مجدي جعفر - مقاربة نقدية في المجموعة القصصية (هذا مقعدك) للكاتب العربي عبدالوهاب

هذه هي المجموعة الرابعة للكاتب والناقد العربي عبدالوهاب، فقد صدر له من قبل ( عزّاف النار – قصص الهيئة العامة لقصور الثقافة 1998م) و ( أربع نخلات – قصص – الهيئة العامة لقصور الثقافة 2000م )، و( باتجاه مصادفة ما – قصص - سلسلة خيول أدبية 2010م ) وروايتيه : ( لأنهم يموتون في الربيع – كتاب الأجيال 2009م ونشرت مسلسلة بجريدة الجمهورية 2000م ) و ( خليج الطبالة – سلسلة خيول أدبية 2007م )، ومن إسهاماته النقدية : ( ألحان ومرايا : قراءات في القصيدة العربية الحديثة – كتاب أسرار الأسبوع 2016م )، ( نبوءة النص : ألوان من السرد في أسوان – كتاب أسرار الأسبوع 2018م ) و ( عامية الحياة : قراءات في أشعار بالعامية المصرية – دار الربيع للنشر والاعلام 2021م ) و ( الرواية والقرية : قراءات في الرواية المصرية – دار الربيع للنشر والاعلام 2022م ) وحاز العديد من الجوائز، منها : جائزة هيئة قصور الثقافة ( المسابقة المركزية ) عن روايته لأنهم يموتون في الربيع، وجائزة مسابقة مجلة النصر ( القوات المسلحة ) في مجال الدراسات النقدية، وجائزة اتحاد كُتّاب مصر عن مجموعته القصصية ( باتجاه مصادفة ما 2013م ) وكرمته الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2016 ومنحته درع الهيئة، تقديرا لدوره في إثراء الحركة الأدبية.

وتقع المجموعة القصصية في ( 134 ) صفحة من القطع المتوسط وفي ثلاثة أقسام ، القسم الأول : شقيق ويضم ( 9 ) قصص، والقسم الثاني : قفزة قفزة ويضم ( 3 ) قصص، والقسم الرابع : شجن ويضم ( 8 ) قصص.

( 1 )

شقيق

نجح العربي عبدالوهاب الكاتب والناقد المعروف أن يقيم لشقيقه الأكبر المعماري وجيه عبدالوهاب الذي يكبره بعامين تمثالا في قلب المتلقي، ولا يمكن بحال أن تغادر شخصية هذا المعماري الجميل والنبيل عقل القارئ ولا تفارق خياله، فعبر تسع نصوص قصصية، منفصلة .. متصلة، لا تتجاوز الأربعين صفحة قدم حياة كاملة لشقيقة وأسرته ومجتمعه، ونجح من خلال شقيقه أن يرصد الواقع المصري وتغيراته وتحولاته، الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في فترة زمنية بالغة الخطورة، اختلت فيها منظومة القيم في المجتمع.

تسع قصص متجاورة شكلت عالما قريبا من حيث الرؤية من عالم الرواية القصيرة، ولكن التشكيلات والحيل الفنية التي لجأ إليها كانت تشكيلات وتقنيات القصة القصيرة بإمتياز، حيث الاختزال والتكثيف، والبُعد عن الحشو واللغو والثرثرة، واللغة الفنية المضيئة، الموحية والرامزة.

يوغل الكاتب في البعيد، ويستدعي بعض المواقف والأحداث من زمن الطفولة في القرية قبل أن ينتقل إلى الزقازيق مدينة الأبالسة! وارتبط ارتباطا وجدانيا بشقيقه الأكبر، فهو الذي ..

( يعلمه كل الألعاب الجديدة. بل يسانده في الدخول ضمن فريق العيال في القرية. برغم إعتراض الفريق على إشتراكه، لأنه لم يزل صغيرا، ولن يقوى على الجري وقت الملاحقة )

ويستعيد شقاوة الأطفال في ذلك الزمن مثل :

( صعود سور حديقة البرتقال، أو ضرب جرس باب تمرجي الصحة، أو قرع الأبواب الخشبية العملاقة بسقاطة الحديد المعلقة بصدرها .. )

ومن ذكرياته أيضا عن أخيه :

( .. هناك أسفل " التوتة " كان يكيل بقدميه القويتين الركلات، وبيديه يوجه " البونيات " بعد تعدي الولد قريبنا علىّ )

وكان شقيقه الأكبر هو الذي يتحمل تبعات أخطائه دائما.

