كان ذلك منذ ما يقرب من عامين، تحديدًا يومي 28 و29 أبريل 2015، عندما نظمت جامعة الإمام محمد بن سعود ممثلة في مركز الدراسات العربية مؤتمرًا دوليًا بعنوان "اللغة العربية والدارسات البينية: الآفاق المعرفية والرهانات المجتمعية". ناقش المؤتمر، كما يكشف عنوانه، طبيعة الدراسات البينية في الواقع الأكاديمي العربي وكيفية الاستفادة منها في دراسة اللغة العربية. وهو موضوع مهم بدرجة كبيرة، خاصة أن الطابع البيني للدراسات المعرفية الراهنة أصبح متأصلاً بدرجة كبيرة، كأحد مميزات، وربما ضرورات، البحث العلمي بشكله الراهن. جاء عنوان ورقتي التي شاركت بها في هذا المؤتمر المهم "الثقافة البصرية بوصفها مجالاً معرفيًّا بينيًّا". وقد حاولت التأكيد فيها على الطابع البيني للدراسات البصرية ودراسات الصورة وكيفية الاستفادة منها بوصفها "داعمًا مهمًا" للحقول المعرفية الأخرى، وركزت الورقة بطبيعة الحال على دراسات اللغة العربية. كنت آمل، وما زلت، أن تحدث مساهماتي النظرية، مع مساهمات أخرى مهمة، تراكمًا معرفيًّا في دراسات الصورة والثقافة البصرية يتحول بعد ذلك إلى واقع أكاديمي ملموس في شكل مقررات دراسية وأقسام علمية تتخذ من الصورة ومناهج دراستها موضوعًا لها. ونظرًا لإيماني بأهمية هذا الأمر فإنني سأعيد، من خلال هذا المقال والذي سيليه، مناقشة موضوع الثقافة البصرية، علّها تساهم في لفت الانتباه لهذا الفرع المعرفي الوليد.
ماذا تعني الثقافة البصرية؟
ثمة العديد من التساؤلات التي يستدعيها مسمى "الثقافة البصرية". ويمكن محاولة إجمالها في الآتي: ما هي الثقافة البصرية أو الدراسات البصرية؟ هل هي فرع دراسي مستحدث أم لحظة عابرة لشيء ما مازال في طور التكوين ولم تتحدد معالمه بعد؟ هل هي موضوع مستقل للبحث أو مجال لفرع من دراسات ثقافية أم هي دراسة خاصة بوسائط التواصل؟ هل هي نوع من الخطابة أم الجماليات أم تاريخ للفن؟ هل تمتلك موضوعًا محددًا للدراسة؟ أم أنها عبارة عن مجموعة متنوعة من المشكلات خلفتها مجالات دراسية مستقرة وراسخة؟ لو أنها مجال دراسي؛ فما هي حدوده أو تعريفاته الحدية؟ هل يجب أن تنضم لنظام الدراسة الأكاديمية؟ هل يجب أن يخصص لها قسم في كلية ويكون لها برنامج دراسي مع كل متطلباته ونصوصه التدريسية وأعضاء تدريس وشهادات ممنوحة؟ كيف يمكن تدريسها؟ كيف نقر بوجود الثقافة البصرية بطريقة تتجاوز عدم إقرارنا بوجودها؟
ربما كانت الإشكالية الأولى التي تواجه الدارس لهذا الفرع المعرفي، وهذا هو حال الدراسات البينية قاطبة، تتمثل في صعوبة التصنيف "إننا إذا ذهبنا إلى مكتبات كلياتنا وجامعتنا أو إلى أي متجر لبيع الكتب أو موقع على شبكة المعلومات يبيع الكتب فإننا سوف نُقابل بكم هائل من تلك المؤلفات التي تحمل كلمتي (مرئي) و(ثقافة) في العنوان. وغالبًا ما توضع هذه الكتب في غير مكانها على الأرفف. فتوضع مع تصنيفات أخرى يميل إليها القراء بشكل أكبر. فقد تظهر هذه الكتب في أرفف نظريتا التواصل واللغة أو تاريخ الفن أو نظرية الفن أو الجماليات أو النظرية النقدية أو الفلسفة أو الفيلم أو دراسات الوسائط أو دراسات المرأة أو المسرح أو الدراما أو الهندسة أو الأنثربولوجيا أو السيوسيولوجي- لا أحد يعرف أين يمكن وضع كتب ودراسات الثقافة البصرية. ما هو التصنيف الذي تنتمي له هذه الكتب؟".
