قبل أن أتحدث عن هذا الرجل الذي يجب أن يتحدث عنه مدونو تاريخ الأدب العربي في العصر الحديث - قبل هذا أحب أن أقول في هذا الباب شيئاً عاماً. ذلك بأننا اعتدنا أن نغفل الكلام في سيرة من عاصرناهم، ورأيناهم ولابسناهم، إلا يكون القول من جنس هذه المراثي التي تضفي فيها حلل الثناء، ويكال فيها المديح في العادة، بغير حساب. ولقد يكون هذا الثناء حقاً أو قريباً من الحق، بحيث لا يؤذي التاريخ في كثير ولا قليل، ولكنه لا يمكن أن يجلو على الأجيال المستقبلة شيئاً من حقيقة الرجل، لأن الكاتبين في هذه الحالة لا يعنون ببسط حياة الرجل، وظواهر خلاله، والعوامل البارزة في تكوينه، ومطبوع عادته، ولو ما يتصل منها بالأسباب العامة. وذلك من أيسر الأمور لأنهم عرفوه بالمشاهدة، واستيقنوه بالملابسة وطول الاختيار. وهذا ولا شك مما يهيئ للقادمين دراسته وتحليله دراسة إن لم تنته إلى أصدق النتائج، فهي أدنى إلى الصدق من غيرها على كل حال.
وليس يذهب عن القارئ إن إهمال المعاصرين، على هذا النحو، لابد مفضٍ إلى إحدى الحالين: إما إلى إدراج كثيرين من رجال الآداب والفنون في مطاوي النسيان، أو التحيف من أقدارهم بقدر كثير أو قليل؛ وإما إلى تجليتهم، إذا تراخى الزمان في غير صورهم، ونحلهم صفاتٍ وخلالاً لم تكن لهم، بحكم العنعنة في رواية الأخبار، والاتكاء في تحليل نفس الرجل على ما صدر عنه من آثار. وكثيراً ما يضل الباحث المستنتج في هذا أبعد الضلال. هذا إلى ما في معاناة مثل تلك البحوث من إضاعة للوقت، ونفقة من الجهد، وتجشم للعناء.
وأغلب الظن في هذه الإغفال من المعاصرين لمن عاصروهم من رجال الفنون والآداب يرجع إلى أن الرجل العظيم قل أن يراه معاصروه بالعين التي يراه بها الخالفون، فهو في الغالب إذا استحق منهم ترديد ذكره والهتاف باسمه، وتدوين سيرته، فقل أن يعني أحد يتقصى عادته، والتسلل إلى مداخله، وعرض ما يلابس الأسباب العامة من سائر أموره، أو لأنهم لا يعنون بهذا لأنه حاضر لمعاصريه قريب منهم. فهو في حكم المبذول الذي ينال منه من شاء أن ينال. ولا شك أن في هذا ضرباً من الغفلة عن أن الحاضر سيغيب على الزمن، وأن المبذول سينقبض، وأن ما في متناول اليد اليوم ستتقطع من دونه غداً علائق الآمال!
ولقد يسكت النقدة عن تقصي ذلك عمداً، والتلبث بتحليل الرجل، ورد العوامل في تكوينه إلى مناجمها حتى ينطوي الزمن عليه وعلى أهله، وعلى أشياعه وخصومه من معاصريه، حتى يتهيأ الجو للبحث والتحقيق، لا رغبة ولا رهبة فيه، فيكون البحث أنور وأصفى، ونخرج النتائج أدق وأوفى.
وهذا مذهب في الرأي له أثره وله خطره، بالرغم من أنه يفوت على المؤرخ المدقق من عناصر الحكم ما قد يسيء في بعض الأحيان إلى حكمه، فإذا هو طلبها تصحيحاً لبحثه، فلن ينالها إذا نالها صادقة إلا بعد أن يتجشم في سبيلها عرق القربة كما يقولون!
