( 3 )
أواصل هنا ما بدأته قبل إسبوعين بشأن ما تردد حول الدور الذي لعبه جيل الستينيات في بلادنا، وكنتُ قد انتهيت إلى واحدة من مآثر هذا الجيل وإنجازاته الكبرى، وهي مجلة" جاليري 68 "، واعتبرتها أول محاولة حقيقية ومؤثرة للاستقلال عن أجهزة الثقافة الرسمية المسيطرة، بعد عقود من تأميم الحياة السياسية والثقافية على السواء.
وإذا كانت جاليري 68 توقفت بعد ستة أعداد فقط، إلا أنها أحدثت" نقلة" كبرى. فهي المرة الأولى التي يكشف فيها هذا الجيل عن هويته مستقلا، بل ومعتبرا الاستقلال أحد الشروط التي لاغنى عنها لممارسة دوره. قدّم الجيل" المنافيستو" الذي يخصه، وأظن أن العدد الذي صدر عن القصة القصيرة وتضمن نصوصا ودراسات ، هو عدد تاريخي بحق، وعموما فإن أعداد المجلة الستة لم تنتزع استقلالها انتزاعا فحسب، بل وقدّمت مايمكن اعتباره تجديدا وتمردا واختلافا وتميزا عن سائر ما كان موجودا.
صحيح أن أغلب أبناء هذا الجيل كان لهم حضورهم، وإن كانوا متناثرين ينشرون أعمالهم في المنابر الموجودة، لكنها المرة الأولى التي يتجمعون فيها معا في أرض محررة، مع ملاحظة أن أغلبهم أيضا لم يكونوا قد أصدروا كتبهم الأولى، وعلينا أن نتذكر أن واحدا من أهم أبناء هذا الجيل، وهو ابراهيم أصلان تولت جاليري 68 تقديمه للحياة الأدبية بملف خاص تضمن نماذج من أعماله ودراسات نقدية عنه، قبل أن يصدر مجموعته الأولى بحيرة المساء.
من جانب آخر، ساهم هذا في بروز ظاهرة عُرفت آنذاك ب " ظاهرة الأدباء الشبان"، فقد فرضوا وجودهم وهمومهم على الحياة الثقافية والسياسية، ولم يعد ممكنا تجاهلهم، وكان لابد من إسكاتهم أو احتوائهم. لما كان الحل الأول- في ظل الهزيمة المخزية للنظام الحاكم مستحيلا- فقد كان الحل الثاني هو الأنسب.
ومن المساخر والكوميديا السوداء أن السيد شعراوي جمعة لم يكن آنذاك وزير الداخلية فقط، بل أمين لجنة الدعوة والفكر لما كان يسمى الاتحاد الاشتراكي العربي- التنظيم السياسي الوحيد- هو نفسه أمين ما أطلق عليه مؤتمر الأدباء الشبان الذي انعقد في الزقازيق عام 1969، وكان الغرض بالطبع إحكام القبضة على أولئك الذين يرفعون أصواتهم ويحتجون على الهزيمة ويتكلمون عن الاستبداد والفساد ويسعون للاستقلال، وبلغت بهم الجرأة إصدار مجلة مستقلة، وهو مالم يكن السماح به واردا لولا الهزيمة التي كشفت المستور وأضعفت النظام.
كان الغرض هو التنفيس والتنفيس فقط، من خلال تجميع عدد كبير من الأدباء" الشبان" لاحظ" الشبان فقط، لأن الفئة المستهدفة هي هؤلاء تحديدا الذين يسببون الصداع للنظام، وبدأ الصداع أيضا يتحول إلى ماهو أبعد من ذلك. وهكذا عقد المؤتمر وفي حضور شعراوي جمعة بنفسه ليشرف على كل صغيرة وكبيرة. لكن المفاجأة أن ما أسفر عنه المؤتمر تجاوز الخطوط الحمراء، وفشل الاحتواء وخرجت التوصيات مفاجئة للجميع.
طالبت التوصيات بالديمقراطية وحرية الصحافة والإ فراج عن المعتقلين السياسيين، وذكرت إسمي الشيخ إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم كنموذج للمعتقلين السياسيين. بالطبع لم يكن مسموحا بمثل هذا الكلام من ناحية، ومجرد صدوره في توصيات قدّمتها أمانة المؤتمر الممثلة لكل الأعضاء معناه الفشل الذريع في الاحتواء من ناحية أخرى.
في العدد القادم، إذا امتد الأجل، أستكمل شهادتي..