إن الكم الهائل من الكتب المعنونة بـ"الثقافة البصرية"، هو بالتأكيد دليل على اتساع الحقبة التاريخية وكذلك الاتساع الجغرافي اللذان تمت فيهما دراسة الثقافة البصرية. وبهذا الكم الهائل من الكتابات، إضافة إلى الممارسات المنهجية الممكن تقديمها، فضلاً عن الأشياء والموضوعات والوسائط والبيئات التي تندرج ضمن موضوعات الثقافة البصرية، تتشكل ملامح تلك الثقافة. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن تلك الكتب تهتم بكافة أساليب الثقافة البصرية - من الثقافة العليا إلى الثقافة الشعبية، من ثقافة النخبة إلى ثقافة الجماهير، من الثقافة الهامشية إلى الثقافة المركزية. بالإضافة لذلك فإن الموضوعات والوسائل والبيئات التي تتناولها دراسات الثقافة البصرية يمكن أن تشمل أي شيء "من الرسم والنحت وفنون الفيديو والتصوير والفيلم والهاتف النقال والشاشات وأنظمة الأزياء وكذلك الخيال الطبي والخيال العلمي، وتصميمات الصور وطباعة الصحف والمجلات والإعلانات، وكذلك المساحات الاجتماعية والهندسية للمتاحف، والمعارض الفنية والمعارض العادية وبيئات أخرى خاصة أو عامة للاهتمامات اليومية".
ومن ضمن الصعوبات التي تثيرها تلك الكتابات إقرارها بأن هذه الموضوعات تتداخل فيما بينها بدرجة يصعب تمايزها، ويصبح كل منها وسطًا للآخر، على سبيل المثال "التداخل بين الجرائد وشبكة المعلومات والذي يأتي فيهما النص دائمًا متداخلاً مع الصورة، القراءة والنظر يصبحان مترادفين- الدمج الذي يحدث في السينما بين الصوت والصورة، السمع والنظر في وقت واحد- الدمج الذي يتم في أجهزة الجوال الرقمية بين النص "كتابة الرسائل" بالصورة "التصوير وتصوير الفيديو" والصوت "نغمات الجوال" واللمس "العلاقة بين الشخص والجوال"...إلخ".
أحيانًا يتم استخدام "الثقافة البصرية" للدلالة على فترة تاريخية محددة أو موقع جغرافي، مثل الثقافة البصرية في عصر النهضة أو الثقافة البصرية البدائية، أو كما قالت سفيتلينا ألبيرس Svetlana Alpers عن الثقافة البصرية الألمانية "أنها الثقافة التي نجد فيها وفرة من المفاهيم عن البصر (أي عن الطريقة التي تعمل بها العين)، وفرة من الآلات البصرية (المجهر وعدسات آلة التصوير) والمهارات البصرية (صنع الخرائط– والقيام بالتجارب العلمية أيضًا) على اعتبار أن كل ذلك مصادر ثقافية".
وأحيانًا تستخدم الثقافة البصرية للترويج للأيديولوجيات الفردية والجمعية، والتي يتم من خلالها التلاعب بالجماهير سياسيًا، عبر الصورة التي يتم إنتاجها وتوزيعها واستهلاكها سواء من جانب من أنشأها أو من يدعمها أو من يقاومها، ويتم تمريرها عبر موضوعات تأخذ أشكال مختلفة (جنسية، عرقية، فنية)1. وأحيانًا تثير الثقافة البصرية إشكاليات منهجية في النقاشات الدائرة حول طبيعة المعرفة (التفكير بالصورة أم باللغة).
مما سبق يتضح أن هناك صعوبة حقيقية في تحديد موضوع ثابت ومحدد للدراسات البصرية، وتلك هي الخاصية الرئيسية للدراسات البينية، إنها شرط تحققها. بمعنى أنه إذا تم تضمينها داخل حقل معرفي ما، فقدت صفتها البينية. فهل يكون الأفضل من محاولة تحديد موضوعها أن نصفها بالداعم بالغ الأهمية the dangerous supplement أو المهم، بتعبير جاك دريدا J. Derrida، للحقول المعرفية الأخرى.
الدراسات البصرية بوصفها داعمًا بالغ الأهمية
بداية ينبغي أن نميز بين الدراسات البصرية والثقافة البصرية. فهما على التوالي مجال الدراسة وموضوع الدراسة. إن الدراسات البصرية هي دراسة الثقافة المرئية. وهذا من شأنه أن يزيل اللبس الذي تقع فيه بعض مجالات الدراسة مثل التاريخ الذي يشير اسمه إلى مجال الدراسة وموضوع الدراسة أو محتوي المجال في نفس الوقت. إن البصر يشكل بنية ثقافية يتم تعلمها واكتسابها. فهو ليس مجرد حاسة من الحواس التي تعمل بصورة آلية، لذلك فهو يمتلك تاريخًا متصلاً بطريقة ما بتاريخ الفنون والتكنولوجيا والإعلام والممارسات الاجتماعية في العرض والمشاهدة، بالإضافة إلى الأخلاق والسياسة والجماليات واللغويات. يقول كريس جينكس C. Jeanks "لقد صار من المتعارف عليه في الحقل الأكاديمي أن يستخدم مصطلح الثقافة البصرية للدلالة على فنون التصوير والنحت والتصميم والهندسة المعمارية، فهو إشارة إلى نطاق حديث أوسع لكل ما كان يدخل ضمن تعريف "الفنون التشكيلية". ولو أننا أردنا أن نوسع أكثر من هذا النطاق فيمكننا أن نقترح أن الثقافة البصرية تشير إلى جميع صنوف الثقافة التي يمثل مظهرها البصري سمة هامـة في وجودها أو الغرض منها"2.
ليس ثمة جدال كبير على علاقة الثقافة البصرية بتلك المجالات، غير أن الخلاف يأتي عندما يتم الحديث عن علاقة الدراسات البصرية بمباحث دراسية راسخة مثل اللغويات وتاريخ الفن والجماليات. فثمة شكوك عديدة من الممكن أن تثار حول جدوى الدراسات البصرية بالنسبة لتلك المباحث الدراسية. على سبيل المثال هناك تحالف وتناغم بين الجماليات وتاريخ الفن. الجماليات هي الدراسة النظرية للفن. وتثير مجموعة من التساؤلات الرئيسة حول طبيعة الفن، والقيمة الفنية، والإدراك الفني في سياق المجال العام لخبرة التلقي. وتاريخ الفن هو الدراسة التاريخية للفنانين، والممارسات الفنية، والأساليب والحركات والمؤسسات الفنية. وكلاهما معًا، الجماليات وتاريخ الفن، يقدمان نوعًا من التكامل. إنهما يشملان أي موضوع يمكن طرحه عن الفنون البصرية. ولو تصورناهما بشكلهما الموسع، فإن تاريخ الفن ينظر إليه باعتباره الدراسة الرمزية العامة أو الدراسة التفسيرية للصور المرئية. وينظر إلى الجماليات باعتبارها دراسة الإحساس والإدراك، لذلك يبدو أنهما يتكفلان بأية قضايا يمكن لمجال الدراسات البصرية أن يثيرها. إن نظرية الخبرة المرئية لابد أن تتم معالجتها في مجال الجماليات، وتاريخ الصور والأشكال المرئية لابد أن تُعالج في تاريخ الفن.
بناء على ذلك، ووفقًا للتخصصات الأكاديمية المستقرة، تبدو دراسات الرؤية غير ضرورية بصورة ما، ولا نحتاج إليها. إنها فقط تضيف مجموعة من المشكلات الغامضة غير المحددة التي تمت معالجتها إلى حد ما في فروع أكاديمية أو حقول معرفية أخرى. ومع ذلك، فإننا نجدها تنمو بوصفها حقلاً شبيهًا أو مبحثًا أكاديميًّا متخمًا بالسجالات الأدبية والمقررات الدراسية والمناقشات والمؤتمرات والأساتذة. السؤال الوحيد هو. ما دلالة دراسة الرؤية؟ لماذا ظهر هذا الحقل الذي يبدو متطفلاً على الحقول المعرفية الأخرى؟
في هذه السياق يجب أن يكون واضحًا أن الارتباك الذي تستدعيه دراسات الرؤية هو مثال على ما يسميه جاك دريدا J. Derrida الداعم الخطير أو بالغ الأهمية3. الواقع أن دراسات الرؤية تقف في علاقة ملتبسة مع تاريخ الفن والجماليات. من ناحية، أنها تعمل وكأنها تتمة لهذين المجالين، نوع من أنواع ملء الفراغ إذا شئنا الدقة. إذا كان موضوع تاريخ الفن الصور المرئية وموضوع الجماليات المحسوسات، فهل يغدو من الأفضل تأسيس فرع دراسي يتخذ من الرؤية موضوعًا له، ويجمع الجماليات وتاريخ الفن حول مشكلات الضوء والبصريات وأدوات الرؤية والخبرة والعين؟ لكن ربما يصطدم ذلك بحقيقية أن المهمة التي سيؤديها ذلك الفرع ستغدو تكميلية كذلك: فهي أولاً تفترض قصورًا في الاتساق الداخلي للجماليات وتاريخ الفن، كما لو أن هذين النظامين قد فشلا بطريقة ما في أن يجذبا الانتباه إلى ما هو رئيسي في تخصصهما. وهي تفتح كلا المبحثين على مشكلات خارجية تهدد حدودهما. إن دراسات الرؤية تهدد كلاً من الجماليات وتاريخ الفن بأن تجعل كلاً منهما فرعًا دراسيًّا لمجال دراسي آخر أكثر اتساعًا.
ما الذي يمكن أن يندرج تحت نطاق دراسات الرؤية؟ ليس فقط تاريخ الفن والجماليات، لكن أيضًا السينما والتلفزيون والإعلام الرقمي، وكذلك المباحث الفلسفية والسيكولوجية التي تنتمي إلى مجال ابستمولوجيا الرؤية، والدراسات اللغوية والدلالية عن الصور والعلامات المرئية، والدراسات الفينومينولوجية والفيسيولوجية والإدراكية عن عملية الرؤية، والدراسات السيوسيولوجية عن المشاهدة والعرض، وأنثروبولوجيا الرؤية، والبصريات الفيزيائية،.... إلخ. إذا كان موضوع الرؤية كما يقول هال فوستر4 H. Foster، كل ما هو مرئي، فإنه سيكون موضوعًا من الاتساع بمكان، وسيغدو من المستحيل أن نتعامل معه بطريقة منهجية ثابتة.