ومن خلال هذه القصص قدم لنا العربي عبدالوهاب شخصية شقيقه برهافة شديدة، وقدم لنا بنبل وشفافية الصورة المُثلى للأخ الأكبر في ذلك الزمن، الذي يترك دراسته، ويقتحم سوق العمل صغيرا ليساعد والده في النهوض بأعباء الأسرة، فراتب الأب الهزيل الذي يتقاضاه عن عمله كمؤذن ومقيم شعائر لا يفي باحتياجاتهم المعيشية.

وساهم أيضاعلى صغر سنه بنصيب وافر مع والده في إنضاج شخصيات أشقائه الأصغر منه، وإكسابهم الرجولة المبكرة، والاعتماد على أنفسهم فيصطحبهم معه في أوقات العطلات ليعملوا معه في مجال المعمار، ولا يتردد في معاقبة أي منهم عند الخطأ، بالنصح أحيانا وبالشدة أحيانا أخرى، وقد لا يتورع عن معاقبتهم بالضرب إذا استدعى الخطأ أو الجُرم العقاب البدني، فهو يخشى عليهم من الضياع في شوارع مدينة الأبالسة، فالزقازيق غير القرية التي كانوا يعيشون فيها، قبل أن ينتقلوا للإقامة الدائمة بالزقازيق.

و ( وجيه عبدالوهاب ) كان له من اسمه نصيب وافر، ففضلا عن وجاهته ووسامته، كان أنيقا في ملبسه، ويحرص وهو في صدر شبابه على إبراز عضلاته، وفتوته :

(( كان مفتول العضلات، حتى الحديد كان ينصاع لينا بين يديه، تحت وطأة تقطيعه. وتركيبه. كمهني ماهر. في بناء أسقف البيوت والعمارات التي تولاها كمقاول شاب، يتفوق بمهارته على أقرانه. حتى وصل لمرتبة " معلم " مسؤول عن إدارة دولاب بالكامل. وهو في سن لا تتجاوز العشرين عاما ).

كان العربي عبدالوهاب على وعي بصير بمهنة المعمار، وبتفاصيلها، وبآدابها وأخلاقيتها، وقدم لنا شقيقه المُحب العاشق لهذه المهنة، والمتيم بها، وصوّر لنا قفزاته وحركاته فوق أسطح البيوت و( البالوكونات ) كأنها قفزات وحركات راقص الباليه، وتعامله مع الحديد هو تعامل العازف، وبزّ كل أقرانه، وصعد بسرعة الصاروخ، وذاع صيته وانتشر كأمهر معماري بمدينة الزقازيق وما حولها، وعُرف أيضا بأمانته، وانضباطه، والتزامه في تسليم العمل في موعده، ورغم هذا النجاح اللافت والمُبهر، يترك مهنة المهمار، ويبحث لنفسه عن مهنة أخرى، فالمهنة دخلها الدخلاء، وكل من هبّ ودبّ اشتغل بهذه المهنة التي أصبحت قائمة على الغش والخداع، فالطبقة ( الطفيلية ) والتي هي إفراز عصر الانفتاح، التي امتلكت المال، وجدت في مهنة المعمار طريقا مسفلتا وسريعا للثراء السريع، ووجيه عبدالوهاب الذي كان قد دخل الجيش، وتزوج وصار أبا، يؤلمه ما صارت عليه المهنة، ويؤرقه التفكير في مستقبل زوجته وابنه الذي ولد غير سوي، ويقرر أن يعمل بالسكة الحديد، ويذهب إلى السويس للعمل هناك، على أمل أن ينتقل بعد فترة قصيرة إلى حضن زوجته وابنه وأسرته والعمل بسكك حديد الزقازيق، ولكنه بعد أن رأى الحياة البائسة التي يعيشها العمال هناك وأسرّ بعضهم له بأنه واهم بحلم العودة للعمل بالزقازيق، فلن يعود قبل عشرين عاما على الأقل من العمل بالسويس، فعاد أدراجه وهو الكائن العاطفي في نفس اليوم ولم يتسلم العمل!.

إن الفترة التي بدا فيها وجيه عبدالوهاب مشوشا ومتخبطا هي نفس الفترة التي بدا فيها المجتمع كله مشوشا ومتخبطا، فهي لحظة التحولات الخطيرة في المجتمع، التحول من نظام اشتراكي إلى نظام رأسمالي، هذه التحولات يرصدها الكاتب بعيدا عن الصراخ والزعيق، يرصدها بلغة هامسة ومن خلال الممارسة الحياتية لشقيقه الأكبر الذي مضى إلى مدينة العاشر من رمضان، أكبر المدن الصناعية في مصر للعمل في أحد مصانعها، ويرصد مساوئ الرأسمالية ومساوئها، فالرأسمالي لا يعنيه غير الربح.

( وبانتقاله إلى مدينة العاشر يكون قد تخلى عن لقب " الأسطى، ثم المعلم " كمعماري شاب تمكن من إنجاز مالا يقل عن خمسين عمارة، وفوق الألف بيت من بيوتات الأهالي، فترة اشتغاله في مجال المعمار )

ويقدم الكاتب نتفا من سيرته، وسيرة أسرته، واحتلت سيرة شقيقه الأكبر المساحة الأكبر، وهو الذي غيبه الموت جسديا، ولكنه الغائب الحاضر بقوة في ذاكرة شقيقه الكاتب الذي يليه في العمر، والأكثر التصاقا به :

( فشقيقهما الثالث أصبح محاسبا في إدارة الأزهر، وأفلح الأخير في تحقيق درجة الدكتوراه في الأنثربولوجيا الثقافية، وهاهو على أعتاب التدريس في الجامعة.

أما أنا؟!!

فها أنذا أجتر الحكايات. كصندوق الدنيا )

العربي عبدالوهاب المسكون بالحكايات، وبعد سنوات طويلة، بدأ الشيب يغزو فيها رأسه، وعلى نفس المقعد الذي كان يجلس عليه شقيقه، يجلس ويجتر الحكايات، والبُعد الزماني جعل الحكايات ترق في نفسه وتشف في روحه، وتأتي مُصفاة ومُقطرة، وبطل الحكايات دائما هو وجيه عبدالوهاب، الذي استوطن قلبه، ويؤرقه بعض مواقف الطفولة، وتصرفاته الصبيانية مع شقيقه الأكبر، ويعض على أصابع الندم يوم أن كان يقود الدراجة، وقفز من فوقها عند بوادر أزمة اصطدام مع سيارة أجرة عند المزلقان، وترك شقيقه الأكبر يواجه مصيره!، يعيد الكاتب المواقف والحكايات، ويعيد النظر فيها بعد مرور السنوات، وينظر إليها من كل الزوايا، ويقلبها على كل الجوانب، لائما نفسه كثيرا على كل تصرف صبياني مع شقيقه الأكبر، الأكثر حنوا عليه، حتى في حالة غضبه منه، ينزع ( طاقيته ) عن رأسه ويمنحها له عن طيب خاطر وحب لتقيه حر الشمس القائظ، وهما يعملان فوق أحد الأسقف في ظهيرة شمس يوليه الحارقة، لم يزل كاتبنا رغم مرور السنوات يشعر بوخز الضمير من بعض تصرفاته.

سنوات مرت على عمل وجيه بالعاشرعلى ماكينة يطعمها بالمواد الخام فتتكرع أطباقا وكوبايات، صار بينه وبين الماكينة عشرة، ولكن هل تصون الماكينة العشرة؟ وهل تحفظ الجميل؟، عند أول لحظة شرود التهمت إصبعه!.

