ابتسم لي ابتسامةً رقيقةً مُـعبِّرةً وهو على سرير المرض في المستشفى موصولاً بالأجهزة، وسُـرَّ حين عرف أنني من بلد شيخه الذي تعلَّم عليه الفقه الشافعي، وجدت بيني وبينه مَشابه في أسلوب الحياة؛ فكلانا اشتغل بمهنة الفلاحة ردحًا من الزمان، ولعلَّ هذه المشابه هي التي جذبتني إليه حين رأيته على تلك الصورة، وقد أظهر لي محبة زائدة في مصر وعلماء الأزهر الشريف، ولك أن تتخيَّـل صورة شيخ معمَّر كبير في أخريات عمره على سرير الموت يذكر ربـَّـه ويناجيه، ووجهه مشبَّه بالأنوار، كأنه قطعة قمر نزلت إلى تلك البقعة التي هو فيها!
كان المرحوم فوق علمه ومنصبه رجلًا كاملًا في خلقه، صادقاً في فعله، ذا نظرة مهيبة، سمحاً كريماً كعادة العرب الأوائل، رشيداً في سيره، مجتهداً في أعماله، رقيق الطبع، بعيداً عن التكلف، واسع الصدر، عظيم المهابة، طلق المحيا، مظهر رفعة، ميالًا إلى مجالس الصالحين وأهل السلوك، عرفتْه مجالس المدينة المنورة، وشهد بفضله أولو الفضل والعلم، وسجل التاريخ مواقف نيرة في حياته، ومشاركة في الحياة العامة.
عقدت بيني وبينه المعرفة، عـرف اسمي، وتشاجن بيننا الحديث، وعلمتُ في هذا المجلس بعض مشايخ العلم الذين تلقى عليهم هذا الشيخ الأجل، وقـد أراد أن يكرمني وهو على تلك الحال؛ فأجازني بما أجازه به مشايخه، وتلك والله مكرمة عظيمة سأظلُّ أذكرها طيلة حياتي!
زُرته مع ولده الفاضل عبد الرحمن في مستشفى باقـدو والدكـتور عرفان المشهورة بـــ"مستشفى عرفان"، وحقّ لمسجل التاريخ أن يجد في حياته وشخصيته ما يستوجب التعريف به، فهو من الأسماء التي اتصلت اتصالًا مباشراً بمجموعة من علماء المدينة العظماء، وممن بدت عليهم نتائج التدريس الأصيل بسرعة!
هو شيخنا القاضي الشهير والفقيه الشافعي الطائر الصيت عبد المعين بن محمد بن عطية الله أبو ذراع الحازمي الحربي، الزاهد على نهج السالكين، والمتعلق بسيرة أعيان الصالحين، ذو المثل الأخلاقية العليا والمواقف الرائعة، من قبيلة "الحوازم" المشهورة بالمدينة المنورة، وهي إحدى قبائل بني سالم من "حرب"، وُلِـدَ في حوش "أبو ذراع" بالمدينة المنورة سنة 1331 في أسرة ديِّـنــة على تربية أخلاقية طاهرة وسيرة مستقيمة، فيها نخوة وعز البداوة، وسلامة الفطرة، وتقاليد المروءة في وسط الفضل، ويـُنسب هذا الحوش لجـدِّه، وقد توفي والده وهو في السادسة من عمره، وتربى في دار والده بواسطة أمه الصالحة الكريمة، فأُدخل الكُـتَّـاب حتى حفظ القرآن الكريم، وشرع بعدها في التعلُّم، فتلقَّى تعليمه الأوَّلى على الشيخ محمد إبراهيم الشنقيطي، وكانت والدتـه الأمية شديدة الحرص على تربيته تربية دينية منذ البداية، فلم تكن تسمح له بالمخالطة مع أنداده من صبية الحارة، كما كانت تعتني بمظهره عناية خاصة تميِّـزه عن أنداده، خاصة وأنها فقدت شقيقًا له مات في صغره، فكان رحمه الله قُـــرَّة عينها.
آمن بعلو مقام العلم وشرف منصبه، وظهر استعداده الفطري لطلب العلم مصقولًا بالتربية البيتية الحسنة، فاتصل بدروس الأعيان من علماء عصره، واشتهر بكثرة الأخذ وسعة المطالعة!