على أنني في هذا لا أذهب إلى القول بنشر المعايب، واستضهار المكاره، حتى لا يثير المدون ثائرة الأهل والصحاب والأنصار، إنما أريد أن يجلو المعاصر، من غير ذلك، كل ماله خطر في تكوين الرجل، فإذا هناك مغامز لا ينبغي إغفالها في تجليته وتحليله، فليسجلها على أن يكتمها حتى يجليها لوقتها، أو يجليها من بعده من الأعقاب.
وعلى أي حال فان إغفال هذه الأمور التي نحسبها في غالب الأحيان من التوافه، كثيراً ما يخلو بحق التاريخ، ويفضي إلى الجهل بالجم من حقائق الأشياء. ولست أجد في هذا الباب مثلاً أيسر ولا أدنى إلى الحس من أننا، لولا مهبط البعثة العلمية التي صحبت الحملة الفرنسية في سنة 1798، ما اهتدينا بسهولة أو ما اهتدينا أبداً إلى أزياء جدودنا وسمتهم من قرن وثلث قرن من الزمان، فكيف بمن هم أعلى من هذا وأبعد في مذهب التاريخ؟
ولو قد عني أهل كل عصر بأن يحفظوا لخلفهم نماذج من ثيابهم، وآلاتهم في سائر حوائجهم، وفعل هؤلاء مثل فعلهم لظلت سلسلة الأزياء واضحةً على وجه الزمان.
ولعل من الخير أن أنبه في هذا المقام إلى أن محاولة كشف الرجل من آثاره المحفوظة لا تجدي كثيراً في الإبانة عن خلاله ومداخل عيشه، حتى مظاهرها. بل إنها لكثيراً ما تكون من وسائل الضلة في إثبات التاريخ. ولست أسوق لهذا أكثر من مثلين اثنين: ذلك بأنك لو اتكأت في طلب خلال الجاحظ على مجرد آثاره لخرج لك منها أنه كان أزهد الناس في المال، وأنه لو سقط ليده لكان أجود به من الريح المرسلة. فإن أحداً لم ينع الشح ولم يذم الأشحاء كما نعى الجاحظ وكما ذم: وإن أحداً لم يؤلف كتاباً في (البخلاء) أبلغ فيهم إيجاعاً، وأشد لهذه الخلة وأصحابها إقذاعاً، كما صنع الجاحظ. ومع هذا لقد كان هو نفسه من أشد المبخلين الذين أوفوا على الغاية من الجشع، والحمل على المروءة أحياناً في طلب المال. وإنك لو التمست مثل هذا في أبي الفرج لخرج لك من آثاره أنه كان أجمل الناس سمتاً، وأنظفهم بدناً وثوباً، وأشدهم أخذاً للنفس بأدق آداب السلوك في طعامه وشرابه، وغير ذلك من أسبابه. ولكن الواقع أنه كان من أشد الناس شرهاً، وأقبحهم مؤاكلة، وأقذرهم خلقاً وثوباً، حتى ليصح في بعض خلته قول الشاعر:
وسخ الثوب والعمامة والبِرْ ... ذَونِ والوجهِ والقفا والغلام!
ولولا أن معاصري هذا وهذا أثبتوا لكل منهما ما أثبتوا لزلت فيهما الأقلام، وضلت الأوهام!
بعد هذا آخذ في حديث أستاذي ورئيسي وصديقي العالم الفيلسوف، الأديب، والكاتب، الناقد، السيد محمد بك المويلحي رحمة الله عليه.
من أكثر من ثلاثين سنة خلت، ولما أزل بعد في أيام الفتوة، وفي صدر طلب العلم في الأزهر، صدرت في مصر جريدة أسبوعية سياسية أدبية باسم (مصباح الشرق) في أربع صفحات دون صفحات الجرائد التي تصدر الآن مساحة، ولون ورقها يضرب إلى الحمرة. ويقوم بتحريرها إبراهيم بك المويلحي وابنه السيد محمد المويلحي. وكانت عامة الصحف الأسبوعية قد وصلت في ذلك العهد من المهانة والفسولة والإسفاف وتفاهة الموضوعات إلى أبعد الحدود.
