وأنا أشرف على رسالة ماجستير عن رواية القدس في القرن الحادي والعشرين لفت عدد الروايات التي كتبها الكاتب جميل السلحوت نظري، وما لفت نظري أكثر هو كثرة أبناء المدينة الذين كتبوا عنها في بداية هذا القرن، من ديمة السمان إلى عزام أبو السعود صاحب ثلاثية «صبري» و»سوق العطارين» و»حمام العين»، وليس انتهاء بمحمود شقير وجميل السلحوت. وللأخير، كما ورد في كتبه في آخر صفحات روايته «أميرة» (دار الجندي، 2015) روايات عديدة صدرت في السنوات الأخيرة، وهي «ظلام النهار» (2010) و»جنة الجحيم» (2011) و»هوان النعيم» (2012) و»برد الصيف» (2013) و»العسف» (2014). وهذا يعني أحد أمرين: إما أن الكاتب كان، من قبل، كتب هذه الروايات، ولكنه لم يجد ناشراً لها، أو أنه تحول إلى فن الرواية بعد أربعين عاماً من الكتابة في التراث والمقالة و.. و.. وأدب الأطفال، فأخذ يكتب كل عام رواية، ربما لأنه أدرك متأخراً أن زمننا حقاً هو زمن الرواية.
وليس الكاتب جميل السلحوت أول كاتب يقدم على كتابة الرواية، بعد أن جرّب أشكالاً أخرى، وتعود الجذور إلى 40 ق20، حين جرب ذلك بعض الشعراء، مثل محمد العدناني وبرهان الدين العبوشي، ومن قبلهما كان خليل بيدس كتب الرواية أولاً والقصة القصيرة ثانياً، وهو ما سيقوم به جبرا الذي انحاز كلياً للرواية، بعد مجموعته القصصية الوحيدة «عرق وقصص أخرى» (1956)، بل إنه نصح الكتاب بالتحول عن فن القصة القصيرة إلى الرواية علناً، غير مكتف بتجربته الشخصية.
ستظهر الظاهرة هذه على استحياء في 50 و60 و70 ق20، وسنلحظ أن الشاعر يوسف الخطيب يكتب روايته «عناصر هدامة»، وان الشاعر هارون هاشم رشيد سيكتب، لاحقاً، روايته «سنوات العذاب»، حتى إذا ما انتهت 80 ق20 وبدأت 90 ق20 لاحظنا الظاهرة تتكاثر، وعلينا ألاّ ننسى ما قام به سميح القاسم في 70 ق20 حيث أصدر قصة طويلة هي «الصورة الأخيرة في الألبوم» (1979) ومن قبل حكاية أوتوبيوغرافية هي «إلى الجحيم أيها الليلك» (1977).
وإن قصرت الأمر على مناطق السلطة الوطنية فسنلحظ ظاهرة تحول الشعراء إلى كتابة الرواية ظاهرة لافتة، ما جعلني أقترحها موضوعاً لرسالة ماجستير أنجزها أحد طلابي في جامعة النجاح الوطنية، وهو عمر القزق، وقد درس في رسالته الظاهرة وروايات الشعراء الروائيين: سميح القاسم وعلي الخليلي وزكريا محمد وغسان زقطان وخضر محجز وخالد درويش، وأعتقد أنها رسالة يجدر أن تصدر في كتاب، وبعد إنجازها كتب المتوكل طه روايته الأولى.
عرفت الكاتب جميل السلحوت مهتماً بالتراث وكاتب مقالة ساخرة في جريدة الطليعة، وهذا ما يقوله أيضاً ثبت قائمة كتبه في نهاية رواية «أميرة»، فأول كتبه تمحورت حول الأدب الشعبي، وصدرت في الأعوام العشرين الأولى من مباشرته الكتابة (78، 82، 1988)، وفي هذه الفترة أصدر مجموعة قصصية للأطفال (1989)، ثم جمع ما كتبه في الطليعة في كتابين هما «حمار الشيخ» (2000) و»أنا وحماري» (2003) ومنذ (2007) شرع يكتب وينشر روايات للأطفال، ومجموعات قصصية لهم أيضاً، حتى إذا ما جاء العام 2010 أصدر روايته الأولى. فهل أخذ الكاتب بمقولة ناقد روائي تقول إن الكاتب الروائي يكتب روايته الأولى بعد الأربعين، والطريف أن الكاتب لم ينشر أية رواية للكبار قبل بلوغه الستين.
من مهتم بالتراث، إلى كاتب قصص للأطفال وكاتب مقالة أسبوعية إلى... إلى فن الرواية، ويا لغزارة الإنتاج: ست روايات في ستة أعوام، وللأسف فإنني لم أقرأ له قبل أن أقرأ روايته الأخيرة «أميرة» (2015) أية رواية، لأضعها في سياق مسيرته الروائية، كما افعل غالباً مع الأدباء الذين أدرسهم، متكئاً على منهج (برونتير) التاريخي، ولو جزئياً.
يعود الزمن الروائي لرواية «أميرة» إلى السنوات الثلاث التي سبقت النكبة ـ أي إلى العام 1945، وينتهي بعد حدوثها بثلاث سنوات تقريباً، ويقف عند نهايات العام 1950 وبدايات العام 1951، إن أحسنت التقدير. وتروي الرواية، أو الأصح راويها، قصة أميرة الطفلة التي ولدت في قرية بيت دجن قرب يافا لأسرة ثرية، فجدها يملك بيارة في بيت دجن ومصنعاً للبلاط في يافا، ووالدها متعلم، ويقيم مع أبيه في قصره، وهو لا يرضخ دائماً للعادات والتقاليد، ولهذا لم يسم ابنته باسم أمه، ولم يسم ابنه أيضاً باسم أبيه. بل إنه لا يخضع لأبيه خضوعاً تاماً، وإذا ما ارتاب في سلوك أبيه بحث عن الحقيقة، فمثلاً دفعه عدم انسجام العلاقة الزوجية بين أبيه وأمه إلى البحث عن السبب، وعرف أن لأبيه علاقة مع زوجة شهيد، وأن سر النفور بين والديه يعود إلى أن أمه ألقت القبض على أبيه وهو يضاجع غيرها. ومع كل ما سبق فإن أباه لم يكن شراً كله، فقد كان يساعد الفقراء، ويعطف على عامليه في البيارة، بل إنه سجن من الانتداب، لأنه رفض أن يبيع أرضه لليهود، وكانت الحجة أنه يحرض على عدم التعايش بين العرب واليهود بسلوكه هذا، أي عدم بيع أرضه لليهود. وسيقتل الأب في العام 1948، حين يحاول اللجوء، من ميناء حيفا، إلى خارج المدينة، هرباً من قوات العصابات اليهودية التي عملت على إخلاء المدينة من سكانها العرب.
وسيكون موضوع شتات العائلة الفلسطينية لافتاً في الرواية، وهو موضوع تطرقت له الأدبيات الفلسطينية منذ قصص سميرة عزام «عام آخر» وإميل حبيبي «بوابة مندلباوم» ورواية غسان كنفاني «ما تبقى لكم» (1966)، وليس انتهاء بمسلسل وليد سيف «الدرب الطويل» أولاً والتغريبة الفلسطينية لاحقاً. في قصة سميرة تأتي الأم التي وجدت نفسها في بيروت إلى القدس لتلتقي بابنتها على بوابة مندلباوم، وفي رواية كنفاني تهاجر الأم إلى الأردن، فيما يهرب حامد وأخته مريم إلى غزة، وستجتمع العائلة الفلسطينية في قصة اميل حبيبي «حين سعد مسعود بابن عمه» بعد هزيمة حزيران.
في أثناء اقتراب النكبة، وفي أثناء حصار العصابات الصهيونية للقرى والمدن الفلسطينية، سيغادر جد أميرة مع زوجته وحفيدته بيت دجن للإقامة في حيفا في بيت صديقه المحامي حنا اندراوس وزوجته جورجيت، ولكن حيفا لم تكن بمأمن أيضاً، وما تعرضت له بيت دجن تعرضت له حيفا، وهكذا وجدت أميرة نفسها في بيروت ترعاها العائلة الفلسطينية المهاجرة أيضاً، وجد عباس والد أميرة نفسه وزوجته وابنه في قلندية والقدس ـ هنا نتذكر أيضاً رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا» (1969).
الافكار هي الافكار تقريباً: شتات العائلة واليهودي الصهيوني المستوطن والصراع على الأرض وضياع الوطن وبؤس المنفى، وأحياناً أكثر من هذا وهو التركيز على بعض الشخصيات الوطنية التي اسهمت في النضال الفلسطيني. هنا ذكر لعبد القادر الحسيني، وتركيز على دور بهجت أبو غربية - هنا نتذكر رواية سحر خليفة «حبي الأول» التي ركزت بالدرجة الأولى، وبطريقة لافتة، على شخصية المرحوم الشهيد عبد القادر الحسيني.
وربما يتساءل المرء: هل كانت الأعمال الروائية والقصصية المذكورة، وفكرة الموضوعات التي كتب فيها السابقون، حاضرة في ذهن الكاتب وهو يكتب روايته؟ واذا كانت حاضرة فما الذي دفعه لأن يكتب روايته؟ وهل رأى أن النكبة لم تستوف حقها في الأدبيات الفلسطينية؟ وهل رأى أن ما يكتبه يشكل اضافة نوعية في الشكل؟ أم أنه اراد تثبيت افكار وآراء واحداث من خلال تكرارها؟ والشيخ جميل قارئ جيد للأدب العبري، وربما لاحظ ان الفلسطينيين لم يفعلوا ما فعله الاسرائيليون، بخاصة آدباءهم الذين ركزوا، وما زالوا، على الهولوكست، فكتبوا وكتبوا وكتبوا وما زالوا يكتبون؟
في أثناء قراءة الرواية، في ضوء ما يعرفه قارئها عن كاتبها يلحظ القارئ هذا أن الكاتب أفاد من تاريخه الكتابي ومن موقفه من الأدب في جانبين: الأول التراث، فقد وظفه في روايته كما لا يوظفه من لا صلة له به، والثاني كتابة نصوص أدبية فيها أبعاد معرفية وأيديولوجية، فالكاتب يريد ان يعلم وأن يعمم معلومات تاريخية ايضا، هذا اذا غضضنا الطرف عن تمييزه بين يهود البلاد واليهود الصهيونيين المستوطنين. و…. و… يهود البلاد واليهود الغربيين الصهيونيين المستوطنين.
من الافكار اللافتة في الرواية، لمن يهتم بالبحث عن صورة اليهود في الأدب العربي بعامة، والأدب الفلسطيني بخاصة، الكتابة عن اليهود، وقد كان لهؤلاء حضورهم، ولم يكونوا قراء كلهم ولم يكونوا خيرا كلهم، فهناك اليهودي الذي يقيم علاقة مع الفلسطينيين، ويفرح لافراحهم ويحزن لاحزانهم، وهناك اليهودي المستوطن القادم من بلاد بعيدة ليشتري الأرض وليقيم عليها المستوطنات اولاً، وليطرد الفلسطينيين منها ثانياً.
في «أميرة» كتابة عن يهوديين فلسطينيين شاركا والد عباس في افراحه، لكننا لم نعرف عنهما الكثير بعد ذلك، فلم يعن الكاتب بهما ولم يخبرنا، فيما اذكر، عن موقفهما اللاحق من الاحداث الجارية: هل وقفا ضد الصهيونية وقاتلا الى جانب أهل البلاد ضد الغرباء، أم انهما غدوا صهيونيين وتخليا عن فلسطينيتهما وانحازا الى المشروع الصهيوني؟
فكرة الكتابة عن اليهود العرب واليهود الفلسطينيين فكرة لها حضورها في الأدب الفلسطيني، صحيح أن اول رواية فلسطينية «الوارث» (١٩٢٠) لخليل يبدس لم تناقشها، ولا حتى رواية العدناني «في السرير» (١٩٤٧) او مسرحية العبوشي «وطن الشهيد» (١٩٤٦)، ولكننا سنجد في ٦٠ ق ٢٠ من يكتب عن يهود عرب، مثل كنفاني في بعض قصصه، وكان هؤلاء عربا في كل شيء، ثم تصهينوا، ومثل ناصر الدين النشاشيبي في روايته «حفنة رمال» فبطلة القصة عربية الأب ويهودية الأم، تقف الى جانب ثابت، وتصر على أن الدماء العربية تجري في عروقها، وفي ٧٠ ق ٢٠ ستتخذ الكتابة منحى آخر، بخاصة مع تطور الوعي الوطني والنزوع نحو المشروع الذي تبنته م.ت.ف التي نشدت القرار الفلسطيني المستقل ودافعت عنه.
