثالي من المحاولات المبكرة، لصوغ منهج يدرس الظواهر الاجتماعية في الغرب.
السلطة:
ظاهرة سياسية واقتصادية تصف نسق علاقات بين الحكم والمحكومين، وتفرض حضور ذات تناط بها السلطة، وتقوم القوانين بصوغ علاقتها وهي في أساسها ومحورها. وكانت فكرة الفضيلة تقوم بتأسيس نظري لها في القرنين السادس عشر والسابع عشر (ماكيافيللي، وهوبس، وهارنغتون). أما في القرن الثامن عشر والتاسع عشر فقد ظهرت النظرية التي تتحدث عن تفاعل الأشكال الاجتماعية والاقتصادية، في إطار السلطة، وتفرض أن بنية توزيع السلطة مرتبط ببنية الملكية (بونيل) وأدت هذه الفكرة إلى قول ماركس إن الأساس في السلطة هو الاقتصاد. ويدرس ماكس فيبر سوسيولوجيا السلطة، وهو يفسرها على أنها علاقة حكم وطاعة. مؤسس على الاعتقاد بشرعية السلطة وهي أنماط ثلاثة: السلطة التقليدية، والسلطة العقلانية، والسلطة اللدنية (الخاريزماتية) والأصل في معنى الكلمة الأخيرة في لاهوت الكنيسة الأرثو ذكسية اليونانية البركة.(اقترح الزميل تيسيرشيخ الأرض كلمة اللدنية).
ينقل فردريش نيتشه مسألة السلطة الى المستوى الوجودي (الانطولوجي)، إذ يفصلها عن أهلها والفاعلين فيها فتصبح ماهية، وينظر نيتشه إلى تنوع تجلياتها في التاريخ، وفلسفة التاريخ نفسها على أنها صور لتمظهر السلطة، وهي قبلية (ابريورية) أي بالنسبة الى أهلها والقائمين عليها. والعالم صراع إرادات ونضال من أجل السلطة. وحتى أشجار الغابة تتصارع/ في أحد نصوصه.
أصبحت فكرتا الحقيقية والعقل تجلياً وصورة للسلطة، وهذا التصور غدا من المفهومات المفاتيح في الفلسفة الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد نظر أدورنو، وهوركهايمر في كتابهما: «ديالكتيك التنوير» إلى العقلانية الاوروبية باعتبارها سلطة اضطهاد تتم بوساطة السيادة على الطبيعة، وتؤدي إلى قمع الطبيعة الانسانية جوانياً. ولعل الدمار الذي سببته الحرب العالمية (الأوروبية) الثانية، وفظائع المحرقة كان من الأسباب التي جعلت المؤلفين يصوغان هذا اللوح القاتم لمسيرة العقلانية الغربية منذ اليونان القديم. ومحطاته مرعبة فعلاً حتى أيامنا هذه.
ينظر فوكو ميشيل إلى السلطة على أنها غير شخصية ولا علاقة لها بالأفراد والعلاقات بينهم، وما يكوِّن الأناء إنما هو مجموعة خطابات القوة التي تتداخل وتفرض على الأنا خطاباً نظرياً وعملياً (ممارسة). ويرى فوكو أن أنموذجات السلطة متغيرة، ففي الأزمنة الغابرة كانت سلطة الملك/ السلطان تستند الى شخصيته، وهي سلطة مطلقة على حياة وموت رعاياه. وأما في الأزمنة الحديثة فقد لحق التعبير بنسق وظيفة السلطة، فأصبحت تتطلب ضبطاً وتحكماً دائماً، وزاد دور المعايير القانونية، وأصبح أهم ما يميز تحقق السلطة أنها غير شخصية، وتتحقق السلطة في داخل المجتمع وليس عليه (من فوق). وترتبط هذه السلطة برباط وثيق بالمعرفة. المعرفة- السلطة، وهي تشكل أفراداً بعينهم وأنماطاً معينة من الفاعلية والنشاط التي يصممها ويقوم بها الأفراد. إن ما يتم صياغته وتصميمه ليس الذاتية (الفردانية)، بل إن حقيقة الذات تصبح موضوعاً للبحث العلمي والادارة والتوجيه، وكذلك تكنولوجيا إنتاج الأفراد.
إن السلطة وكذلك المعرفة تشكل موضوعاتها. وتقوم بوظيفتها بوساطة دراسة موضوعاتها، وتصنيفها وبالمعايير المناسبة والمؤسسات التي تناط بها هذه المهمات. وتصبح الحقيقة والعقل والذاتية لحظات في استراتيجية بسط ونشر السلطة في كل الجسد الاجتماعي.
- من المراجع:
- هوركهايمر، أدورنو، ديالكتيك التنوير، بطرسبرغ 1997.
- فوكوم، إرادة الحقيقة، موسكو 1996. والرقابة والعقاب، ميلاد السجن، نيويورك 1979. والسلطة المعرفة، أحاديث مختارة وكتابات أخرى 1972-1977بانثون، تاريخ الجناية م1/المقدمة نيويورك. فينتاج بوك1980، نيتشه في إرادة القوة، ترجمة كاوفمان، فينتاج بوك، 1968.
الملكوت:
سلطة الله العليا، أسمى ما في عالم الأفكار والإرادة والأمر عنده، وكذلك عالم أسراره الإلهية. وللكلمة التي ترد في القرآن، أصول آرامية تدل على السلطة العليا لله، وهي رتبة تقابل السلطة في دنيا الناس، وهي دنيوية عادية (الأنعام 75، يس 83، المؤمنون88، الأعراف185). ويرتبط بالملكوت عادة الجبروت، وكلاهما لا يمكن إدراكهما بوساطة الاحساسات الإنسانية، ولكن بصورتها القائمة في عالم الأشياء الدنيا. وهما يتصفان بالكمال والدوام، وفيهما علم بالحاضر والمستقبل. وكثيراً ما يستخدم عالم الملكوت مترادفاً مع الملك. أما الجبروت فله مكان وسط بين الملكوت والملك. وبوساطته تتحقق الأفكار في عالم الملك.
وقد تعقد مفهوم التراتب في عالم الملكوت بتأثير المصطلحات الأفلاطونية، والأفلاطونية المحدثة. فقد أصبحت المصطلحات: الملكوت، والجبروت والملك، تعني الثلاثي الأفلاطوني: العقل والنفس والعالم المادي.
فالفارابي وأبو طالب الملكي وابن سينا، يستخدمون هذه الكلمات الى جانب مصطلحات أخرى كثيرة، فأصبح الملكوت العقل الأول والروح القدسي، والجبروت النفس الكلية، والأمر، ونجد عند هؤلاء المؤلفين وغيرهم أن الملكوت يكون مترادفاً والجبروت. والعكس فلم يستقروا على اصطلاح محدد صارم.
وقد قدم الغزالي لوحاً أكثر إتساقاً فقسم الوجود إلى مستويات أو قوى:
الملكوت: الجواهر والمعاني. الجبروت: عالم الروحانيات وما يمكن أن يكون في حكمها. الملك: عالم المادة الذي يدرك بالحواس. وقد أصبح هذا التقسيم أساساً لصورة يتوازى فيها بنيان العالم وبنية الإنسان العضوية: العقل -الملكوت، النفس -الجبروت- الجسد- الملك، من ناحية، وعالم المثل الأفلاطوني الخالد من ناحية أخرى. والمعرفة الحقيقية عند الغزالي هي العرفان (غنوسيس) الذي يجده العارف. وهو يتفق مع الصوفية ويقول معهم بالكشف والمكاشفة. وثلاثية الغزالي هذه يمكن اعتبارها محاولة لتصوير مراتب الفيض الذي يصدر عن الواحد في فلسفة ألفوطين. وتتأسس مدرسة الإشراف على فكرة الفيض.
بيد أن الغزالي لم يتخل عن هذه الصورة ويجعل الجبروت عالم الملائكة المقربين حيث اللوح المحفوظ فوق الملكوت، حيث ملائكة أقل رتبة وأرواح من مستويات دنيا. ونجد هذا الخلط بين الملكوت والجبروت والملك عند كثير من المتصوفة.
أما عند شيخ الاشراف السهروري المقتول (حكم صلاح الدين الأيوبي)، فلا وجود لعلاقات محددة بين الملكوت والجبروت، فأقام بينهما ضرباً من الكفاءة «المتساوي» فهما وجهان لواقع واحد. فالذوات النورانية، هي الملكوت والجبروت، إرادة الله التي يحيط بكل شيء وكل آخر.
يستخدم ابن عربي مصطلحي الملكوت والجبروت على طريقته الخاصة، فأحياناً يجعل الجبروت مجلى لجوهر الله في صورة الأسماء والصفات أعلى مقاماً من الملكوت. ففي مذهبة في وحدة الوجود يجعل هذا المصطلح مجالاً لتجلي الحقيقة الإلهية التي يسميها «حضرة» وبكلمات القرآن عند المتكلمين «اللوح» و«العرش»... إلخ. ويقوم البرزخ بدور كبير في مذهب ابن عربي.. عالم المثال وهو نظير الجبروت عند الغزالي. ويتسم عالم البرزخ بصفتين متناقضتين هما وجهان لواقع واحد فهو في وقت واحد مفارق ومادي.
ففي عالم البرزخ الإنسان هو «العالم الأصغر» وهو الحامل لمبدأين في المستقبل: مبدأ إلهي (مثالي) ومبدأ إنساني مادي (سنورد تفصيلاً في تعريف: لاهوت/ ناسوت). وهو وفقاً لابن عربي يجسد تجسيداً كاملاً صفات هذا الواقع، الذي يتأمل فيه نفسه كما يرى في مرآة. يرد مصطلحات «الملكوت» و«الجبروت» و«الملك» كثيراً في تفسير القرآن عند علماء الكلام من السنة والشيعة والصوفية. ورغم التنوع في استخدامها، فإن المعنى الاساسي عندهم يظل كقاعدة ثابتاً وغير متغير.
من المراجع:
الغزالي، «مشكاة الأنوار»، مصر 1322هـ. الشريف الجرجاني، «التعريف» ص 156-157، ابن عربي «فصوص الحكم» 100-213. (لو صحت نسبة «مشكاة الأنوار» إلى الغزالي فإنه في هذا السياق متأثر بمدرسة الاشراف الصوفية، وهو يرفض الحلول في غير نص، ولذا يرى الراحل د/ محمود قاسم أن بعض نصوص «مشكاة الأنوار» مدسوس عليه. انظر ان شئت كتاب «دراسات في الفلسفة الإسلامية»، ط الخامسة 1973، دار المعارف القاهرة، الفصل الثاني).
المندوب:
تعريف في الفقه الاسلامي لكل فعل ليس واجباً ولا مقرراً ولكن يعتبر القيام به عملاً يقدره الوسط الاجتماعي تقديراً عظيماً، ويدخل في إطاره كل إظهار للكرم والرأفة والعفة والتعاطف الديني، وكذلك إنفاق الصدقة فوق مقاديرها المعروفة، والتبرع بالمال، وإلغاء الدين، وتحرير الأرقاء، ودفع المال مقابل اطلاق سراح الأسرى، وكظم الغيظ، وعيادة المرضىَ وتشييع الموتى وتقديم المساعدة في كل ما يتعلق بدفناء، وزيارة المساجد في غير أوقات الصلاة أو صلاة الجمعة، قراءة القرآن،، لاسيما ليلاً ودراسته وكتابته، وترغيب غير المسلمين في اعتناق الاسلام، وإكرام الضيف، ومساعدة المسافر في معرفة الطريق، وتجهيز المقاتلين الذاهبين إلى الجهاد... الخ. والشرط الأخلاقي الصارم يقضي ألا يطلب الانسان من الآخرين ذلك ولا أية امتيازات خاصة يغنمها لقاء أعمال الخير، فكل هذه الأعمال يجب أن تكون بدافع جواني. ويحتل المندوب مركزاً محورياً في الأخلاق الاسلامية، ولعل هذا كان وراء قول المجددين في الفكر الاسلامي الحديث والمعاصر بأن معظم التناقضات الاجتماعية مصدرها ذاتي يؤجج نزاعاً بين الأفراد، وأن إزالتها أمر سهل.
هذا التعريف المقولة جعلهم أيضاً يقولون إن الانسجام الاجتماعي أمر يسير بلوغه دون فعاليات وهزات اجتماعية وذلك بالاعتماد على ترقية شخصية الفرد. وهذا وهم شديد الرسوخ في الفكر الاسلامي بدءاً من جعل صلاح رأس الدولة الشخصي ضماناً لإصلاح كل ما خلا ذلك في الدولة والمجتمع. ولعل هذا مرتبط ليس فقط بغياب أي تصور للسياسة يقوم على المؤسسات بحكم بساطة الوسط الاجتماعي السياسي الذي ظهر فيه الاسلام، وهو ما تبين بجلاء في سقيفة بين ساعدة، بل وبأن الأساس في الاسلام هو أن يزع بالقرآن، أي يعول على قوة الهداية فيه، وعلى سيرة الرسول.
واتضح ان اتساع الدولة جعل الخليفة الثالث يطلق جملته المشهورة: «يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن». وكان هذا بداية إلحاق الدين بالدولة، كما حدث في الدولة الرومانية (البيزنطية الشرقية) وهو ما يعبر عنه في تاريخنا بأن الخلافة أصبحت مع معاوية ملكاً عضوضاً. ولا يريد أسلافنا أن يعترفوا بأن البداية الموضوعية: اتساع دولة الفتح وتوفق الثروات، كانت في عهد الخليفة الثالث. والتعويل على مقولة المندوب عند العصريين محاولة لاستعادة جوانية الدين، الذي أصابته الدولة بتجويف شديد لايزال قائماً في كل الدول الاسلامية إلى يوم الناس هذا.
ما بعد الحداثة :
مجموع تصورات متباينة في مجالات الفن والفلسفة وعلم النفس واللاهوت، وفي الثقافة المعاصرة. ولا ترتبط فيما بينها إلا بالشك في إمكان قيام الفلسفة ببناء وجهة نظر أو رؤية أو خريطة نظرية في الفن والأدب. فالمواضعات الحديثة المبنية على المفهومات الكلاسيكية: في الذات والموضوع، وفي الحقيقة المطلقة والنسبية، وعلى الإيمان بدور العلم في وصف وتفسير وتغيير الواقع، ثبت أنها تداعت أمام اختبارات الزمن؛ لأن العلم والفلسفة فشلا في التعامل مع الطبيعة والمجتمع، إذ عجزا عن تبيان قوانينهما. ولا يمكن الحديث عن «ما بعد الحداثة» بما هو تيار واحد أو قائم على فلسفة واحدة. ويجري الحديث في الأغلب عن الخطاب (المقال) أو الوضع «ما بعد الحداثي» في الفلسفة والثقافة. وقد تبلور المفهوم في ثمانينيات القرن الماضي.
ويمكن أن نزعم أن هذا التيار مركب من ما بعد البنيوية والنقد التفكيكي والانتاج الأدبي والفني في أوروبا وأمريكا. وقد حاول صوغ «رؤية جديدة إلى العالم» والحدود هناك، وكذلك التعريفات لها طابع نسبي، فكثيراً ما يواجهنا خلط في المصطلحات ينتج عن استخدام مصطلحات متقاربة بدلالة واحدة فتبدو كما لو كانت متطابقة.
وعلى أية حال يمكن أن نقول إن تيار ما بعد البنيوية كان المدخل أو المرحلة الأولى من ما بعد الحداثة. ويبدأ تاريخ (م. ب. ح) في الثمانينيات عندما حاول غير مؤرخ للأدب جمع شتات تجارب العقود الأخيرة في الثقافة الغربية في متحد فكري يشترك أصحابه في عدد من المسلمات النظرية ويبدعون نصوصاً يرين عليها روح واحد.
إن جمع هذه الظاهرة، وهي متعددة الملامح والمدارس، في كيان واحد أو تيار محدد، يمكن أن يسعى إليه بصوغ وسائل تحليل متجانسة، ويتبين عندئذ أن المشترك بينها هو ما أشير إليه آنفاً، أي: نزعة الشك.
كان إصدار أحد أعداد مجلة «كريتكل إنكوايري» العام 1980 محاولة لكشف الظواهر أو السياقات المتوازية في (م. ب. ح) وراء تزايد الاهتمام بهذا التيار.
ويمكن الإشارة بصفة خاصة إلى الجهود البارزة عند: ديفير وجنكس وأوليفاد باتكر وديهامين وستينر، وكل أعمالهم صدرت بين عامي 1980 و1986 وتنصب على الأدب والفن والعمارة الحديثة. ومن الضروري الإشارة إلى جهود الباحثين الذين حاولوا إبراز الأسس التي تقوم عليها «حساسية ما بعد الحداثة» التي اعتبرت معلماً أساسياً تشير إلى «روح العصر» الذي أنتج (م. ب. ح) بما هو تيار استاطيقي متميز ومن هؤلاء إيهاب حسن وديفيد لوج ووايلد وفوكيما وليوتار ومازارو وظفار زاده.
إن أكبر ملمح مائز في (م. ب. ح) ولا سيما في مؤلفات ليوتار هو الرفض المبدئي لإمكان وصف الواقع وصفاً جامعاً لكل جوانبه، ونقد المعايير الفلسفية الكلاسيكية أي العقلانية. ومحاولة تأسيس فكرة مفادها استحالة قيام فهم متبادل بين التصورات والمفهومات الفلسفية؛ وذلك لغياب حقل معنوي (المعنى) كوني وكذلك لغة واحدة مشتركة، وهذا يعني عملياً التحطيم الكامل والمنهجي والواعي لجهاز المقولات الفلسفية.
يرى ممثلو (م. ب. ح) أن الخطاب الذي ظل سائداً في مجالات دراسة الفن منذ عصر النهضة قد استهلك ولم تعد له أية جدوى، وأن هذا الاكتشاف غيَّر تغييراً جوهرياً تجليات وصور الفن. إذ كانت العلاقة فيه بين العلامة والمعنى (الدلالة) مندغمة حتى الذوبان في سياق العمل الفني وفقاً للتصور الكلاسيكي. أما في الفن الجديد فإن الأولوية لأنموذج الفن الموضوعي، وهو ما سماه رولان بارت: «مجرة الدال»، وليست له أية وظيفة معرفية، فقد توقف الفن عن الطموح إلى الجدة والأصالة (الفرادة). وجرى تصحيح قضايا كثيرة في فهم مسار الابداع الفني. كان الإبداع الفني ينظر إليه سابقاً باعتباره تحقيقاً لأفكار الفنان في إنتاج فني، ونُظر إليه بما هو مشروع له سمة واحدة تجمع الفنان والمهندس والعالم. أما الآن فإن الفنان كف عن أن يكون فناناً وفقاً لهذا المفهوم التقليدي الذي يعود إلى اليونان القديمة بدلالة الدمج والتوحيد بين هذه الشخصيات، ولذا يرفض أن يعمل بقواعد وقوانين هذا الفهم التقليدي (تلخيص لصفحات من كتاب مخطوط في نسخته العربية: ما بعد البنيوية والتفكيكية وما بعد الحداثة).
وقد تغيرت وظائف الرموز في (م. ب. ح) إذ تم إلغاء أهم مبادئ الفن السابق: الاصطلاح والأسلوب والصورة وفرادة الانتاج الفني؛ وتجري الدعوة بنشاط إلى مبادئ مناقضة لها، توصف بأنها ذات قيمة استاطيقية مخفضة فهي عادية ونفعية بل ومبتذلة؛ وبذلك تطمس الحدود في (م. ب. ح) ففي الماضي كانت الحدود تميز بين الإصطلاح والعالم الواقعي، ولذا لا يسمي أنصار (م. ب. ح) أعمالهم فناً، بل «عملاً روحياً» أو «فعلاً ثقافيا»...
