كتب (أوسكار وايلد) مرة يقول: إن أنواع النقد هو سجل الروح. فالناقد لا يرى في العمل الفني أكثر من وحي يوحي إليه بعمل جديد شخصي قد لا يكون بينه وبين العمل المنتقد أي وجه من وجوه الشبه، هذا الرأي (لأوسكار وايلد) يصف لنا مدرسة بأجمعها من مدارس النقد - أعني بها مدرسة الشعوربين. وفي ضوء هذه المدرسة سأحاول أن أستخلص طريقة (أرسطو) في النقد ومدرسته. فإذا ما فرغت من هذا حاولت أن أناقش هاتين المدرستين مع أي مدرسة أخرى قد تمت إليها بسبب.
ولأجل أن يكون المناقشة جلية واضحة سأبدأ الآن بأن أقتطف من بعض النقاد نبذاً عن شكسبير.
كتب الناقد الفرنسي (تين) عن الشاعر الكبير فقال: (أظهر ما في شكسبير خياله القوى الذي لا يعرف قناعة أو راحة، فهو يبعثر الاستعارات فوق كل ما يكتبه، وفي كل لحظة تتغير خواطره إلى صور قوية واضحة، ويعرض لنا عقله رسومات وأشكالاً متتابعة، وشكسبير لا يرى الأشياء أبداً في هدوء. بل إن قوى عقله جميعاً تتركز في الصورة أو الخاطر الذي يعالجه تركيزاً يملك عليه كل نفسه ويمتص كل قواه الأخرى. إن كتابنا المتوسطين يجعلون كل همهم في أن تكون كتاباتهم منطقية واضحة جلية وهم في الغالب يصيبون ما يقصدون، بيد أن شيئاً واحداً يبقى بعيداً عن متناولهم. ألا وهو الحياة.
أما شكسبير فهو على عكس هذا يدع الوضوح والمنطق لنفسيهما ويجعل كل همه أن يصيب ما يكتبه الحياة والحركة. ولهذا السبب يبدو شكسبير لنا غريباً وقوياً، ومبدعاً وخالقاً أكثر من أي شاعر من شعراء عصره أو غير عصره. أبدع من وصف النفس البشرية، وأبعد الشعراء عن المنطق وتفكير القدماء المتزن، وأقدرهم على أن يثير في النفس دنيا من الأشكال والصور الحية التي لا تموت).
وكتب (كارليل) عن نفس الشاعر يقول: (إنه لفيما اسمه رسم الصورة - معالجة الرجال والأشياء تكون عظمة شكسبير. فعظمة الرجل تأتي يقيناً من هذه الناحية - من الع المبصرة! تلك هي العين التي تكشف لنا عن الموسيقى الكامنة في الخلق. عن الفكرة الجليلة التي قد ضمنها الطبيعة مخلوقاتها جميعاً. على أن الشاعر لأجل أن تكون لديه هذه الهبة يجب أن يكون عنده من العقلية القوية ما فيه الكفاية. فان امتلك الرجل عقلية قوية كان شاعراً في كلامه. فان لم يستطيع هذا كان - وذلك أفضل وأجدى - شاعراً في أفعاله.
وكتب (سير والتر رولي) عن شكسبير فقال: (إن القوة خياله لا تسمح له بأن يجد الراحة في فكرة أو ناحية واحدة فهو في استطاعة أن يدرس حياة الرجال مثلما يدرس المرء الحياة على ظهر باخرة. وهو دائم الاهتمام بما يحدث يومياً بين أفراد العائلة الإنسانية، غير أن للصورة دائماً في عقله أساس واحدة تركيز عليه، ذلك أنه دائم التفكير في البحر - البحر الذي لا يعرف لقوته حداً والذي لا يسره عقل أو منطق، والآن من الواضح أن النقاد الثلاثة مشتركون جميعاً في تحديد الصفات الأساسية التي تكون عظمة شكسبير كما أنه من الواضح أيضاً أنهم يختلفون كل الاختلاف في الطرق التي سلكوها في نقدهم. فمع (تين) نرى أن شاعرية شكسبير إنما من أنه أبعد الناس عن المنطق العادي وتفكير القدماء المتزن، ومن (كارليل) نعلم أن ميزة الشاعر الأساسية في أن تكون عقليته ممتلئة ناضجة، ويبدو من هذا أن كلا من الناقدين يعتقد أن النقد إنما هو سجل روح الناقد ونفسه، (فتين) العاطفي القوى الخيال يزدري المنطق العادي، ويرى فيه عقبة في سبيل الشعر، و (كارليل) الذي كان اعتماده في حياته على فكره دون عاطفته يرى أن العقل وحده جدير بأن يخلق الشاعر وأن يجعله مبدعاً عظيماً.