هل يمكن لدراسات الرؤية أن تمثل مجالاً دراسيًّا أو فرعًا معرفيًّا متماسكًا يخضع لمجال البحث، ويكون له قسم أكاديمي؟ هل آن لتاريخ الفن أن يطوي خيمته ويقيم تحالفًا جديدًا مع الجماليات ودراسات الإعلام بهدف تشييد صرح أضخم لدراسة ثقافة الرؤية؟ هل يجب علينا فقط أن ندرج كل شيء تحت لواء ما يسمى الآن الدراسات الثقافية؟ ثمة بطبيعة الحال مجهودات عديدة في هذا الصدد. بل إن التوجه العام الآن في مجال الإنسانيات يصب في هذا الاتجاه.
وبناء على ذلك، إذا كانت دراسات الرؤية هي داعم مهم للإنسانيات عمومًا، فإن من الضروري ألا نبالغ في تقدير الخطر ولا نقلل من قدره أيضًا. وربما تمنحنا فكرة دريدا عن الداعم بالغ الأهمية تأييدًا لهذا المعنى عندما ناقش ظاهرة الكتابة وعلاقتها بالكلام. لقد استشف دريدا أن الكتابة يتم النظر إليها بوصفها محض أداة لتسجيل اللغة. وكيما يتخطى الفرد مجال السيطرة على الكلام لابد أن يفهم شروط تعقل اللغة، وطريقتها في التكرار والفعل. وبالتالي يصبح حضور الصوت في القلب من اللغة. إنها تصل مباشرة نحو المعنى الذي يحوزه المتكلم في عقله. هذا المعنى يتم فقدانه في عملية الكتابة التي تظل مستمرة حتى مع غياب المتكلم نفسه. السيطرة الأنطوثيولوجية (اللاهوتية الوجودية) لحضور الذات يتم تحطيمها وإعادة صياغتها كأثر للكتابة في سلسلة لا متناهية من المواقف البديلة والتقديم والتأخير. والسؤال هو: هل يمكن أن تتعدي اللغويات حدودها لتؤثر على كافة العلوم الإنسانية؟. بالفعل، فإن كل المعرفة الإنسانية كانت معرضة لأن تدخل مجالاً جديدًا يسمي علم الأجرومية Grammatology. هل يمكن أن يكون قلقنا على عدم وجود حدود لدراسات الرؤية هو رد على المخاوف التي سببتها فكرة أنه لا يوجد شيء خارج النص؟
لقد عززت اللغويات من الدلالات المرئية للغة المكتوبة، من الكتابة بالصور إلى الحروف الهيروغليفية إلي الأبجدية إلى اختراع الطباعة، وأخيرًا الوسائط الرقمية. وهي من البداية، يمكن النظر إليها على أنها كانت مساعدات طفيلية على شيء ما أصلي، اللغة الملفوظة أو الكلام، ثم أخذت مرتبة الصدارة وأصبحت شرطًا عامًا لكل مفاهيم اللغة والمعنى والحضور.
إن الرؤية والصور المرئية، والأشياء التي تظهر بشكل آلي، الأشياء الواضحة والجلية والطبيعية، هي في الحقيقة تراكيب رمزية. مثل اللغة التي نتعلمها، هي شفرات رمزية تمثل حجابًا أيديولوجيًّا بيننا وبين العالم الواقعي. لكن إلى أي مدى تختلف الرؤية عن اللغة، هل تعمل (كما لاحظ رولان بارت R. Barthes عن التصوير 1981) كرسالة دون شفرة؟ بأية طريقة تتجاوز أشكال محددة من البنى الاجتماعية لتعمل كلغة عالمية حرة بشكل نسبي من العناصر النصية أو التأويلية؟ ربما كان الأسقف باركلي Barkely، أول من زعم بأن الرؤية مثل اللغة، وأصر على أنها لغة عالمية وليست لغة إقليمية أو محلية. إلى أي مدى تعد الرؤية نشاطًا لا يكتسب بالتعلم؟ فالرؤية قدرة محددة وراثيًّا، ومجموعة من الآليات الفطرية التي تعمل في الوقت المناسب، وهذا بخلاف الطريقة التي يتعلم فيها الإنسان اللغة. والواقع أنه إذا كانت الرؤية فطرية، فإن موضوعها (الصورة) يوصف بأنه ثقافي، أي مرتبط بسياق ما محدد، ودراسة هذا السياق محور رئيس من محاور الدراسات البصرية. إذن فبقدر ما تشير الرؤية إلى إمكانية طبيعية لدى الإنسان، يظل موضوعها مرتبطًا بالعالم الخارجي وبالسياق الثقافي الذي يوجد فيه. أو كما يقول ميتشل "ثقافة الرؤية لا تمني نفسها بالانتصار على التوجهات الطبيعية والمغالطات الطبيعية، لكنها تشير إلى ما يبدو على أنه غير طبيعي في عملية الرؤية والخيال المرئي بوصفه مشكلة ينبغي التعامل معها بدلاً من إهمالها".
باختصار، فإن التصور الجدلي للثقافة البصرية لا يستطيع أن يركن بهدوء إلى تحديد موضوعه على أنه البنى الاجتماعية للمجال المرئي، لكنه يجب أن يشدد على معالجة هذه القضية عن طريق عكسها، أي البنية البصرية للمجال الاجتماعي. إننا لا نرى بالطريقة التي نعمل بها لأننا كائنات اجتماعية، لكن أوضاعنا الاجتماعية تأخذ الشكل الذي نفعل به لأننا كائنات مبصرة.