غيرت هذه المدرسة «صورة فن العمارة والسينما والرقص (الكوريوغرافيا) والأدب والشعر، وابتكرت ألواناً جديدة من الفن، لم توجد من قبل: بوب آرت وبودي آرت وانشتاليش وبيرفورمانس وهابيننغ.
تشكلت استاطيقا (م. ب. ح) بتأثير مباشر من قبل فلاسفة كبار في النصف الثاني من القرن العشرين: بدريار ودولوز وغايتاري ودريدا وجيمسون ف. وليوتار وكريستيفا. (تلخيصاً عن كتاب مخطوط، ما بعد البنيوية والتفكيكية وما بعد الحداثة).
وترقى جذور هذا الاتجاه فلسفياً إلى قلب هايدغر في «الوجود والزمان» (1927) الكوجيتو الديكارتي فذهب إلى وجود الذات بما هي آنية (دازاين) «سابق لإدراك الذات الذي بنى عليه ديكارت الإدراك الحدسي للكوجيتو. وقال هايدغر بضرب من نهاية الفلسفة بالدلالة التاريخية لا المطلقة؛ فإذا كانت العلوم الوضعية قد ورث الفلسفة الميتافيزيقية، فإن الشعر يجب أن يخلف العلوم الوضعية، وإن أوجب مع ذلك العودة إلى الميتافيزيقيا في ما أسماه الأنطولوجيا الأساسية، التي يقول إنها تختلف عن الوجودية. أشار ماجد فخري محقاً إلى أن استاذه ادموند هوسرل قد بحث في كتابه «أزمة العلوم الأوروبية والفينومو- نولوجيا المتعالية» (1936) في أزمة قابعة «في صلب الفكر الأوروبي فنعن على العقلانية المتحجرة إسقاطها للأسس العملية والأطر الثقافية للكشوف العملية». (ماجد فخري، الفلسفة العربية أمام حركات التفكيك والتشكيك المعاصرة، ما بعد الحداثة... أو الشكل المعاصر للسفسطائية ونسبية الحقيقة- «الحياة»، 27/2/1998) (ما بعد الحداثة، ولأنه يدافع عن الموقف الفلسفي الكلاسيكي، حرصت على إيراد مقال الزميل ماجد فخري لندرة الكتابات العربية عنه).
وإذا كان ليوتار قد استنتج ضرورة إلغاء العلم والفلسفة، والاستعاضة عنهما بالرواية في صورة الاهتمام بالسرديات الصغيرة بعد انهيار السرديات الكبرى القديمة ذات الدلالات العامة: الأمة والوطن والانسانية... إلخ، ذاهباً ببعض آراء هوسرل إلى نهايتها القصوى؛ فإن دريدا طمس القرون والحدود بين الأدب والفلسفة. وجعل دولوز وغايتاري الفنان مريضاً في مجتمع مريض، ولا يمكن فهمهما إلا بتحليل شيزوفريني (فصامي). (راجع إن شئت: مصطلح التسامي في التعريفات). وانطوى فكر (م. ب. ح) على مدرسة ما بعد الفكر الاستعماري، والتعددية الثقافية، والاعتراف بالآخر، ومناصرة المدارس الانثوية، ورفض فكرة «اللياقة السياسية (بوليتكل بونتيكل كوركتينس) اليمينية، ومناصرة الثقافات غير الأوروبية والمطالبة ضداً على دعاة «اللياقة السياسية» بإدراجها في برامج التعليم في أمريكا.
هرمس:
ويعني في الأساطير اليونانية: ترجمان الآلهة، وحارس المسافرين، وهو الذي يشيِّع نفوس الموتى، إبن زيوس وماي: إحدى بنات أطلانطيس. ولد في كهف بأركاديا.
وهو إله أوليمبي، رغم أنه ينتمي إلى عصر سابق على العصور اليونانية، ولعل أصوله من آسيا الصغرى. ويدل اسمه على مكون فيتشي، أي ضمني، وهو المشتق من كلمة يونانية تعني: ركام احجار، أو نصباً حجرياً، يوضع شاهد قبر. وكان هرمس حارس الطرق والحدود. وكان أي ضرر يلحق بالنصب تجديفاً مرعباً. ومن اسمه اشتقت كلمات مثل: النعال الذهبية المجنحة الخالدة، والصولجان الذهبي: مركز القوى السحرية... إلخ. ويوقظ هرمس النفوس، كما يدخلها عالم النوم، بهذا الصولجان. وهو الذي يقودها إلى جهنم، وإلى سلة الموتى. وهو في نفس الوقت وسيط بين عالمي الحياة والموت. إن مكر هرمس يجعله حامي النصب والسرقة؛ ولذا يسرق قطيعاً من بقر الإله أبوللو، كما يرد عند هوميروس في نشيد هرمس، وقد علم المكر عم أوديسيوس. وهرمس حامي الرعاة، ويتبادل مع أبوللو الجنك (الهارب) مقابل قطيع من البقر. وهرمس قريب من العالم الآخر، وهذا سبب نسبة «العلوم» السرية إليه، وهي سر مستعص إلا على «العارفين».
يحتفل بهرمس في عيد الربيع، وفي مناسبات ذكرى الموتى، وقد أصبح مركيوري (المريخ) في الأساطير الرومانية.
حصاد هرمس غزير في الفنون الجميلة اليونانية القديمة، فقد نحتت تماثيل كثيرة تصوره، على أيدي: بوليكتيوس، وبراكستل، وغيرهما؛ وفي عصر النهضة، وعصر الباروك: رفائيل، ورمبرانت. واهتم المثالون به بصورة أساسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وينتصب تمثاله في أيامنا أمام مداخل بعض الفنادق الباذخة في عواصم العالم الكبرى، مذكراً بالأساطير التي «تؤرخ» حياة هرمس وتعتبره رمزاً للتجارة.