أما (رولي) فهو لا يفعل شيئاً من هذا، فهو يهتم فقط بأن يوضح ويعلق، وأن يشرح ويعلل دون أن يعنى بالمدح أو بالخط من قيمة الأشياء، ونحن في الواقع لا نستطيع أن نحكم ما إذا كان تفكير شكسبير الدائم في البحر، البحر الذي لا يعرف لقوته حداً والذي لا يسيره عقل أو منطق، يزيد في شاعرية الشاعر أو ينقص منها. ونحن لا نرى النقد هنا سجلاً لروح الناقد ومشاعره، وإنما ما نراه هو وضوح في الأسلوب ودقة في الوصف وقوة في المنطق، وتلك هي مدرسة أخرى من مدارس النقد تختلف عن مدرسة (أوسكار وايلد) ينحو النقد فيها منحى البحث العلمي حيث لا نجد لمشاعر الناقد نفسه أو لإحساسه الشخصي إزاء ما ينتقده أثراً من الآثار.
تلك هي المدرسة الفكرية أو الاتباعية، وقد كان أول من أسسها الفيلسوف الأغريقي (أرسطو).
ونحن لا نحسن هنا أثراً لذات الناقد، فهو بعيد كل البعد لا نراه إلا كما نرى الرجل العلمي من خلال بحثه - الفكر والمنطق - ذلك هو الأساس الذي بنى عليه (أرسطو) طريقته في النقد، كان الرجل دقيق الملاحظة للطبيعة والفنّ، وإنه لمن هذين الينبوعين فقط نراه يستقى كل آرائه، يبنى كل نظرياته ويستنتج كل إستقراءاته.
وليس (لأرسطو) آراء شخصية يفرضها على القارئ، فهو إن مدح شيئاً فليس يمدحه لأن نفسه تتعشقه أو تميل إليه، ولكن لأن التجارب قد أثبتت أن هذا الشيء صحيح جدير بالتقدير. خذ مثلاً حديثه عن الشعر القصصي غذ يقول:
(أما عن البحر الذي يكتبه فيه هذا الشعر فهو (بحر الأبطال)، فان أراد شاعر أن ينظم قصيدة قصصية في غير هذا البحر، كان شعره شاذاً غير مألوف. إذ أن التجربة والطبيعة نفسها قد وقفت هذا النوع من الشعر على ذلك البحر).
(وأرسطو) لا يسمح لنفسه مطلقاً بأن تتمسك برأي من الآراء أو أن تمدح شيئاً أو تذم دون ذمّة، وأن يظهر الجميل دون مدحه، شانه في هذا شأن أصحاب المدرسة النظرية في النقد التي كتب عنها (أرنولد) يقول: (هي جماعة من النقاد ذات لون فلسفي باطل خداع، تجيش بنفوسها بعض الآراء الخاطئة التي لم تبنها التجربة والفكر، بل بنتها الأوهام والعواطف الذاتية تريد أن تفرضها على كل ما يقع في يدها من شعر أو فن.
والناقد من اتباع تلك المدرسة لا يمدح عملاً إلا إذا صادف هوى في نفسه وسدّ حاجة من حاجياتها، فان هو لم يفعل كان العمل باطلاً زائفاً، وكذلك من مميزات هذا الصنف من النقاد أنهم يعنون بمحتويات العمل الفني أكثر من عنايتهم بالفن نفسه - أعنى بالأسلوب والطريقة والجمال - كما انك كثير ما تسمعهم يقولون: (حبذا لو ترك الشاعر هذا الموضوع وكتب في موضوع كذا وكيت)، وذلك كما لا يخفى أردأ أنواع النقد وأحطها قدراً، إذ أن واجب الناقد الأول أن يفحص ويحكم على العمل الذيأمامه داخل دائرة العمل نفسه وحدوده لا خارجها محاولاً أن يتفهم ما يقصده الشاعر ويرمى إليه، والى أي مدى استطاع أن يبلغ قصده وأن يبرز فكرته للقارئ.