في ٧٠ ق ٢٠ سنقرأ لروائيين فلسطينيين روايات تأتي على يهود البلاد قبل الاستيطان اليهودي لفلسطين ١٨٧٨ - ١٩٨٢، وهؤلاء، كما في رواية أفنان القاسم «الباشا» كانوا يقيمون في القرى العربية ولم يكونوا يشعرون بالاختلاف عن بقية سكانها، وستبدو الصورة اوضح في رواية محمود شاهين «الهجرة الى الجحيم» ورواية أخرى له، هنا اليهودي يكون فلسطينيا حقا، وحين يتزوج من امرأة فلسطينية ينصحها، بل يطلب منها قبل موته، ان تربي اولادهما تربية فلسطينية حقيقية، أهو تأثير الزمن الكتابي وما شاع فيه من افكار واطروحات وبرامج سياسية على الكاتب والزمن الروائي المغاير؟
أعتقد ذلك، ورواية «أميرة» في هذا الجانب، لا تشذ عن الروايات المذكورة.
2014-12-30
عادل الأسطة
وليس الكاتب جميل السلحوت أول كاتب يقدم على كتابة الرواية، بعد أن جرّب أشكالاً أخرى، وتعود الجذور إلى 40 ق20، حين جرب ذلك بعض الشعراء، مثل محمد العدناني وبرهان الدين العبوشي، ومن قبلهما كان خليل بيدس كتب الرواية أولاً والقصة القصيرة ثانياً، وهو ما سيقوم به جبرا الذي انحاز كلياً للرواية، بعد مجموعته القصصية الوحيدة «عرق وقصص أخرى» (1956)، بل إنه نصح الكتاب بالتحول عن فن القصة القصيرة إلى الرواية علناً، غير مكتف بتجربته الشخصية.
ستظهر الظاهرة هذه على استحياء في 50 و60 و70 ق20، وسنلحظ أن الشاعر يوسف الخطيب يكتب روايته «عناصر هدامة»، وان الشاعر هارون هاشم رشيد سيكتب، لاحقاً، روايته «سنوات العذاب»، حتى إذا ما انتهت 80 ق20 وبدأت 90 ق20 لاحظنا الظاهرة تتكاثر، وعلينا ألاّ ننسى ما قام به سميح القاسم في 70 ق20 حيث أصدر قصة طويلة هي «الصورة الأخيرة في الألبوم» (1979) ومن قبل حكاية أوتوبيوغرافية هي «إلى الجحيم أيها الليلك» (1977).
وإن قصرت الأمر على مناطق السلطة الوطنية فسنلحظ ظاهرة تحول الشعراء إلى كتابة الرواية ظاهرة لافتة، ما جعلني أقترحها موضوعاً لرسالة ماجستير أنجزها أحد طلابي في جامعة النجاح الوطنية، وهو عمر القزق، وقد درس في رسالته الظاهرة وروايات الشعراء الروائيين: سميح القاسم وعلي الخليلي وزكريا محمد وغسان زقطان وخضر محجز وخالد درويش، وأعتقد أنها رسالة يجدر أن تصدر في كتاب، وبعد إنجازها كتب المتوكل طه روايته الأولى.
عرفت الكاتب جميل السلحوت مهتماً بالتراث وكاتب مقالة ساخرة في جريدة الطليعة، وهذا ما يقوله أيضاً ثبت قائمة كتبه في نهاية رواية «أميرة»، فأول كتبه تمحورت حول الأدب الشعبي، وصدرت في الأعوام العشرين الأولى من مباشرته الكتابة (78، 82، 1988)، وفي هذه الفترة أصدر مجموعة قصصية للأطفال (1989)، ثم جمع ما كتبه في الطليعة في كتابين هما «حمار الشيخ» (2000) و»أنا وحماري» (2003) ومنذ (2007) شرع يكتب وينشر روايات للأطفال، ومجموعات قصصية لهم أيضاً، حتى إذا ما جاء العام 2010 أصدر روايته الأولى. فهل أخذ الكاتب بمقولة ناقد روائي تقول إن الكاتب الروائي يكتب روايته الأولى بعد الأربعين، والطريف أن الكاتب لم ينشر أية رواية للكبار قبل بلوغه الستين.
من مهتم بالتراث، إلى كاتب قصص للأطفال وكاتب مقالة أسبوعية إلى... إلى فن الرواية، ويا لغزارة الإنتاج: ست روايات في ستة أعوام، وللأسف فإنني لم أقرأ له قبل أن أقرأ روايته الأخيرة «أميرة» (2015) أية رواية، لأضعها في سياق مسيرته الروائية، كما افعل غالباً مع الأدباء الذين أدرسهم، متكئاً على منهج (برونتير) التاريخي، ولو جزئياً.