مصباح الشرق
لقد كان هذا (مصباح الشرق) شيئاً طريفاً حقاً، لقد كان أبلغ من طريف، فإنه لأعجوبة حقاً، لقد كان هذا (مصباح الشرق) أبلغ من أعجوبة، إنه لشيء يكاد يتصل بحكم الخوارق في تلك الأيام! بلاغة بليغة، ولفظ جزل متخير، وديباجة مشرقة، وصيغ مونقة، ونسج متلاحم، وأسلوب ليس وراءه في هذا الذي يدعونه السهل الممتنع.
أدب بارع، علم وفلسفة، وبحوث رائعة في سياسة الأمم وفي أخلاق وعلوم الاجتماع، منها المبتكر المنشأ، ومنها المترجم من مختلف الُّلغى في عبارة عربية بليغة سلسة ناصحة واضحة لا تستروح منها أي ريح للاستعجام. وهل رأيت قط ترجمات السابقين في عصر بني العباس؟
مذهب طريف في النقد، نقد الأشخاص، لا عهد للأدب العربي به من قديم الزمان؛ بل لعله لا عهد له به من أول الزمان! لم تكد تطالع الناس هذه الصحيفة الدقيقة الجرم مرتين أو ثلاثاً حتى أصبحت من بعض شغل الخاصة في هذه البلاد!
لا يدخل الأصيل في يوم الخميس من كل أسبوع إلا وقد زاغت أبصار، وتكرشت جباه، وتقلصت شفاه، وتداركت أنفاس، ووجفت قلوب. هل رأيت انفلات الطائر بعد طول الاحتباس؟ كذلك كان يترقب الخاصة مشرق (المصباح) وسرعان ما تخطفه اليد الراجفة فتشقه، وسرعان ما يشيع البصر كله في مساحة النقد كلها، لا يستقر على موضوع خاص، ولا يتحيز في حديث معين. بل أنه لينساح على الصفحة كلها انسياحاً ليدرك قبل رد الطرف أشك المويلحي اسم صاحبه فيمن شك أم أرسله في جملة الطلقاء؟ حتى إذا اطمأن الرجل إلى أنه قد كتبت له السلامة لجمعته، ألقى الصحيفة بين يديه، وجعل يطامن من نفسه، ويبسط في خلفه ما تقبض، ويفرخ من روعه ما تحبس.
وإذا كان هذا شأن من لم تصب منهم أقلام المويلحيين، فاحكم أنت، عصمنا الله وإياك، كيف كانت حال من تنال منهم هذه الأقلام؟
على أنه مما ينبغي أن يذكر هنا، أن (المصباح) لم يكن يعرض قط لأعراض من يتولاهم بالنقد، ولا يتدسس إلى مكارههم، أو يتتبع عوراتهم، بل لا يتناول من أمورهم إلا ما كان يعرضونه هم من ذات أنفسهم، أو ما يدلون هم عليه بآثارهم وظاهر أعمالهم، فلقد كان (المصباح) أجل من ذاك موضعاً وآنف كرامة. .
وأنه ليستحدث لوناً طريفاً من النقد لا عهد لأدب مصر به، بل لا عهد به للأمم العربية جمعاء. وهذا النوع من النقد يقوم، في الجملة، على التماس الجانب الضعيف في أثر الرجل، فيعرضه بالقلم في صورة (كاريكاتورية) يزيد في تشويهها ما يتوافى لذهنه الدقيق من ألوان التشبيه، وما يحضره من فنون الاستشهاد والتمثيل، ولا يبرح يمط الموضوع في هذه الناحية بالتوليد وطلب المناسبات القريبة، والملابسات الدانية، تسندها النكتة البارعة، ويسعفها التندر البديع، حتى ينتهي إلى ما لا ينتهي إليه أحد من الناقدين! ولقد كان هذا من (مصباح الشرق) الأصل الثابت لهذا اللون من النقد، أعني النقد (الكاريكاتوري) في مصر. كما كانت صحيفة المويليحيين (أبو زيد) أول ما عرف، فيما أعرف أنا، من التصوير (الكاريكاتوري) في هذه البلاد. ولعلي ألمع إلى هذه الصحيفة في بعض هذا الكلام.