بهاكتي:
تعني في السنسكريتية: المشاركة، والولاء، والحب، والخضوع. كانت في البداية تعني في الفكر الفلسفي -الديني، الارتباط والولاء لإله شخصي. وقد ظهرت الكلمة في الفيدات القديمة، ثم تطورت في الهندوسية، وفي البهاغافادجيتا، وفي الفيدانتا، الفكر الفيدي المتأخر، أي في ما بين القرنين 13 و16، وانتشرت في الهند «حركة بهاكتي»، وجمعت أفراداً من أديان مختلفة، ومذاهب مختلفة، وكان الشاعر المسلم «كبير» من أنصارها. ونجد في البهاغافادجيتا، إحدى روائع الفكر والأدب الهنديين، دعوة إلى الإله الشخصي، وبهاغافانا هو نفسه كريشنا وفشنو، وعبادته ليس الهدف منها بلوغ النجاح في الدنيا، بل وفي المقام الأول بلوغ موكشا (=الخلاص)، وهنا نجد تصوراً عن شخصيته الإنسان (=بهاكتا)، فهو مستقل عن الطائفة (=فارنا) والنوع سواء أكان رجلاً أم امرأة منذور للرب، وتبلغ نفسه اتحاداً كلياً بالإله. وتفرد البهاغافادجيتا لـ «بهاكتي يوجا» مكاناً خاصاً بين أساليب بلوغ الخلاص، وقد اهتم مفكرو الفيدانتا، بفكرة بهاكتي، ولا سيما عند راما نوجا، فأصبحت الفكرة تعني في الفيدانتا المتأخرة، بوشتي بهاكتي، أي مطلق لامتناه، لا تتطلب عبادته أية طقوس، بل صوفية وتقشفاً وولاءً.
الأنموذج المثالي:
مركب نظري من نسق مفهومات، يصور مساراً، أو لحظة أو رابطة في الواقع الاجتماعي، كما يتصوره الوعي الفردي، ويبدو له متسقاً كعقلانية لا تتسم بالتناقض.
والهدف الذي يتوخى الوصول إليه، أنموذج منطقي خالص من ناحية، وهو أيضاً من ناحية أخرى معيار يقاس به ما ينجز في عالم الواقع التجريبي. وهو تصور صاغه ماكس فيبر، وقد حدد بذلك فكرة الفيلسوف ريكرت، التي مفادها أن القضايا التاريخية (العلم عن الثقافة) إنما تصاغ وفقاً لمبدأ النسبة الى القيم، أي أنها لا تقبل التعميم، مثل قضايا «العلم عن الطبيعة». ويرى فيبر أن تناقض الواقع والأنموذج المثالي، هو المكان الذي يجب ان نبحث فيه عن تأثير أسباب إمبيريقية، وذلك يتطلب بحثاً علمياً اجتماعياً. ويؤكد فيبر على أن الأنموذج المثالي، لا يقدم أي معارف عن الوقائع، ولا عن إعادة إنتاجها، فهو ليس إلا وسيلة منهجية، تساعد على فهم الواقع أثناء فحص إمبيريقي، لأسباب عينية في مجال من المجالات الاجتماعية. ويقوم الأنموذج المثالي بهذا الدور لأنه لا يعكس الواقع، بل ولأنه يختلف عنه اختلافاً جذرياً، ويقدم نفسه باعتباره مختلفاً عنه من حيث المبدأ، فهو يقع في بعد آخر: بُعد اللاوجود. إنه مركب أو بنية نظرية يصوغها الخيال، مثل اليوتوبيا، وبإطلاق فكرة ما أو مبدأ إلى نهاية التعبير الكامل عن مكوناته، وذلك بتركيب عدة أفكار أو مبادئ في «تصور واحد»، يكون متسقاً كل الاتساق.
يجيب هذا التصور المثالي عن السؤال: كيف تجري الأحداث، وتتبلور الوقائع لو أنها استجابت للمعيار أو القاعدة، وفي اتساقهما، أي دون تناقض؟ ويرى فيبر أننا إذ ندرس هذا المسار، لا ندرك درجة انحراف الواقع عن الممكن، والكائن عن الواجب، بل والأسباب التي أدت إلى هذا الإنحراف في الحياة الواقعية. والأنموذج المثالي بما هو يوتوبيا لا يمكن النظر إليه كفرضية، لأنه لا يمكن إثباته ولا نفيه، ولا يقبل الإقرار أو النقض بوساطة التجريب أو البحث الإمبيريقي، إنه يشير إلى اتجاه صوغ الفرضية، فهو «فرضية الفروض». وأنه في الوقت نفسه لما كان على علاقة ما بالبحث الإمبيريقي كعامل مساعد في سياق المعرفة، فإنه يربط المعايير القيمية، والإمبيريقية، في المجالات الثقافية. وما كان للمعرفة الإمبيريقية أن تجد طريقها إلى التطبيق لو لم يكن بين يديها ترسانة من الأنموذجات المثالية المتنوعة، وهي ترسانة يزداد تنوعها بأنساق ومنظومات عقيدية همها بلوغ أهداف عملية ومعيارية، مثل نظرية الحق (الحقوق)، الاقتصاد النظري...إلخ. وترتبط في بنية الأنموذج المثالي، قضايا معيارية ومنطقية، وهو يلقي ضوءاً على الوقائع الإمبيريقية التي تبدو محايدة، وينسبها إلى عالم القيم. ويحذر فيبر، من افتراض أن الأنموذج المثالي هو الحقيقي أو الصواب، فذلك خلط «النظرية والتاريخ»، وله عواقب وخيمة نظرياً وعملياً.
والأنموذج المثالي من المحاولات المبكرة، لصوغ منهج يدرس الظواهر الاجتماعية في الغرب.
الكسموس:
تعني الكلمة في الفلسفة اليونانية القديمة: النظام والزينة و العالم والكون أي أنها مصطلح يشير إلى العالم بما هو بنية كلية ذات نظام. ووحدة النظام الكوني من الأفكار الأساسية في الفكر اليوناني القديم. وكان يظن أن فيثاغورس أول من استخدم هذا المصطلح؛ إذ اعتبر العالم المنظم كسموسا (يكتبها بعضنا كوزموسا) وقد اعتمدت رسم المعجم الفلسفي، (مجمع اللغة العربية، 1979). ولكن هذا يتعارض مع معرفتنا أن الفلسفة الملطية، قبل سقراط قد استخدمت هذا المصطلح في سياق عرض أفكارها الكسمولوجية، أي علم الكون.
تضمنت فكرة الكسموس في البداية إمكاناً ينطوي على مبدأ غائي، وذلك نتيجة للتنظيم الذي يدخله الصانع «ديمورجوس» وهو غير الخالق، لأن الصانع، كما تنبه المفكر والرياضي الكبير أبو ريحان البيروني، إنما يصنع من الطينة الأولى الخالدة، في كتابه المشهور: تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر اباد الدكن -الهند 1377هـ - 1958م.
وقد وظف الفيلسوف أنكساغوراس هذا المفهوم جزئياً، أما أفلاطون فقط وظفه بصورة كاملة في محاورة طيماوس، وقد انطوت هذه الفكرة دائماً على إمكان تأليه الكسموس، في مذهب وحدة الوجودفي طبعته المادية.