المراجع:
1 - حول علاقة الصورة بالسلطة والأيديولوجيا انظر دراستنا بعنوان سلطوية الصورة المرئية. الجزائر، مجلة الحوار الثقافي، 2013، 88 - 95.
2 - كريس جينكس (2016) الثقافة البصرية. ترجمة: بدر الدين مصطفى، القاهرة، منشورات مركز جامعة القاهرة للغات والترجمة، ص 9.
3 - Derrida, Jacques (1967): Of Grammatology. Translated by Gayatri Chakravorty Spivak Baltimore: John Hopkins University Press, p 121.
4 - H.Foster (1988), p 11.
* المصدر: مجلة الفكرالثقافية
ماذا تعني الثقافة البصرية؟
ثمة العديد من التساؤلات التي يستدعيها مسمى "الثقافة البصرية". ويمكن محاولة إجمالها في الآتي: ما هي الثقافة البصرية أو الدراسات البصرية؟ هل هي فرع دراسي مستحدث أم لحظة عابرة لشيء ما مازال في طور التكوين ولم تتحدد معالمه بعد؟ هل هي موضوع مستقل للبحث أو مجال لفرع من دراسات ثقافية أم هي دراسة خاصة بوسائط التواصل؟ هل هي نوع من الخطابة أم الجماليات أم تاريخ للفن؟ هل تمتلك موضوعًا محددًا للدراسة؟ أم أنها عبارة عن مجموعة متنوعة من المشكلات خلفتها مجالات دراسية مستقرة وراسخة؟ لو أنها مجال دراسي؛ فما هي حدوده أو تعريفاته الحدية؟ هل يجب أن تنضم لنظام الدراسة الأكاديمية؟ هل يجب أن يخصص لها قسم في كلية ويكون لها برنامج دراسي مع كل متطلباته ونصوصه التدريسية وأعضاء تدريس وشهادات ممنوحة؟ كيف يمكن تدريسها؟ كيف نقر بوجود الثقافة البصرية بطريقة تتجاوز عدم إقرارنا بوجودها؟
ربما كانت الإشكالية الأولى التي تواجه الدارس لهذا الفرع المعرفي، وهذا هو حال الدراسات البينية قاطبة، تتمثل في صعوبة التصنيف "إننا إذا ذهبنا إلى مكتبات كلياتنا وجامعتنا أو إلى أي متجر لبيع الكتب أو موقع على شبكة المعلومات يبيع الكتب فإننا سوف نُقابل بكم هائل من تلك المؤلفات التي تحمل كلمتي (مرئي) و(ثقافة) في العنوان. وغالبًا ما توضع هذه الكتب في غير مكانها على الأرفف. فتوضع مع تصنيفات أخرى يميل إليها القراء بشكل أكبر. فقد تظهر هذه الكتب في أرفف نظريتا التواصل واللغة أو تاريخ الفن أو نظرية الفن أو الجماليات أو النظرية النقدية أو الفلسفة أو الفيلم أو دراسات الوسائط أو دراسات المرأة أو المسرح أو الدراما أو الهندسة أو الأنثربولوجيا أو السيوسيولوجي- لا أحد يعرف أين يمكن وضع كتب ودراسات الثقافة البصرية. ما هو التصنيف الذي تنتمي له هذه الكتب؟".
إن الكم الهائل من الكتب المعنونة بـ"الثقافة البصرية"، هو بالتأكيد دليل على اتساع الحقبة التاريخية وكذلك الاتساع الجغرافي اللذان تمت فيهما دراسة الثقافة البصرية. وبهذا الكم الهائل من الكتابات، إضافة إلى الممارسات المنهجية الممكن تقديمها، فضلاً عن الأشياء والموضوعات والوسائط والبيئات التي تندرج ضمن موضوعات الثقافة البصرية، تتشكل ملامح تلك الثقافة. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن تلك الكتب تهتم بكافة أساليب الثقافة البصرية - من الثقافة العليا إلى الثقافة الشعبية، من ثقافة النخبة إلى ثقافة الجماهير، من الثقافة الهامشية إلى الثقافة المركزية. بالإضافة لذلك فإن الموضوعات والوسائل والبيئات التي تتناولها دراسات الثقافة البصرية يمكن أن تشمل أي شيء "من الرسم والنحت وفنون الفيديو والتصوير والفيلم والهاتف النقال والشاشات وأنظمة الأزياء وكذلك الخيال الطبي والخيال العلمي، وتصميمات الصور وطباعة الصحف والمجلات والإعلانات، وكذلك المساحات الاجتماعية والهندسية للمتاحف، والمعارض الفنية والمعارض العادية وبيئات أخرى خاصة أو عامة للاهتمامات اليومية".
ومن ضمن الصعوبات التي تثيرها تلك الكتابات إقرارها بأن هذه الموضوعات تتداخل فيما بينها بدرجة يصعب تمايزها، ويصبح كل منها وسطًا للآخر، على سبيل المثال "التداخل بين الجرائد وشبكة المعلومات والذي يأتي فيهما النص دائمًا متداخلاً مع الصورة، القراءة والنظر يصبحان مترادفين- الدمج الذي يحدث في السينما بين الصوت والصورة، السمع والنظر في وقت واحد- الدمج الذي يتم في أجهزة الجوال الرقمية بين النص "كتابة الرسائل" بالصورة "التصوير وتصوير الفيديو" والصوت "نغمات الجوال" واللمس "العلاقة بين الشخص والجوال"...إلخ".
أحيانًا يتم استخدام "الثقافة البصرية" للدلالة على فترة تاريخية محددة أو موقع جغرافي، مثل الثقافة البصرية في عصر النهضة أو الثقافة البصرية البدائية، أو كما قالت سفيتلينا ألبيرس Svetlana Alpers عن الثقافة البصرية الألمانية "أنها الثقافة التي نجد فيها وفرة من المفاهيم عن البصر (أي عن الطريقة التي تعمل بها العين)، وفرة من الآلات البصرية (المجهر وعدسات آلة التصوير) والمهارات البصرية (صنع الخرائط– والقيام بالتجارب العلمية أيضًا) على اعتبار أن كل ذلك مصادر ثقافية".
وأحيانًا تستخدم الثقافة البصرية للترويج للأيديولوجيات الفردية والجمعية، والتي يتم من خلالها التلاعب بالجماهير سياسيًا، عبر الصورة التي يتم إنتاجها وتوزيعها واستهلاكها سواء من جانب من أنشأها أو من يدعمها أو من يقاومها، ويتم تمريرها عبر موضوعات تأخذ أشكال مختلفة (جنسية، عرقية، فنية)1. وأحيانًا تثير الثقافة البصرية إشكاليات منهجية في النقاشات الدائرة حول طبيعة المعرفة (التفكير بالصورة أم باللغة).
مما سبق يتضح أن هناك صعوبة حقيقية في تحديد موضوع ثابت ومحدد للدراسات البصرية، وتلك هي الخاصية الرئيسية للدراسات البينية، إنها شرط تحققها. بمعنى أنه إذا تم تضمينها داخل حقل معرفي ما، فقدت صفتها البينية. فهل يكون الأفضل من محاولة تحديد موضوعها أن نصفها بالداعم بالغ الأهمية the dangerous supplement أو المهم، بتعبير جاك دريدا J. Derrida، للحقول المعرفية الأخرى.
الدراسات البصرية بوصفها داعمًا بالغ الأهمية
بداية ينبغي أن نميز بين الدراسات البصرية والثقافة البصرية. فهما على التوالي مجال الدراسة وموضوع الدراسة. إن الدراسات البصرية هي دراسة الثقافة المرئية. وهذا من شأنه أن يزيل اللبس الذي تقع فيه بعض مجالات الدراسة مثل التاريخ الذي يشير اسمه إلى مجال الدراسة وموضوع الدراسة أو محتوي المجال في نفس الوقت. إن البصر يشكل بنية ثقافية يتم تعلمها واكتسابها. فهو ليس مجرد حاسة من الحواس التي تعمل بصورة آلية، لذلك فهو يمتلك تاريخًا متصلاً بطريقة ما بتاريخ الفنون والتكنولوجيا والإعلام والممارسات الاجتماعية في العرض والمشاهدة، بالإضافة إلى الأخلاق والسياسة والجماليات واللغويات. يقول كريس جينكس C. Jeanks "لقد صار من المتعارف عليه في الحقل الأكاديمي أن يستخدم مصطلح الثقافة البصرية للدلالة على فنون التصوير والنحت والتصميم والهندسة المعمارية، فهو إشارة إلى نطاق حديث أوسع لكل ما كان يدخل ضمن تعريف "الفنون التشكيلية". ولو أننا أردنا أن نوسع أكثر من هذا النطاق فيمكننا أن نقترح أن الثقافة البصرية تشير إلى جميع صنوف الثقافة التي يمثل مظهرها البصري سمة هامـة في وجودها أو الغرض منها"2.
ليس ثمة جدال كبير على علاقة الثقافة البصرية بتلك المجالات، غير أن الخلاف يأتي عندما يتم الحديث عن علاقة الدراسات البصرية بمباحث دراسية راسخة مثل اللغويات وتاريخ الفن والجماليات. فثمة شكوك عديدة من الممكن أن تثار حول جدوى الدراسات البصرية بالنسبة لتلك المباحث الدراسية. على سبيل المثال هناك تحالف وتناغم بين الجماليات وتاريخ الفن. الجماليات هي الدراسة النظرية للفن. وتثير مجموعة من التساؤلات الرئيسة حول طبيعة الفن، والقيمة الفنية، والإدراك الفني في سياق المجال العام لخبرة التلقي. وتاريخ الفن هو الدراسة التاريخية للفنانين، والممارسات الفنية، والأساليب والحركات والمؤسسات الفنية. وكلاهما معًا، الجماليات وتاريخ الفن، يقدمان نوعًا من التكامل. إنهما يشملان أي موضوع يمكن طرحه عن الفنون البصرية. ولو تصورناهما بشكلهما الموسع، فإن تاريخ الفن ينظر إليه باعتباره الدراسة الرمزية العامة أو الدراسة التفسيرية للصور المرئية. وينظر إلى الجماليات باعتبارها دراسة الإحساس والإدراك، لذلك يبدو أنهما يتكفلان بأية قضايا يمكن لمجال الدراسات البصرية أن يثيرها. إن نظرية الخبرة المرئية لابد أن تتم معالجتها في مجال الجماليات، وتاريخ الصور والأشكال المرئية لابد أن تُعالج في تاريخ الفن.