لم ينته خطب (مصباح الشرق) إلى هذا الموضع فحسب؛ بل لقد كان، على أنه صحيفة لا تظهر في جميع الأسبوع إلا مرة واحدة، يروي من جلائل الأخبار في الأسباب العامة ما لا تبلغه الصحف اليومية، على شدة ارتصادها لمثل ذلك، وإذكاء عيونها الكثيرة في طلبه وتقصيه، فكانت أمهات الصحف اليومية لا تتحرج في كثير من الأحيان من نشر مهام الأخبار نقلاً عن (مصباح الشرق) الأسبوعية مضافة إليها معزوة لها. وفضل (المصباح) في هذا السبق العجيب إنما كان لجلالة محل إبراهيم بك المويلحي عند أولى الأمر كلهم، وخفة روحه، ولطف مدخله، وسعة حياته، حتى ليستخرج منهم بهذا ما لا يخرجون عنه لغيره من رواة الأخبار.
ولا أحب أن أجوز هذا الموضع من الكلام قبل أن أقول إن (المصباح) أول من جلا للناس براعة الجاحظ وعبقرية ابن الرومي بما كان يختاره لهما من بدائع المنثور وروائع المنظوم قبل أن تقع العيون من آثارهما على كتاب أو ديوان، وأول من عالج النقد الأدبي لما تنتضح به قرائح الشعراء، وأعني به ذلك النقد الرفيع الغالي، الذي جمع بين أساليب النقد في أزكى عصور العربية، وبين طرائقه التي اختطها نقدة الغربيين في هذا الزمان.
وعلى الجملة، فلقد فتح (المصباح) في الأدب العربي فتحاً جديداً، وأمسى (مصباحا) حقاً يهتدي المتأدبون بسناه إذا أرسلوا القول أو اجتمعوا لنظم الكلام. وبهذا وهذا أصبح (مصباح الشرق) أفخر مدرسة لطلب الأدب الرفيع الجزل الطريف في هذه البلاد. ومما ينبغي أن يذكر في هذا المقام أن جماعة الشعراء لقد تعاظمتهم سطوة (المصباح) في باب النقد فحسبوا له كل حساب، ويا ويل من لا يتحرى من الشعراء البارزين ما لا يبلغه الجهد كله من التدقيق والتجويد والإحسان.
وإني لا أكتفي اليوم من حديث السيد محمد المويلحي بهذا القدر على نية العودة إليه في القريب إن شاء الله.
عبد العزيز البشري
مجلة الرسالة - العدد 72
بتاريخ: 19 - 11 - 1934
وليس يذهب عن القارئ إن إهمال المعاصرين، على هذا النحو، لابد مفضٍ إلى إحدى الحالين: إما إلى إدراج كثيرين من رجال الآداب والفنون في مطاوي النسيان، أو التحيف من أقدارهم بقدر كثير أو قليل؛ وإما إلى تجليتهم، إذا تراخى الزمان في غير صورهم، ونحلهم صفاتٍ وخلالاً لم تكن لهم، بحكم العنعنة في رواية الأخبار، والاتكاء في تحليل نفس الرجل على ما صدر عنه من آثار. وكثيراً ما يضل الباحث المستنتج في هذا أبعد الضلال. هذا إلى ما في معاناة مثل تلك البحوث من إضاعة للوقت، ونفقة من الجهد، وتجشم للعناء.
وأغلب الظن في هذه الإغفال من المعاصرين لمن عاصروهم من رجال الفنون والآداب يرجع إلى أن الرجل العظيم قل أن يراه معاصروه بالعين التي يراه بها الخالفون، فهو في الغالب إذا استحق منهم ترديد ذكره والهتاف باسمه، وتدوين سيرته، فقل أن يعني أحد يتقصى عادته، والتسلل إلى مداخله، وعرض ما يلابس الأسباب العامة من سائر أموره، أو لأنهم لا يعنون بهذا لأنه حاضر لمعاصريه قريب منهم. فهو في حكم المبذول الذي ينال منه من شاء أن ينال. ولا شك أن في هذا ضرباً من الغفلة عن أن الحاضر سيغيب على الزمن، وأن المبذول سينقبض، وأن ما في متناول اليد اليوم ستتقطع من دونه غداً علائق الآمال!
ولقد يسكت النقدة عن تقصي ذلك عمداً، والتلبث بتحليل الرجل، ورد العوامل في تكوينه إلى مناجمها حتى ينطوي الزمن عليه وعلى أهله، وعلى أشياعه وخصومه من معاصريه، حتى يتهيأ الجو للبحث والتحقيق، لا رغبة ولا رهبة فيه، فيكون البحث أنور وأصفى، ونخرج النتائج أدق وأوفى.
وهذا مذهب في الرأي له أثره وله خطره، بالرغم من أنه يفوت على المؤرخ المدقق من عناصر الحكم ما قد يسيء في بعض الأحيان إلى حكمه، فإذا هو طلبها تصحيحاً لبحثه، فلن ينالها إذا نالها صادقة إلا بعد أن يتجشم في سبيلها عرق القربة كما يقولون!
على أنني في هذا لا أذهب إلى القول بنشر المعايب، واستضهار المكاره، حتى لا يثير المدون ثائرة الأهل والصحاب والأنصار، إنما أريد أن يجلو المعاصر، من غير ذلك، كل ماله خطر في تكوين الرجل، فإذا هناك مغامز لا ينبغي إغفالها في تجليته وتحليله، فليسجلها على أن يكتمها حتى يجليها لوقتها، أو يجليها من بعده من الأعقاب.
وعلى أي حال فان إغفال هذه الأمور التي نحسبها في غالب الأحيان من التوافه، كثيراً ما يخلو بحق التاريخ، ويفضي إلى الجهل بالجم من حقائق الأشياء. ولست أجد في هذا الباب مثلاً أيسر ولا أدنى إلى الحس من أننا، لولا مهبط البعثة العلمية التي صحبت الحملة الفرنسية في سنة 1798، ما اهتدينا بسهولة أو ما اهتدينا أبداً إلى أزياء جدودنا وسمتهم من قرن وثلث قرن من الزمان، فكيف بمن هم أعلى من هذا وأبعد في مذهب التاريخ؟
ولو قد عني أهل كل عصر بأن يحفظوا لخلفهم نماذج من ثيابهم، وآلاتهم في سائر حوائجهم، وفعل هؤلاء مثل فعلهم لظلت سلسلة الأزياء واضحةً على وجه الزمان.
ولعل من الخير أن أنبه في هذا المقام إلى أن محاولة كشف الرجل من آثاره المحفوظة لا تجدي كثيراً في الإبانة عن خلاله ومداخل عيشه، حتى مظاهرها. بل إنها لكثيراً ما تكون من وسائل الضلة في إثبات التاريخ. ولست أسوق لهذا أكثر من مثلين اثنين: ذلك بأنك لو اتكأت في طلب خلال الجاحظ على مجرد آثاره لخرج لك منها أنه كان أزهد الناس في المال، وأنه لو سقط ليده لكان أجود به من الريح المرسلة. فإن أحداً لم ينع الشح ولم يذم الأشحاء كما نعى الجاحظ وكما ذم: وإن أحداً لم يؤلف كتاباً في (البخلاء) أبلغ فيهم إيجاعاً، وأشد لهذه الخلة وأصحابها إقذاعاً، كما صنع الجاحظ. ومع هذا لقد كان هو نفسه من أشد المبخلين الذين أوفوا على الغاية من الجشع، والحمل على المروءة أحياناً في طلب المال. وإنك لو التمست مثل هذا في أبي الفرج لخرج لك من آثاره أنه كان أجمل الناس سمتاً، وأنظفهم بدناً وثوباً، وأشدهم أخذاً للنفس بأدق آداب السلوك في طعامه وشرابه، وغير ذلك من أسبابه. ولكن الواقع أنه كان من أشد الناس شرهاً، وأقبحهم مؤاكلة، وأقذرهم خلقاً وثوباً، حتى ليصح في بعض خلته قول الشاعر:
وسخ الثوب والعمامة والبِرْ ... ذَونِ والوجهِ والقفا والغلام!
ولولا أن معاصري هذا وهذا أثبتوا لكل منهما ما أثبتوا لزلت فيهما الأقلام، وضلت الأوهام!
بعد هذا آخذ في حديث أستاذي ورئيسي وصديقي العالم الفيلسوف، الأديب، والكاتب، الناقد، السيد محمد بك المويلحي رحمة الله عليه.
من أكثر من ثلاثين سنة خلت، ولما أزل بعد في أيام الفتوة، وفي صدر طلب العلم في الأزهر، صدرت في مصر جريدة أسبوعية سياسية أدبية باسم (مصباح الشرق) في أربع صفحات دون صفحات الجرائد التي تصدر الآن مساحة، ولون ورقها يضرب إلى الحمرة. ويقوم بتحريرها إبراهيم بك المويلحي وابنه السيد محمد المويلحي. وكانت عامة الصحف الأسبوعية قد وصلت في ذلك العهد من المهانة والفسولة والإسفاف وتفاهة الموضوعات إلى أبعد الحدود.
مصباح الشرق
لقد كان هذا (مصباح الشرق) شيئاً طريفاً حقاً، لقد كان أبلغ من طريف، فإنه لأعجوبة حقاً، لقد كان هذا (مصباح الشرق) أبلغ من أعجوبة، إنه لشيء يكاد يتصل بحكم الخوارق في تلك الأيام! بلاغة بليغة، ولفظ جزل متخير، وديباجة مشرقة، وصيغ مونقة، ونسج متلاحم، وأسلوب ليس وراءه في هذا الذي يدعونه السهل الممتنع.
أدب بارع، علم وفلسفة، وبحوث رائعة في سياسة الأمم وفي أخلاق وعلوم الاجتماع، منها المبتكر المنشأ، ومنها المترجم من مختلف الُّلغى في عبارة عربية بليغة سلسة ناصحة واضحة لا تستروح منها أي ريح للاستعجام. وهل رأيت قط ترجمات السابقين في عصر بني العباس؟
مذهب طريف في النقد، نقد الأشخاص، لا عهد للأدب العربي به من قديم الزمان؛ بل لعله لا عهد له به من أول الزمان! لم تكد تطالع الناس هذه الصحيفة الدقيقة الجرم مرتين أو ثلاثاً حتى أصبحت من بعض شغل الخاصة في هذه البلاد!
لا يدخل الأصيل في يوم الخميس من كل أسبوع إلا وقد زاغت أبصار، وتكرشت جباه، وتقلصت شفاه، وتداركت أنفاس، ووجفت قلوب. هل رأيت انفلات الطائر بعد طول الاحتباس؟ كذلك كان يترقب الخاصة مشرق (المصباح) وسرعان ما تخطفه اليد الراجفة فتشقه، وسرعان ما يشيع البصر كله في مساحة النقد كلها، لا يستقر على موضوع خاص، ولا يتحيز في حديث معين. بل أنه لينساح على الصفحة كلها انسياحاً ليدرك قبل رد الطرف أشك المويلحي اسم صاحبه فيمن شك أم أرسله في جملة الطلقاء؟ حتى إذا اطمأن الرجل إلى أنه قد كتبت له السلامة لجمعته، ألقى الصحيفة بين يديه، وجعل يطامن من نفسه، ويبسط في خلفه ما تقبض، ويفرخ من روعه ما تحبس.
وإذا كان هذا شأن من لم تصب منهم أقلام المويلحيين، فاحكم أنت، عصمنا الله وإياك، كيف كانت حال من تنال منهم هذه الأقلام؟
على أنه مما ينبغي أن يذكر هنا، أن (المصباح) لم يكن يعرض قط لأعراض من يتولاهم بالنقد، ولا يتدسس إلى مكارههم، أو يتتبع عوراتهم، بل لا يتناول من أمورهم إلا ما كان يعرضونه هم من ذات أنفسهم، أو ما يدلون هم عليه بآثارهم وظاهر أعمالهم، فلقد كان (المصباح) أجل من ذاك موضعاً وآنف كرامة. .
وأنه ليستحدث لوناً طريفاً من النقد لا عهد لأدب مصر به، بل لا عهد به للأمم العربية جمعاء. وهذا النوع من النقد يقوم، في الجملة، على التماس الجانب الضعيف في أثر الرجل، فيعرضه بالقلم في صورة (كاريكاتورية) يزيد في تشويهها ما يتوافى لذهنه الدقيق من ألوان التشبيه، وما يحضره من فنون الاستشهاد والتمثيل، ولا يبرح يمط الموضوع في هذه الناحية بالتوليد وطلب المناسبات القريبة، والملابسات الدانية، تسندها النكتة البارعة، ويسعفها التندر البديع، حتى ينتهي إلى ما لا ينتهي إليه أحد من الناقدين! ولقد كان هذا من (مصباح الشرق) الأصل الثابت لهذا اللون من النقد، أعني النقد (الكاريكاتوري) في مصر. كما كانت صحيفة المويليحيين (أبو زيد) أول ما عرف، فيما أعرف أنا، من التصوير (الكاريكاتوري) في هذه البلاد. ولعلي ألمع إلى هذه الصحيفة في بعض هذا الكلام.
لم ينته خطب (مصباح الشرق) إلى هذا الموضع فحسب؛ بل لقد كان، على أنه صحيفة لا تظهر في جميع الأسبوع إلا مرة واحدة، يروي من جلائل الأخبار في الأسباب العامة ما لا تبلغه الصحف اليومية، على شدة ارتصادها لمثل ذلك، وإذكاء عيونها الكثيرة في طلبه وتقصيه، فكانت أمهات الصحف اليومية لا تتحرج في كثير من الأحيان من نشر مهام الأخبار نقلاً عن (مصباح الشرق) الأسبوعية مضافة إليها معزوة لها. وفضل (المصباح) في هذا السبق العجيب إنما كان لجلالة محل إبراهيم بك المويلحي عند أولى الأمر كلهم، وخفة روحه، ولطف مدخله، وسعة حياته، حتى ليستخرج منهم بهذا ما لا يخرجون عنه لغيره من رواة الأخبار.
ولا أحب أن أجوز هذا الموضع من الكلام قبل أن أقول إن (المصباح) أول من جلا للناس براعة الجاحظ وعبقرية ابن الرومي بما كان يختاره لهما من بدائع المنثور وروائع المنظوم قبل أن تقع العيون من آثارهما على كتاب أو ديوان، وأول من عالج النقد الأدبي لما تنتضح به قرائح الشعراء، وأعني به ذلك النقد الرفيع الغالي، الذي جمع بين أساليب النقد في أزكى عصور العربية، وبين طرائقه التي اختطها نقدة الغربيين في هذا الزمان.
وعلى الجملة، فلقد فتح (المصباح) في الأدب العربي فتحاً جديداً، وأمسى (مصباحا) حقاً يهتدي المتأدبون بسناه إذا أرسلوا القول أو اجتمعوا لنظم الكلام. وبهذا وهذا أصبح (مصباح الشرق) أفخر مدرسة لطلب الأدب الرفيع الجزل الطريف في هذه البلاد. ومما ينبغي أن يذكر في هذا المقام أن جماعة الشعراء لقد تعاظمتهم سطوة (المصباح) في باب النقد فحسبوا له كل حساب، ويا ويل من لا يتحرى من الشعراء البارزين ما لا يبلغه الجهد كله من التدقيق والتجويد والإحسان.
وإني لا أكتفي اليوم من حديث السيد محمد المويلحي بهذا القدر على نية العودة إليه في القريب إن شاء الله.
عبد العزيز البشري
مجلة الرسالة - العدد 72
بتاريخ: 19 - 11 - 1934