وقد يجدى أن نعطى هنا مثلاً من أمثلة هذه المدرسة النظرة الخاطئة لنرى إلى أي حدّ يبعد (أرسطو) عنها ويرتفع.
كتب (أوسكار وايلد) أحد نقاد هذه المدرسة - رأيي - يقول: (لأن نمضي من فن عصر من العصور إلى العصر نفسه هو أكبر خطأ يرتكبه المؤرخون جميعاً، فالفن الرديء الزائف كله إنما يأتي من الرجوع إلى الحياة والطبيعة والتساهل بهما إلى مراتب المثل العليا!).
من هذا النبذة نستطيع أن نحكم بأن (أوسكار وايلد) كان يدين بهذا الرأي الذي يعطينا إياه - ولكننا لا نستطيع القول بأن شيئاً أو سبباً معيناً أدى به إلى هذا الاعتقاد - أننا لا نستطيع أيضاً أن تحكم ما إذا كان هذا الرأي خاطئاً صحيحاً؟ وذلك لأن الناقد نفسه لم يخبرنا ولم يعلل ما يقوله: لم يكن (أرسطو) ليسمح لنفسه بأن ينفد بهذه الطريقة، ولكن تعال معي نرى كيف كان (أرسطو) يعالج مثل هذا الرأي لو أنه كان يدين به مثلما كان يدين الناقد الإنجليزي، فانه إذا قال إن الفن الزائف إنما يأتي من الرجوع إلى الطبيعة والحياة أتبع قوله: ذلك صحيح لأن (هوميروس) لم يذهب إلى الحياة في البحث عن مادته (هذه أمثلة فقط ولا تعتبر صحيحة)، وأن كل روعة فن (إيسكلس) إنما تأني من اعتماده على أساطير الآلهة كمادة لفن وأن فن (أريستوفانيس) كان أحط وأقل قيمة لأنه كان يصور الحياة ويستمد منها. ذلك أن (أرسطو) لا يسمح لنفسه بأن يكون نظرياً، بل يجب أن يعطيك براهين وأمثلة وأسباباً تعليل ما يقول
خذ مثلاً آخر حديثة عن طول القصيدة القصصية إذ يقول: (يمكن في هذا الصنف من الشعر أن تعالج جميع أجزاء القصة معالجة مناسبة من حيث الزمن يأخذه سير حوادثها في الحياة، أما في القصة المسرحية فالأمر يختلف إذ أنك لو عالجت حوادث القصة في مثل ما تعالجها من الطول في القصيدة القصصية، كان الأثر الذي تحدثه في النفس أثراً سيئاً يجلب الملل والسأم، قد يبدو هذا القول نظرياً ولكنه يتبعه بأن يقول: (إن صحة ما نقوله واضحة لأن كل من حاول أن يصوغ قصة سقوط (ترواده) صياغة مسرحية، ولم بأن يختصر في الحوادث أو يركزها قد فشل فشلاً تاماً).
كان (أرسطو) سريع الملاحظة، حاضر الذهن، يمقت النوع من القضايا الذي لا يبرزه سبب أو يشرحه مثال، كما أن المنطق كان دائماً رائده في البحث والنقد - ذلك لأن طبيعة عقله كانت طبيعة عملية واقعية مثل طبيعة أهله وقومه الإغريق. وهو إن سرد لك قضية من القضايا، أو نظرية من النظريات سردها في بساطة وغير كلفة تشعرك بأنك كنت تعلمها من قبل، وأن عكس هذه القضية لا يمكن أن يوجد أو أن يكون صحيحاً، كما أن قضاياه تمتاز بأنها يمكن أن تستخلص منها قضايا أخرى صغيرة، وأن تبني عليها نظريات أكبر وأوسع أفقاً في رأي أرسطو كناقد أن الشعر نوع من التقليد والمحاكاة - تقليد الحياة والطبيعة - وفي رأي (شلي) كناقد أيضاً أن (الشعر هو ما يحيل الأشياء كلها جمالاً - فهو يزيد الجميل جمالاً ويزين القبيح ويجمله) - كلنا يعرف أن قول (شلي) هذا صحيح، وأن الشعر فعلاً يؤدي كل هذا، ولكن هل نستطيع أن نسمي هذا القول تعريفاً للشعر؟ هنا نشعر بالقارق بين الناقد الشعوري والناقد الفكري، فكلاهما يعبّر عن أشياء صحيحة حقيقية، ولكن الثاني يجعلك تلمس ما يقول وتبصره، بينما يسحر الأول سمعك ثم يتركك ويمض - وقد لا يكون تعريف أرسطو للشعر في جمال أو حلاوة تعريف (شلي) لكنه ملموس محسوس نستطيع أن نبصره في وضوح وأن نبني ونعتمد عليه.