كان قدماء اليونان يعتبرون الكسموس وجوداً كاملاً بصورة مطلقة، وهو وجود استاطيقي كامل وبريء، ويبدو مناقضاً للتصور اليهودي والمسيحي الذي يتصوره وقد اعتوره النقصان أو العطب منذ البداية، بعد أن كان وجوداً كاملاً؛ وذلك بوساطة الخطيئة الأولى أو الأصلية. ورؤية الإسلام لا تختلف في هذا الشأن عن رؤية اليهودية والمسيحية إلا من حيث مكان ودور الخطيئة الأولى، والخروج من الجنة، فلا تربط الرؤية الإسلامية بين هذا الحدث والعقيدة، على شاكلة المبحث المسيحي الذي يربط ذلك الخروج بفكرة الفداء المحورية في المسيحية، إذ يكتفي ا لقرآن بتبيان الفرق الأنطولوجي (الوجودي) بين الله والإنسان المخلوق، كما أنه لا يوجد أي ربط بين المعرفة والشر والخطيئة. الإسلام هنا في موقف و سط كما في قضايا محورية كثيرة في أمور الدين. بما في ذلك القصص وأخبار الأنبياء والرسل.
إن مفهوم الكسموس عند اليونان يظهر بصورة جلية ذلك النزوع القوي عندهم إلى إضفاء الإنسجام على الوجود وكذلك مثلنته، أي رفعة إلى مصاف المثال.
ارند حنا (14/10/1902 هانوفر - 4/12/1975 نيويورك):
فيلسوفة ألمانية - أمريكية، وعالمة سياسية، تتلمذت على ياسبرز، وهايدغر، وبولتمان، وهوسرل. وقد درست اللاهوت والفلسفة في ماربورج، وهايدلبرغ، وفرايبورغ. عاشت منذ العام 1933 في باريس، حتى هجرتها إلى نيويورك في العام 1941، حيث أصبحت استاذة في المدرسة الاجتماعية الجديدة. وكانت في هذه الفترة قريبة من مدرسة فرانكفورت الاجتماعية. وقد نالت شهرة واسعة بعد إصدار كتابها عن أصل وحقيقة التوتاليتارية، حيث شرحت الاختلاف بين الأيديولوجيا والسيطرة في النظم التوتاليتارية، والاستبداد والطغيان والديكتاتورية، وتتبعت اصولها جميعاً في التاريخ الأوروبي في القرنين 18 و19. والتوتاليتارية في نظرها «شيء في ذاته»، كون عيني قائم بذاته، له صورته الخاصة ومنطقه، والخصائص التي تميزها: العنصرية، ومعاداة السامية، والإمبريالية، والحضور الكثيف للبيروقراطية. وترى أن الطابع الإرهابي لهذا النظام، ليس ناتجاً عن حسابات براغماتية، أو عن عدوانية في الإنسان، بل هو «استنباط» من ايديولوجية لا تحرك أعماق النفس الانسانية.
ورغم ذلك تنطوي النظرة الانثروبولوجية عندها على نزعة تفاؤل. وتقسم الفاعلية الإنسانية ثلاثة أقسام: العمل، والشغل، والنشاط. ويشترك الإنسان مع الحيوان في العمل: (أنيمال لابورانس)، وتمليه الضرورة البايولوجية التي تحافظ على الحياة، وهنا الإنسان حيوان صانع: هوموفابر، يشيد عالمه الخاص وهو عالم فوق الطبيعة. والعمل والشغل أساس النشاط، وهو «غير فيزيائي» ونكتشفه بعد وصف ظهوري (فينومونولوجي) والنشاط هو الذي يجعل الإنسان شيئاً جديداً كل الجدة. والتعريف الكوني عندها للوجود: الميلاد والموت. والأول يتحقق في النشاط، والثاني في السلبية، وذلك في عمر الفرد. وأما في الحياة الاجتماعية، فإن الموت مرتبط بالتوتاليتارية، والميلاد بالثورة. وهي تجل النشاط ولذا فهي انثروبولوجية (انسانية) بامتياز. الثورة «اختطاف التاريخ»، وهي خروج عن الخاص والخصوصية، و«هي الظاهرة السياسية التي تضعنا أمام سؤال البداية» أى حقيقة -الميلاد. تتسم آراء أرند بالليبرالية الإنسانية. وقد صاغت أنموذج التوتاليتارية على هدي الأنظمة التسلطية في أوروبا العشرينات والثلاثينات، ولا سيما في المانيا النازية. وقد عممت نتائج دراستها على الاتحاد السوفييتي. وتأثرت بأفكارها حقول كثيرة: علم الاجتماع النفسي، فلسفة وسوسيولوجيا العمل، والدراسات السوفييتية. وكانت كتاباتها في القضايا الإنسانية مثار اهتمام كبير. ومن الواضح أن تجربتها الشخصية، وهي اليهودية الألمانية، أثرت في فكرها تأثيراً شديداً. فلا شك أن البشاعة والهول الذي تمثل في النازية بما في ذلك اهوال المحرقة، جعلها تخرج هذه الجريمة الإنسانية، من إطار الفعل الإنساني، إلى عالم «الشيء في ذاته»، الذي صاغه الفيلسوف كانط، للإشارة إلى ما يتعذر إدراكه ومعرفته.
كان موقفها من الحركة الصهيونية نقدياً، فهي ترى أن الاستيطان تحت شعار من الشعارات القومية يخفي دورها وكونها تقدم نفسها بما هي «مجال نفوذ» لأية قوة استراتيجية كبرى توظفها في مجال السياسة الدولية...
أهِمسا:
كلمة سنسكريتية، تعني: عدم إلحاق الضرر بالكائنات الحية. وهو مبدأ أخلاقي في الفلسفة الهندية، وفي الديانة الهندوسية. وأوضح ذكر لهذا المبدأ ورد في الأوبانيشاد. ويتأسس هذا المبدأ على ضرورة أن الإنسان الذي يجد في نفسه بداية إلهية هي الـ«أتمان»، عليه أن يرى هذه البداية في الآخرين. وقد حظر معلمو البوذية، والجانية، والبراهمانيون، تدمير الحياة بأية وسيلة من الوسائل. ويشمل هذا الحظر كل المستويات: الفكر، والكلمة، والفعل. ولموقف الجانية في هذا الشأن سمة خاصة، فوفقاً لعقيدتهم، فإن بالضرر الذي يلحقه الإنسان بالآخر، يحرم نفسه من بلوغ النقاء المطلق، ثم يرتد إليه. إن العلمانيين، وبصفة خاصة رجال الدين، يحرمون الصيد في البر والبحر، وحتى حراثة الأرض، والتي ترتبط بإزهاق النفوس، وكذلك تربية الماشية، التي تترتب عليها النتائج نفسها. والجانيون ليسوا نباتيين، بل إنهم يفضلون ألاّ يأكلوا تلك الأعشاب التي يكون تدميرها شرطاً لاستهلاكها. والغذاء المثالي «الأمثل» هو ما يتساقط من الفواكه بصورة طبيعية. ولا يشربون الماء إلا بعد تنقيته عبر أداة تضمن حجز الكائنات الحية الدقيقة. ويغطي الراهب الجايني فمه بكمامة، حتى لا تدخله أي حشرة طائرة، ويلبس خلخالاً يحدث ضجة تبعد الهوام عن طريقة.