( شرد، ولم يشعر سوى بالدماء تنبثق مثل نافورة من إصبعه الأيمن، لم تتوقف رغم بلل المناديل التي تهادت إليه من الزملاء )

ويفضح الكاتب من خلال شقيقه الرأسمالية المستغلة، فالطبيب يشترط قبل التدخل لإيقاف نزيف الدم ببتر عقلة إصبعه بضرورة التوقيع على موافقته أولا، والأخطر من ذلك الإقرار بأن الخطأ خطأه هو لا خطأ الآلة، فالآلة لا تُخطئ فهي تعمل بالكمبيوتر!.

ويخضع لكل عوامل الترغيب والترهيب، الترهيب بالفصل وهو رب أسرة، والتخويف من طابور البطالة الذي ينتظره، ومن الذي يرضى به عاملا وهو بلا إصبع؟ .. وجعل الحياة قاتمة وخانقة والمستقبل مظلم، ليقبل في النهاية بما يريدونه هم، بتخفيض ساعات العمل من ( 12 ) ساعة يوميا إلى ( 8 ) ساعات، ويُنقل للعمل بالمخازن مع تخفيض الراتب طبعا، إن أخطر ما في الراسمالية أنها قسمت المجتمع إلى طبقتين، طبقة السادة وهم أصحاب وأرباب الأعمال وهم القلة، وطبقة العمال وهم الأكثرية، وطبقة العمال في خدمة طبقة أصحاب الأعمال، ويستغلونهم أسوأ استغلال رغم أنهم السبب الرئيس في الثراء والترف الذي يرفلون فيه.

العربي عبدالوهاب الذي يجلس اليوم على نفس المقعد الذي كان يجلس عليه شقيقه الأكبر وهو يستجدي ( يشحت ) ضوء الشمس ودفئها، وينتظر بين ألفينة والأخرى انسحاب الحياة والصعود إلى بارئه، على نفس المقعد يجلس الكاتب المسكون بالحكايات، ليكتب لنا بعضا من سيرة شقيقه الأكبر بل تتسع إلى سيرة ومسيرة جيله وسيرة ومسيرة الوطن كله، يقدمها في قالب قصصي بديع وماتع، وصل فيه إلى قمة النضج الفني والموضوعي.

...... وقد حوم حول موضوع الموت كثيرا، واقترب منه، فكانت تجربة موت شقيقه تجربة مفزعة بالنسبة له.



( 2 )

قفزة قفزة.

ثلاث نصوص قصصية انتظمت تحت هذا العنوان، تعالق فيها الشعر بالموسيقى، والفن التشكيلي بالحكاية، والخيال بالواقع، نصوص منفتحة على الفنون الأخرى، وقد ساهمت في إثراء النصوص القصصية.

بطل النص الأول شاب عواد يدرس الموسيقى بمعهد الموسيقى، شارك في الثورة مع شاب مسيحي من صعيد مصر وشاعر، ألهب الميدان بأشعاره، كان يتمنى أن يُلقي بشهادته في الملتقى الثقافي الذي أقام حفلا لتكريم شهداء الثورة :

( كنت أتمنى يا أستاذ أن ألقي بشهادتي .. أنا نمت في الميدان ليالي طويلة، تقاسمنا البرد، والشاي، والحكايات ( أنا وشاب مسيحي من صعيد مصر ).

ولايدري هل مازال صديقه المسيحي مازال على قيد الحياة أم قُتل؟.

( لم أره منذ ليلة موقعة الجمل .. تنسمنا معا فجر ذلك اليوم، هواء طريا على نجيلة الميدان، ناولني العود الذي كان بجوار رأسه المستندة على حجر الطوارالذي يحمل ألوان الأبيض والأحمر والأسود .. )

( كل المقاطع الثورية القصيرة كانت من تأليفه هو، ومن تلحيني أنا. )

وهذه القصة شأنها شأن القصص الثلاث في هذا القسم، كلها قصص مركبة، تسير في خطين متوازيين أو أكثر، وبين واقعين، واقع حقيقي يمثل الثورة بطله العواد وصديقه الشاعر المسيحي، وواقع يُراد تزييفه في الملتقى الثقافي!.

وكان الكاتب موفقا عندما جعل ذاكرة السارد / الكاتب ذاكرة مثقوبة، فهل يمكن خلق أبطال مزيفين وتهميش الأبطال الحقيقيين، وإسقاطهم من الذاكرة، وهل تظل الذاكرة مثقوبة؟!.