وهناك فارق آخر بين الناقدين يبدو لنا أيضاً من خلال تعريفهما للشعر، فواضح من سطور شلي أن الناقد لا يعني فقط بطبيعة ما ينقده وماهيته، بل يعنى أيضاً بالغرض والرسالة التي عليه أن يؤديها الشعر - مما يجعل البحث بعيداً عن روح العلم - في حين أن (أرسطو) لا يتساءل مطلقاً عن رسالة الفن أو الشعر في الحياة، بل كل ما يهمه أن يهمه أن يبحث طبيعتهما وأن يشرحهما لنا - شان العالم الكيميائي أو الطبيعي -.
وقد كان (لأرسطو) وجهة نظر في نقده خاصة به، وأعنى بها أنه كان يرى أن لكل فنّ من الفنون، قصصاً كان أم شعراً غنائياً، نهاية طبيعية لا بد أن يصل إليها وألا يتعداها، فان أراد صاحب الفن أن يتعدى بفنه نهايته كان مآله الفشل ومصيره السقوط الذي لا نجاة منه، فقد يصل شعر شاعر مثلاً مرتبة النضوج والكمال، وهو في سن الثلاثين، غير أنه مهما عمّر الشاعر بعد ذلك من سنين ومهما زاده العمر من حكمه وتجارب، فان شعره لن يزيد ولن ينضج أكثر مما نضج - وقد لا يرى البعض هذا الرأي غير أنه - في اعتقادي - رأي لا باس به، ساعد على تكوينه لدى (أرسطو) حب الإغريق الغريزي للاعتدال والوسيط، وخوفهم من بطش الآلهة وغيرتها إن اشتدَّ الرجل منهم أو زها وعظم أكثر من اللازم. وقد كان التوسط والاعتدال رائد الإغريق في كل شيء، ولم يكن التطرف عندهم ذنباً فحسب بل جريمة كبرى، ولذلك نرى الاعتدال أظهر ما يميز أدبهم وفهم، ولذلك أيضا ًكان (أرسطو) مؤسس المدرسة الفكرية التي تمنح نفسها للمنطق والعقل وتحاذر كل الحذر من الشعور والعاطفة.
والآن واحسبني قد بسطت طريقة (أرسطو) في النقد وقارنتها بالطريقة الشعورية الأخرى أحب أن أقول كلمة عن المذهبين.
إن كل ما يفعله (أرسطو) هو أن يشرح ويفصل ويرتب ويصنف ليعطينا في النهاية مجموعة من القوانين والقضايا ما أحسبها تخلق فناناً أو تصلح من شأن فنان آخر. وهو في هذا يخاطب الفكر لا العاطفة، وإني كلما تصورته يعالج (شكسبير) يضيق بي الخيال ولا أدري كيف كان يتيسر (لأرسطو) أن يفعل هذا.
قد كنا نفهم بعض صفات فن شكسبير ومميزاته من نقد (أرسطو) له. على أني أشك كثيراً في أنه كان يجعلنا نتفهم الشاعر نفسه ونعشقه مثلما فعل (كولريدج) و (هزلت) و (تين) وفي رأيي أن أعلى أنواع النقد ما كان يؤثر في النفس ويوحي إليها النقد الذي يشرح ويفصل دون أن يزج في دائرة الفن ودون أن يصبح علماً من العلوم. ذلك هو النقد الذي يعالج الأدب مثلما يعالج الأدب نفسه الحياة، أعني عن طريق الخيال والعاطفة.
كتب (تشارلس لام) يقول:
(إني أفضل العاطفة على العلم) وفي يقيني أن كل من له صلة بالأدب ولا يفعل (لام) يكون مخطئاً في حق نفسه وفي حق صناعته أو فنه.
محمد رشاد رشدي
مجلة الرسالة - العدد 115
بتاريخ: 16 - 09 - 1935
ولأجل أن يكون المناقشة جلية واضحة سأبدأ الآن بأن أقتطف من بعض النقاد نبذاً عن شكسبير.
كتب الناقد الفرنسي (تين) عن الشاعر الكبير فقال: (أظهر ما في شكسبير خياله القوى الذي لا يعرف قناعة أو راحة، فهو يبعثر الاستعارات فوق كل ما يكتبه، وفي كل لحظة تتغير خواطره إلى صور قوية واضحة، ويعرض لنا عقله رسومات وأشكالاً متتابعة، وشكسبير لا يرى الأشياء أبداً في هدوء. بل إن قوى عقله جميعاً تتركز في الصورة أو الخاطر الذي يعالجه تركيزاً يملك عليه كل نفسه ويمتص كل قواه الأخرى. إن كتابنا المتوسطين يجعلون كل همهم في أن تكون كتاباتهم منطقية واضحة جلية وهم في الغالب يصيبون ما يقصدون، بيد أن شيئاً واحداً يبقى بعيداً عن متناولهم. ألا وهو الحياة.
أما شكسبير فهو على عكس هذا يدع الوضوح والمنطق لنفسيهما ويجعل كل همه أن يصيب ما يكتبه الحياة والحركة. ولهذا السبب يبدو شكسبير لنا غريباً وقوياً، ومبدعاً وخالقاً أكثر من أي شاعر من شعراء عصره أو غير عصره. أبدع من وصف النفس البشرية، وأبعد الشعراء عن المنطق وتفكير القدماء المتزن، وأقدرهم على أن يثير في النفس دنيا من الأشكال والصور الحية التي لا تموت).
وكتب (كارليل) عن نفس الشاعر يقول: (إنه لفيما اسمه رسم الصورة - معالجة الرجال والأشياء تكون عظمة شكسبير. فعظمة الرجل تأتي يقيناً من هذه الناحية - من الع المبصرة! تلك هي العين التي تكشف لنا عن الموسيقى الكامنة في الخلق. عن الفكرة الجليلة التي قد ضمنها الطبيعة مخلوقاتها جميعاً. على أن الشاعر لأجل أن تكون لديه هذه الهبة يجب أن يكون عنده من العقلية القوية ما فيه الكفاية. فان امتلك الرجل عقلية قوية كان شاعراً في كلامه. فان لم يستطيع هذا كان - وذلك أفضل وأجدى - شاعراً في أفعاله.
وكتب (سير والتر رولي) عن شكسبير فقال: (إن القوة خياله لا تسمح له بأن يجد الراحة في فكرة أو ناحية واحدة فهو في استطاعة أن يدرس حياة الرجال مثلما يدرس المرء الحياة على ظهر باخرة. وهو دائم الاهتمام بما يحدث يومياً بين أفراد العائلة الإنسانية، غير أن للصورة دائماً في عقله أساس واحدة تركيز عليه، ذلك أنه دائم التفكير في البحر - البحر الذي لا يعرف لقوته حداً والذي لا يسره عقل أو منطق، والآن من الواضح أن النقاد الثلاثة مشتركون جميعاً في تحديد الصفات الأساسية التي تكون عظمة شكسبير كما أنه من الواضح أيضاً أنهم يختلفون كل الاختلاف في الطرق التي سلكوها في نقدهم. فمع (تين) نرى أن شاعرية شكسبير إنما من أنه أبعد الناس عن المنطق العادي وتفكير القدماء المتزن، ومن (كارليل) نعلم أن ميزة الشاعر الأساسية في أن تكون عقليته ممتلئة ناضجة، ويبدو من هذا أن كلا من الناقدين يعتقد أن النقد إنما هو سجل روح الناقد ونفسه، (فتين) العاطفي القوى الخيال يزدري المنطق العادي، ويرى فيه عقبة في سبيل الشعر، و (كارليل) الذي كان اعتماده في حياته على فكره دون عاطفته يرى أن العقل وحده جدير بأن يخلق الشاعر وأن يجعله مبدعاً عظيماً.
أما (رولي) فهو لا يفعل شيئاً من هذا، فهو يهتم فقط بأن يوضح ويعلق، وأن يشرح ويعلل دون أن يعنى بالمدح أو بالخط من قيمة الأشياء، ونحن في الواقع لا نستطيع أن نحكم ما إذا كان تفكير شكسبير الدائم في البحر، البحر الذي لا يعرف لقوته حداً والذي لا يسيره عقل أو منطق، يزيد في شاعرية الشاعر أو ينقص منها. ونحن لا نرى النقد هنا سجلاً لروح الناقد ومشاعره، وإنما ما نراه هو وضوح في الأسلوب ودقة في الوصف وقوة في المنطق، وتلك هي مدرسة أخرى من مدارس النقد تختلف عن مدرسة (أوسكار وايلد) ينحو النقد فيها منحى البحث العلمي حيث لا نجد لمشاعر الناقد نفسه أو لإحساسه الشخصي إزاء ما ينتقده أثراً من الآثار.
تلك هي المدرسة الفكرية أو الاتباعية، وقد كان أول من أسسها الفيلسوف الأغريقي (أرسطو).
ونحن لا نحسن هنا أثراً لذات الناقد، فهو بعيد كل البعد لا نراه إلا كما نرى الرجل العلمي من خلال بحثه - الفكر والمنطق - ذلك هو الأساس الذي بنى عليه (أرسطو) طريقته في النقد، كان الرجل دقيق الملاحظة للطبيعة والفنّ، وإنه لمن هذين الينبوعين فقط نراه يستقى كل آرائه، يبنى كل نظرياته ويستنتج كل إستقراءاته.
وليس (لأرسطو) آراء شخصية يفرضها على القارئ، فهو إن مدح شيئاً فليس يمدحه لأن نفسه تتعشقه أو تميل إليه، ولكن لأن التجارب قد أثبتت أن هذا الشيء صحيح جدير بالتقدير. خذ مثلاً حديثه عن الشعر القصصي غذ يقول:
(أما عن البحر الذي يكتبه فيه هذا الشعر فهو (بحر الأبطال)، فان أراد شاعر أن ينظم قصيدة قصصية في غير هذا البحر، كان شعره شاذاً غير مألوف. إذ أن التجربة والطبيعة نفسها قد وقفت هذا النوع من الشعر على ذلك البحر).
(وأرسطو) لا يسمح لنفسه مطلقاً بأن تتمسك برأي من الآراء أو أن تمدح شيئاً أو تذم دون ذمّة، وأن يظهر الجميل دون مدحه، شانه في هذا شأن أصحاب المدرسة النظرية في النقد التي كتب عنها (أرنولد) يقول: (هي جماعة من النقاد ذات لون فلسفي باطل خداع، تجيش بنفوسها بعض الآراء الخاطئة التي لم تبنها التجربة والفكر، بل بنتها الأوهام والعواطف الذاتية تريد أن تفرضها على كل ما يقع في يدها من شعر أو فن.
والناقد من اتباع تلك المدرسة لا يمدح عملاً إلا إذا صادف هوى في نفسه وسدّ حاجة من حاجياتها، فان هو لم يفعل كان العمل باطلاً زائفاً، وكذلك من مميزات هذا الصنف من النقاد أنهم يعنون بمحتويات العمل الفني أكثر من عنايتهم بالفن نفسه - أعنى بالأسلوب والطريقة والجمال - كما انك كثير ما تسمعهم يقولون: (حبذا لو ترك الشاعر هذا الموضوع وكتب في موضوع كذا وكيت)، وذلك كما لا يخفى أردأ أنواع النقد وأحطها قدراً، إذ أن واجب الناقد الأول أن يفحص ويحكم على العمل الذيأمامه داخل دائرة العمل نفسه وحدوده لا خارجها محاولاً أن يتفهم ما يقصده الشاعر ويرمى إليه، والى أي مدى استطاع أن يبلغ قصده وأن يبرز فكرته للقارئ.
وقد يجدى أن نعطى هنا مثلاً من أمثلة هذه المدرسة النظرة الخاطئة لنرى إلى أي حدّ يبعد (أرسطو) عنها ويرتفع.