عرف العالم هذا المبدأ على يد المهاتما غاندي (الروح العظيم)(1869 - 1948) الذي وسع مفهوم أهمسا، فأضاف إليه: ضبط النفس، والمقاومة السلمية، والوعي بوحدة الإنسان والأحياء كافة، وتطهير النفس. وكان يرى في إتباع مبدأ أهمسا شرطاً لبلوغ الحقيقة، وهي الله، وضماناً لحل المشاكل الاجتماعية -السياسية، فنقل مركز القوة من الفعل في الخارج إلى الفعل في الداخل. فشرط مقاومة المحتل، هو تحرير الذات الواعية، فالذي يتصدى لممهمة تحرير نفسه والمشاركة في تحرير الآخرين والوطن، عليه أولاً أن يتحرر داخلياً حتى يكون ذاتاً أخلاقية. وقد لخص أرثر كويستلر تجربة الهند والصين بالقوميسار (ماو دزي دون) واليوجي (غاندي)، الذي يشبه زهرة لوتس تتفتح من داخلها. ولم نفطن نحن، في غمرة الترحال الثقافي «المستمر، والابتسار الثقافي، الذي يحول بيننا ومعرفة أنفسنا والآخرين، إلى ما في الأنموذجين الهندي والصيني، من دلالات تتجاوز القومي إلى الإنساني، حتى نستفيد منها في معركة البقاء».
لوك، جون (2/8/1632) 28-10-1704) :
من فلاسفة التنوير الإنكليز، ومؤسس الفلسفة الليبرالية في السياسة والاجتماع. وقد اقام فلسفته على «الحق الطبيعي» و«العقد الاجتماعي» وهما يناسبان نظريته في المعرفة، التي لا تعترف بالمبادئ الفطرية. وقد شرح آراءه السياسية في «رسالتين في إدارة الدولة» ووجه النقد فيها إلى السلطة الأبوية (البطركية) المطلقة، واعتبر الحركة الاجتماعية -السياسية عملية (مسار) نمو وانتقال من المرحلة الطبيعية إلى المجتمع المدني والإدارة الذاتية. والناس احرار في المرحلة الطبيعية ومتساوون في نظر بعضهم بعضاً وأمام الله. و الحرية هنا ليست الفوضى، بل حقوق طبيعية تجري وفقاً لقوانين الطبيعة التي خلقها الله. والسلطة التنفيذية التي تمارس هذه القوانين، مجسدة في كل فرد يخضع لتقديرات عاقلة تمكنه من المحافظة على النفس، وهذا يمكنه من التوافق مع الآخرين والحفاظ على حريته، والتوافق هنا أساس «العقد الاجتماعي»، الذي يؤسس السلطات: التشريعية والتنفيذية و«الفيدرالية» وكل واحدة منها قائمة بذاتها. والهدف الأساسي للحكومة حماية الحقوق الطبيعية للأفراد وهي: الحياة، الحرية، والملكية الفردية. والانتقال من الوضع الطبيعي إلى الاجتماعي يتحقق بواسطة الملكية. فكل انسان يملك قبل أي شيء حياته أي وسائل عيشه وأولها العمل. للإنسان الحق في أن يتحد بعمله أي الحق في الملكية التي تؤول إليه بالقانون، على أن يتم انتزاعها من النطاق العام أو الحيازة العامة دون إلحاق ضرر بالآخرين. وينظر لوك بعين الارتياب الى مثل هذا الانتزاع. وإذا كان هوبس يربط قيام العقد الاجتماعي بسلطة الملك، فإن الملكية الخاصة هي التي تحدد الحقوق عند لوك، فكلما زادت الملكية ازدادت المسؤولية امام الدولة التي تحمي هذه الملكية. وإذا لم تراع الحكومة قواعد «العقد الاجتماعي» وأولها حصانة الملكية وعدم المساس بها؛ فهي التي تضمن الحرية الفردية، فإنها تصبح غير قانونية ويكون للرعايا في هذه الحال الحق في المقاومة. بيد أن المقاومة تلتزم حدود المعقول وتؤدي إلى إقامة توازن سياسي راسخ. وكان لوك يرى أن الملكية الدستورية البرلمانية هي النظام الأمثل لتحقيق هذا التوازن، وقد أنكر الملكية المطلقة التي تقوم على الحق الإلهي.
والأساس العام للأخلاق في نظر لوك يجب أن يكون في الوحي الإلهي وليس في المبادئ أو الأفكار الفطرية، لأن العقل الإنساني محدود. والإنسان يستطيع تصور الله بالنظر إلى مخلوقاته بوساطة العقل. وهذا التصور يتسم عند كل إنسان بالعمق والفرادة، ولذا فإنه لا يمكن أن نقيم في الواقع معايير أخلاقية موحدة، وأن نقرر حلاً واحداً في قضايا الضمير والعقيدة والعبادة. ومن هنا يصبح التسامح أحد شروط «العقد الاجتماعي» والحكم القانوني. والانتماء والحماس لهذه المعايير الأخلاقية أو تلك، وكذلك متانتهما، تقوم على التعود (العادة) في المقام الأول. إن التوافق بين التأليه الطبيعي والنزعة التجريبية في فلسفته تقوم على الريبية. و هذه الريبية التي لا تنكر العناية الإلهية تؤكد دور المصادفة في تكوين رأي عن الواقع أو الحكم عليه، وتفسير المصادفة/ الفرادة في رؤية الإنسان إلى العالم، والأخلاق، وتطور وتغير الآراء الأخلاقية؛ فهذه كلها تحددها في الأغلب الخبرة الشخصية والنشاط ونتائجه النافعة، فالنفع هو الهدف النهائي لكل سعي ونشاط لأن العمل من أجل العمل يبدو أمراً غير طبيعي. وأما حرية الإرادة فهي عند لوك، الالتزام بالحكم الأخلاقي، والمعيار هنا إنما هو العقل.
