لا ريب أنّ الاصطدام بأحداثٍ غريبةٍ كالاصطدام بكلماتٍ جديدة أو غامضة، فعندما يصطدم أحدنا بكلمةٍ لا يعرف معناها فإنّه سرعان ما يذهب إلى أقرب معجم للبحث عنها، ولا يكون هذا لأيّ شخصٍ، بل للمتشوق إلى معرفة كلّ ما هو جديد، وهكذا تمرّ علينا أحداثٌ يوميةٌ تستوجب النظر والتأمل دون محاولة منّا لتفسيرها، أو العكوف على معرفة أسبابها في الغالب، فلا نستفيد من مجريات الحياة بسبب ذلك، وقد قضت العادة أن يومنا لا يختلف كثيراً عن أمسنا، وغدنا هو كما يكون، وتكاد محاولة التفكير في أيامنا تكون مفقودة، فتمرّ علينا سريعاً دون أن نشعر بها، وأعتقد أن الاصطدام بهذه الأحداث الغريبة في الحياة اليومية فرصة كبيرة للتعرف على الجديد من أساليبها، والبحث عن حلول وأسباب لها، ثمّ يكون التعايش معها، وقد يكون البحثُ عنها داعياً لما هو أعظم من معرفة ذلك، كما أن الالتفات لهذه الأحداث غالباً ما يعطينا تفاصيل حساسة، أو خواطر كاشفة، أو لمسات غنية، وهذا مما لا يستطاع أن نأخذه من التفكير بمفرده؛ لأن وجود النموذج الحي أدعى لحضور الذهن، وقد فطن لذلك كبار المفكرين، فكان مما يؤرق الأستاذ عبد الوهاب المسيري ويتعبه -فيما ذكره في بعض لقاءاته المتنوعة- أنّه كان كثير الفحص والتمعن لما يدور حوله من أحداث، وهذه الطبيعة المتفحصة هي التي ولدت فيه قوة التحليل وكثرة التأمل، بل يمكن القول هي سر تمكنه، فامتاز عن غيره بقراءة ما وراء النصوص أو الأحداث، وكل ما في الوجود غذاء لهذا النهم الكتابي من لمحة وجه في الشارع، أو فعل على قارعة الطريق، ومن عبير الورد في الحدائق إلى موت الأصدقاء والأعزاء، كل ذلك بإمكاننا تحويله إلى قصة، أو قطعة شعرية، أو مقال جامع، ففي نظري الكاتب هو الشخص الوحيد الحر الذي يستطيع تحويل الأحداث من اللاشيء إلى قطع إبداعية غنية بالمفردات والمعاني والصور.
هذه النظرة النقدية، والشخصية التحليلية يحتاجها كلّ مشتغلٍ بالعلم والثقافة وخاصة الكُتّاب والنقاد؛ لأنّ ما يحدث حولهم من أفعال عادة ما تكون مادة كتابتهم ونقدهم، ولهذا يتعجب بعضنا من قدرة كثير من الكُتاب والأدباء على كتابة أكثر من مقال أسبوعي، ويزداد الاندهاش حينما نعرف أن هناك كتاباً يلتزمون بكتابة مقال يوميّ، وهذا الأمر يعتبره بعض الناس صعباً، أو خارجاً عن قدرة البشر، لكنّه أمر سهل ومألوف عند الممارسين؛ لأنّ مادة هذه المقالات هي غالباً ما يدور في حياتهم من أحداث، فالحياة اليومية مادةٌ غنية لمحبي الكتابة شرطَ امتلاك القدرة على وصف الأحداث، كما أنّ ما يُرى أو يُعرف من حاجات الناس مادة متاحة لمن يحسن توظيف الكتابة من خلال التفاعل اليومي مع كل ما يراه أو يسمعه أو يحدث.
