أول معرفتي بالكاتب العظيم بهاء طاهر كان عن طريق البرنامج الثاني الذي كان يذيع العديد من البرامج المهتمة بالثقافة والفنون الرفيعة. كان بهاء طاهر يخرج بعض المسرحيات بشكل احترافي جميل ، كما كان يقدم نقدا جماليا لمسرحيات مصرية أو مترجمة بتلك القدرة المذهلة على تناول عناصر العمل المسرحي ، وتفكيكها ويعيد تركيبها ، ليقترب من عمق النصوص .
في توقت متقارب ، تعرفنا على جمال الغيطاني بمجموعته " أوراق شاب عاش منذ ألف عام " ، وابراهيم أصلان بمجموعته " بحيرة المساء " ، وعبدالحكيم قاسم بروايته " أيام الإنسان السبعة" . ، ثم انبهرنا جميعا حين صدرت مجموعة بهاء طاهر الأولى " الخطوبة" ، عن مطبوعات الجديد بغلاف لونه أحمر.
أذكر لي معه ثلاثة مواقف..
الموقف الأول حين كان محكما في مسابقة للقصة القصيرة ، وجلسنا قبل توزيع الجوائز في جلسة ودية ، كان أكثر الحضور ترحيبا بنا ، ولم يجد غضاضة في أن يناقش الكتاب الجدد في أفكارهم بود واريحية بالغة.
كان يحضر تلك الجائزة كل من : جمال الغيطاني ، وابراهيم أصلان. والحفل كان في دار المدرعات .
وفي مرة ثانية ، جداه يعرفنا على الكاتب عبدالله الطوخي ، وكان صحفيا شهيرا بصباح الخير ، وله كتابات عن نهر النيل ،وهو زوج الكاتبة فتحية العسال ، ووالد الممثلة صفاء الطوخي . الحقيقة أنه كان يقوم بعملية الربط بين الأجيال، دون تعمد او افتعال ، فهو يؤمن بما يفعله .
الموقف الثاني : كان المؤتمر العشرين لأدباء مصر ببورسعيد، تقريبا عام 1995 ، وصلنا البلد متأخرين، وقلنا نهاتف محل الإقامة " فندق النورس " الذي كانت تقيم به الوفود.
رد علينا عامل الاستقبال ، أنه لا يعرف أين ذهب المؤتمرون، لكن ثمة شخص قريب منه يملأ استمارة الإقامة. حدثنا الرجل بصوت مهذب ، ونبرة رقيقة ، واخبرنا بمكان الفعاليات ثم قال بصوت مشرق. :" على العموم أنا في " الريسبشن" وانا زيكم جيت متأخر ، نقعد ندردش سوا ".
وصلنا فكان المتحدث هو بهاء طاهر ، وكم كانت مفاجأة مدهشة، وحديثه في غاية التشويق .
الموقف الثالث : كنت أحضر إحدى فاعليات دورة ملتقى القاهرة للرواية العربية ، وطلبت منه أن نأخذ صورة تذكارية معا ، وقد رحب بذلك، وخلال مصافحتي إياه بحرارة ، أخبرني ألا اضغط على يده لأن كتفه الأيمن شبه مكسور. قالها بود ولطف ، هامسا حتى لا ينتبه أحد لما يقول فيسبب لي إحراجا ، وقد كان في ذلك لطيفا لأقصى درجة.
أرجع لكتابات بهاء طاهر ، فاجد أن قصصه القصيرة في غاية التماسك والجمال ، فاللغة رصينة ، والشخصيات مرسومة بدقة ، تسري في النصوص روح متفائلة ، ولديه دائما اسئلة يطرحها علينا داخل النص.
نصوص فيهما من البراعة ما يفوق كل كتابة سابقة. وأرى أن عكوفه على رسم شخصياته بدقة وتمهل كانت من العوامل الأساسية لوصول فنه للجميع، إذ كان مخلصا لفن القص وتوصيل المتعة للقاريء ، كما كانت كتاباته" نقطة النور" للآخرين.
