كانت الكتب فيما مضى متوفرة بكثرة على الأرصفة في مختلف المجالات، وحياة العلم في الجامعات والمجالس الخاصة على طول السنة ممتدة، وفي الآباء حرصٌ على تزويد أولادهم بشتى المعارف، لا رغبة في تحصيل شهادة، بل من أجل العلم نفسه؛ إذ كانوا يدركون قيمة العلم والعلماء، وبيوتُ الأساتذة والعلماء آنذاك زاخرةٌ بالطلاب وراغبي المعرفة، ولم يكن ثم صوت يعلو فوق صوت الوسطية، فلا حزبية مفرقة، ولا أيديولوجية وافدة، وعلماء مدينتي "المنصورة" وأهلها على وجه الخصوص بطبيعتهم مثقفون محبون للعلم والأدب والشعر والفنون بشهادة المبدعين الكبار من غير أهلها؛ كالشاعر "صالح جودت"، فهنا تقام الأمسيات الثقافية، وهنالك الندوات والمحاضرات المعرفية المختلفة، وفيها يحاضر الكثير من الشخصيات الثقافية والتربوية المتميزة بكلّ مقاييس عصرها، في هذه الأجواء الزاخرة بالإنتاج المعرفي المتعدد والتنوع الثقافي الغزير تعرف صاحبنا -الذي بدأ يقطع مشواره العلمي والثقافي- بالأستاذ المؤرخ الأكبر محمد رجب البيومي، وهو الأديب الشاعر، والحافظ الراوية، الدمث الخلق، والطيب العشرة، والهادئ البشوش، المتصف بالسجايا الحميدة، والشمائل الفريدة، والمتمتع بالذكاء الحاد، ورقة الطبع، وصلابة الشخصية، وطهارة النفس، المنقطع للكتابة والبحث، والمنشغل المنهمك بالقراءة والمطالعة، المحب للعلماء والأدباء، والمترنم بذكرياته معهم، كعبة الباحثين، ومقصد المثقفين، مَن صحبه أو عرفه أو زاره في مكتبته العامرة اطمئن إليه الأستاذ في وداعة متناهية، وأنار له السبيل في حزم وروية، ونبهه على طريق الكتابة بلطف كبير، وصحح له أخطاءه في تواضع جم عزّ نظيره، فهو القدوة الحسنة التي يعتز الاحتذاء بمواقفها وسلوكها، والنموذج الإنساني الفريد في علاقاته الاجتماعية، وارتباطه بأساتذته وطلابه وإن خالفوه، حقاً لقد كان في فضائله الإنسانية وصفاته الخلقية وخلاله الشريفة ما يملأ قلب ووجدان عارفيه ومحبيه إعزازاً وتوقيراً، ومحبة وتقديراً، وفي شخصيته النادرة نظرة إلى المستقبل المبنية على المبادئ العظيمة المتصلة بكلّ المعاني السامية التي سقاها من أفضل المشارب الأدبية العلية، والمعارف والصداقات النيرة.
إنّ أهم ما يميز الأستاذ "محمد رجب البيومي" في كتاباته أنّك تجد شخصيته في كلّ كلمة يكتبها، فلن تبحث عن ذاته خارج كتاباته، لأنّ وراء كلّ كلمة يكتبها نفساً متشبعة بالرصد والتحليل، والوفاء والصدق. وقد أعانه في تأليف كتبه الفريدة إلى جانب ذكائه واستعداده الفطري علو همته ومضاء إرادته في البحث والتنقيب عن النفائس من بطون الكتب، ولقد بلغ به الجهد مبلغه، ففي بعض كتاباته قد يقرأ لها أكثر من مائة مرجع، ما بين كتاب، أو مقال، أو رسالة جامعية، أو خبر قديم منشور في إحدى الصحف العربية القديمة، أو حوار أجري مع المترجم له، وكل ذلك حرص منه أن تخرج الكتابة وافية عن صاحبها، كافية في التعريف به، والذي لا يعيش إلا لغرض الكتابة هم في العادة مَن تبقى كلمتهم، وأشهد أنّه من أولئك الذين عاشوا مع الكتابة من ريق عمره إلى منتهاه، فخلّف بعده ثورة علمية هائلة قد لا تتوفر لأحد من أبناء جيله، وهي بالفعل لم تتوفر، حتى يصعب علينا في كثير من الأحايين رصد كل الكتابات والمقالات التي كتبها، فهو يعد في صدارة المتصدرين في الكتابة في عصرنا الحاضر.