أثرت فلسفة لوك في تطور النزعة الحسية والمادية الفرنسية، وفي المثالية الذاتية عند باركلي، والريبية عند هيوم. وقد تابع ج. تولاند (من الماديين) ومونتسكيو آراء لوك الأخلاقية والسياسية، كما أنها قد وجدت صدىً في المبادئ التي أعلنتها الثورة البرجوازية في امريكا وفرنسا.
أثاراكسيا:
تعني الكلمة في اليونانية: السكينة، وعدم الانفعال. وهو مفهوم أدخلته الفلسفة الأبيقورية لتصف الحال التي ينبغي على الإنسان أن يطمح إلى بلوغها، فهي قادرة على تجنيبه الخوف والجزع، عندما يفكر في الموت وفي الآلهة والآلام. ويبلغها إذا ما حد من حاجاته، واعتدل في المتع، وابتعد عن القضايا الاجتماعية. وهذا يشبه ما يسميه الرواقيون «آباتيا»، وإن كانت هذه تنطوي على اللامبالاة. وتذكر الأثاراكسيا بفكرة النرفانا في البوذية، ولكن هذه أكثر جذرية منها، وتصدر عن تصور للكون والحياة، يختلف عن الفلسفة الأبيقورية. وجدير بالذكر أن ما ينسب إلى الأبيقورية من التهالك على اللذات فيه مبالغة، فهم لم يكونوا من أنصار مذهب اللذة (الهيدونية). ذلك أن أبيقور يقول بـ«الأوديمونزم» (=السعادة)، وهو يروم لا اللذة الجسدية، بل النفسية. كما أن الأثاراكسيا تعني: «التحرر من القلق الذي يلحق بالنفس والجسم»، وإن كان هناك من يرى أن الفرق بين هيدونزم (=مذهب اللذة) ومصطلح أبيقور، غير جوهري؛ فالمذهبان يوجهان الإنسان نحو اللذة وليس نحو الخير، وإن وجهاه نحو الخير فالهدف اللذة أيضاً. وقد قسموا أمور الحياة إلى ما هو طبيعي وضروري، وما هو طبيعي ولكنه غير ضروري، وما هو غير طبيعي وغير ضروري وهو السياسة.
التسامي:
أدخل س. فرويد هذه الكلمة الألمانية: «سبليميورنج»، مفهوماً لوصف أحد ميكانيزمات توظيف طاقة «اللبيدو» ذات الميول الجنسية لإشباع حاجة نفسية. وفي معناه العام يستخدم المفهوم باعتباره مرتبطاً بمسار تتحول فيه الطاقة الغريزية بعد شحنها إلى سلوك غير غريزي، كما يقول رايكروفت. فالفرد في ظل مبدأ الواقع، أي كل القيود التي يفرضها الوسط الاجتماعي، يحاول البحث عن طرق يعوض بها غياب الإشباع الجنسي المباشر. والتسامي يحتل مكاناً خاصاً في نطاق هذه الطرق. فالنزوع الجنسي يرفض هنا هدفه الأساسي: استمرار الجنس البشري، ويوجه طاقته نحو هدف آخر يرتبط وراثياً بالهدف الأساسي, ولكنه لم يعد بعد جنسياً؛ بل يستحق أن يوصف بأنه هدف اجتماعي (فرويد).
إن نظرية التسامي بما هي أساس للإبداع الفني، أو أي إبداع آخر، هي لب التصورات الاستاطيقية (الجمالية) في التحليل النفسي. فكل عمل فني يفسر على أنه عملية تسامِ، يقوم بها الفنان، عندما يكظم النزوع الجنسي، ويصبح السياق الجنسي كامناً في مسار تفسير العمل الفني. وهذا يعني أن قضايا الأسلوب، وبناء الصورة الفنية، تخرج من دائرة اهتمام المحلل النفسي، ويبقى المتاح أمامه الجانب العام من الموضوع والنمط النفسي، الذي ينتمي إليه الفنان. وهذا سبب النقد الموجه إلى مدرسة التحليل النفسي؛ فهي تقوم باختزال العمل الفني إلى أطر أحداث جنسية، تقوم بالتنقيب فيها، فيغيب تعدد الصور الغني في العمل الفني عن مجال التحليل. إن ما يقدمه فرويد، أي الدور الاجتماعي النافع للتسامي، يبدو غير كاف لتفسير ظهور العمل الفني. «إن المنفعة الاجتماعية، هي ورقة التوت التي تطمح إلى ستر الجهل، عندما يدور الحديث عن مشكلة القيمة، التي تثيرها نظرية التسامي»(ب.ريكور).
لا يجيب التحليل النفسي، بنظرية التسامي عن ظاهرة الإبداع بما هو قيمة؛ إذ تطل هذه التقنية خارج إطارها. ولا إجابة ايضاً على: لماذا ينتج عن التسامي هذا اللون من العمل الفني وليس ذاك؟ إن التسامي ميكانيزم وصف تفسيري يقول عنه عالم الأمراض العقلية الكبير إ. بيرن، إن الجهد البشري الهادف يمكن تفسيره بفكرة «فيسيس» الطبيعية، وهذه جبلة فيه، تدفعه في طريق التقدم.
ينصب نقد مذهب فرويد، على تشاؤمه المتطرف. فهو منذ البداية مدفوع بعقدة أوديب (أوديبوس) إلى مأزق لا فكاك منه. والفنان يتحرك في مجال هذا المأزق، ولكنه يملك إمكان التسامي، فتتحول إحساساته الجنسية إلى مسارب الإبداع. ويمكن بالطبع العثور على تلك الرغبات الأرضية. فالتحليل النفسي قادر على العثور على صفات الشخصية المخصية، أو المرحلة الشرجية من التطور الجنسي، في أكثر الأعمال الفنية سمواً وتسامياً.
تتركز نظرية التسامي، مثل سائر مقولات ونظريات التحليل النفسي، على ما يمكن تسميته بـ«السيرة الجنسية»: عقدة أوديب، مثلث أوديب. وهو ما أثار نقداً شديداً في منتصف القرن العشرين، وقبل ذلك بقليل. بل إن ظهور الفرويدية الجديدة، كان محاولة للخروج من أسر مثلث الأسرة، إلى رحاب المجتمع. ولكن النقد الأشد جاء على يد ج. دولوز، وف.غبايتاري، في كتاب لهما مشهور: الرأسمالية والشيزوفرينيا، ضداً على أوديب، 1972. وكان رداً يسارياً وفوضوياً معاً في غمرة تمرد الطلاب في الستينيات ومطلع السبعينيات


أعلى