أواصل هنا ما بدأته قبل إسبوعين بشأن ما تردد حول الدور الذي لعبه جيل الستينيات في بلادنا، وكنتُ قد انتهيت إلى واحدة من مآثر هذا الجيل وإنجازاته الكبرى، وهي مجلة" جاليري 68 "، واعتبرتها أول محاولة حقيقية ومؤثرة للاستقلال عن أجهزة الثقافة الرسمية المسيطرة، بعد عقود من تأميم الحياة السياسية والثقافية على السواء.
وإذا كانت جاليري 68 توقفت بعد ستة أعداد فقط، إلا أنها أحدثت" نقلة" كبرى. فهي المرة الأولى التي يكشف فيها هذا الجيل عن هويته مستقلا، بل ومعتبرا الاستقلال أحد الشروط التي لاغنى عنها لممارسة دوره. قدّم الجيل" المنافيستو" الذي يخصه، وأظن أن العدد الذي صدر عن القصة القصيرة وتضمن نصوصا ودراسات ، هو عدد تاريخي بحق، وعموما فإن أعداد المجلة الستة لم تنتزع استقلالها انتزاعا فحسب، بل وقدّمت مايمكن اعتباره تجديدا وتمردا واختلافا وتميزا عن سائر ما كان موجودا.
صحيح أن أغلب أبناء هذا الجيل كان لهم حضورهم، وإن كانوا متناثرين ينشرون أعمالهم في المنابر الموجودة، لكنها المرة الأولى التي يتجمعون فيها معا في أرض محررة، مع ملاحظة أن أغلبهم أيضا لم يكونوا قد أصدروا كتبهم الأولى، وعلينا أن نتذكر أن واحدا من أهم أبناء هذا الجيل، وهو ابراهيم أصلان تولت جاليري 68 تقديمه للحياة الأدبية بملف خاص تضمن نماذج من أعماله ودراسات نقدية عنه، قبل أن يصدر مجموعته الأولى بحيرة المساء.
من جانب آخر، ساهم هذا في بروز ظاهرة عُرفت آنذاك ب " ظاهرة الأدباء الشبان"، فقد فرضوا وجودهم وهمومهم على الحياة الثقافية والسياسية، ولم يعد ممكنا تجاهلهم، وكان لابد من إسكاتهم أو احتوائهم. لما كان الحل الأول- في ظل الهزيمة المخزية للنظام الحاكم مستحيلا- فقد كان الحل الثاني هو الأنسب.
ومن المساخر والكوميديا السوداء أن السيد شعراوي جمعة لم يكن آنذاك وزير الداخلية فقط، بل أمين لجنة الدعوة والفكر لما كان يسمى الاتحاد الاشتراكي العربي- التنظيم السياسي الوحيد- هو نفسه أمين ما أطلق عليه مؤتمر الأدباء الشبان الذي انعقد في الزقازيق عام 1969، وكان الغرض بالطبع إحكام القبضة على أولئك الذين يرفعون أصواتهم ويحتجون على الهزيمة ويتكلمون عن الاستبداد والفساد ويسعون للاستقلال، وبلغت بهم الجرأة إصدار مجلة مستقلة، وهو مالم يكن السماح به واردا لولا الهزيمة التي كشفت المستور وأضعفت النظام.
كان الغرض هو التنفيس والتنفيس فقط، من خلال تجميع عدد كبير من الأدباء" الشبان" لاحظ" الشبان فقط، لأن الفئة المستهدفة هي هؤلاء تحديدا الذين يسببون الصداع للنظام، وبدأ الصداع أيضا يتحول إلى ماهو أبعد من ذلك. وهكذا عقد المؤتمر وفي حضور شعراوي جمعة بنفسه ليشرف على كل صغيرة وكبيرة. لكن المفاجأة أن ما أسفر عنه المؤتمر تجاوز الخطوط الحمراء، وفشل الاحتواء وخرجت التوصيات مفاجئة للجميع.
طالبت التوصيات بالديمقراطية وحرية الصحافة والإ فراج عن المعتقلين السياسيين، وذكرت إسمي الشيخ إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم كنموذج للمعتقلين السياسيين. بالطبع لم يكن مسموحا بمثل هذا الكلام من ناحية، ومجرد صدوره في توصيات قدّمتها أمانة المؤتمر الممثلة لكل الأعضاء معناه الفشل الذريع في الاحتواء من ناحية أخرى.
في العدد القادم، إذا امتد الأجل، أستكمل شهادتي..