كتب (أوسكار وايلد) أحد نقاد هذه المدرسة - رأيي - يقول: (لأن نمضي من فن عصر من العصور إلى العصر نفسه هو أكبر خطأ يرتكبه المؤرخون جميعاً، فالفن الرديء الزائف كله إنما يأتي من الرجوع إلى الحياة والطبيعة والتساهل بهما إلى مراتب المثل العليا!).
من هذا النبذة نستطيع أن نحكم بأن (أوسكار وايلد) كان يدين بهذا الرأي الذي يعطينا إياه - ولكننا لا نستطيع القول بأن شيئاً أو سبباً معيناً أدى به إلى هذا الاعتقاد - أننا لا نستطيع أيضاً أن تحكم ما إذا كان هذا الرأي خاطئاً صحيحاً؟ وذلك لأن الناقد نفسه لم يخبرنا ولم يعلل ما يقوله: لم يكن (أرسطو) ليسمح لنفسه بأن ينفد بهذه الطريقة، ولكن تعال معي نرى كيف كان (أرسطو) يعالج مثل هذا الرأي لو أنه كان يدين به مثلما كان يدين الناقد الإنجليزي، فانه إذا قال إن الفن الزائف إنما يأتي من الرجوع إلى الطبيعة والحياة أتبع قوله: ذلك صحيح لأن (هوميروس) لم يذهب إلى الحياة في البحث عن مادته (هذه أمثلة فقط ولا تعتبر صحيحة)، وأن كل روعة فن (إيسكلس) إنما تأني من اعتماده على أساطير الآلهة كمادة لفن وأن فن (أريستوفانيس) كان أحط وأقل قيمة لأنه كان يصور الحياة ويستمد منها. ذلك أن (أرسطو) لا يسمح لنفسه بأن يكون نظرياً، بل يجب أن يعطيك براهين وأمثلة وأسباباً تعليل ما يقول
خذ مثلاً آخر حديثة عن طول القصيدة القصصية إذ يقول: (يمكن في هذا الصنف من الشعر أن تعالج جميع أجزاء القصة معالجة مناسبة من حيث الزمن يأخذه سير حوادثها في الحياة، أما في القصة المسرحية فالأمر يختلف إذ أنك لو عالجت حوادث القصة في مثل ما تعالجها من الطول في القصيدة القصصية، كان الأثر الذي تحدثه في النفس أثراً سيئاً يجلب الملل والسأم، قد يبدو هذا القول نظرياً ولكنه يتبعه بأن يقول: (إن صحة ما نقوله واضحة لأن كل من حاول أن يصوغ قصة سقوط (ترواده) صياغة مسرحية، ولم بأن يختصر في الحوادث أو يركزها قد فشل فشلاً تاماً).
كان (أرسطو) سريع الملاحظة، حاضر الذهن، يمقت النوع من القضايا الذي لا يبرزه سبب أو يشرحه مثال، كما أن المنطق كان دائماً رائده في البحث والنقد - ذلك لأن طبيعة عقله كانت طبيعة عملية واقعية مثل طبيعة أهله وقومه الإغريق. وهو إن سرد لك قضية من القضايا، أو نظرية من النظريات سردها في بساطة وغير كلفة تشعرك بأنك كنت تعلمها من قبل، وأن عكس هذه القضية لا يمكن أن يوجد أو أن يكون صحيحاً، كما أن قضاياه تمتاز بأنها يمكن أن تستخلص منها قضايا أخرى صغيرة، وأن تبني عليها نظريات أكبر وأوسع أفقاً في رأي أرسطو كناقد أن الشعر نوع من التقليد والمحاكاة - تقليد الحياة والطبيعة - وفي رأي (شلي) كناقد أيضاً أن (الشعر هو ما يحيل الأشياء كلها جمالاً - فهو يزيد الجميل جمالاً ويزين القبيح ويجمله) - كلنا يعرف أن قول (شلي) هذا صحيح، وأن الشعر فعلاً يؤدي كل هذا، ولكن هل نستطيع أن نسمي هذا القول تعريفاً للشعر؟ هنا نشعر بالقارق بين الناقد الشعوري والناقد الفكري، فكلاهما يعبّر عن أشياء صحيحة حقيقية، ولكن الثاني يجعلك تلمس ما يقول وتبصره، بينما يسحر الأول سمعك ثم يتركك ويمض - وقد لا يكون تعريف أرسطو للشعر في جمال أو حلاوة تعريف (شلي) لكنه ملموس محسوس نستطيع أن نبصره في وضوح وأن نبني ونعتمد عليه.