يعود الزمن الروائي لرواية «أميرة» إلى السنوات الثلاث التي سبقت النكبة ـ أي إلى العام 1945، وينتهي بعد حدوثها بثلاث سنوات تقريباً، ويقف عند نهايات العام 1950 وبدايات العام 1951، إن أحسنت التقدير. وتروي الرواية، أو الأصح راويها، قصة أميرة الطفلة التي ولدت في قرية بيت دجن قرب يافا لأسرة ثرية، فجدها يملك بيارة في بيت دجن ومصنعاً للبلاط في يافا، ووالدها متعلم، ويقيم مع أبيه في قصره، وهو لا يرضخ دائماً للعادات والتقاليد، ولهذا لم يسم ابنته باسم أمه، ولم يسم ابنه أيضاً باسم أبيه. بل إنه لا يخضع لأبيه خضوعاً تاماً، وإذا ما ارتاب في سلوك أبيه بحث عن الحقيقة، فمثلاً دفعه عدم انسجام العلاقة الزوجية بين أبيه وأمه إلى البحث عن السبب، وعرف أن لأبيه علاقة مع زوجة شهيد، وأن سر النفور بين والديه يعود إلى أن أمه ألقت القبض على أبيه وهو يضاجع غيرها. ومع كل ما سبق فإن أباه لم يكن شراً كله، فقد كان يساعد الفقراء، ويعطف على عامليه في البيارة، بل إنه سجن من الانتداب، لأنه رفض أن يبيع أرضه لليهود، وكانت الحجة أنه يحرض على عدم التعايش بين العرب واليهود بسلوكه هذا، أي عدم بيع أرضه لليهود. وسيقتل الأب في العام 1948، حين يحاول اللجوء، من ميناء حيفا، إلى خارج المدينة، هرباً من قوات العصابات اليهودية التي عملت على إخلاء المدينة من سكانها العرب.
وسيكون موضوع شتات العائلة الفلسطينية لافتاً في الرواية، وهو موضوع تطرقت له الأدبيات الفلسطينية منذ قصص سميرة عزام «عام آخر» وإميل حبيبي «بوابة مندلباوم» ورواية غسان كنفاني «ما تبقى لكم» (1966)، وليس انتهاء بمسلسل وليد سيف «الدرب الطويل» أولاً والتغريبة الفلسطينية لاحقاً. في قصة سميرة تأتي الأم التي وجدت نفسها في بيروت إلى القدس لتلتقي بابنتها على بوابة مندلباوم، وفي رواية كنفاني تهاجر الأم إلى الأردن، فيما يهرب حامد وأخته مريم إلى غزة، وستجتمع العائلة الفلسطينية في قصة اميل حبيبي «حين سعد مسعود بابن عمه» بعد هزيمة حزيران.
في أثناء اقتراب النكبة، وفي أثناء حصار العصابات الصهيونية للقرى والمدن الفلسطينية، سيغادر جد أميرة مع زوجته وحفيدته بيت دجن للإقامة في حيفا في بيت صديقه المحامي حنا اندراوس وزوجته جورجيت، ولكن حيفا لم تكن بمأمن أيضاً، وما تعرضت له بيت دجن تعرضت له حيفا، وهكذا وجدت أميرة نفسها في بيروت ترعاها العائلة الفلسطينية المهاجرة أيضاً، وجد عباس والد أميرة نفسه وزوجته وابنه في قلندية والقدس ـ هنا نتذكر أيضاً رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا» (1969).
الافكار هي الافكار تقريباً: شتات العائلة واليهودي الصهيوني المستوطن والصراع على الأرض وضياع الوطن وبؤس المنفى، وأحياناً أكثر من هذا وهو التركيز على بعض الشخصيات الوطنية التي اسهمت في النضال الفلسطيني. هنا ذكر لعبد القادر الحسيني، وتركيز على دور بهجت أبو غربية - هنا نتذكر رواية سحر خليفة «حبي الأول» التي ركزت بالدرجة الأولى، وبطريقة لافتة، على شخصية المرحوم الشهيد عبد القادر الحسيني.
