بقعة ضوء (٤)
الدعوة الإسلامية:
«لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ»
هذا مجتزأ من حديث طويل روته أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
هذا هو الحق والحقيقة، في العالم كله، المسلمون معادون على كل المستويات، مطاردون، مهمشون، مراقبون، مضطهدون، وكل من يرفع عقيرته بهذا الدين صار هدفا لأساطين الكفر والمنافقين في كل مكان أو على الأقل يصبح مادة للتندر والسخرية والاستهزاء أو يصبح من المنبوذين، كان هذا هو الحادث ومازال للأنبياء ومن بعدهم الأمثل فالأمثل من عموم المؤمنين، فإذا استشعرت ذلك وفطنته فأعلم أنك على الحق المبين، والشيء بالشيء يذكر، كينيدي على هدى السابقين يمضي ويكلل سيرتنا بكل ما هو سيء.
رأى كينيدي أن سيدنا محمد بدأ دعوته للتوحيد وعبادة الله الواحد عام 600م وهو الذي ولد عام 570م وبذلك فقد بدأ الدعوة في سن الثلاثين حسبما يعتقد، وهذا يجافي الحقيقة تماما، لأن الوحي جبريل لم ينزل عليه بالقرآن قبل سن الأربعين ولكنه كان قبل ذلك يجافي عبادة الأصنام وتبجيلهم كما قومه، فكان يخلو بنفسه في غار حراء يتعبد الإله الذي لا يعرفه.
رأى كينيدي أن الدين الجديد بمقتضياته الإلهية كان يمثل تهديدا مباشرا للنخبة المكية، وهذا ما حدث بالفعل، لأنهم كانوا يسودون شبه الجزيرة بنفوذهم وأعرافهم التي صاغوها جيلا بعد جيل، وارتأى كينيدي أن سيدنا محمد كان نبيا وحيدا «صوتا يصرخ في البرية» وهجرته بأصحابه إلى المدينة حولته إلى حاكم لدولة صغيرة ولكنها نامية، كما قال عنه أنه كان نبيا وقاضيا، ولأنه رآه حاكما فقد ارتأى أيضا أنه اتبع العلاقات الدبلوماسية في التبشير بالدين الجديد داخل شبه الجزيرة العربية (ووصفها في ذلك بالمسيحية الباكرة) فجاءوا إليه يعلنون دخولهم في الدين الجديد وحدانا وزرافات.
الدولة الإسلامية الوليدة:
تعرضت هذه الدولة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لهزة عنيفة وكأن المسلمون لا يصدقون أنه توفي والله هو القائل {إنك ميت وإنهم ميتون}
كينيدي المؤرخ يرى أن اجتماع القادة في بني سقيفة كان اجتماع فرقاء، اللاجئون (المهاجرون المكييون) الذين يرون أنهم الأحق باختيار منصب الخليفة من بينهم، والأنصار (المدينيون) الذين خاضوا معظم الحروب خارج شبه الجزيرة وهؤلاء يريدون الاستقلال السياسي بمدينتهم، هكذا صور له منطقه المعوج، كما يرى أن عمر بن الخطاب باغت الجموع بترشيح أبي بكر الصديق لمنصب خليفة رسول الله قبل أن يحسم المدينيون موقفهم، ويرى أن عمر قاد انقلاب عليهم بهذا الترشيح، كينيدي الذي يستخدم مفردات زماننا ويضخم الأمر بتصويره لهذا الاجتماع على أنه صراع على منصب «الخليفة» هو نفسه الذي يثني على فعل عمر من ترشيح أبي بكر الذي لاقى القبول والمبايعة من كل المجتمعين، أين حيادية العالم؟!