.........................

والنص الثاني يحمل عنوان ( أغلبهم مر من هنا ) ويهديه لصديقه الأديب محمود الديداموني، فالديداموني صدرت له مسرحية تحمل اسم ( مرايا الوهن ) يرصد فيها حالات الوهن والضعف والعجز التي أصابت الإنسان المصري المعاصر، ويقدم صورا متعددة لحالات الوهن والضغف والعجز من خلال لعبة المرايا، التي تكشف الداخل أكثر من الخارج، فيأخذ العربي عبدالوهاب مرايا الديداموني، ويجعل من الديداموني نفسه أحد الأبطال الفاعلين في النص، ويفجر الطاقات الكامنة فيه وفي أبطال نصه الذين أصابهم الوهن والضعف والعجز، وكأن الرسالة الخفية أو العظة والأمثولة التي أراد أن يقولها عبدالوهاب، هي كيف نصنع من الضعف قوة؟ وكيف ننتقل من الهامش إلى المتن؟ وقد أعاد لنا بفضل الفعل الثوري البطل الإيجابي القادر على الفعل والذي نفتقده في الواقع الحياتي وفي جُل القصص والروايات.

........................

ويحمل النص الثالث عنوان ( حكاية جديدة عن لوحة الموناليزا ) ويهديه إلى روح الشاعر الراحل محمد سليم بهلول عليه سحائب الرحمة.

وهو من النصوص البديعة والماتعة، ويقدم لنا النموذج المثالي لمعلم الرسم الذي نفتقده، والذي يعي دوره في المدرسة وفي خارجها، وكيف يطلق خيال تلاميذه ويكسبه ريشا وأجنحة ويجعله يحلق ويطوف بهم عبر الأزمنة وعبر الأمكنة؟ وكيف يساعدهم في تفجير طاقاتهم الإبداعية الخلاقة، هذا المدرس الموهوب والعاشق، يحكي لتلاميذه قصصا وحكايات تثير الإنتباه، والدهشة، والخيال، وحكايات هذا المعلم إذا كانت استفادت من تجارب العبث ولكنها ليست عبثية بمفهوم العبث، لأنها تأخذ من الواقع لتحلق به، ولتجعل الحياة مُمكنة وأكثر احتمالا، ولوحة الموناليزا الجديدة التي أبدعها الأستاذ خير مثال على ذلك، وقد طبقت شهرتها الآفاق، وحصدت العديد من الجوائز المحلية والعالمية.

تنتظم القصة العديد من الحكايات، وتتداخل الحكايات أحيانا، وتتوالد وتتناسل وتتكاثر ولا تفقد دهشتها أبدا.

والقفزات في هذه القصص قفزات فنية، ومحاولة للتجاوز من خلال التجريب المحسوب بدقة.

( 3 )

شجن.

ثمان قصص اندرجت تحت هذا العنوان، وحاول جاهدا في معظمها أن يستكن جوهر النفس البشرية، وأن يغوص في أعماقها ولا يقنع بالقشور والطلاء، من خلال شخصياته التي انتقاها بعناية فائقة من واقعنا المعيش، ومن خلال حركتها في محيطها الاجتماعي، وتأثير سلوكياتها وأفعالها وردود أفعالها، مستفيدا من علم النفس في تحليله النفسي الواعي لشخصياته، واستفاد أيضا من دراسته لعلم الاجتماع ومن وظيفته بالمؤسسة التعليمية كأخصائي اجتماعي، وكان للمؤسسة التعليمية حضورها في أكثر قصة، فهو يكتب عن شخصيات عايشها، وقريبة منه، وخبرها جيدا، وفي هذا القسم يتعامل برهافة شديدة مع شخصياته ومعاناتها النفسية والاجتماعية وأزماتها، مبرزا بشفافية ونُبل أزماتها الخانقة ومشيرا ولو من طرف خفي إلى نقاط الضوء المضيئة في أعماقهم في نهاية النفق المظلم، قابضا على الألق الإنساني المتوهج بداخلهم ولا يراه إلا صاحب البصيرة، ويقدم لنا كل ذلك في سرد ماتع وجميل.