فيما مضى شبهت الكاتبةُ (اليزابيث بووين) عينَ الكاتب بأنّها طوافة، يجب أن ترى الأشياء من حولها بحالة اندهاش وتساؤل دائم، ولذا ليس بالضرروي أن يبحث الكاتب عن موضوعٍ للكتابة فيه، بل الغالب أن الموضوع هو الذي يبحث عن الكاتب؛ ليكتب عنه، وما يكتبه الكاتب من قضايا لا يعكس بالضرورة واقع حياته، وإنّما يعكسُ أيضاً واقعاً معاصراً، ووصفاً دقيقاً لمشاكل مجتمعه، فيشخص الداء من خلال كتابته، ويحاول قدر إمكانه وصفَ علاجٍ ممكن، وربما ينقل مشاعر وأحاسيس مَن لا يستطيعون إبداءها، وخيرُ الكُتّاب مَن وظف قلمه للنفع العام، وليس في حاجةٍ وقتها للبحث عن موضوعٍ يكتبه.
لم أقدر الأمر قدره من قبل حين صممت أن أبحث عن كتابة أشياء كثيرة بعد التنقيب والتفتيش عن مراحلها، لأني أدركت أن الأفضل لكل كاتب أنْ يكون بداخله كلامٌ يسطره دون الحاجة إلى البحث عن كلامٍ يكتبه، وأفضل أحواله أن يكون موضع ثقة لدى جمهوره حين يستجيب للكتابة عن الدوافع المشتركة بينه وبينهم، ففي الالتفات لدوافعهم حفظ البقاء وإرضاء الحاجة.
د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري
العدد (73) من ملحق أوروك الأدبي
هذه النظرة النقدية، والشخصية التحليلية يحتاجها كلّ مشتغلٍ بالعلم والثقافة وخاصة الكُتّاب والنقاد؛ لأنّ ما يحدث حولهم من أفعال عادة ما تكون مادة كتابتهم ونقدهم، ولهذا يتعجب بعضنا من قدرة كثير من الكُتاب والأدباء على كتابة أكثر من مقال أسبوعي، ويزداد الاندهاش حينما نعرف أن هناك كتاباً يلتزمون بكتابة مقال يوميّ، وهذا الأمر يعتبره بعض الناس صعباً، أو خارجاً عن قدرة البشر، لكنّه أمر سهل ومألوف عند الممارسين؛ لأنّ مادة هذه المقالات هي غالباً ما يدور في حياتهم من أحداث، فالحياة اليومية مادةٌ غنية لمحبي الكتابة شرطَ امتلاك القدرة على وصف الأحداث، كما أنّ ما يُرى أو يُعرف من حاجات الناس مادة متاحة لمن يحسن توظيف الكتابة من خلال التفاعل اليومي مع كل ما يراه أو يسمعه أو يحدث.
فيما مضى شبهت الكاتبةُ (اليزابيث بووين) عينَ الكاتب بأنّها طوافة، يجب أن ترى الأشياء من حولها بحالة اندهاش وتساؤل دائم، ولذا ليس بالضرروي أن يبحث الكاتب عن موضوعٍ للكتابة فيه، بل الغالب أن الموضوع هو الذي يبحث عن الكاتب؛ ليكتب عنه، وما يكتبه الكاتب من قضايا لا يعكس بالضرورة واقع حياته، وإنّما يعكسُ أيضاً واقعاً معاصراً، ووصفاً دقيقاً لمشاكل مجتمعه، فيشخص الداء من خلال كتابته، ويحاول قدر إمكانه وصفَ علاجٍ ممكن، وربما ينقل مشاعر وأحاسيس مَن لا يستطيعون إبداءها، وخيرُ الكُتّاب مَن وظف قلمه للنفع العام، وليس في حاجةٍ وقتها للبحث عن موضوعٍ يكتبه.
لم أقدر الأمر قدره من قبل حين صممت أن أبحث عن كتابة أشياء كثيرة بعد التنقيب والتفتيش عن مراحلها، لأني أدركت أن الأفضل لكل كاتب أنْ يكون بداخله كلامٌ يسطره دون الحاجة إلى البحث عن كلامٍ يكتبه، وأفضل أحواله أن يكون موضع ثقة لدى جمهوره حين يستجيب للكتابة عن الدوافع المشتركة بينه وبينهم، ففي الالتفات لدوافعهم حفظ البقاء وإرضاء الحاجة.
د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري
العدد (73) من ملحق أوروك الأدبي
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com