فتح الشام وفلسطين:
بدأت الفتوح الإسلامية لبلاد الشام عام 632م وبحلول عام 640م كانت بلاد الشام كلها تحت الحكم الإسلامي باستثناء مدينة قيسارية الساحلية، ومن أبرز القادة الذين كانوا في فتح الشام معاوية بن أبي سفيان وأخيه يزيد ولكن الأخير مات بالطاعون الذي كان يجتاح الإمبراطورية البيزنطية آنذاك وبقى معاوية الذي أسس دولة الفتوحات الكبرى «الدولة الأموية» يحكم العالم الإسلامي الوليد من دمشق، كما أسس أول أسطول بحري إسلامي بالبحر المتوسط والذي ظل لستمائة سنة يقال عنه «بحر الروم» وكانت جيوش الدولة الأموية تسابق الريح، وفي خلال ستين عاما فقط «عمر هذه الدولة» والتي اقتطعت من يابسة هذا الكوكب ما يمكن أن نشير على الخريطة الأرضية بما يسمى العالم الإسلامي.
حوار خالد بن الوليد مع القائد الأرمني جرجة جورياه قبل معركة اليرموك:
«إن الله عز وجل بعث فينا نبيه صلى الله عليه وسلم، فدعانا فنفرنا عنه ونأينا عنه جميعا، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا باعده وكذبه، فكنت ممن كذبه وباعده وقاتله، ثم أن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا، فهدانا به وتابعناه، فقال (النبي) أنت سيف من سيوف الله سله على المشركين ودعا لي بالنصر، فسميت سيف الله من ذلك، فأنا من أشد المسلمين على المشركين»
هيو كينيدي الباحث عن ثغرة لتكون تكأة يثبت فيها أننا مخطئون في رسم هالة يراها كاذبة حول مثالية صحابة رسول الله بعامة والمبشرين بالجنة بصفة خاصة، فاستغل ما اعتمل في نفس عمر بن الخطاب تجاه خالد بن الوليد ظنا منه أنه «معلمنا» الذي علينا أن نصيخ السمع له لأنه أتى بما لم يأت به الأوائل.
الخلاف لم يكن بين عمر وخالد بقدر ما هو اختلاف طبيعة أبي بكر عن طبيعة عمر بن الخطاب، كل له رؤية ورأي يختلف عن الآخر، فكان عمر يرى أن يكتب أبي بكر رسالة يخبر فيها خالد ألا يعطي شاة ولا بعيرا إلا بأمره، بينما أبي بكر كان يرى أن يطلق يد الوالي طالما يعمل بين الناس بالعدل، وبمنطق زماننا كان عمر يؤمن بالمركزية وأبي بكر يؤمن باللامركزية.
بداية نحن المسلمون لا يوجد لدينا أشخاصا مقدسين منزهين عن الخطأ سوى الأنبياء المعصومين بأمر إلهي، وما دون ذلك كل يؤخذ منه ويرد عليه، ولا يوجد لدينا شخص ما نطلق عليه القداسة، وصحابة رسول الله بشر ككل البشر يصيبون ويخطئون وهذا لا ينفي عنهم أنهم كانوا مهديين يسعون بكل ما أوتوا من قوة لنصرة هذا الدين وهذا هو الفيصل والمحك، فالخطأ في حد ذاته ليس هو النقيصة التي تنقض سيرتهم العطرة، ولكنهم كانوا ينيبون ويعودون ليعدلوا عن الخطأ ويصححوا المسار.
يقول الطبري:
«كان عمر كلما مر بخالد قال يا خالد أخرج مال الله من تحت إستك، فيقول والله ما عندي مال، فلما أكثر عليه عمر قال له خالد: يا أمير المؤمنين ما قيمة ما أصبت في سلطانكم؟ أربعين ألف درهم؟
فقال عمر: قد أخذت ذلك منك بأربعين ألف درهم، قال هو لك، قال قد أخذته، ولم يكن لخالد مال إلا عدة ورقيق، فحسب ذلك، فبلغت قيمته ثمانين ألف درهم فناصفه عمر ذلك، فأعطاه أربعين ألف درهم، وأخذ المال،
فقيل له يا أمير المؤمنين: لو رددت على خالد ماله، فقال إنما أنا تاجر مال للمسلمين،والله لا أرده عليه أبدا، فكان عمر يرى أنه اشتف من خالد حين صنع به ذلك»
كان عمر قد أرسل لخالد أثناء فتح الشام ضرورة أن يتنحى لعبيد الله بن الجراح ويصبح خالد تحت قيادته، ونفذ خالد الأمر حفاظا على لحمة الصف وهم في مواجهة جيش الدولة البيزنطية، واستشعر خالد أنه لابد من رجوعه إلى المدينة لمناقشة الأمر.
ولا يملك كينيدي إزاء هذا السلوك من خالد إلا أن يقول:
«لو أن قائدا بيزنطيا كان في الموقف نفسه لتصاعد الأمر إلى درجة التمرد والعصيان ولجأ إلى قواته لمساندته ففي محاولة الوثوب إلى العرش، وعلى النقيض من هذا، قبل القائد العظيم للجيش المسلم عزله وإهانته في حلم وصبر»
ولم يلبث أن عاد خالد إلى الشام ليواصل طوفان الفتوح ويبدع ويبهر الأعداء قبل الأصدقاء.
ما يعنيني هنا ليس الخلاف بين عمر وخالد فهذا لا يجب التوقف عنده، فالخلاف بين البشر سمة سائدة ولن تنتهي، ولكن ما يلفت انتباهنا هنا هو تغليب الصالح العام ومصلحة الدين بصفة خاصة على المصالح الشخصية الضيقة، فعمر تدارك الأمر واعترف ببعد رؤية أبي بكر في اختيار خالد وأعاد سيف الله المسنون مرة أخرى إلى مكانه ومكانته الجدير بها، وخالد لم يترفع عن العودة ولم ير أن عمر تعامل معه كبندول يذهب ويجيء طبقا لمراده، ليتنا نعقل الموقف.
خطاب خالد بن الوليد لجيشه:
«إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، فإن هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبية، على تساند وانتشار، فإن هذا لا يحل ولا ينبغي»
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ 7 محمد
النصر من عند الله فقط، أما نحن مطالبون بأخذ موقف نصرة الله دائما مع الأخذ بالأسباب، لم يكن نصر المسلمين يوما ما بعيد عن هذا «المكون» صدق العقيدة واليقين بالله فقط هما مكمن النصر وليست الأسباب التي لم تكن يوما ما تكافئ أسباب عدوهم ومقدراته.
نقلا عن كينيدي، فلم أجد أثرا لهذا المصدر:
حتى الفرنسي كاتب «مؤرخة فردجار» بعد عشرين سنة من موقعة اليرموك، لم يكن بوسعه إلا الاعتراف “بحكمة الرب” حيث وصف هزيمة الدولة البيزنطية في معركة اليرموك “بالمرعبة” فكتب يقول:
“الجيش الإسلامي كان عدده مائتي ألف مقاتل، وحسب روايته أنه في الليلة السابقة على المعركة ابتلي جيش هرقل بجيش الرب، فقد مات اثنان وخمسون ألفا من رجاله أثناء نومهم، ولا غرابة في أن الناجين قد خارت قواهم بشكل خطير وعندما خرج رجاله في اليوم التالي وبدأت المعركة فإن قسما كبيرا جدا من قواته سقطت بحكم الرب، لم يجرؤ بعدها على التقدم صوب المسلمين ولكنهم تراجعوا حيثما رأوهم قادمين”
الراهب السيناوي سان انستاسيوس كتب يقول:
أنها أول هزيمة للجيش الروماني ولا سبيل إلى إصلاح آثارها
وفي أعقاب النصر استمر المسلمون في إخضاع مدن بلاد الشام، فقد قامت قوة من الجيش المسلم بقيادة أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد، بالتوجه شمالا من دمشق إلى حمص التي كانت مدينة مهمة في العصور الرومانية المتأخرة،
وحاصروا المدينة طوال الشتاء (636م – 637م) على الرغم من البرد القارص وخروج الحامية البيزنطية لشن الهجمات، فقد كان المدافعون على قناعة بأن البرد القارص سوف يجبر العرب الذين لا يلبسون سوى النعال على رفع الحصار،
وعلى الرغم من مجيء الربيع وكانوا مازالوا في مكانهم ارتفعت الأصوات في المدينة تحث على الصلح والتفاوض،
ووفقا لرواية أخرى، جاءت المساعدة للمسلمين عندما تعرضت أسوار المدينة لضرر بالغ من جراء أحد الزلازل، وهي علامة أكيدة على أن الله كان بجانبهم.
وللحديث بقية إن شاء الله
الدعوة الإسلامية:
«لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ»
هذا مجتزأ من حديث طويل روته أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
هذا هو الحق والحقيقة، في العالم كله، المسلمون معادون على كل المستويات، مطاردون، مهمشون، مراقبون، مضطهدون، وكل من يرفع عقيرته بهذا الدين صار هدفا لأساطين الكفر والمنافقين في كل مكان أو على الأقل يصبح مادة للتندر والسخرية والاستهزاء أو يصبح من المنبوذين، كان هذا هو الحادث ومازال للأنبياء ومن بعدهم الأمثل فالأمثل من عموم المؤمنين، فإذا استشعرت ذلك وفطنته فأعلم أنك على الحق المبين، والشيء بالشيء يذكر، كينيدي على هدى السابقين يمضي ويكلل سيرتنا بكل ما هو سيء.
رأى كينيدي أن سيدنا محمد بدأ دعوته للتوحيد وعبادة الله الواحد عام 600م وهو الذي ولد عام 570م وبذلك فقد بدأ الدعوة في سن الثلاثين حسبما يعتقد، وهذا يجافي الحقيقة تماما، لأن الوحي جبريل لم ينزل عليه بالقرآن قبل سن الأربعين ولكنه كان قبل ذلك يجافي عبادة الأصنام وتبجيلهم كما قومه، فكان يخلو بنفسه في غار حراء يتعبد الإله الذي لا يعرفه.
رأى كينيدي أن الدين الجديد بمقتضياته الإلهية كان يمثل تهديدا مباشرا للنخبة المكية، وهذا ما حدث بالفعل، لأنهم كانوا يسودون شبه الجزيرة بنفوذهم وأعرافهم التي صاغوها جيلا بعد جيل، وارتأى كينيدي أن سيدنا محمد كان نبيا وحيدا «صوتا يصرخ في البرية» وهجرته بأصحابه إلى المدينة حولته إلى حاكم لدولة صغيرة ولكنها نامية، كما قال عنه أنه كان نبيا وقاضيا، ولأنه رآه حاكما فقد ارتأى أيضا أنه اتبع العلاقات الدبلوماسية في التبشير بالدين الجديد داخل شبه الجزيرة العربية (ووصفها في ذلك بالمسيحية الباكرة) فجاءوا إليه يعلنون دخولهم في الدين الجديد وحدانا وزرافات.
الدولة الإسلامية الوليدة:
تعرضت هذه الدولة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لهزة عنيفة وكأن المسلمون لا يصدقون أنه توفي والله هو القائل {إنك ميت وإنهم ميتون}
كينيدي المؤرخ يرى أن اجتماع القادة في بني سقيفة كان اجتماع فرقاء، اللاجئون (المهاجرون المكييون) الذين يرون أنهم الأحق باختيار منصب الخليفة من بينهم، والأنصار (المدينيون) الذين خاضوا معظم الحروب خارج شبه الجزيرة وهؤلاء يريدون الاستقلال السياسي بمدينتهم، هكذا صور له منطقه المعوج، كما يرى أن عمر بن الخطاب باغت الجموع بترشيح أبي بكر الصديق لمنصب خليفة رسول الله قبل أن يحسم المدينيون موقفهم، ويرى أن عمر قاد انقلاب عليهم بهذا الترشيح، كينيدي الذي يستخدم مفردات زماننا ويضخم الأمر بتصويره لهذا الاجتماع على أنه صراع على منصب «الخليفة» هو نفسه الذي يثني على فعل عمر من ترشيح أبي بكر الذي لاقى القبول والمبايعة من كل المجتمعين، أين حيادية العالم؟!