= ويستهل هذا القسم بقصة ( لقاء متأخر على السلم ) وهي من القصص الجياد التي تناقش المعاناة النفسية والاجتماعية لزميله( أيمن ) المعلم في نفس المؤسسة، وابن المعلمة التي كانت تعمل بنفس المؤسسة أيضا وأحيلت إلى التقاعد، وناقش الكاتب:

1 – علاقة ( أيمن ) المأزومة بأمة.

( كانت تعريني أمام أحب الناس لي، لافرق لديها، فتاريخي منذ أيام طفولتي صار مستباحا منها بلا استئذان )

( خصالها الفريدة في تعرية المسكوت عنه أمام الغرباء، ترفع الغطاء عما خفى، ماذنبي لتقوم بفضحي في أي أمر أمام الغرباء؟ )

( أنا لا أنكر أن أخطائي كانت تنفلت رغما عني، كمصاب بعسر في الهضم أو " اضطرابات القولون "، يجئ التجشؤ في غير أوقاته .. تلك التجاوزات الآدمية ببساطة، وغير المتعمدة .. تكون خارجة عن سيطرتي، كأن جسدي ومدخلاته، ومخرجاته تخص إنسانا غيري، ولأنني تعرفت سمات جسدي، وتجاوزت نفسي أمام الضيوف، أو حتى إخوتي .. كانت هي من ثم تعريني فاضحة تلك السمات الباعثة على الخجل )

2 – علاقته المتوترة بزوجته ( ابنة خالته )

( في شهور زواجي الأولى حاصرتني أنا وزوجتي مخاوف مبعثها سماعنا لأصوات تمرح عابثة بجسدي، وزوجتي لما زاد قلقها مني ، اشتكت لخالتها التي هي " أمي "، وحماتها في نفس الوقت )

( ليس من المستغرب أن تخترق خلوتي، امرأة حصلت على لقب " زوجتي " في غفلة مني، واستغلته بأن أنجبت لي بنتين )

3 – تطابق صورة الأم والزوجة.

( بعدما صارت امرأتي بدينة، وملامحها تشبه ملامح أمي إلى حد بعيد .. لم أعد أرغب فيها، وانتحيت جانبا، والآن أعيش في الدور الأرضي، أحيانا تنزل لي، وتعريني بفجاجة، مثل أمي أمام الضيوف، وأمام بناتي .. حاجة تقرف )

( صارت سحنتها نفس سحنة وملامح أمي، حتى أنها استخرجت هدوم أمي الفضفاضة، التي صارت مناسبة جدا لها وأخذت في ارتدائها )

4 – قناعة الأم بأنه ملبوس وهدر مالها على الشيوخ والدجالين.

( كان أبي رحمه الله .. يستقبل الدحالين والنصابين مرحبا بهم، وهو الإنسان المهذب للغاية، يؤمهم في الصلاة، ويغدق عليهم بالمال الهدايا، وأمي يتوقف دورها على البحث، وعلى تعريتي والسخط مني، والسخط على الزمن الذي ابتلاها بي )

5 – قناعة أيمن بمرضه العضوي الذي شخصه الأطباء بالصرع.

( بعد عمل الأشعة المقطعية، اتضح لهم طبيا أنني أعاني مرضا عضويا )

( أنا أعاني من نوبات صرع يا صديقي )

6 – صورة الأب الطيب دمث الخلق وفشله في التوفيق بين ابنه أيمن وأمه التي هي زوجته.

( حاول أبي أثناء حياته لملمة أطراف العناد المحتد بيني وبين أمي، وكلما ذهب لنزع ذلك الفتيل، يلاحظ خيوطا أخرى أكثر عمقا وصلابة )

وأعتقد أنه من خلال هذه الاستشهادات من النص، يستطيع القارئ أن يقوم بلملمة أجزاء القصة، ويعيد انتاجها من جديد.

ويقيم الكاتب في قصة ( نهيق متقطع لحمار حزين ) علاقة بين ( حندوقة ) المعلم بالمدرسة والحمار الذي يتركه صاحبه العربجي يعيش في الخرابة، فحندوقة تركته زوجته وأخذت أولادها منه وفرت، وتركته يعاني من قسوة الوحدة والإهمال، والحمار الهزيل تركه صاحبه في الخرابة يعاني هو الآخر الوحدة والإهمال، والحمار في خيالاته يشتهي الأنثى وحندوقة مثلة غادرته الزوجة ومرمطته في المحاكم، وما يجمع بينهما أكثر مما يفرقهما، وبعيدا عن طريقة السرد التي اتخذها الكاتب، سواء بتدخله أو بتغيير مسار الحكاية أكثر من مرة، والانحراف بها بقصد توجيه القارئ، وفرض رؤية الكاتب، فلو ترك الكاتب القصة تسير في مسارها الطبيعي لكانت من أروع القصص التي تقدم لنا حالة نفسية وإجتماعية غير مطروقة كثيرا في الأدب العربي، وخاصة أن ( حندوقة ) والحمار وصلا لحالة قريبة من التوحد، وهي حالة فريدة، وجديرة بالبحث والتحليل، وقد أثرى الكاتب قصته برؤى من الواقعية السحرية، عندما ظهرت عليه علامات ( الحمورية ) :

( فقد استطالت أذناه، وصوته صار أقرب للنهيق العالي المفزع لكل من يتحدث معه، بل ادعى أحدهم أنه شاهد ذيلا بارزا للمدعو حندوقة يظهر من خلف الجاكيت، ويبين واضحا من خلال فتحتي البدلة، ... )

ويقدم لنا أيضا في قصة ( بتاع الكلب ) مشكلة أحد العمال بالمدرسة من ذوي الاحتياجات الخاصة الذين دفعت بهم القوى العاملة تنفيذا للقانون، والذي تم إسناد أمن البوابة إليه، بإعتبار أن هذه أخف الأعمال، وقد بنى الكاتب قصته على المفارقة، المفارقة التصويرية الجزئية والكلية، حتى العنوان نفسه مفارقة، والكاتب يبدأ بالحدث مباشرة .

( كان الكلب أسرع في توجيه أنيابه لساق البنت اللاهية مع زميلاتها في فناء المدرسة، فانبرى الحاضرون جريا نحو الواقعة، وقاموا بتضميد الجرح، ثم توالت النصائح الفورية بضرورة أخذ الحقن والأمصال الضرورية ضد " عضة الكلب " )

ومن خلال هذا الحدث توالت المفارقات التي تكشف عن القدرات العقلية المحدودة لهذا العامل، وكيف تم التعامل معه من العاملين بالمؤسسة وبالإدارة، فعندما ذهب ليمتثل أمام لجنة التحقيق، وكل من يسأله عن بغيتهن يجيب بسذاجة ( أنا بتاع الكلب ) والسؤال بدأ من رجل الأمن على البوابة، ومن كل مكاتب الإدارة، وإجابته واحدة ( أنا بتاع الكلب! ) فسرت الضحكات والتهكمات، وهو أصلا لا يعي بما يجري.

( الغريب في الأمر أنه لم يكن غاضبا في معظم الأوقات .. منهم بقدر ما كان يتساءل بينه وبين نفسه، عن الخطأ الذي ارتكبه، هل حين أخذته غفوة فمرق الكلب من البوابة وعض البنت؟ أم لأنه قال : أنا بتاع الكلب؟! )

ومن الصعب في هذه العجالة مقاربة كل القصص، وكلها تستحق أن نتوقف عندها، نظرا لما تثيره من قضايا ورؤى وأفكار، والحيل الفنية العديدة التي لجأ إليها الكاتب، والقدرات السردية الهائلة والتي تؤهله لأن يكون في صدارة مبدعي القصة القصيرة والرواية، وأرجو أن أكون قد نثرت بعض قطرات الضوء على معالم التجربة الإبداعية للكاتب المبدع العربي عبدالوهاب في مجموعته القصصية ( هذا مقعدك ) البديعة والمائزة والماتعة.

.....................................

( ورقة نقدية لمناقشة المجموعة القصصية بملتقى السرد باتحاد كُتّاب مصر – فرع الشرقية ومحافظات القناة وسيناء بالزقازيق – مساء السبت الموافق 14 / 1 / 2023م )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى