قدْ تَنْهار الأرْكان بسُقُوفِها ولكن لا ينهارُ الإنسان، أليْس هو من يُشيِّدُها بِنفْثةٍ من روحه صرْحاً عالياً، وما بالُكَ إذا كان هذا الإنسان يتجاوز بخفَّةٍ حَمْل الأثقال ليضع أثر فنّان، ومَنْ غيْرهُ العربي الصَّبان رُكناً أساسيا بجريدة "العلم"، ذاك الذي كانت رُسوماته الكاريكاتيرية الرّائدة، تُزيِّنُ يومياً شرفة الصفحة الأخيرة من العمود إلى العمود، تماماً كما يُطوِّق العِقْدُ النَّفيس العُنقَ من الوريد إلى الوريد، مَنْ غير الصّبان فناناً كبيرا يُعلِّمُنا بِكُلِّ رسْمٍ نحْتسيه مع قهوة الصّباح، كيف نسْخَرُ من الخيْبة بضحكٍ أذْكَى وأنْكَى من البُكاء، كي لا نخْسَر سجِيَّة أنْفُسِنا ولا نبْتسم مُوافقِين على كل شيءٍ بِغباء !
لا أعرف ما الذي أجَّج اليوم في نفسي الحنين إلى هذه الصُّحْبة الأثيرة، ولا أصِفُها بالقديمة بِحُكْم أنَّها مُتجدِّدة دائما بالمحبَّةِ تجَدُّد الدورة القلبية بقُوة الذكريات، ربّما هي حالةٌ انْتَابتْنِي كالتي تسْبَق تَدفُّق الأشْعَار، أو ربَّما هي حاجتنا جميعاً لقُفَّة (مِهْمَازْ) التي تقف إلى جانب الفقراء وتدين غلاء الأسعار، مهْماز الذي كان بمُجرّد أنْ أفتح الجريدة يقْفز مِنْ سقفها الورقي، نمشي معاً وقد امتصَّ كل هُمومي مُعْتمِراً طاقية الكادحين، أو يُشارِكني الاحتراق بسيجارة يُغْنِي دُخانها عن كل كلام، مهماز الذي لا يعرف طريقةً أخرى لِمُساءلة الحُكومة عن مصير ثروات البلاد، غير الكَشْف عن جيْبين فارغين أمام المَلأ، فهل ثمة ذخيرة تُعبِّئ الروح كل صباح أشَدّ فتكاً من مهماز رفيق السلاح، يستحيل أن يبْتلع النِّسْيان هذه الشَّخصية الفريدة التي ابتكرتْها عبقرية الصّبان، بل ما أشَدَّ خرَس الفرد والمُجتمع بدون أيْقونةٍ ساخرة تنْطِق باسمه في كُلِّ المِحَن !
كان لفلسطين (حنظلة) الذي نفخ فيه ناجي العلي من ألَمِه الروح، ولنا في المغرب (مهْماز) الذي بَرَاه العربي الصبان بِحُرْقة صراعنا الوجودي مع الفساد، كانت لحنظلة وما زالت القُبّة.. قُبّة القدس يُحوِّطها بذراعيه النَّحيلين ووجهُه مصدودٌ للحائط، ولِمهْماز القُفّة.. وهي أيضا نضالٌ كالقضية الفلسطينية، تحتاج لِمن يُحرِّرها مِمّنْ يسْتنْزِفون خيرات البلد ويحتكرون سوق الشغل، أليْسَ فِي كُلِّ بيتٍ مغربي عاطل كما في كُل بيتٍ بفلسطين شهيد !
لا أُبالغ إذا قلتُ إنِّي حين التحقتُ بجريدة (العلم) صحافياً، لَمْ أجِد فرْقاً كبيراً بين العربي الصبان الإنْسان، وبين الشَّخْصية التي تُمثِّله أمام الرأي العام ويرْسُمها الفنان، أوْ لِأقُل إنِّي بعد أنْ كنتُ أُتابِع شخصيةً هي مُجرَّد رسْمٍ على الورق، جَمَعتْني المهنة أخيراً بمهماز من لحْم ودم وبالصوت والصُّورة، عجباً لا فرْق أو قناع بين الرَّسْم ومَنْ يُوَقِّعه بالاسم، نفْس المواقف التي تُغَلِّب الجانب الإنساني، دون حاجةٍ لِلتَّلوُّن بإحدى اليافطات السياسية، وما أكثر ما تعلَّمتُ من العربي الصبان.. تعلَّمتُ أنْ أكون مَبْدئِياً بِعِزَّة وكرامة على أن أكون بدائياً أقْتفي اللَّقْط حيثُ سقط، تعلَّمتُ أنْ أعيش حياتي كما أُجسِّد مواقفي في رُسوماتي، ولا فرْق بين الأفكار التي نجْتَرِحُها نازفةً بسكِّين الكتابة، وبين الشَّرَار الذي يندلع بالحبر الصيني من فُوهة قلم الرّصاص، تعلَّمْتُ من الطريقة التي يُدبِّر بِحكْمتها علاقاته الاجتماعية، كيف أحْفُر المسافة بيني وبين الآخر خندقاً فاصلا، حتى يتَّضح الفرْق بين التَّنْكيت الذي يبيع القردَ ويضحكُ على من اشتراه، والتَّبْكيت الذي يُوخِز بشخصية مهماز الوعي الجَمْعي، وما أكثر ما يُدْميه عسى تصِلُ الرسالة !
لا أحتاج القوْل إنَّ العربي الصبان شُعْلةٌ مُتوثِّبة من الذكاء، وأنّه بنظرة لا تقف في السَّطح يسْتوحي مِنْ أعماق الأنفُس كاريكاتير اليوم، لا أحتاج أنْ أقول إنّه شجَّعني صحافياً وشاعراً، وهل أنسى يوم رسم بورتريها لديواني الأول "ملائكة في مصحات الجحيم"، يا سلام العربي الصبان الكاريكاتيرست يتواضع وَيرسُمني، بل يا للنشوة وأنْتَ تلْعب مع الكِبار، وددتُ حينها لو ينْطق مهماز نصير الفقراء، عساني أعرف هل هو أوْ أنا الأجمل بملامح الشعراء الصعاليك، لا أحتاج أنْ أسْتعرِض ثقافة العربي الصبان الواسعة بِرُقيِّها الفني والأدبي، فهي لا تنْعكس فقط في كثرة ما ألَّفه أو قرأهُ مِنْ كُتُب، إنّما في سلوكه الذي يتَّخذ من حياة البسطاء والمقهورين مرجعاً، لذلك نجد هذا الفنان الاستثنائي النادر، مُوجِعاً برسوماته التي كالأشباح تقُضُّ مضاجع الكُروش الكبيرة وتُثْخِنُها بالجراح، وما أكثر ما يقْطع ألْسُن بعْض المُحلِّلين السياسيين من دابِرِها مُخْتصِراً الحريق، ما أكثر ما يجْمع الحَبَّ والتِّبْن ويُركِّزُه في رسْم، ثُم يُلْقيه لينفجر مع النُّسَخ الأولى للجريدة كاللُّغْم !
.................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 10 نونبر 2022.
لا أعرف ما الذي أجَّج اليوم في نفسي الحنين إلى هذه الصُّحْبة الأثيرة، ولا أصِفُها بالقديمة بِحُكْم أنَّها مُتجدِّدة دائما بالمحبَّةِ تجَدُّد الدورة القلبية بقُوة الذكريات، ربّما هي حالةٌ انْتَابتْنِي كالتي تسْبَق تَدفُّق الأشْعَار، أو ربَّما هي حاجتنا جميعاً لقُفَّة (مِهْمَازْ) التي تقف إلى جانب الفقراء وتدين غلاء الأسعار، مهْماز الذي كان بمُجرّد أنْ أفتح الجريدة يقْفز مِنْ سقفها الورقي، نمشي معاً وقد امتصَّ كل هُمومي مُعْتمِراً طاقية الكادحين، أو يُشارِكني الاحتراق بسيجارة يُغْنِي دُخانها عن كل كلام، مهماز الذي لا يعرف طريقةً أخرى لِمُساءلة الحُكومة عن مصير ثروات البلاد، غير الكَشْف عن جيْبين فارغين أمام المَلأ، فهل ثمة ذخيرة تُعبِّئ الروح كل صباح أشَدّ فتكاً من مهماز رفيق السلاح، يستحيل أن يبْتلع النِّسْيان هذه الشَّخصية الفريدة التي ابتكرتْها عبقرية الصّبان، بل ما أشَدَّ خرَس الفرد والمُجتمع بدون أيْقونةٍ ساخرة تنْطِق باسمه في كُلِّ المِحَن !
كان لفلسطين (حنظلة) الذي نفخ فيه ناجي العلي من ألَمِه الروح، ولنا في المغرب (مهْماز) الذي بَرَاه العربي الصبان بِحُرْقة صراعنا الوجودي مع الفساد، كانت لحنظلة وما زالت القُبّة.. قُبّة القدس يُحوِّطها بذراعيه النَّحيلين ووجهُه مصدودٌ للحائط، ولِمهْماز القُفّة.. وهي أيضا نضالٌ كالقضية الفلسطينية، تحتاج لِمن يُحرِّرها مِمّنْ يسْتنْزِفون خيرات البلد ويحتكرون سوق الشغل، أليْسَ فِي كُلِّ بيتٍ مغربي عاطل كما في كُل بيتٍ بفلسطين شهيد !
لا أُبالغ إذا قلتُ إنِّي حين التحقتُ بجريدة (العلم) صحافياً، لَمْ أجِد فرْقاً كبيراً بين العربي الصبان الإنْسان، وبين الشَّخْصية التي تُمثِّله أمام الرأي العام ويرْسُمها الفنان، أوْ لِأقُل إنِّي بعد أنْ كنتُ أُتابِع شخصيةً هي مُجرَّد رسْمٍ على الورق، جَمَعتْني المهنة أخيراً بمهماز من لحْم ودم وبالصوت والصُّورة، عجباً لا فرْق أو قناع بين الرَّسْم ومَنْ يُوَقِّعه بالاسم، نفْس المواقف التي تُغَلِّب الجانب الإنساني، دون حاجةٍ لِلتَّلوُّن بإحدى اليافطات السياسية، وما أكثر ما تعلَّمتُ من العربي الصبان.. تعلَّمتُ أنْ أكون مَبْدئِياً بِعِزَّة وكرامة على أن أكون بدائياً أقْتفي اللَّقْط حيثُ سقط، تعلَّمتُ أنْ أعيش حياتي كما أُجسِّد مواقفي في رُسوماتي، ولا فرْق بين الأفكار التي نجْتَرِحُها نازفةً بسكِّين الكتابة، وبين الشَّرَار الذي يندلع بالحبر الصيني من فُوهة قلم الرّصاص، تعلَّمْتُ من الطريقة التي يُدبِّر بِحكْمتها علاقاته الاجتماعية، كيف أحْفُر المسافة بيني وبين الآخر خندقاً فاصلا، حتى يتَّضح الفرْق بين التَّنْكيت الذي يبيع القردَ ويضحكُ على من اشتراه، والتَّبْكيت الذي يُوخِز بشخصية مهماز الوعي الجَمْعي، وما أكثر ما يُدْميه عسى تصِلُ الرسالة !
لا أحتاج القوْل إنَّ العربي الصبان شُعْلةٌ مُتوثِّبة من الذكاء، وأنّه بنظرة لا تقف في السَّطح يسْتوحي مِنْ أعماق الأنفُس كاريكاتير اليوم، لا أحتاج أنْ أقول إنّه شجَّعني صحافياً وشاعراً، وهل أنسى يوم رسم بورتريها لديواني الأول "ملائكة في مصحات الجحيم"، يا سلام العربي الصبان الكاريكاتيرست يتواضع وَيرسُمني، بل يا للنشوة وأنْتَ تلْعب مع الكِبار، وددتُ حينها لو ينْطق مهماز نصير الفقراء، عساني أعرف هل هو أوْ أنا الأجمل بملامح الشعراء الصعاليك، لا أحتاج أنْ أسْتعرِض ثقافة العربي الصبان الواسعة بِرُقيِّها الفني والأدبي، فهي لا تنْعكس فقط في كثرة ما ألَّفه أو قرأهُ مِنْ كُتُب، إنّما في سلوكه الذي يتَّخذ من حياة البسطاء والمقهورين مرجعاً، لذلك نجد هذا الفنان الاستثنائي النادر، مُوجِعاً برسوماته التي كالأشباح تقُضُّ مضاجع الكُروش الكبيرة وتُثْخِنُها بالجراح، وما أكثر ما يقْطع ألْسُن بعْض المُحلِّلين السياسيين من دابِرِها مُخْتصِراً الحريق، ما أكثر ما يجْمع الحَبَّ والتِّبْن ويُركِّزُه في رسْم، ثُم يُلْقيه لينفجر مع النُّسَخ الأولى للجريدة كاللُّغْم !
.................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 10 نونبر 2022.
Mohamed Bachkar
Mohamed Bachkar is on Facebook. Join Facebook to connect with Mohamed Bachkar and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com