صالح رحيم - تاريخ الفلسفة تاريخ النقد

يُلهمني أن أُقحمَ ذاتي في الحقلِ الموضوعي، وألعب، يتفجّرُ في ذهني ذهنٌ آخر، كلما لعبتُ بالكلماتِ، مكتوبة أو مقروءة، إلى درجةٍ يصير فيها الموضوعُ ذاتاً والذاتُ موضوعاً، تتداعى فيَّ أذهانٌ، بلا حياد.
قبلَ أن أقرر اختيار قسم الفلسفة في الجامعة المستنصرية، سألت نفسي، لماذا الفلسفة؟ توافرت إجابات كثيرة، لكني أرجأتها إلى وقتٍ آخر، أردتُ إجاباتٍ أكثر دقة وأكثر وداعة. منها أنني، أدرسُ الفلسفةَ لأكون قارئاً جيداً، لا كاتباً جيّداً، والقارئ الجيد بالنسبة لي، هو ذاك الذي تنقلبُ له صفحاتُ الكتابِ دونما حاجة إلى تبليل الإصبع، إنه قارئٌ ينصتُ إلى نداءِ المعرفة، يتتبعُ طريقاً تتقاطعُ فيها طرقٌ شتى، ولا يتيه، لكنه تائه، يتتبعُ الطرقَ واحداً فالآخر، وكلما انتهى من طريقٍ جربَ الآخر، دونما انطفاءٍ لشعلةِ التيه. وإذا ما أردنا، أن نتتبعَ طريقَ الفلسفة الطويل، فإنني ارتأيت أن أبدأ بأولِ كائن خطا على هذه الأرض، أول بحثٍ له عن مكانٍ ينجيه الخطر، اقصد أول استدلال منطقي في الكون، من هناك بدأت الفلسفة، وما تبقى تعليقٌ طويل، على تلك اللحظة. لكنّا إذا شئنا الفلسفة بوصفها تفكيراً نظرياً في الوجود، فإننا نبدأُ باليونان، بالقرن السادس قبل ميلاد المسيح، على يد طاليس، الذي بدأت الفلسفة معه مبللةً بالماء، إذ برهنَ على أن مبدأ العالم الماء، ومن ثم بعده، جاء انكسمندر، ناقداً طاليس بأن المبدأ الأول، لا يصحُّ أن يكون ظاهراً للعيانِ مثلَ الأشياء، ومن ثم، فإنَّ المبدأ الأول للعالم، بتعبير انكسمندر، هو اللانهائي، ويسميه الأبيرون، ويريدُ به الجوهرَ اللامحدود، الذي يحويَ العالمَ كله.
اهتمّ الفلاسفة الطبيعيون، ما قبل سقراط، بمبدأ العالم، وكانت أنظارهم متوجهة إلى الخارج، متسائلين عن الكيفية التي بدأ وصار إليها العالم، وكل واحد منهم، نقدَ من سبقه، وخالفه بالمبدأ، فانكسمانس، قال بالهواء أصلاً للموجودات، والفيثاغوريون، اعتقدوا بالرياضيات، وقالوا بأن العالمَ ليس سوى موسيقى وعدد.
مروراً بهيرقليطس، بتغيُّرِه المتصل، وكما يقول، العالم نارٌ حيَّة إلى الأبد، تشتعل بمقدار، وتخبو بمقدار. ومن بعده الإيليون، وعلى رأسهم بارمنيدس، والذي يقولُ مذهبه بإيجازٍ، إنَّ الوجودَ موجودٌ، وأن التغيرَ وهمٌ، ولا يمكن للوجود ألا يكون موجوداً.
أما امبادوقليس، فقد رد العالم إلى أربعة أنواع أزليَّة من المادة، هي التراب والهواء والنار والماء، وقد وجد امبادوقليس أن قوةً نشطة فعالة هي المسؤولة عن امتزاج العناصر الأربعة وعن افتراقها، وهذه القوة هي في قوتين هما المحبة والكراهية. لكننا عندما نصل إلى انكساغوراس، نوشك أن نصل إلى العقل، إذ يقول إن العقلَ مبدأ العالم. وعندما تصلُ الفلسفة، إلى سقراط، فإنَّه ينزلها، من السماء، إلى الأرض، أي أن الاشتغالَ على يده، يتمحور حول الإنسان، من قبله انشغلَ السفسطائيون طبعاً، وقالوا بأن الإنسان مقياس كل شيء، مقياس ما يوجد منها وما لا يوجد، لكنَّ سقراطَ ثارَ ضدَّ هذه النظرةَ، مدفوعاً بنزعةٍ أخلاقيةٍ، متخذاً من التهكمِ أسلوباً في تعريف محدثيه بخوائهم، وعدم إلمامهم بأبسط الأمور.
سقراطُ القابلةُ، كما يعبرُ هو عن نفسه، على لسانه تجري محاوراتُ تلميذه أفلاطون، حتى أننا لا نعرف الأستاذ من التلميذ، وعلى أية حال، فإنَّ الفلسفة على يدِ أفلاطون ومن بعده أرسطو، تصلُ كمالها.
أكثرُ ما يلهمني، في الفلسفة، عبرَ تاريخها، أنّها فكرٌ غير منقطع، ينبضُ بآراء الآباء والأبناء كلهم، ثمةَ خللٌ يعتري القارئ، إذا ما تجاوزَ حقبةً ما، سوءُ فهم، أو إساءة، يحضرني، وأنا أكتبُ احتفاءً بالفلسفةِ، قولٌ لبرتراند راسل، يذهب به، إلى أن «التفكيرَ شاغلٌ ممتع، يفتح لنا أبواباً، ندخل منها إلى بلدانٍ شاسعةٍ ما كنّا ندري بوجودها البتة».
تتيحُ لي الفلسفةُ، أن ألعبَ، مثل الطفلِ، أن ألهو، أن أسافرَ، أن أحتفي بالمدنسِ، وأنأى، قدر الإمكانِ بنفسي، عما لا يقبل الحركة والنقد، تجعلني أشكك، بكل ما يرفض إعادة النظر، إنني باللعبِ، على طريقتها، أحتجُّ على طريقتي.

_____
* كتبت احتفاءً بالفلسفة في يومها العالمي، ونشرت بتاريخ اليوم الإثنين (٢١_١١) على ثقافية الصباح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى