(الجزء الثاني)
حركة المعنى وتفكيك شفرة العنوان:
لقد كان العنوان بتشكيلاته النحوية والبلاغية مفتاحا تأويليا أساسيا، وأكثر قدرة على إضاءة النص، والكشف عن عوالمه المتخفية خلف شبكة العلاقات اللغوية والبلاغية، كما أشرنا في البداية، ثم ننتقل بعد ذلك إلى الكشف عن حركة المعنى وإنتاج الدلالة في النص، وهو ما يمكن تسميته الرصد الرأسي للنص، بمعنى رصد حركة المعنى وكيفية تشكُّل الدلالة جزءًا بعد جزء حتى تستوي على سوقها، وتكتمل الرؤية الفكرية التي أراد الشاعر التعبير عنها، ومشاركة المتلقي إياه انحيازا لما يريد، وتأثيرا في المتلقي، ومن ثم تصبح رؤيته رؤيةً لمجموعة من الشرائح المجتمعية، مما يعطيها مشروعية الوجود على الساحة الفكرية، وهنا يمكن تقسيم النص إلى سبعة أجزاء يمثل كل جزء حركة من حركات المعنى، وتموجاتها وتشكل ملامحها، ومن ثم إنتاج الدلالة، وهو ما سوف نتحدث عنه في هذا الجزء من الدراسة، ومن الملاحظ أن النص يكرر في بداية كل مقطع من مقاطعه جملة (أحتاج شمسا) وقد اشرنا إلى ذلك سابقا، وسوف نتعرض لها بالتحليل في أثناء تحليلنا لحركة المعنى؛ إذ إنها تمثل البنية العميقة للرؤية، ومن ثم يتحتم علينا الإشارة إليها ودراستها؛ ذلك أن "أن الظاهرة المفردة متى انتشرت في نص من النصوص انتشارا واسعا واستقطبت منه جملة أجزائه، ورشحت بها كافة مستوياته حق للدارس أن يعتمدها في قراءة ذلك النص بدل أن ينطلق من دراسة مظاهر شتى إن استطاعت أن تجلو من الأثر خصائصه فإنها غير قادرة على أن تكشف منه أبرز خاصة فيه" (حاتم عبيد، التكرار وفعل الكتابة في الإشارات الإلهية لأبي حيان التوحيدي، ص 6) ومن ثم فإن جملة (أحتاج شمسا) تمثل ركيزة أساسية في بناء النص؛ فهي الجملة المفتاحية التي اختارها الشاعر لتكون عنوانا يفتتح بها نصه، مختزلا تجربته الإبداعية ورؤيته الفكرية في النص من خلال اختيار ألفاظ قليلة ارتضاها؛ لتكون مَعْبَرًا أوليًّا إلى النص، ومن ثم فهو اختيار واع، واختزال دقيق ينبغي التركيز عليه، وعدم إهماله، أو التغاضي عنه، وحين يتصدى الناقد لتحليل النص ينبغي "أن يكون واعيا لفكرة أن العناصر التي يشتمل عليها النص هي عناصر شعرية قد تتصل بالخارج/ الواقع، ولكن اتصالها هذا ليس يعني المطابقة، بل إن شعريتها هي التي تعنينا، فهناك شعرية المكان وشعرية المرأة .. هذه العناصر تخضع لحركة الأنا الشاعرة من أجل الحفاظ على العصب الحيوي في النص قادرا على إثارة الدهشة، والاقتراب من السحر" (د. إبراهيم ملحم، النقد التكاملي: إستراتيجية تكشل الخطاب، ص 157) وتتوالى الجملة المفتاحية في كل مقطع كاشفة عن زاوية من زوايا الرؤية في بناء رأسي للمعنى في النص حتى تكتمل الرؤية باكتمال النص، ووصوله إلى النهاية فينغلق النص وتكتمل الدلالة.
- 1 –
أحتاجُ شمسًا في قميصِ الصبح
تُدخلني المحبَّةَ من دفاترِها
وتُسلمني إلى وَجْدي
تعلِّمُني الكتابةَ فوق أشجارِ الطريقِ
بكل جذعٍ ثــَمَّ لي قلبٌ وسهمٌ واشتهاءة .
في البداية يقر الشاعر باحتياجه للشمس، ولكنه في الوقت نفسه يأتي بالجملة في دلالة منطقية قد تبدو للوهلة الأولى دلالة عادية، فالشمس تأتي مع الصباح (أحتاج شمسا في قميص الصبح) أي يحتاج شمسا تأتي مع الصباح، وهنا يبدو التساؤل منطقيا أيضا: وهل تكون شمسٌ من غير صباح؟! ولكننا نلاحظ أن الأنا الشاعرة في هذه الجملة بدأت تدريجيا تأخذنا إلى مناطق المجاز حين قالت (في قميص الصبح) وهذا يعني أن الصبح هنا ليس بمفهومه التقليدي المباشر، ولكنه ذو دلالة مجازية، وهنا تبدأ الأنا الشاعرة بالبوح بما تريد من هذه الشمس (تُدخلني المحبَّةَ من دفاترِها / وتُسلمني إلى وَجْدي / تعلِّمُني الكتابةَ فوق أشجارِ الطريقِ / بكل جذعٍ ثــَمَّ لي قلبٌ وسهمٌ واشتهاءة ) فالشمس هنا ليست مطلوبة لذاتها، ولكنها مطلوبة لتحقيق هدف محدد، وهو تغيير جذري في حياة الأنا الشاعرة، فالمحبة والوجد والكتابة فوق أشجار الطريق هي المفردات التي تأتي مع الشمس، وإذا قلنا إن الشمس قد أتت في قميص الصبح فإن هذه المفردات مرتبطة بالصباح والضياء، وإذا كان الصباح يمثل نهاية مرحلة/ الظلام بداية مرحلة أخرى/ النور فإننا لابد أن ندرك أن الخروج من الظلام إلى النور هو خروج من الضلال/ الضياع/ الهلاك/ الحقد/ كل المفردات السلبية إلى الحقيقة/ كل المفردات الإيجابية، وهنا نتذكر المفردات التي تحدثت عنها الأنا الشاعرة في هذا المقطع، الأولى هي (المحبة) فالأنا الشاعرة تحتاج الشمس لتدخلها في المحبة وهذا يعني أن المحبة مفقودة عند الأنا الشاعرة وتحتاج الشمس لتحقيق المحبة، ومن ثم نفهم ضمنيًّا أن الظلام/ الواقع الآني الذي جاء الصبح ليحوِّله إلى ضده/ المحبة هو المسيطر على واقع الأنا الشاعرة وتحتاج إلى تغييره والدخول في المحبة، ويرتبط بذلك المفردة الثانية الواردة في المقطع (وجدي) وقد ورد الوجد في المعاجم العربية دالا على كثير من المعاني، ومن ذلك (وُجِدَ: ( فعل(وُجِدَ يُوجَد ، وُجودًا ، والمفعول مَوْجود - وُجِدَ مِنْ عَدَمٍ : حَصَلَ وُجُودُهُ، خِلافُ عُدِم – (وَجْد( اسم) وَجْد : مصدر وَجَدَ (وَجد: (اسم مصدر وَجَدَ، بِهِ وَجْدٌ : شَغَفٌ - أَرَّقَهُ الوَجْدُ : الْحُبُّ - الوَجْدُ : منقَع الماء - مصدر وجَدَ – وجَدَ (الفلسفة والتصوُّف) ما يصادف القلب ويَرِد عليه دون تكلُّف وتصنّع من فزع أو غمّ أو رؤية معنى من أحوال الآخرة، أو هو لهب يتأجّج من شهود عارض القلق، وللوجد مراتب هي التواجد، والوجد، والوجود وهو المرتبة العليا والأخيرة – والوُجْدُ: اليسار والسعة – وَجَدَ مطلوبَه، وجْدًا، ووُجْدًا، وجِدةً، ووُجُودًا، ووِجْدانًا أي أصابه وأدرَكه وظفِر به، عَثَر عليه – وَجَدَ به وَجْدًا: أحبه – وجد فلانٌ وجْدا حزن – وَجَدَ الشيءَ كذا: عَلِمَه إِياه) وهذا يعني أن الوجد في المعاجم العربية قد دار حول معاني الحب والشغف ومنقع الماء والوجود من العدم واليسار والسعة وإصابة المطلوب وإدراكه والظفر به والعثور عليه، وكلها تبحث عنها الأنا الشاعرة في لحظتها الآنية، ثم ينتقل النص بعد ذلمك إلى نصر آخر من عناصر هذا المقطع؛ ليحمل دلالة جديدة ومضافة إلى العناصر السابقة بلالالتها المتعددة، بيقول (تعلِّمُني الكتابةَ فوق أشجارِ الطريقِ بكل جذعٍ ثــَمَّ لي قلبٌ وسهمٌ واشتهاءة) وهنا لابد من التوقف أمام الاختيار الواعي لعناصر هذه الصورة (الكتابة – أشجار – الطريق – جذع – قلب – سهم – اشتهاءة) إن النظرة الأولى لهذه العناصر تدل على افتقاد الحرية والحب؛ فالرسم على أشجار الطريق تحمل معاني الحرية، ورسم القلب والسهم داخله يحمل معنى الحب، ولكننا إذا تأملنا أعمق في عناصر الصورة ووقفنا أمامها فسوف نجد أن الشجرة تحمل معنى الخصوبة، وقد استخدمت الشجرة في الفلكلور والأساطير القديمة في دلالات متعددة، فقد كانت موضوعا للعبادة في بعض مناطق أفريقيا، وكانت مسكنا للآلهة في مناطق أخرى، والشجرة رمز للخصوبة والقوة والإنجاب، واستخدام الشجرة في هذه الصورة لا يبتعد كثيرا عن بعض الدلالات المذكورة؛ فالأنا الشاعرة تعبر عن احتياجاتها الوجدانية والنفسية، ثم يأتي لفظ (الطريق) رمزا للحياة؛ فالحياة طريق يسير فيه الإنسان ويواجه تحديات كثيرة وعقبات متنوعة، ويحتاج إلى الحرية والقوة، كما يحتاج إلى التعبير عن الحب بكل معانيه (قلب – سهم – اشتهاءة) واستخدام السهم مع القلب يحمل معاني البراءة التي يعيشها الإنسان في مقتبل عمرع حين يعبر عن حبه عن طريق رسم قلب يخترقه سهم، ثم يأتي لفظ (اشتهاءة) ليدل على الرغبة الشديدة التي تجتاح الأنا الشاعرة في لحظتها الأنية، وعندما نقول اللحظة اآنية فإن النص يدفعنا إلى الاعتقاد بذلك؛ لأنه يستخدم دائما الفعل المضارع (أحتاج – تدخلني – تسلمني – تعلمني) إذ ورد الفعل المضارع أربع مرات في هذه المقطع وكلها مرتبطة بالأنا الشاعرة؛ حيث ورد مع الفعل الضمير الدال على الأنا الشاعر سواء أكان الضمير مستترا (أختاج/ أنا) أو كان ضميرا بارزا/ الياء في (تدخلني – تسلمني – تعلمني) ومن الملاحظ أن الفعل المضارع الأول (أحتاج) قد جاء الفعل فيه دالا على الأنا الشاعرة، بمعنى أنها هي التي تقوم بالفعل/ الاحتياج، أما الأفعال الثلاثة الأخرى (تدخلني – تسلمني – تعلمني) فقد جاء الضمير الدال على الأنا الشاعرة مفعولا به، وما يدل على الشمس/ هي جاء فاعلا، ومعنى ذلك أن الاحتياج واقع من الأنا الشاعرة أما تحقيق هذا الاحتياج فيكون من غيرها، فهي تحتاج إلى غيرها/ الشمس لتحقيق احتياجاتها، ثم يأتي المقطع الثاني لتنفتح الدلالة أكثر على توصيف الرغبات التي تحتاج الأنا الشاعرة؛ لتتحقق وجوديا، ونفسيا وفكريا.
- 2 –
أحتاجُ شمسًا كي أدرِّبَ مِحْنتي يومًا على الطيرانِ
أحملُ همَّ أيامي إلى أُفقٍ رفيقٍ
يشبهُ الذكرى
وأدخلُ في الوضاءَة .
هنا تنتقل الأنا الشاعرة إلى الرغبة في كونها فاعلة أي محققة لرغباتها (أحتاج شمسًا كي أدرِّب محنتي على الطيران) فهي التي تدرب أي تقوم بالفعل بعد أن كانت في المقطع الأول مفعولا به، وتتحول الشمس في هذا المقطع إلى مجرد دافع للأنا الشاعرة؛ كي تحقق رغباتها، بعد أن كانت الشمس في المقطع الأول هي التي تحقق للأنا رغباتها (تُدخلني المحبَّةَ من دفاترِها – وتُسلمني إلى وَجْدي – تعلِّمُني الكتابةَ فوق أشجارِ الطريقِ) واستخدم النص ما يدل على ذلك وهو لفظ (كي) الدال على بيان السبب؛ فهي تعليلية، وتتوالى الأفعال الدالة على تحوُّل الأنا الشاعرة من مفعول به إلى فاعل، أي من متأثر إلى مؤثر (أحمل هم أيامي – أدخل في الوضاءة) فإذا انتفلنا إلى الدلالات العميقة لهذا المقطع فإننا نجد الأنا الشاعرة تدرك تماما أن الأشياء لا تتحقق كلها مرة واحدة، وأن تحولها من المفعول به إلى الفاعل سوف يستغرق وقتا، فنرى النص يعبر عن ذلك بقوله (أدرِّب محنتي يوما على الطيران) فاستخدام لفظ (يوما) دالٌّ في موضعه على أن الانتقال لن يكون دفعة واحدة، ولكنه سوف يستغرق وقتا وجهدا، وهذا الوقت والجهد هما اللذان سيجعلان الأنا الشاعرة قادرة على تحمل المسؤولية (أحمل همَّ أيامي – أدخل في الوضاءة) ونلاحظ أن الترتيب في الجمل جاء نتيجة الترتيب في الذهن على حد نظرية عبد القاهر الجرجاني في النظم، فنجد أنه استخد التدريب أولا ثم استخدم تحمل المسؤولية ثانيا، ث الدخول في الوضاء ثالثا، وهو ترتيب منطقي كما نرى، ورغم هذا الترتيب فإن هذه المراحل متداخلة؛ فمن الملاحظ أن الشاعر استخدم حرف العطف الواو عند الربط بين تحمل المسؤولية والدخول في الوضاءة، ونعرف أن الواو تدلُّ على مطلق الجمع، ومعنى ذلك أن كلا الطرفين يقعان مرتبطين ببعضهما، فكلما تحمل جزءا من المسؤولية حقق جزءا من الوضاءة حتى يصل تحمله للمسؤولية مرحلة الاكتمال فيتحقق معها الوصول إلى كامل الوضاءة، وهنا يبدو السؤال منطقيا عن الدلالة العميقة للألفاظ (محنتي – الطيران – هم أيامي – الوضاءة) وماذا تريد الأنا الشاعرة من وراء استخدام هذه الألفاظ؟ إنها ألفاظ ذات دلالات عامة، ولكننا يمكن أن نكتشف بعض التحديد لها من خلال الوقوف عند قول النص (يشبه الذكرى) إذ يقول (أحملُ همَّ أيامي إلى أُفقٍ رفيقٍ يشبهُ الذكرى ) فهذا العالم الذي تراه الأنا الشاعرة شبه الذكرى أي يشبه ما كان عليه في الماضي؛ لأننا إذا عرفنا أن لفظ الذكرى يدل على دلالات متعددة؛ فقد جاء في المعاجم العربية أن لفظ (ذِكْرَى، جمع: ذِكْرَيات (ذ ك ر). 1 :-يَحْتَفِظُ بِذِكْرَى جَميلَةٍ مِنْ أَيَّامِ الصِّبا :- : جَرَيانُ ذِكْرِ شَيْءٍ حَدَثَ في الماضِي بِاللِّسانِ أَوْ حُضورُهُ في البالِ. :-جَلَسَ خَلْفَ الشُّبَّاكِ يَسْتَعْرِضُ ذِكْرَياتِهِ الماضِيَةَ. 2. :-اِحْتَفَلَ الشَّعْبُ بِذِكْرَى عيدِ الاسْتِقْلالِ :- : يَوْم حُصولِهِ على الاِسْتِقْلالِ. :-الذِّكْرَى السَّنَوِيَّةُ :- :-ذِكْرَى وَطَنِيَّةٌ ، وكذلك: ذِكْرى: 1 – مصدر ذكَرَ. 2 – عِظة وتوبة :- (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ( . 3 – ذِكر صِيت حسن أو سيئ يتركه الإنسانُ بعد موته. 4 – ما ينطبع في الذاكِرة، ويبقى فيها: لطفولتنا ذكريات سعيدة، ذكرى عذبة/ مؤلمة/ حيَّة، - ذكريات كاتب، أعاد ذكريات الماضي – - ذكريات الدِّراسة. 5 – تذكُّر(فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) 6 – تسبيح وطاعة (لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) 7 – - دليل وحجّ) وهذا يعني أن الأنا الشاعرة تريد أن تستعيد الذكريات الجميلة التي مرَّت سواء كانت ذكريات شخصية أو دينية أو غيرها، أي أنها تريد استعادة الماضي بكل ما فيه من ذكريات وضَّاءة، وهو ما أشار إليه النص بقوله (أفق رفيق يشبه الذكرى) أي أن الأنا الشاعرة ترى أن الاستعادة لا تكون استعادة الماضي كما هو بمعى إعادته كشلا ومضمونا، ولكنها تريد استعادة المكانة التي كانت لها في الماضي (تشبه الذكرى) ولذلك جاء بعدها مباشرة قوله (وأدخل في الوضاءة) أي يتحول إلى عنصر فاعل ومؤثر على مستويات متعددة كما كان في الماضي (يشبه الذكرى) وهذا يعني أن الأنا الشاعرة تريد استعادة المكانة التي كانت تتمتع بها وتتحول إلى عنصر فعال ومؤثر في الحياة، وتخرج من دائرة المتأثر والمفعول به إلى دائرة المؤثر والفاعل، وإذا نظرنا إلى الأنا في النص على أنها ليست الأنا بالمفهوم الفيزيائي المتعارف عليه، ولكنها الأنا السائلة في كل الأنوات فسوف نكتشف أن النص يخرج من دائرة الخاص إلى دائرة العام، أو من دائرة التخصيص إلى دائرة الإطلاق، وهنا تكمن أهمية هذا المقطع من النص في بناء الدلالة، ثم يأتي المقطع الثالث لتنفتح الدلالة على جانب آخر في حركة المعنى.
- 3 –
يا صُبْحَنا الورديَّ هاتِ الشمسَ في كفيِّك
أَشْرِبني الغناءَ
لعلَّني أصفو
ويصفو صفوُ أيامي
كما تصفو الحمامةُ والندى فوق الغصونِ
وفوق أزهارِ الحقول
وفوقِ أعتابِ الفُجاءة .