بناء على ذلك، ووفقًا للتخصصات الأكاديمية المستقرة، تبدو دراسات الرؤية غير ضرورية بصورة ما، ولا نحتاج إليها. إنها فقط تضيف مجموعة من المشكلات الغامضة غير المحددة التي تمت معالجتها إلى حد ما في فروع أكاديمية أو حقول معرفية أخرى. ومع ذلك، فإننا نجدها تنمو بوصفها حقلاً شبيهًا أو مبحثًا أكاديميًّا متخمًا بالسجالات الأدبية والمقررات الدراسية والمناقشات والمؤتمرات والأساتذة. السؤال الوحيد هو. ما دلالة دراسة الرؤية؟ لماذا ظهر هذا الحقل الذي يبدو متطفلاً على الحقول المعرفية الأخرى؟
في هذه السياق يجب أن يكون واضحًا أن الارتباك الذي تستدعيه دراسات الرؤية هو مثال على ما يسميه جاك دريدا J. Derrida الداعم الخطير أو بالغ الأهمية3. الواقع أن دراسات الرؤية تقف في علاقة ملتبسة مع تاريخ الفن والجماليات. من ناحية، أنها تعمل وكأنها تتمة لهذين المجالين، نوع من أنواع ملء الفراغ إذا شئنا الدقة. إذا كان موضوع تاريخ الفن الصور المرئية وموضوع الجماليات المحسوسات، فهل يغدو من الأفضل تأسيس فرع دراسي يتخذ من الرؤية موضوعًا له، ويجمع الجماليات وتاريخ الفن حول مشكلات الضوء والبصريات وأدوات الرؤية والخبرة والعين؟ لكن ربما يصطدم ذلك بحقيقية أن المهمة التي سيؤديها ذلك الفرع ستغدو تكميلية كذلك: فهي أولاً تفترض قصورًا في الاتساق الداخلي للجماليات وتاريخ الفن، كما لو أن هذين النظامين قد فشلا بطريقة ما في أن يجذبا الانتباه إلى ما هو رئيسي في تخصصهما. وهي تفتح كلا المبحثين على مشكلات خارجية تهدد حدودهما. إن دراسات الرؤية تهدد كلاً من الجماليات وتاريخ الفن بأن تجعل كلاً منهما فرعًا دراسيًّا لمجال دراسي آخر أكثر اتساعًا.
ما الذي يمكن أن يندرج تحت نطاق دراسات الرؤية؟ ليس فقط تاريخ الفن والجماليات، لكن أيضًا السينما والتلفزيون والإعلام الرقمي، وكذلك المباحث الفلسفية والسيكولوجية التي تنتمي إلى مجال ابستمولوجيا الرؤية، والدراسات اللغوية والدلالية عن الصور والعلامات المرئية، والدراسات الفينومينولوجية والفيسيولوجية والإدراكية عن عملية الرؤية، والدراسات السيوسيولوجية عن المشاهدة والعرض، وأنثروبولوجيا الرؤية، والبصريات الفيزيائية،.... إلخ. إذا كان موضوع الرؤية كما يقول هال فوستر4 H. Foster، كل ما هو مرئي، فإنه سيكون موضوعًا من الاتساع بمكان، وسيغدو من المستحيل أن نتعامل معه بطريقة منهجية ثابتة.
هل يمكن لدراسات الرؤية أن تمثل مجالاً دراسيًّا أو فرعًا معرفيًّا متماسكًا يخضع لمجال البحث، ويكون له قسم أكاديمي؟ هل آن لتاريخ الفن أن يطوي خيمته ويقيم تحالفًا جديدًا مع الجماليات ودراسات الإعلام بهدف تشييد صرح أضخم لدراسة ثقافة الرؤية؟ هل يجب علينا فقط أن ندرج كل شيء تحت لواء ما يسمى الآن الدراسات الثقافية؟ ثمة بطبيعة الحال مجهودات عديدة في هذا الصدد. بل إن التوجه العام الآن في مجال الإنسانيات يصب في هذا الاتجاه.