وربما يتساءل المرء: هل كانت الأعمال الروائية والقصصية المذكورة، وفكرة الموضوعات التي كتب فيها السابقون، حاضرة في ذهن الكاتب وهو يكتب روايته؟ واذا كانت حاضرة فما الذي دفعه لأن يكتب روايته؟ وهل رأى أن النكبة لم تستوف حقها في الأدبيات الفلسطينية؟ وهل رأى أن ما يكتبه يشكل اضافة نوعية في الشكل؟ أم أنه اراد تثبيت افكار وآراء واحداث من خلال تكرارها؟ والشيخ جميل قارئ جيد للأدب العبري، وربما لاحظ ان الفلسطينيين لم يفعلوا ما فعله الاسرائيليون، بخاصة آدباءهم الذين ركزوا، وما زالوا، على الهولوكست، فكتبوا وكتبوا وكتبوا وما زالوا يكتبون؟
في أثناء قراءة الرواية، في ضوء ما يعرفه قارئها عن كاتبها يلحظ القارئ هذا أن الكاتب أفاد من تاريخه الكتابي ومن موقفه من الأدب في جانبين: الأول التراث، فقد وظفه في روايته كما لا يوظفه من لا صلة له به، والثاني كتابة نصوص أدبية فيها أبعاد معرفية وأيديولوجية، فالكاتب يريد ان يعلم وأن يعمم معلومات تاريخية ايضا، هذا اذا غضضنا الطرف عن تمييزه بين يهود البلاد واليهود الصهيونيين المستوطنين. و…. و… يهود البلاد واليهود الغربيين الصهيونيين المستوطنين.
من الافكار اللافتة في الرواية، لمن يهتم بالبحث عن صورة اليهود في الأدب العربي بعامة، والأدب الفلسطيني بخاصة، الكتابة عن اليهود، وقد كان لهؤلاء حضورهم، ولم يكونوا قراء كلهم ولم يكونوا خيرا كلهم، فهناك اليهودي الذي يقيم علاقة مع الفلسطينيين، ويفرح لافراحهم ويحزن لاحزانهم، وهناك اليهودي المستوطن القادم من بلاد بعيدة ليشتري الأرض وليقيم عليها المستوطنات اولاً، وليطرد الفلسطينيين منها ثانياً.
في «أميرة» كتابة عن يهوديين فلسطينيين شاركا والد عباس في افراحه، لكننا لم نعرف عنهما الكثير بعد ذلك، فلم يعن الكاتب بهما ولم يخبرنا، فيما اذكر، عن موقفهما اللاحق من الاحداث الجارية: هل وقفا ضد الصهيونية وقاتلا الى جانب أهل البلاد ضد الغرباء، أم انهما غدوا صهيونيين وتخليا عن فلسطينيتهما وانحازا الى المشروع الصهيوني؟
فكرة الكتابة عن اليهود العرب واليهود الفلسطينيين فكرة لها حضورها في الأدب الفلسطيني، صحيح أن اول رواية فلسطينية «الوارث» (١٩٢٠) لخليل يبدس لم تناقشها، ولا حتى رواية العدناني «في السرير» (١٩٤٧) او مسرحية العبوشي «وطن الشهيد» (١٩٤٦)، ولكننا سنجد في ٦٠ ق ٢٠ من يكتب عن يهود عرب، مثل كنفاني في بعض قصصه، وكان هؤلاء عربا في كل شيء، ثم تصهينوا، ومثل ناصر الدين النشاشيبي في روايته «حفنة رمال» فبطلة القصة عربية الأب ويهودية الأم، تقف الى جانب ثابت، وتصر على أن الدماء العربية تجري في عروقها، وفي ٧٠ ق ٢٠ ستتخذ الكتابة منحى آخر، بخاصة مع تطور الوعي الوطني والنزوع نحو المشروع الذي تبنته م.ت.ف التي نشدت القرار الفلسطيني المستقل ودافعت عنه.
في ٧٠ ق ٢٠ سنقرأ لروائيين فلسطينيين روايات تأتي على يهود البلاد قبل الاستيطان اليهودي لفلسطين ١٨٧٨ - ١٩٨٢، وهؤلاء، كما في رواية أفنان القاسم «الباشا» كانوا يقيمون في القرى العربية ولم يكونوا يشعرون بالاختلاف عن بقية سكانها، وستبدو الصورة اوضح في رواية محمود شاهين «الهجرة الى الجحيم» ورواية أخرى له، هنا اليهودي يكون فلسطينيا حقا، وحين يتزوج من امرأة فلسطينية ينصحها، بل يطلب منها قبل موته، ان تربي اولادهما تربية فلسطينية حقيقية، أهو تأثير الزمن الكتابي وما شاع فيه من افكار واطروحات وبرامج سياسية على الكاتب والزمن الروائي المغاير؟
أعتقد ذلك، ورواية «أميرة» في هذا الجانب، لا تشذ عن الروايات المذكورة.
2014-12-30
عادل الأسطة