وهنا تنطلق الأنا الشاعرة إلى مخاطبة الصبح مباشرة كأنه أصبح حقيقة ملموسة وواقعا معاشا، وتصفه بالوردي بكل ما يحمله هذا الوصف من دلالة على الجمال والقبول والمتعة والراحة النفسية والبصرية، ثم تطلب منه أن يأتي بالشمس في كفيه، وأن يمنح تلك الأنا الغناء شرابا؛ لعلها تصفو ويصفو صفو أيامها، ونتوقف هنا أمام مجموعة من الألفاظ الدالة قبل أن ننتقل إلى الجزء الثاني من المقطع، ومن هذه الألفاظ لفظ (لعلني) فهو من الناحية اللغوية حرف ناسخ مشبه بالفعل من أخوات إنّ، ينصب الاسم ويرفَعُ الخبرَ ويفيد التوقُّع والترجِّي في الأمر المحبوب، والإشفاق من الأمر المكروه، وقد تحذف لامُه فيصير علَّ، ويمكن اقتران لعلّ بنون الوقاية، وإذا دخلت عليها (ما) كفَّتها عن العمل، وإذا قارنا بينه وبين لفظ ناسخ آخر كان من الممكن أن يستخدمه النص، ولكنه أعرض عنه، وهو لفظ (ليت) وهنا ننتقل إلى التكييف البلاغي للفظين؛ للوقوف على السبب الذي دفع إلى استخدام لعل والإعراض عن ليت على الرغم من كونهما من حرفين ناسخين من أخوات إن، ويحملان الرغبة في الشيء، فلفظ لعل دال على شيء ممكن الحدوث أما لفظ ليت فهو دال على شيء مستحيل الحدوث، يقول الشاعر:
ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب
فعودة الشباب مستحيلة، ولذلك استخدم الشاعر لفظ ليت دالا على هذه الاستحالة، والأمثلة الدالة على الفرق بين اللفظين في الاستخدام القرآني كثيرة جدا؛ فالقرآن يختم كثيرا من آياته بقوله (لعلكم تتقون – لعلكم تعقلون – لعلكم تشكرون – لعلكم ترحمون) وهذا يعني أن التقوى والعقل والشكر والرحمة كلها أشياء ممكنة الحدوث على العكس لو أنه ختم الآيات بلفظ ليت بدلا من لعل، أما ليت فقد استخدمت في القرآن أيضا كثيرا (ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول – ياليتني لم أوت كتابيه – ياليتني لم أشرك بربي أحدا – ياليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً) وغيرها من الآيات، ونلاحظ الفرق في الدلالة بين اللفظين في الاستخدام القرآني، فقد جاءت لعل في مواضع تحقق المطلوب ممكنٌ، اما ليت فقد جات في مواضع تحقق المطلوب مستحيل، ومن هنا رجَّح النص استخدام لعل، ونحن إذ نقول بهذا الفرق الدلالي نضع في اعتبارنا أن الدلالة تقتضي أحيانا إخراج الممكن الحدوث مخرج المستحيل الحدوث والعكس، وهو استخدام بلاغي وارد في الإصدارات اللغوية العربية، أما الألفاظ الأخرى التي وردت في الجزء الأول من هذا المقطع فهي (أشربْني – أصفو – يصفو صفو أيامي) ففي الفعل (أشربني) رغبة ورجاء وقد جاء الفعل أمرا خارجا عن دلالته الحقيقية إلى دلالة مجازية وهي الرجاء، وتستمر المجازية في الاستخدام من خلال اللفظ التالي (الغناء) فهو لا يُشرب ولكنه يُتعلَّم، وقد أعرض النص عن استخدام لفظ (علمني) إلى استخدام لفظ (أشربني) لأن الشراب يتحول إلى مكوِّن من موكونات الجسم؛ إذ يرويه من العطش، وإذا كان الله قد جعل من الماء كل شيء حي، فلا يمكن الاستغناء عنه فإن الغناء لا يمكن الاستغناء عنه، والغناء هنا دال على البهجة والفرح والانطلاق، فلا تستقيم حياة الإنسان بدونه، ثم يأتي بعد ذلك تعليل هذا الأمر (أشربني) فهو ليس مطلوبا لذاته، ولكنه من أجل تحقيق هدف محدد وهو بلوغ الصفاء النفسي (أصفو) وصفاء الحياة نفسها (يصفو صفو أيامي) وسوف نتوقف أمام ذلك لاحقا، أما الجزء الثاني من المقطع فيقع كله موقع المشبه به (كما تصفو الحمامةُ والندى فوق الغصونِ وفوق أزهارِ الحقول وفوقِ أعتابِ الفُجاءة ) واختيار الألفاظ هنا دال بعمق على مراد الأنا الشاعرة ورغباتها المتحكمة فيها؛ ذلك أن صفاء الحمامة والندى فوق الغصون وفوق أزهار الحقول دالٌّ على الحرية/ الحمامة، والجمال/ الندى، والخصوبة/ الحقول، أما أعتاب الفجاءة فهي الأفعال التي لا تكون في التوقع؛ ذلك أن لفظ الفجاءة معناه في المعاجم العربية هو ما يأخذ الإنسانَ بغتةً، ومن ثم فإن استخدام اللفظ في هذا المكان من النص وبعد دلالة الألفاظ السابقة عليه يدل على أن التحوُّل الذي سيصيب الأنا الشاعرة يجعلها تفعل مفاجاءات لم تكن متوقعة منها، أي أنها تقدم فوق ما كان متوقَّعا منها نتيجة ما حدث لها من الحرية والجمال والخصوبة، وهي الدلالات الواردة في الألفاظ المستخدمة قبل لفظ الفجاءة، ثم يأتي المقطع الرابع؛ ليعيد لنا البداية التي بدأ بها النص (أحتاج شمسا) لتكون أيقونة النص ومفتاحه الدال كما أشرنا سابقا في بداية هذه الدراسة، فالشعور بالاحتياج يحاصر الأنا الشاعرة، ويسيطر على كل جوارحها، بحيث لا تستطيع الفرار فتذكرنا بهذا الشعور الطاغي في كل جزء من النص، ولكن النص في كل مرة يشير إلى زاوية رؤية مختلفة.
- 4 –
أحتاجُ شمسًا
كلما ملَّ الصباحُ حكايتي دارت
لتحكيها علي رملِ الطريق
وتارةً أخرى تُغنِّيها على سربٍ من الأطيارِ
يحملُها ويحملني
ويدخلُ بي سماءَه .
يبدأ المقطع باستعادة الدلالة التي تحاصر الرؤية منذ بداية النص (أحتاج شمسا) فقد حاولنا فيما سبق تلمُّس دلالة الشمس في النص حتى نستطيع أن نبلور شكلا محددا للاحتياج الذي أقرت به الأنا الشاعرة، من خلال التجول بين أروقة النص وشعابه وأوديته وقد قادنا ذلك فيما سبق إلى اكتشاف جانب من جوانب احتياجات الأنا الشاعرة في تلك المرحلة الآنية المعبرة عن رغباتها والمتحكمة فيها، وقد أشرنا إلى أن صفاء الحمامة والندى فوق الغصون وفوق أزهار الحقول دالٌّ على الحرية/ الحمامة، والجمال/ الندى، والخصوبة/ الحقول، أما أعتاب الفجاءة فهي الأفعال التي لا تكون في التوقع، فالأنا الشاعرة تقدم مفاجآت لم تكن متوقعة محرزة بذلك خطوات حقيقية نحو تحقيق ذاتها، ومعنى ذلك أن النص يحاول أن ينقلنا هنا إلى زاوية أخرى (أحتاجُ شمسًا كلما ملَّ الصباحُ حكايتي دارت لتحكيها علي رملِ الطريق) فالشمس في هذا المقطع تقوم بوظيفة مختلفة عن وظيفتها في المقاطع السابقة؛ فهي هنا حافظة لحكاية الأنا الشاعرة، أي تاريخها ومسيرتها، فإن لم تستطع هذه الأنا تحقيق ما تصبو إليه (ملَّ الصباح حكايتي) فإن الشمس تدور في كل مكان لتحكي حكاية تلك الأنا الشاعرة ورغباتها واحتياجاتها التي قضت حياتها في سبيل تحقيقها، ويقتبس النص من صفات الشمس ما يعمق الفكرة، فدوران الشمس ينتج عنه الليل والنهار، ولكن النص هنا يتخذ من دوران الشمس وسيلة لتبليغ الحكاية، وإذا كان ينتج عن الدوران الليل والنهار فإننا نستنتج أن حكاية الأنا الشاعرة سوف يستمع إليها كثيرون مختلفون، منهم من يطمسها/الليل، ومنهم من يظهرها ويتعاطف معها/ النهار، واستخدام لفظ (كلما) دالٌّ على التكرار، أي أن النص يشير إلى الإصرار على حكاية حكاية الأنا الشاعرة؛ فكلما ملَّ النهار دارت الشمس أي اتخذت وجهة أخرى، أي أناسا آخرين؛ لتحكي لهم الحكاية، وفي ذلك إصرار على بلوغ الهدف، ثم ينتقل النص إلى الجزء الثاني من المقطع (وتارةً أخرى تُغنِّيها على سربٍ من الأطيارِ يحملُها ويحملني ويدخلُ بي سماءَه .) ومن الملاحظ هنا أن النص عندما تحدث عن الأطيار اختار لفظ (تغنيها) وهو ما يتناسب مع الأطيار/ الحرية، أما في الجزء الأول فقد اختار لفظ (لتحكيها) وهي مناسبة للبشر؛ فالأطيار تتصف بالحرية والقبول، أي أن الحكاية إذا سمعها من يؤمنون بالحرية والجمال/ الأطيار فسوف يحتفون بها ويحملون تلك الحكاية ويرتفعون بها إلى عنان السماء/ يدخل بي سماءه، وفي ذلك إشارة إلى أن من يؤمن برسالة الأنا الشاعرة/ احتياجاتها/ حكايتها يتضامن معها ويتقبلها بقبول حسن/ تغنيها، ومن كان خاليا من الإيمان بتلك الأفكار فإن قد يقبل بها وقد لا يقبل، ومن ثم قد يملَّ فتحتاج الأنا الشاعرة إلى تكرار الحكاية، هذا التكرار المستفاد من استخدام اللفظ (كلما)، ثم ينتقل النص إلى زاوية أخرى من زوايا الرؤية؛ ليسلط الضوء على جانب آخر من الاحتياج الذي أشار إليه في البداية، ولم يلبث يكرره في مطلع كل مقطع (أحتاج شمسا) وفي كل مرة يلفت النظر إلى زاوية مختلفة من زوايا الرؤية.
- 5 –
أحتاج شمسًا أرتوي من كأسِها
وأديرُ كأسي
ريثما يتأملُ الماشون فوق الأرض خُضْرَتَها
ويدركُ شاعرٌ في الريف معنى كونِه طفلاً
وكونِ غنائِه لَعِبًا على رملِ الكلامِ
وكون ضحكتِه بكاءَه .
يبدأ المقطع ببداية طالما تكررت في المقاطع السابقة (أحتاج شمسا) لتذكرنا دائما باحتياجات الأنا الشاعرة، وهو حضور طاغ على المستويين اللفظي والمعنوي لهذه الاحتياجات؛ ليعبر عن تمكنها من النفس وسيطرتها عليها كما اشرنا سابقا بحيث لا ترى الأنا الشاعرة نفسها إلا مرتبطة بهذه الاحتياجات، والاحتياج هنا يرتبط بزاوية مختلفة كما تعوَّدنا في كل مرة (أحتاج شمسًا أرتوي من كأسِها وأديرُ كأسي) فالشمس هنا للريِّ واستمداد القوة منها (وأدير كأسي) فالأنا الشاعرة هنا ترتوي من كأس هذه الشمس بكل ما تحمله الشمس من دلالة؛ لأن النص لم يحدِّد وجهة معينة (أرتوي من كأسها) فمحتوى هذا الكأس ليس محددا، ومنث م يمكن حمله على كل الدلالات، فالشمس رمز للوضوح والأمان من خلال النهار، وهي مبعث الحياة لكل الكائنات، وهي رمز لخروج الإنسان من الضلال إلى الإيمان ومن الوهم إلى الحقيقة ومن الخوف إلى الأمن، إلى غير ذلك من الدلالات المرتبطة بالشمس، ومن ثم فإن الأنا الشاعرة تحتاج إلى الارتواء من كل هذه الأشياء، وهذا يعني أن حياة تلك الأنا الشاعرة تفتقد كينونتها وهي تحتاج إلى إيجادها (وأدير كأسي) ويرتبط الارتواء هنا بتحقيق الكينونة من خلال الربط بين كأس الشمس وكأس الأنا الشاعرة باستخدام حرف العطف الواو؛ فنحن نعلم أن هذا الحرف يدل على مطلق الجمع أي ارتباط المعطوف عليه بالمعطوف، ولكن هذا التحقق للكينونة التي أشرنا إليها لن يكون كاملا؛ فهو يحتاج إلى وقت وجهد، وقد أشرنا إلى ذلك في مقطع سابق، ولكن النص هنا يأخذنا إلى زاوية جديدة، وهو إدراك المجتمع من حول الأنا الشاعرة لكل معاني الجمال والحرية التي ارتبطت بالشمس (ريثما يتأملُ الماشون فوق الأرض خُضْرَتَها ويدركُ شاعرٌ في الريف معنى كونِه طفلاً وكونِ غنائِه لَعِبًا على رملِ الكلامِ وكون ضحكتِه بكاءَه) وهنا تصبح الأنا الشاعرة قائدا لهذه الجموع التي تنتظر الخلاص مما هي فيه، وتتحول تلك الجموع (الماشون/ جموع الناس – شاعر/ 5المثقفون والمبدعون) بكل توجهاتها الفكرية وانحيازاتها الجمالية إلى حياة طبيعية، ونلاحظ أن النص يحافظ في هذا المقطع على ديناميكيته من خلال استخدام الفعل المضارع بكثرة (أحتاج – أرتوي – أدير – يتأمل – يدرك) فالفعل المضارع يدل على التجدد والاستمرار، ومن ثم يعطي للنص ديناميكية، وينتقل النص إلى المقطع السادس محافظا على البداية نفسها التي يبتدئ بها كل مقطع، وإن اختلفت الرؤية عن سابقه ولاحقه.
- 6 –
أحتاج شمسًا ترتوي من ليلِ أيامي
وتشربُني صباحًا مثل كوبِ الشاي
تشربُني مساء
ثم تغرقُ في مياهِ البحرِ ليلاً كاملاً
وتعود في الصبحِ القريبِ
تعلِّمُ الضوءَ الكتابةَ في ثنايا الوقتِ
ثم تعلِّمُ الوقتَ القراءة .
إذا كانت الأنا الشاعرة عبرت في المقطع السابق عن احتياجها؛ لترتوي من كأس تلك الشمس وتدير هي/ الأنا الشاعرة كأسها (أحتاج شمسًا أرتوي من كأسِها وأديرُ كأسي) فإننا هنا أن الشمس هي التي سترتوي من ليل الأيام، ولكنها ترتوي من هذا الليل لتحوله إلى نهار (أحتاج شمسًا ترتوي من ليلِ أيامي وتشربُني صباحًا مثل كوبِ الشاي تشربُني مساء ثم تغرقُ في مياهِ البحرِ ليلاً كاملاً وتعود في الصبحِ القريبِ) ومعنى ذلك أن الأنا الشاعرة تحتاج من الشمس أن تحول كينونة الأيان وكينونة الأنا الشاعرة كذلك؛ فهي تشرب ليل الأيام/ محنها ومعاناتها ومآسيها، وتشرب كذلك الأنا الشاعرة صباحا ومساء وبعد ذلك تعود حاملة في يدها التغيير المنشود (تعلِّمُ الضوءَ الكتابةَ في ثنايا الوقتِ ثم تعلِّمُ الوقتَ القراءة) وارتباط الكتابة والقراءة في هذا المقطع بالتعليم هو إشارة إلى التغيير الذي تريده الأنا الشاعرة، إنها المعرفة وانكشاف الحقائق والتعبير عنها؛ فالقراءة اكتساب للمعارف والخبرات والتجارب، والكتابة تعبير عن هذه المعارف والخبرات والتجارب، ومن ثم اتخاذ الطريق الطبيعي للحياة الإنسانية، فالأنا الشاعرة هنا تطمح أن تكون عنصرا فاعلا ومؤثرا في المجتمع البشري، وفي ذلك غشارة إلى واقعها المزري الي تعاني منه، وتطمح إلى تغييره؛ فبضدها تتميَّز الأشياء، ومن ثم فإن الأنا الشاعرة تخرج من كينونتها الفيزيائية هي واحتياجاتها لتصبح تجريدا خالصا؛ فهي/ الأنا الشاعرة واحتياجاتها ليست ممثلة لنفسها بقدر تمثيلها لقيم إنسانية واجتماعية أرادها النص/الشاعر، ومن ثم كان ضروريا إخراجها من الكينونة الفيزيائية لتتلبس بالكينونة الإدراكية السائلة؛ ليتيح ذلك القدرة على تطويعها حسب إرادة الدلالة في النص، فالنص لم يتحدث عن الأنا الشاعرة واحتياجاتها (أحتاج شمسا) باعتبارها فردًا من أفراد المجتمع، ولكنه يتحدث عنها باعتبارها قيمة ذات ملامح مجتمعية حاكمة لفئة من فئات المجتمع، وممثلة لها، وأنا الاحتياجات ليست فيحد ذاتها احتياجات نفعية آنية بقدر ما هي قيم عامة في قاموس بني البشر منذ قديم الزمان، فهي احتياجات للحياة والحرية والجمال من حيث هم قيم حياتية وجمالية واجتماعية، وهنا تأخذ الدلالة في الانغلاق؛ ليأخذ النص طريقه إلى النهاية، ومن ثم التوجُّه من الأنا الشاعرة إلى المخاطبين أن يحملوا رجاءها إلى التي تحتاجها تلك الأنا وهي الشمس، وهنا تنكشف الدلالة حول أن هذه العناصر الواردة في النص قد خرجت من كينونتها الفيزيائية المحددة إلى كينونة إدراكية عامة؛ لتمثل قيما إنسانية وفكرية واجتماعية وجمالية تحكم حياة بني البشر، وتتحكم في انحيازاتهم المختلفة، فمن هم الذين تتحدث إليهم الأنا الشاعرة (احملوا – وتحمَّلوا) ومن هو المتحدث في النص/ الأنا الشاعرة؟ (أحتاج شمسا) هل هو الشاعر يعبر عن نفسه أو هو يمثل قيمة ذات ملامح مجتمعية حاكمة لفئة من فئات المجتمع؟ إننا هنا أمام نص يأخذنا إلى أفق مفتوح على مدى لا نهائي.
- 7 –
أحتاج شمسًا
فاحملوا عنِّي رجائي للتي أحتاجُها
وتحمَّلوا عني حَنيني
ربَّما أصحو وحيدًا ذات صُبحٍ
ثم أدعوها فتأتيني
وآتيها البراءَة.
يختتم الشاعر نصه بإيحاء على قدر كبير من الأهمية، وبوح ذي دلالة عميقة على ما تعانيه النفس الإنسانية (فاحملوا عنِّي رجائي للتي أحتاجُها وتحمَّلوا عني حَنيني) فالرجاء والحنين كلاهما عنصران يحكمان شخصية الأنا الشاعرة ويتحكمان تصرفاتها، وقد ورد في معجم اللغة العربية المعاصرة (رجا يَرْجُو ، ارْجُ ، رَجاءً ورُجُوًّا، فهو راجٍ، والمفعول مَرجُوّ، رجا أَمرا: 1 – أمَّله وأراده :-أرجو من الله المغفرة: أسأله وأدعوه وأبتهل إليه، أتيتُه رجاء أن يحسن إليّ، رجاء العلم بكذا: في المراسلات، برجاء عمل كذا، وفي القرآن (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحً)، وأرجوك: عبارة تستخدم كطلب مهذَّب، - رجا اللهَ أن يغفر له: طلب منه، يُرجَى التفضل بالعلم: عبارة تبدأ بها الرسائل والمنشورات الرسميّة. 2 – رجا أمرا أي خافه واكترث له...) أما العنصر الثاني فهو الحنين وقد ورد في المعاجم العربية بدلالات متعددة، فهو (خروج الصوت من الفم، صوت النَّاقة إذا حنت، والحنين هو صوت الأم إلى ولدها، والحنين صوت الذي في فؤاده نزعة ألم، وصوت الريح والنسيم الرقيق، وصوت العود عند النقر عليه، وصوت القوس عند الإنباض، وصوت المرأة تفتقد زوجها، وصوت المشتاق، والحنين هو الشوق) ومعنى ذلك أن الأنا الشاعرة واقعة بين الرجاء والحنين، أي بين الأمنية والشوق، وإذا كان الرجاء هو الأمل والرغبة فإن ذلك عنصر أحادي غير فعَّال في ذاته، بمعنى أنه مجرد أمنية يتمناها الإنسان في لحظة معينة، وتبقى غير فاعلة إذا لم تتحول من مجرد أمنية إلى واقع فعلي، وتأمل تعبيرات النص تدل على أن الاحتياجات هي مجرد رجاء وأمنيات ورغبات لم تفارق عمق النفس، أي لم تتحول إلى فعل واقعي متحقَّق، ومن هنا يأتي العنصر الثاني؛ ليكون مكمِّلا لهذه الدلالة وكاشفا عنها، وهو الحنين، وإذا كان الحنين في إحدى دلالاته هو الشوق فإن التشوق لشيء يدل على أن هذا الشيء غير موجود في الواقع الفعلي لحظة التشوّق إليه، ويترتب على ذلك الجزء الثاني من هذا المقطع، وهو اللجوء إلى من تتحدث إليهم الأنا الشاعرة أن يحملوا عنها رجاءها إلى المرجوِّ، وأن يتحملوا عنها عبء الحنين، ومن ثم فإن الأنا الشاعرة تخرج في التعبير عن احتياجاتها من كونها فردا من أفراد المجتمع مهموما برجاء وحنين إلى المجتمع بأسره؛ ليشاركها هذا الرجاء وذلك الحنين، ويتحمل عنها مسؤولية الإبلاغ والإنجاز (فاحملوا عنِّي رجائي للتي أحتاجُها وتحمَّلوا عني حَنيني) ويأتي الجزء الثاني ليحمل معنى الاحتمالية المغلفة بالتمني من خلال استخدام لفظ (ربما) بمعنى من المحتمل، وهي مركبة من (رُبَّ) و(ما) الكافة، ولكن هذا الاحتمال يميل إلى كفة التقليل، بمعنى أن استخدامها يدل على الاحتمال غير الحادث بكثرة، ثم تأتي بعدها الاحتمالات التي يضعها الشاعر (ربَّما أصحو وحيدًا ذات صُبحٍ ثم أدعوها فتأتيني وآتيها البراءَة) واستخدام لفظ (ربما) وهو استخدام يحمل الأمنية التي قد لا تتحقق، فيتمنى أن يصحو وحيدا ذات صبح، ويدعو الشمس فتأتيه، ويؤتيها البراءة، وهنا استخدم النص الفعلين (تأتيني – آتيها) فالأول بمعنى الإتيان أي المجيء، والثاني بمعنى العطاء، واستخدام (ربما) الدالة على الاحتمال يعود بنها إلى عنوان النص والجملة المفتاحية (أحتاج شمسا) إذ إنها تعبر عن الاحتياج، ولكن الشاعر في استخدامه (ربما) يعبر عن أن هذا الاحتياج قد يتحقق وقد لا يتحق، فهو عنصر احتمالي، ولذلك لجأ إلى من يقدرون على حمل هذا الرجاء وتحمل عبء الحنين، وهو ما يرتبط – من وجهة نظرنا – بالبنية العميقة للنص، ذلك أن "تفكيك أي خطاب أدبي يستدعي التعامل مع خطوط الدلالة، وعلاقة هذه الخطوط بالموضوع الشعري هي علاقة محمول بموضوع؛ لأنها تمثل تنويعات فرعية على بنيته المركزية" (د. محمد عبد المطلب، مناورات الشعرية، ص 236). لقد نجح النص عبر تموجاته المختلفة والمتعددة في أن ينسج خيوط رؤية عميقة لأمنية أخفى ملامحها في العنوان (أريد شمسًا) وأوضحها في الوقت نفسه من خلال اختيار ألفاظ دالة (الاحتياج – الشمس) بكل ما يحمل ذلك من دلالات كشفنا عن بعضها عند حيثنا عن العنوان وكيفية تشكيله لعوالم النص، كما نجحت الأنا الشاعرة في بناء النص رأسيا من خلال حركة المعنى، وأفقيا من خلال تشكيل كل حركة على حدة.
حركة المعنى وتفكيك شفرة العنوان:
لقد كان العنوان بتشكيلاته النحوية والبلاغية مفتاحا تأويليا أساسيا، وأكثر قدرة على إضاءة النص، والكشف عن عوالمه المتخفية خلف شبكة العلاقات اللغوية والبلاغية، كما أشرنا في البداية، ثم ننتقل بعد ذلك إلى الكشف عن حركة المعنى وإنتاج الدلالة في النص، وهو ما يمكن تسميته الرصد الرأسي للنص، بمعنى رصد حركة المعنى وكيفية تشكُّل الدلالة جزءًا بعد جزء حتى تستوي على سوقها، وتكتمل الرؤية الفكرية التي أراد الشاعر التعبير عنها، ومشاركة المتلقي إياه انحيازا لما يريد، وتأثيرا في المتلقي، ومن ثم تصبح رؤيته رؤيةً لمجموعة من الشرائح المجتمعية، مما يعطيها مشروعية الوجود على الساحة الفكرية، وهنا يمكن تقسيم النص إلى سبعة أجزاء يمثل كل جزء حركة من حركات المعنى، وتموجاتها وتشكل ملامحها، ومن ثم إنتاج الدلالة، وهو ما سوف نتحدث عنه في هذا الجزء من الدراسة، ومن الملاحظ أن النص يكرر في بداية كل مقطع من مقاطعه جملة (أحتاج شمسا) وقد اشرنا إلى ذلك سابقا، وسوف نتعرض لها بالتحليل في أثناء تحليلنا لحركة المعنى؛ إذ إنها تمثل البنية العميقة للرؤية، ومن ثم يتحتم علينا الإشارة إليها ودراستها؛ ذلك أن "أن الظاهرة المفردة متى انتشرت في نص من النصوص انتشارا واسعا واستقطبت منه جملة أجزائه، ورشحت بها كافة مستوياته حق للدارس أن يعتمدها في قراءة ذلك النص بدل أن ينطلق من دراسة مظاهر شتى إن استطاعت أن تجلو من الأثر خصائصه فإنها غير قادرة على أن تكشف منه أبرز خاصة فيه" (حاتم عبيد، التكرار وفعل الكتابة في الإشارات الإلهية لأبي حيان التوحيدي، ص 6) ومن ثم فإن جملة (أحتاج شمسا) تمثل ركيزة أساسية في بناء النص؛ فهي الجملة المفتاحية التي اختارها الشاعر لتكون عنوانا يفتتح بها نصه، مختزلا تجربته الإبداعية ورؤيته الفكرية في النص من خلال اختيار ألفاظ قليلة ارتضاها؛ لتكون مَعْبَرًا أوليًّا إلى النص، ومن ثم فهو اختيار واع، واختزال دقيق ينبغي التركيز عليه، وعدم إهماله، أو التغاضي عنه، وحين يتصدى الناقد لتحليل النص ينبغي "أن يكون واعيا لفكرة أن العناصر التي يشتمل عليها النص هي عناصر شعرية قد تتصل بالخارج/ الواقع، ولكن اتصالها هذا ليس يعني المطابقة، بل إن شعريتها هي التي تعنينا، فهناك شعرية المكان وشعرية المرأة .. هذه العناصر تخضع لحركة الأنا الشاعرة من أجل الحفاظ على العصب الحيوي في النص قادرا على إثارة الدهشة، والاقتراب من السحر" (د. إبراهيم ملحم، النقد التكاملي: إستراتيجية تكشل الخطاب، ص 157) وتتوالى الجملة المفتاحية في كل مقطع كاشفة عن زاوية من زوايا الرؤية في بناء رأسي للمعنى في النص حتى تكتمل الرؤية باكتمال النص، ووصوله إلى النهاية فينغلق النص وتكتمل الدلالة.
- 1 –
أحتاجُ شمسًا في قميصِ الصبح
تُدخلني المحبَّةَ من دفاترِها
وتُسلمني إلى وَجْدي
تعلِّمُني الكتابةَ فوق أشجارِ الطريقِ
بكل جذعٍ ثــَمَّ لي قلبٌ وسهمٌ واشتهاءة .
في البداية يقر الشاعر باحتياجه للشمس، ولكنه في الوقت نفسه يأتي بالجملة في دلالة منطقية قد تبدو للوهلة الأولى دلالة عادية، فالشمس تأتي مع الصباح (أحتاج شمسا في قميص الصبح) أي يحتاج شمسا تأتي مع الصباح، وهنا يبدو التساؤل منطقيا أيضا: وهل تكون شمسٌ من غير صباح؟! ولكننا نلاحظ أن الأنا الشاعرة في هذه الجملة بدأت تدريجيا تأخذنا إلى مناطق المجاز حين قالت (في قميص الصبح) وهذا يعني أن الصبح هنا ليس بمفهومه التقليدي المباشر، ولكنه ذو دلالة مجازية، وهنا تبدأ الأنا الشاعرة بالبوح بما تريد من هذه الشمس (تُدخلني المحبَّةَ من دفاترِها / وتُسلمني إلى وَجْدي / تعلِّمُني الكتابةَ فوق أشجارِ الطريقِ / بكل جذعٍ ثــَمَّ لي قلبٌ وسهمٌ واشتهاءة ) فالشمس هنا ليست مطلوبة لذاتها، ولكنها مطلوبة لتحقيق هدف محدد، وهو تغيير جذري في حياة الأنا الشاعرة، فالمحبة والوجد والكتابة فوق أشجار الطريق هي المفردات التي تأتي مع الشمس، وإذا قلنا إن الشمس قد أتت في قميص الصبح فإن هذه المفردات مرتبطة بالصباح والضياء، وإذا كان الصباح يمثل نهاية مرحلة/ الظلام بداية مرحلة أخرى/ النور فإننا لابد أن ندرك أن الخروج من الظلام إلى النور هو خروج من الضلال/ الضياع/ الهلاك/ الحقد/ كل المفردات السلبية إلى الحقيقة/ كل المفردات الإيجابية، وهنا نتذكر المفردات التي تحدثت عنها الأنا الشاعرة في هذا المقطع، الأولى هي (المحبة) فالأنا الشاعرة تحتاج الشمس لتدخلها في المحبة وهذا يعني أن المحبة مفقودة عند الأنا الشاعرة وتحتاج الشمس لتحقيق المحبة، ومن ثم نفهم ضمنيًّا أن الظلام/ الواقع الآني الذي جاء الصبح ليحوِّله إلى ضده/ المحبة هو المسيطر على واقع الأنا الشاعرة وتحتاج إلى تغييره والدخول في المحبة، ويرتبط بذلك المفردة الثانية الواردة في المقطع (وجدي) وقد ورد الوجد في المعاجم العربية دالا على كثير من المعاني، ومن ذلك (وُجِدَ: ( فعل(وُجِدَ يُوجَد ، وُجودًا ، والمفعول مَوْجود - وُجِدَ مِنْ عَدَمٍ : حَصَلَ وُجُودُهُ، خِلافُ عُدِم – (وَجْد( اسم) وَجْد : مصدر وَجَدَ (وَجد: (اسم مصدر وَجَدَ، بِهِ وَجْدٌ : شَغَفٌ - أَرَّقَهُ الوَجْدُ : الْحُبُّ - الوَجْدُ : منقَع الماء - مصدر وجَدَ – وجَدَ (الفلسفة والتصوُّف) ما يصادف القلب ويَرِد عليه دون تكلُّف وتصنّع من فزع أو غمّ أو رؤية معنى من أحوال الآخرة، أو هو لهب يتأجّج من شهود عارض القلق، وللوجد مراتب هي التواجد، والوجد، والوجود وهو المرتبة العليا والأخيرة – والوُجْدُ: اليسار والسعة – وَجَدَ مطلوبَه، وجْدًا، ووُجْدًا، وجِدةً، ووُجُودًا، ووِجْدانًا أي أصابه وأدرَكه وظفِر به، عَثَر عليه – وَجَدَ به وَجْدًا: أحبه – وجد فلانٌ وجْدا حزن – وَجَدَ الشيءَ كذا: عَلِمَه إِياه) وهذا يعني أن الوجد في المعاجم العربية قد دار حول معاني الحب والشغف ومنقع الماء والوجود من العدم واليسار والسعة وإصابة المطلوب وإدراكه والظفر به والعثور عليه، وكلها تبحث عنها الأنا الشاعرة في لحظتها الآنية، ثم ينتقل النص بعد ذلمك إلى نصر آخر من عناصر هذا المقطع؛ ليحمل دلالة جديدة ومضافة إلى العناصر السابقة بلالالتها المتعددة، بيقول (تعلِّمُني الكتابةَ فوق أشجارِ الطريقِ بكل جذعٍ ثــَمَّ لي قلبٌ وسهمٌ واشتهاءة) وهنا لابد من التوقف أمام الاختيار الواعي لعناصر هذه الصورة (الكتابة – أشجار – الطريق – جذع – قلب – سهم – اشتهاءة) إن النظرة الأولى لهذه العناصر تدل على افتقاد الحرية والحب؛ فالرسم على أشجار الطريق تحمل معاني الحرية، ورسم القلب والسهم داخله يحمل معنى الحب، ولكننا إذا تأملنا أعمق في عناصر الصورة ووقفنا أمامها فسوف نجد أن الشجرة تحمل معنى الخصوبة، وقد استخدمت الشجرة في الفلكلور والأساطير القديمة في دلالات متعددة، فقد كانت موضوعا للعبادة في بعض مناطق أفريقيا، وكانت مسكنا للآلهة في مناطق أخرى، والشجرة رمز للخصوبة والقوة والإنجاب، واستخدام الشجرة في هذه الصورة لا يبتعد كثيرا عن بعض الدلالات المذكورة؛ فالأنا الشاعرة تعبر عن احتياجاتها الوجدانية والنفسية، ثم يأتي لفظ (الطريق) رمزا للحياة؛ فالحياة طريق يسير فيه الإنسان ويواجه تحديات كثيرة وعقبات متنوعة، ويحتاج إلى الحرية والقوة، كما يحتاج إلى التعبير عن الحب بكل معانيه (قلب – سهم – اشتهاءة) واستخدام السهم مع القلب يحمل معاني البراءة التي يعيشها الإنسان في مقتبل عمرع حين يعبر عن حبه عن طريق رسم قلب يخترقه سهم، ثم يأتي لفظ (اشتهاءة) ليدل على الرغبة الشديدة التي تجتاح الأنا الشاعرة في لحظتها الأنية، وعندما نقول اللحظة اآنية فإن النص يدفعنا إلى الاعتقاد بذلك؛ لأنه يستخدم دائما الفعل المضارع (أحتاج – تدخلني – تسلمني – تعلمني) إذ ورد الفعل المضارع أربع مرات في هذه المقطع وكلها مرتبطة بالأنا الشاعرة؛ حيث ورد مع الفعل الضمير الدال على الأنا الشاعر سواء أكان الضمير مستترا (أختاج/ أنا) أو كان ضميرا بارزا/ الياء في (تدخلني – تسلمني – تعلمني) ومن الملاحظ أن الفعل المضارع الأول (أحتاج) قد جاء الفعل فيه دالا على الأنا الشاعرة، بمعنى أنها هي التي تقوم بالفعل/ الاحتياج، أما الأفعال الثلاثة الأخرى (تدخلني – تسلمني – تعلمني) فقد جاء الضمير الدال على الأنا الشاعرة مفعولا به، وما يدل على الشمس/ هي جاء فاعلا، ومعنى ذلك أن الاحتياج واقع من الأنا الشاعرة أما تحقيق هذا الاحتياج فيكون من غيرها، فهي تحتاج إلى غيرها/ الشمس لتحقيق احتياجاتها، ثم يأتي المقطع الثاني لتنفتح الدلالة أكثر على توصيف الرغبات التي تحتاج الأنا الشاعرة؛ لتتحقق وجوديا، ونفسيا وفكريا.