شخصيا تأثرت بكتاباته ومسرحياته التي كان يخرجها للبرنامج الثاني بنفس القدر الذي تأثرت بذوقه، ورقة حاشيته ، وبساطته الآسرة التي تتسرب لكل من يخالطه.
لم اذهب إلى القاهرة خلال أحداث 2011 ، ولا في اعتصامات المثقفين لطرد وزير الثقافة الأخواني 2013 ، لكنني كنت أراه من بعد " مثقفا عضويا " بتعبير جرامشي ، يساند الحركات الشبابية المعترضة على القهر والفساد ، وبرغم كبر سنه لم يداهن السلطة ولم يهادن. وربما كان ذلك السحر الذي تلمسه في الكتابة هو نتيجة ذلك الصفاء الروحي الذي تمتع به.
كما أانني أريد أن أضيف امرا اراه ضروريا في بقية أعماله، هو طرحه تلك الأسئلة التي تبحث عن الهوية ووصل الماضي بالحاضر ، تساق تلك العناصر في مسارات فنية بديعة.
أشعر خلال قراءة قصصه القصيرة ورواياته ، بإيقاع جميل، يتسلل عبر كتاباته خاصة في عملين رائعين له ، هما " نقطة النور" و" واحة الغروب" .
اتصور أنه بعد أن عاش فترة من حياته في أوربا الباردة اتجه ببصره لأجواء الصحراء المشمسة ، وواحاتها المنبسطة سكونا ورهبة .
وإذا كان قد عاش في أوربا أكثر من 14 عاما ، فقد ظل بداخله ذلك الصعيدي الجدع، المتمسك بمصريته، المؤمن بشعبه، الداعي للحرية والكرامة وحق الناس جميعا في لقمة عيش وسكن ودواء ، ودليل ذلك هو التبرع بقطعة الأرض التي بني عليها قصر ثقافة بالأقصر.
أما هو نفسه ـ أي بهاء طاهر ـ فهو قطعة غالية وعزيزة من قلب مصر النابض بالحياة ، مهما كانت المحن ، والخطوب ،و الظروف الضاغطة .
سمير الفيل.
قاص وروائي وشاعر مصري، يسكن مدينة دمياط.
* جريدة " القاهرة " عدد رقم 1163 ، الثلاثاء 1 نوفمبر 2022.
في توقت متقارب ، تعرفنا على جمال الغيطاني بمجموعته " أوراق شاب عاش منذ ألف عام " ، وابراهيم أصلان بمجموعته " بحيرة المساء " ، وعبدالحكيم قاسم بروايته " أيام الإنسان السبعة" . ، ثم انبهرنا جميعا حين صدرت مجموعة بهاء طاهر الأولى " الخطوبة" ، عن مطبوعات الجديد بغلاف لونه أحمر.
أذكر لي معه ثلاثة مواقف..
الموقف الأول حين كان محكما في مسابقة للقصة القصيرة ، وجلسنا قبل توزيع الجوائز في جلسة ودية ، كان أكثر الحضور ترحيبا بنا ، ولم يجد غضاضة في أن يناقش الكتاب الجدد في أفكارهم بود واريحية بالغة.
كان يحضر تلك الجائزة كل من : جمال الغيطاني ، وابراهيم أصلان. والحفل كان في دار المدرعات .
وفي مرة ثانية ، جداه يعرفنا على الكاتب عبدالله الطوخي ، وكان صحفيا شهيرا بصباح الخير ، وله كتابات عن نهر النيل ،وهو زوج الكاتبة فتحية العسال ، ووالد الممثلة صفاء الطوخي . الحقيقة أنه كان يقوم بعملية الربط بين الأجيال، دون تعمد او افتعال ، فهو يؤمن بما يفعله .
الموقف الثاني : كان المؤتمر العشرين لأدباء مصر ببورسعيد، تقريبا عام 1995 ، وصلنا البلد متأخرين، وقلنا نهاتف محل الإقامة " فندق النورس " الذي كانت تقيم به الوفود.
رد علينا عامل الاستقبال ، أنه لا يعرف أين ذهب المؤتمرون، لكن ثمة شخص قريب منه يملأ استمارة الإقامة. حدثنا الرجل بصوت مهذب ، ونبرة رقيقة ، واخبرنا بمكان الفعاليات ثم قال بصوت مشرق. :" على العموم أنا في " الريسبشن" وانا زيكم جيت متأخر ، نقعد ندردش سوا ".
وصلنا فكان المتحدث هو بهاء طاهر ، وكم كانت مفاجأة مدهشة، وحديثه في غاية التشويق .
الموقف الثالث : كنت أحضر إحدى فاعليات دورة ملتقى القاهرة للرواية العربية ، وطلبت منه أن نأخذ صورة تذكارية معا ، وقد رحب بذلك، وخلال مصافحتي إياه بحرارة ، أخبرني ألا اضغط على يده لأن كتفه الأيمن شبه مكسور. قالها بود ولطف ، هامسا حتى لا ينتبه أحد لما يقول فيسبب لي إحراجا ، وقد كان في ذلك لطيفا لأقصى درجة.
أرجع لكتابات بهاء طاهر ، فاجد أن قصصه القصيرة في غاية التماسك والجمال ، فاللغة رصينة ، والشخصيات مرسومة بدقة ، تسري في النصوص روح متفائلة ، ولديه دائما اسئلة يطرحها علينا داخل النص.
نصوص فيهما من البراعة ما يفوق كل كتابة سابقة. وأرى أن عكوفه على رسم شخصياته بدقة وتمهل كانت من العوامل الأساسية لوصول فنه للجميع، إذ كان مخلصا لفن القص وتوصيل المتعة للقاريء ، كما كانت كتاباته" نقطة النور" للآخرين.
شخصيا تأثرت بكتاباته ومسرحياته التي كان يخرجها للبرنامج الثاني بنفس القدر الذي تأثرت بذوقه، ورقة حاشيته ، وبساطته الآسرة التي تتسرب لكل من يخالطه.
لم اذهب إلى القاهرة خلال أحداث 2011 ، ولا في اعتصامات المثقفين لطرد وزير الثقافة الأخواني 2013 ، لكنني كنت أراه من بعد " مثقفا عضويا " بتعبير جرامشي ، يساند الحركات الشبابية المعترضة على القهر والفساد ، وبرغم كبر سنه لم يداهن السلطة ولم يهادن. وربما كان ذلك السحر الذي تلمسه في الكتابة هو نتيجة ذلك الصفاء الروحي الذي تمتع به.
كما أانني أريد أن أضيف امرا اراه ضروريا في بقية أعماله، هو طرحه تلك الأسئلة التي تبحث عن الهوية ووصل الماضي بالحاضر ، تساق تلك العناصر في مسارات فنية بديعة.
أشعر خلال قراءة قصصه القصيرة ورواياته ، بإيقاع جميل، يتسلل عبر كتاباته خاصة في عملين رائعين له ، هما " نقطة النور" و" واحة الغروب" .
اتصور أنه بعد أن عاش فترة من حياته في أوربا الباردة اتجه ببصره لأجواء الصحراء المشمسة ، وواحاتها المنبسطة سكونا ورهبة .
وإذا كان قد عاش في أوربا أكثر من 14 عاما ، فقد ظل بداخله ذلك الصعيدي الجدع، المتمسك بمصريته، المؤمن بشعبه، الداعي للحرية والكرامة وحق الناس جميعا في لقمة عيش وسكن ودواء ، ودليل ذلك هو التبرع بقطعة الأرض التي بني عليها قصر ثقافة بالأقصر.
أما هو نفسه ـ أي بهاء طاهر ـ فهو قطعة غالية وعزيزة من قلب مصر النابض بالحياة ، مهما كانت المحن ، والخطوب ،و الظروف الضاغطة .
سمير الفيل.
قاص وروائي وشاعر مصري، يسكن مدينة دمياط.
* جريدة " القاهرة " عدد رقم 1163 ، الثلاثاء 1 نوفمبر 2022.