وهناك فارق آخر بين الناقدين يبدو لنا أيضاً من خلال تعريفهما للشعر، فواضح من سطور شلي أن الناقد لا يعني فقط بطبيعة ما ينقده وماهيته، بل يعنى أيضاً بالغرض والرسالة التي عليه أن يؤديها الشعر - مما يجعل البحث بعيداً عن روح العلم - في حين أن (أرسطو) لا يتساءل مطلقاً عن رسالة الفن أو الشعر في الحياة، بل كل ما يهمه أن يهمه أن يبحث طبيعتهما وأن يشرحهما لنا - شان العالم الكيميائي أو الطبيعي -.
وقد كان (لأرسطو) وجهة نظر في نقده خاصة به، وأعنى بها أنه كان يرى أن لكل فنّ من الفنون، قصصاً كان أم شعراً غنائياً، نهاية طبيعية لا بد أن يصل إليها وألا يتعداها، فان أراد صاحب الفن أن يتعدى بفنه نهايته كان مآله الفشل ومصيره السقوط الذي لا نجاة منه، فقد يصل شعر شاعر مثلاً مرتبة النضوج والكمال، وهو في سن الثلاثين، غير أنه مهما عمّر الشاعر بعد ذلك من سنين ومهما زاده العمر من حكمه وتجارب، فان شعره لن يزيد ولن ينضج أكثر مما نضج - وقد لا يرى البعض هذا الرأي غير أنه - في اعتقادي - رأي لا باس به، ساعد على تكوينه لدى (أرسطو) حب الإغريق الغريزي للاعتدال والوسيط، وخوفهم من بطش الآلهة وغيرتها إن اشتدَّ الرجل منهم أو زها وعظم أكثر من اللازم. وقد كان التوسط والاعتدال رائد الإغريق في كل شيء، ولم يكن التطرف عندهم ذنباً فحسب بل جريمة كبرى، ولذلك نرى الاعتدال أظهر ما يميز أدبهم وفهم، ولذلك أيضا ًكان (أرسطو) مؤسس المدرسة الفكرية التي تمنح نفسها للمنطق والعقل وتحاذر كل الحذر من الشعور والعاطفة.
والآن واحسبني قد بسطت طريقة (أرسطو) في النقد وقارنتها بالطريقة الشعورية الأخرى أحب أن أقول كلمة عن المذهبين.
إن كل ما يفعله (أرسطو) هو أن يشرح ويفصل ويرتب ويصنف ليعطينا في النهاية مجموعة من القوانين والقضايا ما أحسبها تخلق فناناً أو تصلح من شأن فنان آخر. وهو في هذا يخاطب الفكر لا العاطفة، وإني كلما تصورته يعالج (شكسبير) يضيق بي الخيال ولا أدري كيف كان يتيسر (لأرسطو) أن يفعل هذا.
قد كنا نفهم بعض صفات فن شكسبير ومميزاته من نقد (أرسطو) له. على أني أشك كثيراً في أنه كان يجعلنا نتفهم الشاعر نفسه ونعشقه مثلما فعل (كولريدج) و (هزلت) و (تين) وفي رأيي أن أعلى أنواع النقد ما كان يؤثر في النفس ويوحي إليها النقد الذي يشرح ويفصل دون أن يزج في دائرة الفن ودون أن يصبح علماً من العلوم. ذلك هو النقد الذي يعالج الأدب مثلما يعالج الأدب نفسه الحياة، أعني عن طريق الخيال والعاطفة.
كتب (تشارلس لام) يقول:
(إني أفضل العاطفة على العلم) وفي يقيني أن كل من له صلة بالأدب ولا يفعل (لام) يكون مخطئاً في حق نفسه وفي حق صناعته أو فنه.
محمد رشاد رشدي
مجلة الرسالة - العدد 115
بتاريخ: 16 - 09 - 1935