فتح الشام وفلسطين:
بدأت الفتوح الإسلامية لبلاد الشام عام 632م وبحلول عام 640م كانت بلاد الشام كلها تحت الحكم الإسلامي باستثناء مدينة قيسارية الساحلية، ومن أبرز القادة الذين كانوا في فتح الشام معاوية بن أبي سفيان وأخيه يزيد ولكن الأخير مات بالطاعون الذي كان يجتاح الإمبراطورية البيزنطية آنذاك وبقى معاوية الذي أسس دولة الفتوحات الكبرى «الدولة الأموية» يحكم العالم الإسلامي الوليد من دمشق، كما أسس أول أسطول بحري إسلامي بالبحر المتوسط والذي ظل لستمائة سنة يقال عنه «بحر الروم» وكانت جيوش الدولة الأموية تسابق الريح، وفي خلال ستين عاما فقط «عمر هذه الدولة» والتي اقتطعت من يابسة هذا الكوكب ما يمكن أن نشير على الخريطة الأرضية بما يسمى العالم الإسلامي.
حوار خالد بن الوليد مع القائد الأرمني جرجة جورياه قبل معركة اليرموك:
«إن الله عز وجل بعث فينا نبيه صلى الله عليه وسلم، فدعانا فنفرنا عنه ونأينا عنه جميعا، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا باعده وكذبه، فكنت ممن كذبه وباعده وقاتله، ثم أن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا، فهدانا به وتابعناه، فقال (النبي) أنت سيف من سيوف الله سله على المشركين ودعا لي بالنصر، فسميت سيف الله من ذلك، فأنا من أشد المسلمين على المشركين»
هيو كينيدي الباحث عن ثغرة لتكون تكأة يثبت فيها أننا مخطئون في رسم هالة يراها كاذبة حول مثالية صحابة رسول الله بعامة والمبشرين بالجنة بصفة خاصة، فاستغل ما اعتمل في نفس عمر بن الخطاب تجاه خالد بن الوليد ظنا منه أنه «معلمنا» الذي علينا أن نصيخ السمع له لأنه أتى بما لم يأت به الأوائل.
الخلاف لم يكن بين عمر وخالد بقدر ما هو اختلاف طبيعة أبي بكر عن طبيعة عمر بن الخطاب، كل له رؤية ورأي يختلف عن الآخر، فكان عمر يرى أن يكتب أبي بكر رسالة يخبر فيها خالد ألا يعطي شاة ولا بعيرا إلا بأمره، بينما أبي بكر كان يرى أن يطلق يد الوالي طالما يعمل بين الناس بالعدل، وبمنطق زماننا كان عمر يؤمن بالمركزية وأبي بكر يؤمن باللامركزية.
بداية نحن المسلمون لا يوجد لدينا أشخاصا مقدسين منزهين عن الخطأ سوى الأنبياء المعصومين بأمر إلهي، وما دون ذلك كل يؤخذ منه ويرد عليه، ولا يوجد لدينا شخص ما نطلق عليه القداسة، وصحابة رسول الله بشر ككل البشر يصيبون ويخطئون وهذا لا ينفي عنهم أنهم كانوا مهديين يسعون بكل ما أوتوا من قوة لنصرة هذا الدين وهذا هو الفيصل والمحك، فالخطأ في حد ذاته ليس هو النقيصة التي تنقض سيرتهم العطرة، ولكنهم كانوا ينيبون ويعودون ليعدلوا عن الخطأ ويصححوا المسار.
يقول الطبري:
«كان عمر كلما مر بخالد قال يا خالد أخرج مال الله من تحت إستك، فيقول والله ما عندي مال، فلما أكثر عليه عمر قال له خالد: يا أمير المؤمنين ما قيمة ما أصبت في سلطانكم؟ أربعين ألف درهم؟
فقال عمر: قد أخذت ذلك منك بأربعين ألف درهم، قال هو لك، قال قد أخذته، ولم يكن لخالد مال إلا عدة ورقيق، فحسب ذلك، فبلغت قيمته ثمانين ألف درهم فناصفه عمر ذلك، فأعطاه أربعين ألف درهم، وأخذ المال،
فقيل له يا أمير المؤمنين: لو رددت على خالد ماله، فقال إنما أنا تاجر مال للمسلمين،والله لا أرده عليه أبدا، فكان عمر يرى أنه اشتف من خالد حين صنع به ذلك»
كان عمر قد أرسل لخالد أثناء فتح الشام ضرورة أن يتنحى لعبيد الله بن الجراح ويصبح خالد تحت قيادته، ونفذ خالد الأمر حفاظا على لحمة الصف وهم في مواجهة جيش الدولة البيزنطية، واستشعر خالد أنه لابد من رجوعه إلى المدينة لمناقشة الأمر.
ولا يملك كينيدي إزاء هذا السلوك من خالد إلا أن يقول:
«لو أن قائدا بيزنطيا كان في الموقف نفسه لتصاعد الأمر إلى درجة التمرد والعصيان ولجأ إلى قواته لمساندته ففي محاولة الوثوب إلى العرش، وعلى النقيض من هذا، قبل القائد العظيم للجيش المسلم عزله وإهانته في حلم وصبر»
ولم يلبث أن عاد خالد إلى الشام ليواصل طوفان الفتوح ويبدع ويبهر الأعداء قبل الأصدقاء.
ما يعنيني هنا ليس الخلاف بين عمر وخالد فهذا لا يجب التوقف عنده، فالخلاف بين البشر سمة سائدة ولن تنتهي، ولكن ما يلفت انتباهنا هنا هو تغليب الصالح العام ومصلحة الدين بصفة خاصة على المصالح الشخصية الضيقة، فعمر تدارك الأمر واعترف ببعد رؤية أبي بكر في اختيار خالد وأعاد سيف الله المسنون مرة أخرى إلى مكانه ومكانته الجدير بها، وخالد لم يترفع عن العودة ولم ير أن عمر تعامل معه كبندول يذهب ويجيء طبقا لمراده، ليتنا نعقل الموقف.
خطاب خالد بن الوليد لجيشه:
«إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، فإن هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبية، على تساند وانتشار، فإن هذا لا يحل ولا ينبغي»
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ 7 محمد
النصر من عند الله فقط، أما نحن مطالبون بأخذ موقف نصرة الله دائما مع الأخذ بالأسباب، لم يكن نصر المسلمين يوما ما بعيد عن هذا «المكون» صدق العقيدة واليقين بالله فقط هما مكمن النصر وليست الأسباب التي لم تكن يوما ما تكافئ أسباب عدوهم ومقدراته.
نقلا عن كينيدي، فلم أجد أثرا لهذا المصدر:
حتى الفرنسي كاتب «مؤرخة فردجار» بعد عشرين سنة من موقعة اليرموك، لم يكن بوسعه إلا الاعتراف “بحكمة الرب” حيث وصف هزيمة الدولة البيزنطية في معركة اليرموك “بالمرعبة” فكتب يقول:
“الجيش الإسلامي كان عدده مائتي ألف مقاتل، وحسب روايته أنه في الليلة السابقة على المعركة ابتلي جيش هرقل بجيش الرب، فقد مات اثنان وخمسون ألفا من رجاله أثناء نومهم، ولا غرابة في أن الناجين قد خارت قواهم بشكل خطير وعندما خرج رجاله في اليوم التالي وبدأت المعركة فإن قسما كبيرا جدا من قواته سقطت بحكم الرب، لم يجرؤ بعدها على التقدم صوب المسلمين ولكنهم تراجعوا حيثما رأوهم قادمين”
الراهب السيناوي سان انستاسيوس كتب يقول:
أنها أول هزيمة للجيش الروماني ولا سبيل إلى إصلاح آثارها
وفي أعقاب النصر استمر المسلمون في إخضاع مدن بلاد الشام، فقد قامت قوة من الجيش المسلم بقيادة أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد، بالتوجه شمالا من دمشق إلى حمص التي كانت مدينة مهمة في العصور الرومانية المتأخرة،
وحاصروا المدينة طوال الشتاء (636م – 637م) على الرغم من البرد القارص وخروج الحامية البيزنطية لشن الهجمات، فقد كان المدافعون على قناعة بأن البرد القارص سوف يجبر العرب الذين لا يلبسون سوى النعال على رفع الحصار،
وعلى الرغم من مجيء الربيع وكانوا مازالوا في مكانهم ارتفعت الأصوات في المدينة تحث على الصلح والتفاوض،
ووفقا لرواية أخرى، جاءت المساعدة للمسلمين عندما تعرضت أسوار المدينة لضرر بالغ من جراء أحد الزلازل، وهي علامة أكيدة على أن الله كان بجانبهم.
وللحديث بقية إن شاء الله