- 2 –
أحتاجُ شمسًا كي أدرِّبَ مِحْنتي يومًا على الطيرانِ
أحملُ همَّ أيامي إلى أُفقٍ رفيقٍ
يشبهُ الذكرى
وأدخلُ في الوضاءَة .
هنا تنتقل الأنا الشاعرة إلى الرغبة في كونها فاعلة أي محققة لرغباتها (أحتاج شمسًا كي أدرِّب محنتي على الطيران) فهي التي تدرب أي تقوم بالفعل بعد أن كانت في المقطع الأول مفعولا به، وتتحول الشمس في هذا المقطع إلى مجرد دافع للأنا الشاعرة؛ كي تحقق رغباتها، بعد أن كانت الشمس في المقطع الأول هي التي تحقق للأنا رغباتها (تُدخلني المحبَّةَ من دفاترِها – وتُسلمني إلى وَجْدي – تعلِّمُني الكتابةَ فوق أشجارِ الطريقِ) واستخدم النص ما يدل على ذلك وهو لفظ (كي) الدال على بيان السبب؛ فهي تعليلية، وتتوالى الأفعال الدالة على تحوُّل الأنا الشاعرة من مفعول به إلى فاعل، أي من متأثر إلى مؤثر (أحمل هم أيامي – أدخل في الوضاءة) فإذا انتفلنا إلى الدلالات العميقة لهذا المقطع فإننا نجد الأنا الشاعرة تدرك تماما أن الأشياء لا تتحقق كلها مرة واحدة، وأن تحولها من المفعول به إلى الفاعل سوف يستغرق وقتا، فنرى النص يعبر عن ذلك بقوله (أدرِّب محنتي يوما على الطيران) فاستخدام لفظ (يوما) دالٌّ في موضعه على أن الانتقال لن يكون دفعة واحدة، ولكنه سوف يستغرق وقتا وجهدا، وهذا الوقت والجهد هما اللذان سيجعلان الأنا الشاعرة قادرة على تحمل المسؤولية (أحمل همَّ أيامي – أدخل في الوضاءة) ونلاحظ أن الترتيب في الجمل جاء نتيجة الترتيب في الذهن على حد نظرية عبد القاهر الجرجاني في النظم، فنجد أنه استخد التدريب أولا ثم استخدم تحمل المسؤولية ثانيا، ث الدخول في الوضاء ثالثا، وهو ترتيب منطقي كما نرى، ورغم هذا الترتيب فإن هذه المراحل متداخلة؛ فمن الملاحظ أن الشاعر استخدم حرف العطف الواو عند الربط بين تحمل المسؤولية والدخول في الوضاءة، ونعرف أن الواو تدلُّ على مطلق الجمع، ومعنى ذلك أن كلا الطرفين يقعان مرتبطين ببعضهما، فكلما تحمل جزءا من المسؤولية حقق جزءا من الوضاءة حتى يصل تحمله للمسؤولية مرحلة الاكتمال فيتحقق معها الوصول إلى كامل الوضاءة، وهنا يبدو السؤال منطقيا عن الدلالة العميقة للألفاظ (محنتي – الطيران – هم أيامي – الوضاءة) وماذا تريد الأنا الشاعرة من وراء استخدام هذه الألفاظ؟ إنها ألفاظ ذات دلالات عامة، ولكننا يمكن أن نكتشف بعض التحديد لها من خلال الوقوف عند قول النص (يشبه الذكرى) إذ يقول (أحملُ همَّ أيامي إلى أُفقٍ رفيقٍ يشبهُ الذكرى ) فهذا العالم الذي تراه الأنا الشاعرة شبه الذكرى أي يشبه ما كان عليه في الماضي؛ لأننا إذا عرفنا أن لفظ الذكرى يدل على دلالات متعددة؛ فقد جاء في المعاجم العربية أن لفظ (ذِكْرَى، جمع: ذِكْرَيات (ذ ك ر). 1 :-يَحْتَفِظُ بِذِكْرَى جَميلَةٍ مِنْ أَيَّامِ الصِّبا :- : جَرَيانُ ذِكْرِ شَيْءٍ حَدَثَ في الماضِي بِاللِّسانِ أَوْ حُضورُهُ في البالِ. :-جَلَسَ خَلْفَ الشُّبَّاكِ يَسْتَعْرِضُ ذِكْرَياتِهِ الماضِيَةَ. 2. :-اِحْتَفَلَ الشَّعْبُ بِذِكْرَى عيدِ الاسْتِقْلالِ :- : يَوْم حُصولِهِ على الاِسْتِقْلالِ. :-الذِّكْرَى السَّنَوِيَّةُ :- :-ذِكْرَى وَطَنِيَّةٌ ، وكذلك: ذِكْرى: 1 – مصدر ذكَرَ. 2 – عِظة وتوبة :- (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ( . 3 – ذِكر صِيت حسن أو سيئ يتركه الإنسانُ بعد موته. 4 – ما ينطبع في الذاكِرة، ويبقى فيها: لطفولتنا ذكريات سعيدة، ذكرى عذبة/ مؤلمة/ حيَّة، - ذكريات كاتب، أعاد ذكريات الماضي – - ذكريات الدِّراسة. 5 – تذكُّر(فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) 6 – تسبيح وطاعة (لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) 7 – - دليل وحجّ) وهذا يعني أن الأنا الشاعرة تريد أن تستعيد الذكريات الجميلة التي مرَّت سواء كانت ذكريات شخصية أو دينية أو غيرها، أي أنها تريد استعادة الماضي بكل ما فيه من ذكريات وضَّاءة، وهو ما أشار إليه النص بقوله (أفق رفيق يشبه الذكرى) أي أن الأنا الشاعرة ترى أن الاستعادة لا تكون استعادة الماضي كما هو بمعى إعادته كشلا ومضمونا، ولكنها تريد استعادة المكانة التي كانت لها في الماضي (تشبه الذكرى) ولذلك جاء بعدها مباشرة قوله (وأدخل في الوضاءة) أي يتحول إلى عنصر فاعل ومؤثر على مستويات متعددة كما كان في الماضي (يشبه الذكرى) وهذا يعني أن الأنا الشاعرة تريد استعادة المكانة التي كانت تتمتع بها وتتحول إلى عنصر فعال ومؤثر في الحياة، وتخرج من دائرة المتأثر والمفعول به إلى دائرة المؤثر والفاعل، وإذا نظرنا إلى الأنا في النص على أنها ليست الأنا بالمفهوم الفيزيائي المتعارف عليه، ولكنها الأنا السائلة في كل الأنوات فسوف نكتشف أن النص يخرج من دائرة الخاص إلى دائرة العام، أو من دائرة التخصيص إلى دائرة الإطلاق، وهنا تكمن أهمية هذا المقطع من النص في بناء الدلالة، ثم يأتي المقطع الثالث لتنفتح الدلالة على جانب آخر في حركة المعنى.
- 3 –
يا صُبْحَنا الورديَّ هاتِ الشمسَ في كفيِّك
أَشْرِبني الغناءَ
لعلَّني أصفو
ويصفو صفوُ أيامي
كما تصفو الحمامةُ والندى فوق الغصونِ
وفوق أزهارِ الحقول
وفوقِ أعتابِ الفُجاءة .
وهنا تنطلق الأنا الشاعرة إلى مخاطبة الصبح مباشرة كأنه أصبح حقيقة ملموسة وواقعا معاشا، وتصفه بالوردي بكل ما يحمله هذا الوصف من دلالة على الجمال والقبول والمتعة والراحة النفسية والبصرية، ثم تطلب منه أن يأتي بالشمس في كفيه، وأن يمنح تلك الأنا الغناء شرابا؛ لعلها تصفو ويصفو صفو أيامها، ونتوقف هنا أمام مجموعة من الألفاظ الدالة قبل أن ننتقل إلى الجزء الثاني من المقطع، ومن هذه الألفاظ لفظ (لعلني) فهو من الناحية اللغوية حرف ناسخ مشبه بالفعل من أخوات إنّ، ينصب الاسم ويرفَعُ الخبرَ ويفيد التوقُّع والترجِّي في الأمر المحبوب، والإشفاق من الأمر المكروه، وقد تحذف لامُه فيصير علَّ، ويمكن اقتران لعلّ بنون الوقاية، وإذا دخلت عليها (ما) كفَّتها عن العمل، وإذا قارنا بينه وبين لفظ ناسخ آخر كان من الممكن أن يستخدمه النص، ولكنه أعرض عنه، وهو لفظ (ليت) وهنا ننتقل إلى التكييف البلاغي للفظين؛ للوقوف على السبب الذي دفع إلى استخدام لعل والإعراض عن ليت على الرغم من كونهما من حرفين ناسخين من أخوات إن، ويحملان الرغبة في الشيء، فلفظ لعل دال على شيء ممكن الحدوث أما لفظ ليت فهو دال على شيء مستحيل الحدوث، يقول الشاعر:
ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب
فعودة الشباب مستحيلة، ولذلك استخدم الشاعر لفظ ليت دالا على هذه الاستحالة، والأمثلة الدالة على الفرق بين اللفظين في الاستخدام القرآني كثيرة جدا؛ فالقرآن يختم كثيرا من آياته بقوله (لعلكم تتقون – لعلكم تعقلون – لعلكم تشكرون – لعلكم ترحمون) وهذا يعني أن التقوى والعقل والشكر والرحمة كلها أشياء ممكنة الحدوث على العكس لو أنه ختم الآيات بلفظ ليت بدلا من لعل، أما ليت فقد استخدمت في القرآن أيضا كثيرا (ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول – ياليتني لم أوت كتابيه – ياليتني لم أشرك بربي أحدا – ياليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً) وغيرها من الآيات، ونلاحظ الفرق في الدلالة بين اللفظين في الاستخدام القرآني، فقد جاءت لعل في مواضع تحقق المطلوب ممكنٌ، اما ليت فقد جات في مواضع تحقق المطلوب مستحيل، ومن هنا رجَّح النص استخدام لعل، ونحن إذ نقول بهذا الفرق الدلالي نضع في اعتبارنا أن الدلالة تقتضي أحيانا إخراج الممكن الحدوث مخرج المستحيل الحدوث والعكس، وهو استخدام بلاغي وارد في الإصدارات اللغوية العربية، أما الألفاظ الأخرى التي وردت في الجزء الأول من هذا المقطع فهي (أشربْني – أصفو – يصفو صفو أيامي) ففي الفعل (أشربني) رغبة ورجاء وقد جاء الفعل أمرا خارجا عن دلالته الحقيقية إلى دلالة مجازية وهي الرجاء، وتستمر المجازية في الاستخدام من خلال اللفظ التالي (الغناء) فهو لا يُشرب ولكنه يُتعلَّم، وقد أعرض النص عن استخدام لفظ (علمني) إلى استخدام لفظ (أشربني) لأن الشراب يتحول إلى مكوِّن من موكونات الجسم؛ إذ يرويه من العطش، وإذا كان الله قد جعل من الماء كل شيء حي، فلا يمكن الاستغناء عنه فإن الغناء لا يمكن الاستغناء عنه، والغناء هنا دال على البهجة والفرح والانطلاق، فلا تستقيم حياة الإنسان بدونه، ثم يأتي بعد ذلك تعليل هذا الأمر (أشربني) فهو ليس مطلوبا لذاته، ولكنه من أجل تحقيق هدف محدد وهو بلوغ الصفاء النفسي (أصفو) وصفاء الحياة نفسها (يصفو صفو أيامي) وسوف نتوقف أمام ذلك لاحقا، أما الجزء الثاني من المقطع فيقع كله موقع المشبه به (كما تصفو الحمامةُ والندى فوق الغصونِ وفوق أزهارِ الحقول وفوقِ أعتابِ الفُجاءة ) واختيار الألفاظ هنا دال بعمق على مراد الأنا الشاعرة ورغباتها المتحكمة فيها؛ ذلك أن صفاء الحمامة والندى فوق الغصون وفوق أزهار الحقول دالٌّ على الحرية/ الحمامة، والجمال/ الندى، والخصوبة/ الحقول، أما أعتاب الفجاءة فهي الأفعال التي لا تكون في التوقع؛ ذلك أن لفظ الفجاءة معناه في المعاجم العربية هو ما يأخذ الإنسانَ بغتةً، ومن ثم فإن استخدام اللفظ في هذا المكان من النص وبعد دلالة الألفاظ السابقة عليه يدل على أن التحوُّل الذي سيصيب الأنا الشاعرة يجعلها تفعل مفاجاءات لم تكن متوقعة منها، أي أنها تقدم فوق ما كان متوقَّعا منها نتيجة ما حدث لها من الحرية والجمال والخصوبة، وهي الدلالات الواردة في الألفاظ المستخدمة قبل لفظ الفجاءة، ثم يأتي المقطع الرابع؛ ليعيد لنا البداية التي بدأ بها النص (أحتاج شمسا) لتكون أيقونة النص ومفتاحه الدال كما أشرنا سابقا في بداية هذه الدراسة، فالشعور بالاحتياج يحاصر الأنا الشاعرة، ويسيطر على كل جوارحها، بحيث لا تستطيع الفرار فتذكرنا بهذا الشعور الطاغي في كل جزء من النص، ولكن النص في كل مرة يشير إلى زاوية رؤية مختلفة.
- 4 –
أحتاجُ شمسًا
كلما ملَّ الصباحُ حكايتي دارت
لتحكيها علي رملِ الطريق
وتارةً أخرى تُغنِّيها على سربٍ من الأطيارِ
يحملُها ويحملني
ويدخلُ بي سماءَه .
يبدأ المقطع باستعادة الدلالة التي تحاصر الرؤية منذ بداية النص (أحتاج شمسا) فقد حاولنا فيما سبق تلمُّس دلالة الشمس في النص حتى نستطيع أن نبلور شكلا محددا للاحتياج الذي أقرت به الأنا الشاعرة، من خلال التجول بين أروقة النص وشعابه وأوديته وقد قادنا ذلك فيما سبق إلى اكتشاف جانب من جوانب احتياجات الأنا الشاعرة في تلك المرحلة الآنية المعبرة عن رغباتها والمتحكمة فيها، وقد أشرنا إلى أن صفاء الحمامة والندى فوق الغصون وفوق أزهار الحقول دالٌّ على الحرية/ الحمامة، والجمال/ الندى، والخصوبة/ الحقول، أما أعتاب الفجاءة فهي الأفعال التي لا تكون في التوقع، فالأنا الشاعرة تقدم مفاجآت لم تكن متوقعة محرزة بذلك خطوات حقيقية نحو تحقيق ذاتها، ومعنى ذلك أن النص يحاول أن ينقلنا هنا إلى زاوية أخرى (أحتاجُ شمسًا كلما ملَّ الصباحُ حكايتي دارت لتحكيها علي رملِ الطريق) فالشمس في هذا المقطع تقوم بوظيفة مختلفة عن وظيفتها في المقاطع السابقة؛ فهي هنا حافظة لحكاية الأنا الشاعرة، أي تاريخها ومسيرتها، فإن لم تستطع هذه الأنا تحقيق ما تصبو إليه (ملَّ الصباح حكايتي) فإن الشمس تدور في كل مكان لتحكي حكاية تلك الأنا الشاعرة ورغباتها واحتياجاتها التي قضت حياتها في سبيل تحقيقها، ويقتبس النص من صفات الشمس ما يعمق الفكرة، فدوران الشمس ينتج عنه الليل والنهار، ولكن النص هنا يتخذ من دوران الشمس وسيلة لتبليغ الحكاية، وإذا كان ينتج عن الدوران الليل والنهار فإننا نستنتج أن حكاية الأنا الشاعرة سوف يستمع إليها كثيرون مختلفون، منهم من يطمسها/الليل، ومنهم من يظهرها ويتعاطف معها/ النهار، واستخدام لفظ (كلما) دالٌّ على التكرار، أي أن النص يشير إلى الإصرار على حكاية حكاية الأنا الشاعرة؛ فكلما ملَّ النهار دارت الشمس أي اتخذت وجهة أخرى، أي أناسا آخرين؛ لتحكي لهم الحكاية، وفي ذلك إصرار على بلوغ الهدف، ثم ينتقل النص إلى الجزء الثاني من المقطع (وتارةً أخرى تُغنِّيها على سربٍ من الأطيارِ يحملُها ويحملني ويدخلُ بي سماءَه .) ومن الملاحظ هنا أن النص عندما تحدث عن الأطيار اختار لفظ (تغنيها) وهو ما يتناسب مع الأطيار/ الحرية، أما في الجزء الأول فقد اختار لفظ (لتحكيها) وهي مناسبة للبشر؛ فالأطيار تتصف بالحرية والقبول، أي أن الحكاية إذا سمعها من يؤمنون بالحرية والجمال/ الأطيار فسوف يحتفون بها ويحملون تلك الحكاية ويرتفعون بها إلى عنان السماء/ يدخل بي سماءه، وفي ذلك إشارة إلى أن من يؤمن برسالة الأنا الشاعرة/ احتياجاتها/ حكايتها يتضامن معها ويتقبلها بقبول حسن/ تغنيها، ومن كان خاليا من الإيمان بتلك الأفكار فإن قد يقبل بها وقد لا يقبل، ومن ثم قد يملَّ فتحتاج الأنا الشاعرة إلى تكرار الحكاية، هذا التكرار المستفاد من استخدام اللفظ (كلما)، ثم ينتقل النص إلى زاوية أخرى من زوايا الرؤية؛ ليسلط الضوء على جانب آخر من الاحتياج الذي أشار إليه في البداية، ولم يلبث يكرره في مطلع كل مقطع (أحتاج شمسا) وفي كل مرة يلفت النظر إلى زاوية مختلفة من زوايا الرؤية.
- 5 –
أحتاج شمسًا أرتوي من كأسِها
وأديرُ كأسي
ريثما يتأملُ الماشون فوق الأرض خُضْرَتَها
ويدركُ شاعرٌ في الريف معنى كونِه طفلاً
وكونِ غنائِه لَعِبًا على رملِ الكلامِ
وكون ضحكتِه بكاءَه .
يبدأ المقطع ببداية طالما تكررت في المقاطع السابقة (أحتاج شمسا) لتذكرنا دائما باحتياجات الأنا الشاعرة، وهو حضور طاغ على المستويين اللفظي والمعنوي لهذه الاحتياجات؛ ليعبر عن تمكنها من النفس وسيطرتها عليها كما اشرنا سابقا بحيث لا ترى الأنا الشاعرة نفسها إلا مرتبطة بهذه الاحتياجات، والاحتياج هنا يرتبط بزاوية مختلفة كما تعوَّدنا في كل مرة (أحتاج شمسًا أرتوي من كأسِها وأديرُ كأسي) فالشمس هنا للريِّ واستمداد القوة منها (وأدير كأسي) فالأنا الشاعرة هنا ترتوي من كأس هذه الشمس بكل ما تحمله الشمس من دلالة؛ لأن النص لم يحدِّد وجهة معينة (أرتوي من كأسها) فمحتوى هذا الكأس ليس محددا، ومنث م يمكن حمله على كل الدلالات، فالشمس رمز للوضوح والأمان من خلال النهار، وهي مبعث الحياة لكل الكائنات، وهي رمز لخروج الإنسان من الضلال إلى الإيمان ومن الوهم إلى الحقيقة ومن الخوف إلى الأمن، إلى غير ذلك من الدلالات المرتبطة بالشمس، ومن ثم فإن الأنا الشاعرة تحتاج إلى الارتواء من كل هذه الأشياء، وهذا يعني أن حياة تلك الأنا الشاعرة تفتقد كينونتها وهي تحتاج إلى إيجادها (وأدير كأسي) ويرتبط الارتواء هنا بتحقيق الكينونة من خلال الربط بين كأس الشمس وكأس الأنا الشاعرة باستخدام حرف العطف الواو؛ فنحن نعلم أن هذا الحرف يدل على مطلق الجمع أي ارتباط المعطوف عليه بالمعطوف، ولكن هذا التحقق للكينونة التي أشرنا إليها لن يكون كاملا؛ فهو يحتاج إلى وقت وجهد، وقد أشرنا إلى ذلك في مقطع سابق، ولكن النص هنا يأخذنا إلى زاوية جديدة، وهو إدراك المجتمع من حول الأنا الشاعرة لكل معاني الجمال والحرية التي ارتبطت بالشمس (ريثما يتأملُ الماشون فوق الأرض خُضْرَتَها ويدركُ شاعرٌ في الريف معنى كونِه طفلاً وكونِ غنائِه لَعِبًا على رملِ الكلامِ وكون ضحكتِه بكاءَه) وهنا تصبح الأنا الشاعرة قائدا لهذه الجموع التي تنتظر الخلاص مما هي فيه، وتتحول تلك الجموع (الماشون/ جموع الناس – شاعر/ 5المثقفون والمبدعون) بكل توجهاتها الفكرية وانحيازاتها الجمالية إلى حياة طبيعية، ونلاحظ أن النص يحافظ في هذا المقطع على ديناميكيته من خلال استخدام الفعل المضارع بكثرة (أحتاج – أرتوي – أدير – يتأمل – يدرك) فالفعل المضارع يدل على التجدد والاستمرار، ومن ثم يعطي للنص ديناميكية، وينتقل النص إلى المقطع السادس محافظا على البداية نفسها التي يبتدئ بها كل مقطع، وإن اختلفت الرؤية عن سابقه ولاحقه.
- 6 –
أحتاج شمسًا ترتوي من ليلِ أيامي
وتشربُني صباحًا مثل كوبِ الشاي
تشربُني مساء
ثم تغرقُ في مياهِ البحرِ ليلاً كاملاً
وتعود في الصبحِ القريبِ
تعلِّمُ الضوءَ الكتابةَ في ثنايا الوقتِ
ثم تعلِّمُ الوقتَ القراءة .
إذا كانت الأنا الشاعرة عبرت في المقطع السابق عن احتياجها؛ لترتوي من كأس تلك الشمس وتدير هي/ الأنا الشاعرة كأسها (أحتاج شمسًا أرتوي من كأسِها وأديرُ كأسي) فإننا هنا أن الشمس هي التي سترتوي من ليل الأيام، ولكنها ترتوي من هذا الليل لتحوله إلى نهار (أحتاج شمسًا ترتوي من ليلِ أيامي وتشربُني صباحًا مثل كوبِ الشاي تشربُني مساء ثم تغرقُ في مياهِ البحرِ ليلاً كاملاً وتعود في الصبحِ القريبِ) ومعنى ذلك أن الأنا الشاعرة تحتاج من الشمس أن تحول كينونة الأيان وكينونة الأنا الشاعرة كذلك؛ فهي تشرب ليل الأيام/ محنها ومعاناتها ومآسيها، وتشرب كذلك الأنا الشاعرة صباحا ومساء وبعد ذلك تعود حاملة في يدها التغيير المنشود (تعلِّمُ الضوءَ الكتابةَ في ثنايا الوقتِ ثم تعلِّمُ الوقتَ القراءة) وارتباط الكتابة والقراءة في هذا المقطع بالتعليم هو إشارة إلى التغيير الذي تريده الأنا الشاعرة، إنها المعرفة وانكشاف الحقائق والتعبير عنها؛ فالقراءة اكتساب للمعارف والخبرات والتجارب، والكتابة تعبير عن هذه المعارف والخبرات والتجارب، ومن ثم اتخاذ الطريق الطبيعي للحياة الإنسانية، فالأنا الشاعرة هنا تطمح أن تكون عنصرا فاعلا ومؤثرا في المجتمع البشري، وفي ذلك غشارة إلى واقعها المزري الي تعاني منه، وتطمح إلى تغييره؛ فبضدها تتميَّز الأشياء، ومن ثم فإن الأنا الشاعرة تخرج من كينونتها الفيزيائية هي واحتياجاتها لتصبح تجريدا خالصا؛ فهي/ الأنا الشاعرة واحتياجاتها ليست ممثلة لنفسها بقدر تمثيلها لقيم إنسانية واجتماعية أرادها النص/الشاعر، ومن ثم كان ضروريا إخراجها من الكينونة الفيزيائية لتتلبس بالكينونة الإدراكية السائلة؛ ليتيح ذلك القدرة على تطويعها حسب إرادة الدلالة في النص، فالنص لم يتحدث عن الأنا الشاعرة واحتياجاتها (أحتاج شمسا) باعتبارها فردًا من أفراد المجتمع، ولكنه يتحدث عنها باعتبارها قيمة ذات ملامح مجتمعية حاكمة لفئة من فئات المجتمع، وممثلة لها، وأنا الاحتياجات ليست فيحد ذاتها احتياجات نفعية آنية بقدر ما هي قيم عامة في قاموس بني البشر منذ قديم الزمان، فهي احتياجات للحياة والحرية والجمال من حيث هم قيم حياتية وجمالية واجتماعية، وهنا تأخذ الدلالة في الانغلاق؛ ليأخذ النص طريقه إلى النهاية، ومن ثم التوجُّه من الأنا الشاعرة إلى المخاطبين أن يحملوا رجاءها إلى التي تحتاجها تلك الأنا وهي الشمس، وهنا تنكشف الدلالة حول أن هذه العناصر الواردة في النص قد خرجت من كينونتها الفيزيائية المحددة إلى كينونة إدراكية عامة؛ لتمثل قيما إنسانية وفكرية واجتماعية وجمالية تحكم حياة بني البشر، وتتحكم في انحيازاتهم المختلفة، فمن هم الذين تتحدث إليهم الأنا الشاعرة (احملوا – وتحمَّلوا) ومن هو المتحدث في النص/ الأنا الشاعرة؟ (أحتاج شمسا) هل هو الشاعر يعبر عن نفسه أو هو يمثل قيمة ذات ملامح مجتمعية حاكمة لفئة من فئات المجتمع؟ إننا هنا أمام نص يأخذنا إلى أفق مفتوح على مدى لا نهائي.
- 7 –
أحتاج شمسًا
فاحملوا عنِّي رجائي للتي أحتاجُها
وتحمَّلوا عني حَنيني
ربَّما أصحو وحيدًا ذات صُبحٍ
ثم أدعوها فتأتيني
وآتيها البراءَة.
يختتم الشاعر نصه بإيحاء على قدر كبير من الأهمية، وبوح ذي دلالة عميقة على ما تعانيه النفس الإنسانية (فاحملوا عنِّي رجائي للتي أحتاجُها وتحمَّلوا عني حَنيني) فالرجاء والحنين كلاهما عنصران يحكمان شخصية الأنا الشاعرة ويتحكمان تصرفاتها، وقد ورد في معجم اللغة العربية المعاصرة (رجا يَرْجُو ، ارْجُ ، رَجاءً ورُجُوًّا، فهو راجٍ، والمفعول مَرجُوّ، رجا أَمرا: 1 – أمَّله وأراده :-أرجو من الله المغفرة: أسأله وأدعوه وأبتهل إليه، أتيتُه رجاء أن يحسن إليّ، رجاء العلم بكذا: في المراسلات، برجاء عمل كذا، وفي القرآن (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحً)، وأرجوك: عبارة تستخدم كطلب مهذَّب، - رجا اللهَ أن يغفر له: طلب منه، يُرجَى التفضل بالعلم: عبارة تبدأ بها الرسائل والمنشورات الرسميّة. 2 – رجا أمرا أي خافه واكترث له...) أما العنصر الثاني فهو الحنين وقد ورد في المعاجم العربية بدلالات متعددة، فهو (خروج الصوت من الفم، صوت النَّاقة إذا حنت، والحنين هو صوت الأم إلى ولدها، والحنين صوت الذي في فؤاده نزعة ألم، وصوت الريح والنسيم الرقيق، وصوت العود عند النقر عليه، وصوت القوس عند الإنباض، وصوت المرأة تفتقد زوجها، وصوت المشتاق، والحنين هو الشوق) ومعنى ذلك أن الأنا الشاعرة واقعة بين الرجاء والحنين، أي بين الأمنية والشوق، وإذا كان الرجاء هو الأمل والرغبة فإن ذلك عنصر أحادي غير فعَّال في ذاته، بمعنى أنه مجرد أمنية يتمناها الإنسان في لحظة معينة، وتبقى غير فاعلة إذا لم تتحول من مجرد أمنية إلى واقع فعلي، وتأمل تعبيرات النص تدل على أن الاحتياجات هي مجرد رجاء وأمنيات ورغبات لم تفارق عمق النفس، أي لم تتحول إلى فعل واقعي متحقَّق، ومن هنا يأتي العنصر الثاني؛ ليكون مكمِّلا لهذه الدلالة وكاشفا عنها، وهو الحنين، وإذا كان الحنين في إحدى دلالاته هو الشوق فإن التشوق لشيء يدل على أن هذا الشيء غير موجود في الواقع الفعلي لحظة التشوّق إليه، ويترتب على ذلك الجزء الثاني من هذا المقطع، وهو اللجوء إلى من تتحدث إليهم الأنا الشاعرة أن يحملوا عنها رجاءها إلى المرجوِّ، وأن يتحملوا عنها عبء الحنين، ومن ثم فإن الأنا الشاعرة تخرج في التعبير عن احتياجاتها من كونها فردا من أفراد المجتمع مهموما برجاء وحنين إلى المجتمع بأسره؛ ليشاركها هذا الرجاء وذلك الحنين، ويتحمل عنها مسؤولية الإبلاغ والإنجاز (فاحملوا عنِّي رجائي للتي أحتاجُها وتحمَّلوا عني حَنيني) ويأتي الجزء الثاني ليحمل معنى الاحتمالية المغلفة بالتمني من خلال استخدام لفظ (ربما) بمعنى من المحتمل، وهي مركبة من (رُبَّ) و(ما) الكافة، ولكن هذا الاحتمال يميل إلى كفة التقليل، بمعنى أن استخدامها يدل على الاحتمال غير الحادث بكثرة، ثم تأتي بعدها الاحتمالات التي يضعها الشاعر (ربَّما أصحو وحيدًا ذات صُبحٍ ثم أدعوها فتأتيني وآتيها البراءَة) واستخدام لفظ (ربما) وهو استخدام يحمل الأمنية التي قد لا تتحقق، فيتمنى أن يصحو وحيدا ذات صبح، ويدعو الشمس فتأتيه، ويؤتيها البراءة، وهنا استخدم النص الفعلين (تأتيني – آتيها) فالأول بمعنى الإتيان أي المجيء، والثاني بمعنى العطاء، واستخدام (ربما) الدالة على الاحتمال يعود بنها إلى عنوان النص والجملة المفتاحية (أحتاج شمسا) إذ إنها تعبر عن الاحتياج، ولكن الشاعر في استخدامه (ربما) يعبر عن أن هذا الاحتياج قد يتحقق وقد لا يتحق، فهو عنصر احتمالي، ولذلك لجأ إلى من يقدرون على حمل هذا الرجاء وتحمل عبء الحنين، وهو ما يرتبط – من وجهة نظرنا – بالبنية العميقة للنص، ذلك أن "تفكيك أي خطاب أدبي يستدعي التعامل مع خطوط الدلالة، وعلاقة هذه الخطوط بالموضوع الشعري هي علاقة محمول بموضوع؛ لأنها تمثل تنويعات فرعية على بنيته المركزية" (د. محمد عبد المطلب، مناورات الشعرية، ص 236). لقد نجح النص عبر تموجاته المختلفة والمتعددة في أن ينسج خيوط رؤية عميقة لأمنية أخفى ملامحها في العنوان (أريد شمسًا) وأوضحها في الوقت نفسه من خلال اختيار ألفاظ دالة (الاحتياج – الشمس) بكل ما يحمل ذلك من دلالات كشفنا عن بعضها عند حيثنا عن العنوان وكيفية تشكيله لعوالم النص، كما نجحت الأنا الشاعرة في بناء النص رأسيا من خلال حركة المعنى، وأفقيا من خلال تشكيل كل حركة على حدة.
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com