وأما عن هذا الضياء النفساني الذي أشعر به في كتابات أستاذي الأكبر "محمد رجب البيومي" فهو آية في الجمال والسمو، تهتز له نفوس الناشئة، ولأجله بقي اسم " محمد رجب البيومي" محفوراً في الذاكرة الثقافية؛ لأنّ من شأن الكلمة الراقية أن تبقى على الزمان. وعندي أن قراءته للكتب وأربابها أقرب إلى الدقة من غيره وأعدل وأصوب، لأنه من أشد الناس إمعاناً في "الموضوعية"، فإذا عرض لكتاب أو مؤلف لم يتناولها من وجهة نظرة شخصية أو حزبية، ولكن بعد استعمال منهج تحليلي نادر بعيد عن كل هوى وتعصب، حتى بلغت به الأمانة مبلغها، فيحلل كل ما يحيط بالمؤلف من ظروف، ويقارن كلام المؤلف نفسه في أكثر من كتاب أو مقال، ليصل إلى نتائج مهمة، في أكثرها هي جوانب العظمة والإجلال في حيوات هؤلاء الأشخاص الذين تناولهم بالدراسة، ولست أدري إذ أقول إن فعله أقرب إلى الصدق من غيره، وكتابته تدعو إلى إظهار أوجه الحضارة والانتفاع بكل جوانب العظمة في حياتنا، أأنا هنا متأثر بحب قد يكون متطرفاً لأستاذي، أم بذكريات خاصة معه لها بالغ الأثر في نفسي، فلقد اجتمعت به ورأيته منذ أكثر من خمسة عشر سنة، وتركت معرفتي به والتواصل معه من الأثر ما لم تتركه لقاءات أخر مع علماء غيره، مع أني من المكثرين في الأخذ ولقاء العلماء بالمقارنة مع غيري، وفي لحظات سابقة كنت أظن أن حكمي سيتغير لو أن الظروف أتاحت لي لقاء علماء غيره، وقد كان، لكني ما أزال أسير حتى اليوم بتلك الذكريات التي عايشتها معه، لا أزال مع كتابة أيّ مقال أتخيله وهو جالس، كيف يفكر، وكيف يمسك بقلمه، فأحاول أن أكتب كما لو كان في حياتنا لم يفارقنا، مع وجود الفارق بيننا، فهو العالم الأديب والمؤرخ الكبير، وأنا الطويلب المحب والراغب الحريص، ويبقى أن ما امتلكه أستاذنا "محمد رجب البيومي" من علوم ومعارف واسعة وما اضطلع به من مهام بحثية ومعرفية جسيمة هي كفيلة برفع اسمه في صدارة المتصدرين في الساحة الثقافية، والتكريم حلقة من الحلقات المهمة في حياة الكبار والمبدعين، ويجب جعله تقليداً راسخاً في النفوس، لا أريد أن أتذكر قولة الأستاذ وديع فلسطين "إذا رتبت فئات المجتمع من حيث حظوظها في الحياة، فالمؤكد أن المفكرين والأدباء لا يظفرون إلا بأدنى الحظوظ، فقد يشقى الأديب طول عمره ولا يجد إنصافاً، بل لعل الجحود يطارده حتى بعد الممات".
لا يسعني إلّا أن أجدد الذكرى بأمنيتي الجليلة في الاحتفال بمئوية الأستاذ الأكبر "محمد رجب البيومي" آملًا أن يلتفت الجميع لنابغة عصره وعملاق جيله؛ تقديراً وعرفاناً لجهوده، وتخليداً لفضله وآثاره، فما أسمى أن يقابل الوفاء بالوفاء! وليتني أستطيع على القول الوفاء بالفعل!
د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري
جريدة كل العرب بفرنسا، عدد فبراير
إنّ أهم ما يميز الأستاذ "محمد رجب البيومي" في كتاباته أنّك تجد شخصيته في كلّ كلمة يكتبها، فلن تبحث عن ذاته خارج كتاباته، لأنّ وراء كلّ كلمة يكتبها نفساً متشبعة بالرصد والتحليل، والوفاء والصدق. وقد أعانه في تأليف كتبه الفريدة إلى جانب ذكائه واستعداده الفطري علو همته ومضاء إرادته في البحث والتنقيب عن النفائس من بطون الكتب، ولقد بلغ به الجهد مبلغه، ففي بعض كتاباته قد يقرأ لها أكثر من مائة مرجع، ما بين كتاب، أو مقال، أو رسالة جامعية، أو خبر قديم منشور في إحدى الصحف العربية القديمة، أو حوار أجري مع المترجم له، وكل ذلك حرص منه أن تخرج الكتابة وافية عن صاحبها، كافية في التعريف به، والذي لا يعيش إلا لغرض الكتابة هم في العادة مَن تبقى كلمتهم، وأشهد أنّه من أولئك الذين عاشوا مع الكتابة من ريق عمره إلى منتهاه، فخلّف بعده ثورة علمية هائلة قد لا تتوفر لأحد من أبناء جيله، وهي بالفعل لم تتوفر، حتى يصعب علينا في كثير من الأحايين رصد كل الكتابات والمقالات التي كتبها، فهو يعد في صدارة المتصدرين في الكتابة في عصرنا الحاضر.
وأما عن هذا الضياء النفساني الذي أشعر به في كتابات أستاذي الأكبر "محمد رجب البيومي" فهو آية في الجمال والسمو، تهتز له نفوس الناشئة، ولأجله بقي اسم " محمد رجب البيومي" محفوراً في الذاكرة الثقافية؛ لأنّ من شأن الكلمة الراقية أن تبقى على الزمان. وعندي أن قراءته للكتب وأربابها أقرب إلى الدقة من غيره وأعدل وأصوب، لأنه من أشد الناس إمعاناً في "الموضوعية"، فإذا عرض لكتاب أو مؤلف لم يتناولها من وجهة نظرة شخصية أو حزبية، ولكن بعد استعمال منهج تحليلي نادر بعيد عن كل هوى وتعصب، حتى بلغت به الأمانة مبلغها، فيحلل كل ما يحيط بالمؤلف من ظروف، ويقارن كلام المؤلف نفسه في أكثر من كتاب أو مقال، ليصل إلى نتائج مهمة، في أكثرها هي جوانب العظمة والإجلال في حيوات هؤلاء الأشخاص الذين تناولهم بالدراسة، ولست أدري إذ أقول إن فعله أقرب إلى الصدق من غيره، وكتابته تدعو إلى إظهار أوجه الحضارة والانتفاع بكل جوانب العظمة في حياتنا، أأنا هنا متأثر بحب قد يكون متطرفاً لأستاذي، أم بذكريات خاصة معه لها بالغ الأثر في نفسي، فلقد اجتمعت به ورأيته منذ أكثر من خمسة عشر سنة، وتركت معرفتي به والتواصل معه من الأثر ما لم تتركه لقاءات أخر مع علماء غيره، مع أني من المكثرين في الأخذ ولقاء العلماء بالمقارنة مع غيري، وفي لحظات سابقة كنت أظن أن حكمي سيتغير لو أن الظروف أتاحت لي لقاء علماء غيره، وقد كان، لكني ما أزال أسير حتى اليوم بتلك الذكريات التي عايشتها معه، لا أزال مع كتابة أيّ مقال أتخيله وهو جالس، كيف يفكر، وكيف يمسك بقلمه، فأحاول أن أكتب كما لو كان في حياتنا لم يفارقنا، مع وجود الفارق بيننا، فهو العالم الأديب والمؤرخ الكبير، وأنا الطويلب المحب والراغب الحريص، ويبقى أن ما امتلكه أستاذنا "محمد رجب البيومي" من علوم ومعارف واسعة وما اضطلع به من مهام بحثية ومعرفية جسيمة هي كفيلة برفع اسمه في صدارة المتصدرين في الساحة الثقافية، والتكريم حلقة من الحلقات المهمة في حياة الكبار والمبدعين، ويجب جعله تقليداً راسخاً في النفوس، لا أريد أن أتذكر قولة الأستاذ وديع فلسطين "إذا رتبت فئات المجتمع من حيث حظوظها في الحياة، فالمؤكد أن المفكرين والأدباء لا يظفرون إلا بأدنى الحظوظ، فقد يشقى الأديب طول عمره ولا يجد إنصافاً، بل لعل الجحود يطارده حتى بعد الممات".
لا يسعني إلّا أن أجدد الذكرى بأمنيتي الجليلة في الاحتفال بمئوية الأستاذ الأكبر "محمد رجب البيومي" آملًا أن يلتفت الجميع لنابغة عصره وعملاق جيله؛ تقديراً وعرفاناً لجهوده، وتخليداً لفضله وآثاره، فما أسمى أن يقابل الوفاء بالوفاء! وليتني أستطيع على القول الوفاء بالفعل!
د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري
جريدة كل العرب بفرنسا، عدد فبراير