وبناء على ذلك، إذا كانت دراسات الرؤية هي داعم مهم للإنسانيات عمومًا، فإن من الضروري ألا نبالغ في تقدير الخطر ولا نقلل من قدره أيضًا. وربما تمنحنا فكرة دريدا عن الداعم بالغ الأهمية تأييدًا لهذا المعنى عندما ناقش ظاهرة الكتابة وعلاقتها بالكلام. لقد استشف دريدا أن الكتابة يتم النظر إليها بوصفها محض أداة لتسجيل اللغة. وكيما يتخطى الفرد مجال السيطرة على الكلام لابد أن يفهم شروط تعقل اللغة، وطريقتها في التكرار والفعل. وبالتالي يصبح حضور الصوت في القلب من اللغة. إنها تصل مباشرة نحو المعنى الذي يحوزه المتكلم في عقله. هذا المعنى يتم فقدانه في عملية الكتابة التي تظل مستمرة حتى مع غياب المتكلم نفسه. السيطرة الأنطوثيولوجية (اللاهوتية الوجودية) لحضور الذات يتم تحطيمها وإعادة صياغتها كأثر للكتابة في سلسلة لا متناهية من المواقف البديلة والتقديم والتأخير. والسؤال هو: هل يمكن أن تتعدي اللغويات حدودها لتؤثر على كافة العلوم الإنسانية؟. بالفعل، فإن كل المعرفة الإنسانية كانت معرضة لأن تدخل مجالاً جديدًا يسمي علم الأجرومية Grammatology. هل يمكن أن يكون قلقنا على عدم وجود حدود لدراسات الرؤية هو رد على المخاوف التي سببتها فكرة أنه لا يوجد شيء خارج النص؟
لقد عززت اللغويات من الدلالات المرئية للغة المكتوبة، من الكتابة بالصور إلى الحروف الهيروغليفية إلي الأبجدية إلى اختراع الطباعة، وأخيرًا الوسائط الرقمية. وهي من البداية، يمكن النظر إليها على أنها كانت مساعدات طفيلية على شيء ما أصلي، اللغة الملفوظة أو الكلام، ثم أخذت مرتبة الصدارة وأصبحت شرطًا عامًا لكل مفاهيم اللغة والمعنى والحضور.
إن الرؤية والصور المرئية، والأشياء التي تظهر بشكل آلي، الأشياء الواضحة والجلية والطبيعية، هي في الحقيقة تراكيب رمزية. مثل اللغة التي نتعلمها، هي شفرات رمزية تمثل حجابًا أيديولوجيًّا بيننا وبين العالم الواقعي. لكن إلى أي مدى تختلف الرؤية عن اللغة، هل تعمل (كما لاحظ رولان بارت R. Barthes عن التصوير 1981) كرسالة دون شفرة؟ بأية طريقة تتجاوز أشكال محددة من البنى الاجتماعية لتعمل كلغة عالمية حرة بشكل نسبي من العناصر النصية أو التأويلية؟ ربما كان الأسقف باركلي Barkely، أول من زعم بأن الرؤية مثل اللغة، وأصر على أنها لغة عالمية وليست لغة إقليمية أو محلية. إلى أي مدى تعد الرؤية نشاطًا لا يكتسب بالتعلم؟ فالرؤية قدرة محددة وراثيًّا، ومجموعة من الآليات الفطرية التي تعمل في الوقت المناسب، وهذا بخلاف الطريقة التي يتعلم فيها الإنسان اللغة. والواقع أنه إذا كانت الرؤية فطرية، فإن موضوعها (الصورة) يوصف بأنه ثقافي، أي مرتبط بسياق ما محدد، ودراسة هذا السياق محور رئيس من محاور الدراسات البصرية. إذن فبقدر ما تشير الرؤية إلى إمكانية طبيعية لدى الإنسان، يظل موضوعها مرتبطًا بالعالم الخارجي وبالسياق الثقافي الذي يوجد فيه. أو كما يقول ميتشل "ثقافة الرؤية لا تمني نفسها بالانتصار على التوجهات الطبيعية والمغالطات الطبيعية، لكنها تشير إلى ما يبدو على أنه غير طبيعي في عملية الرؤية والخيال المرئي بوصفه مشكلة ينبغي التعامل معها بدلاً من إهمالها".
باختصار، فإن التصور الجدلي للثقافة البصرية لا يستطيع أن يركن بهدوء إلى تحديد موضوعه على أنه البنى الاجتماعية للمجال المرئي، لكنه يجب أن يشدد على معالجة هذه القضية عن طريق عكسها، أي البنية البصرية للمجال الاجتماعي. إننا لا نرى بالطريقة التي نعمل بها لأننا كائنات اجتماعية، لكن أوضاعنا الاجتماعية تأخذ الشكل الذي نفعل به لأننا كائنات مبصرة.
المراجع:
1 - حول علاقة الصورة بالسلطة والأيديولوجيا انظر دراستنا بعنوان سلطوية الصورة المرئية. الجزائر، مجلة الحوار الثقافي، 2013، 88 - 95.
2 - كريس جينكس (2016) الثقافة البصرية. ترجمة: بدر الدين مصطفى، القاهرة، منشورات مركز جامعة القاهرة للغات والترجمة، ص 9.
3 - Derrida, Jacques (1967): Of Grammatology. Translated by Gayatri Chakravorty Spivak Baltimore: John Hopkins University Press, p 121.
4 - H.Foster (1988), p 11.
* المصدر: مجلة الفكرالثقافية