لازم شيخه عبد الرؤوف بن عبد الباقي العبَّاسي المصري في الحرم النبوي الشريف وفي بيتــه، وقرأ عليه المذهب الشافعي وصحيح الإمام البخاري، ولقد كان من طوالع سعوده ومجده أن اتصل بالشيخ الفقيه الشافعي عبده أبو خضير، فأخذ متون الفقه الشافعي وكتبه المتداولة في التدريس، وكانت عوائد اتصاله به عليه كثيرة، وأحب شيء إلى نفسه، وقرأ علم الفرائض على الشيخ محمد العائش، وقرأ بمدرسة العلوم الشرعية سنة 1345 قــراءة خاصة شملت الـخط والـحساب والإملاء والنحو والبلاغة، وبعدها إلى المدرسة الابتدائية، وأجازه بالرواية: الشيخ عبد الرؤوف بن عبد الباقي، والشيخ محمد الطيب الأنصاري، والشيخ عبده أبو خضير، والشيخ محمد إبراهيم الختني، والشيخ عبد الحق بن عبد السلام النقشبندي.
يروي المذهب الشافعي من طريق شيخـه عبد الفتاح بن عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم أبو خضير المشهور بالشيخ عبده أبو خضير، وهو عن أبيه عبد الرحمن، عن أبيه محمد بن إبراهيم أبو خضير الدمياطي ثم المدني الشافعي (ت1303)، وهو عن المشايخ الأعلام: حسن الأزهري القويسني، وإبراهيم الباجوري، ومـحمد الـخضري الكبير بأسانيدهم الشهيرة.
اشتهر عنه ممن ترجم له أنه: عمل في المحاماة سنة 1360 حتى أُحيل للتقاعد سنة 1372، ثم عُـيِّن قاضيًا سنة 1380 في "خيبر"، ومكث فيها ست سنوات، ثم نـُــقِـلَ للمدينة عضوًا بمحكمة المدينة، هكذا كتب في ترجمته، وهو غير صحيح كما أخبرني بذلك ولده الفاضل عبد الرحمن؛ فلم يعمل في المحاماة قط، وإنما عمل في الفلاحة مزارعًا في الأرض إلى أن عين قاضيًا على غير رغبة منه، فقد اضطر إلى العمل في القضاء، ومكث فيه مدَّة عشرين سنة، ودرَّسَ بالمسجد النبوي الشريف، ولم يقطعه شغل الوظيفة عن الاعتناء بالعلم والتعليم، واشتهر بالذكاء في النظر، والجد في العمل، وعرف له المنزلة الجليلة بين علماء المدينة.
كتب لي ولده الفاضل عبد الرحمن في رسالة خاصة عن والده أنـّه: "لـم يعمل بالمحاماة، بل كان فلاَّحًا في مزرعته في المدينة المنورة كوالده رحمهما الله، ثم اضطر إلى العمل بالقضاء وهو كارهٌ له حتى أتم ٢٠ سنة، ثم أُحيل للتقاعد عام ١٣٩٩تقريبًا“، وقــد عمل قاضيًا في خيبر، ثم في محكمة جـدَّة إلى أن أصبح رئيس المحكمة المستعجلة بالمدينة المنورة، ولعلَّه لَـم يمـارس المحاماة لعدم وجود محامين في ذلك الوقت، ولكن ربما يستشيره بعض أصحاب القضايا فيزوِّدهم برأيه القضائي، فكان مرجعهم لا سيما في الصور الغريبة، وقد أظهر في مباشرة القضاء من سمو الإدراك وقوة اليقظة ما جعله واسع الشهرة، وعمدة من عمده.
كانت له رحمه الله مكتبة عامرة بكتب الفقه والشعر والأدب ومختلف العلوم، وكان متقنـًا لعلم الفرائض، وله باع طويل في الحسابيات وتوزيع التركات نشأ عن اهتمامه منذ صغره بالعلوم الرياضية، ويذكر أولاده عن والدهم أنـّه من ضمن قائمة علماء المدينة الذين كانوا يـُصمِّمون (شباك حصْر الإرث) ليعرف كلُّ وارثٍ مقدار ما يخصُّه، وكان مرجعًا فيها.
يعدّ الفقيد من طبقة علمية فريدة، عمت شهرتها، وعلت قيمتها، وثبت أصلها، وكثر نفعها.
في ليلة الجمعة السادس من شهر رمضان سنة 1430، يوافقه السابع والعشرون من شهر أغسطس سنة 2009م توفي أستاذنا المرحوم في مدينة جدَّة، ونـُـقلَ جثمانه الشريف إلى المدينة المنورة كما أوصى بذلك، وصُلِّي عليه بعد صلاة الجمعة في الحرم النبويّ الشريف، ودُفِــن في بقيع الغرقـد في موكب مشهودٍ. رفع الله مقامه في أهل النجاة كما رفع منار العلم والقضاء في الحياة!
د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب ازهري
مجلة النيل والفرات، عدد: 34، الشكر والتقدير لأسرة التحرير
كان المرحوم فوق علمه ومنصبه رجلًا كاملًا في خلقه، صادقاً في فعله، ذا نظرة مهيبة، سمحاً كريماً كعادة العرب الأوائل، رشيداً في سيره، مجتهداً في أعماله، رقيق الطبع، بعيداً عن التكلف، واسع الصدر، عظيم المهابة، طلق المحيا، مظهر رفعة، ميالًا إلى مجالس الصالحين وأهل السلوك، عرفتْه مجالس المدينة المنورة، وشهد بفضله أولو الفضل والعلم، وسجل التاريخ مواقف نيرة في حياته، ومشاركة في الحياة العامة.
عقدت بيني وبينه المعرفة، عـرف اسمي، وتشاجن بيننا الحديث، وعلمتُ في هذا المجلس بعض مشايخ العلم الذين تلقى عليهم هذا الشيخ الأجل، وقـد أراد أن يكرمني وهو على تلك الحال؛ فأجازني بما أجازه به مشايخه، وتلك والله مكرمة عظيمة سأظلُّ أذكرها طيلة حياتي!
زُرته مع ولده الفاضل عبد الرحمن في مستشفى باقـدو والدكـتور عرفان المشهورة بـــ"مستشفى عرفان"، وحقّ لمسجل التاريخ أن يجد في حياته وشخصيته ما يستوجب التعريف به، فهو من الأسماء التي اتصلت اتصالًا مباشراً بمجموعة من علماء المدينة العظماء، وممن بدت عليهم نتائج التدريس الأصيل بسرعة!
هو شيخنا القاضي الشهير والفقيه الشافعي الطائر الصيت عبد المعين بن محمد بن عطية الله أبو ذراع الحازمي الحربي، الزاهد على نهج السالكين، والمتعلق بسيرة أعيان الصالحين، ذو المثل الأخلاقية العليا والمواقف الرائعة، من قبيلة "الحوازم" المشهورة بالمدينة المنورة، وهي إحدى قبائل بني سالم من "حرب"، وُلِـدَ في حوش "أبو ذراع" بالمدينة المنورة سنة 1331 في أسرة ديِّـنــة على تربية أخلاقية طاهرة وسيرة مستقيمة، فيها نخوة وعز البداوة، وسلامة الفطرة، وتقاليد المروءة في وسط الفضل، ويـُنسب هذا الحوش لجـدِّه، وقد توفي والده وهو في السادسة من عمره، وتربى في دار والده بواسطة أمه الصالحة الكريمة، فأُدخل الكُـتَّـاب حتى حفظ القرآن الكريم، وشرع بعدها في التعلُّم، فتلقَّى تعليمه الأوَّلى على الشيخ محمد إبراهيم الشنقيطي، وكانت والدتـه الأمية شديدة الحرص على تربيته تربية دينية منذ البداية، فلم تكن تسمح له بالمخالطة مع أنداده من صبية الحارة، كما كانت تعتني بمظهره عناية خاصة تميِّـزه عن أنداده، خاصة وأنها فقدت شقيقًا له مات في صغره، فكان رحمه الله قُـــرَّة عينها.
آمن بعلو مقام العلم وشرف منصبه، وظهر استعداده الفطري لطلب العلم مصقولًا بالتربية البيتية الحسنة، فاتصل بدروس الأعيان من علماء عصره، واشتهر بكثرة الأخذ وسعة المطالعة!
لازم شيخه عبد الرؤوف بن عبد الباقي العبَّاسي المصري في الحرم النبوي الشريف وفي بيتــه، وقرأ عليه المذهب الشافعي وصحيح الإمام البخاري، ولقد كان من طوالع سعوده ومجده أن اتصل بالشيخ الفقيه الشافعي عبده أبو خضير، فأخذ متون الفقه الشافعي وكتبه المتداولة في التدريس، وكانت عوائد اتصاله به عليه كثيرة، وأحب شيء إلى نفسه، وقرأ علم الفرائض على الشيخ محمد العائش، وقرأ بمدرسة العلوم الشرعية سنة 1345 قــراءة خاصة شملت الـخط والـحساب والإملاء والنحو والبلاغة، وبعدها إلى المدرسة الابتدائية، وأجازه بالرواية: الشيخ عبد الرؤوف بن عبد الباقي، والشيخ محمد الطيب الأنصاري، والشيخ عبده أبو خضير، والشيخ محمد إبراهيم الختني، والشيخ عبد الحق بن عبد السلام النقشبندي.
يروي المذهب الشافعي من طريق شيخـه عبد الفتاح بن عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم أبو خضير المشهور بالشيخ عبده أبو خضير، وهو عن أبيه عبد الرحمن، عن أبيه محمد بن إبراهيم أبو خضير الدمياطي ثم المدني الشافعي (ت1303)، وهو عن المشايخ الأعلام: حسن الأزهري القويسني، وإبراهيم الباجوري، ومـحمد الـخضري الكبير بأسانيدهم الشهيرة.
اشتهر عنه ممن ترجم له أنه: عمل في المحاماة سنة 1360 حتى أُحيل للتقاعد سنة 1372، ثم عُـيِّن قاضيًا سنة 1380 في "خيبر"، ومكث فيها ست سنوات، ثم نـُــقِـلَ للمدينة عضوًا بمحكمة المدينة، هكذا كتب في ترجمته، وهو غير صحيح كما أخبرني بذلك ولده الفاضل عبد الرحمن؛ فلم يعمل في المحاماة قط، وإنما عمل في الفلاحة مزارعًا في الأرض إلى أن عين قاضيًا على غير رغبة منه، فقد اضطر إلى العمل في القضاء، ومكث فيه مدَّة عشرين سنة، ودرَّسَ بالمسجد النبوي الشريف، ولم يقطعه شغل الوظيفة عن الاعتناء بالعلم والتعليم، واشتهر بالذكاء في النظر، والجد في العمل، وعرف له المنزلة الجليلة بين علماء المدينة.
كتب لي ولده الفاضل عبد الرحمن في رسالة خاصة عن والده أنـّه: "لـم يعمل بالمحاماة، بل كان فلاَّحًا في مزرعته في المدينة المنورة كوالده رحمهما الله، ثم اضطر إلى العمل بالقضاء وهو كارهٌ له حتى أتم ٢٠ سنة، ثم أُحيل للتقاعد عام ١٣٩٩تقريبًا“، وقــد عمل قاضيًا في خيبر، ثم في محكمة جـدَّة إلى أن أصبح رئيس المحكمة المستعجلة بالمدينة المنورة، ولعلَّه لَـم يمـارس المحاماة لعدم وجود محامين في ذلك الوقت، ولكن ربما يستشيره بعض أصحاب القضايا فيزوِّدهم برأيه القضائي، فكان مرجعهم لا سيما في الصور الغريبة، وقد أظهر في مباشرة القضاء من سمو الإدراك وقوة اليقظة ما جعله واسع الشهرة، وعمدة من عمده.
كانت له رحمه الله مكتبة عامرة بكتب الفقه والشعر والأدب ومختلف العلوم، وكان متقنـًا لعلم الفرائض، وله باع طويل في الحسابيات وتوزيع التركات نشأ عن اهتمامه منذ صغره بالعلوم الرياضية، ويذكر أولاده عن والدهم أنـّه من ضمن قائمة علماء المدينة الذين كانوا يـُصمِّمون (شباك حصْر الإرث) ليعرف كلُّ وارثٍ مقدار ما يخصُّه، وكان مرجعًا فيها.
يعدّ الفقيد من طبقة علمية فريدة، عمت شهرتها، وعلت قيمتها، وثبت أصلها، وكثر نفعها.
في ليلة الجمعة السادس من شهر رمضان سنة 1430، يوافقه السابع والعشرون من شهر أغسطس سنة 2009م توفي أستاذنا المرحوم في مدينة جدَّة، ونـُـقلَ جثمانه الشريف إلى المدينة المنورة كما أوصى بذلك، وصُلِّي عليه بعد صلاة الجمعة في الحرم النبويّ الشريف، ودُفِــن في بقيع الغرقـد في موكب مشهودٍ. رفع الله مقامه في أهل النجاة كما رفع منار العلم والقضاء في الحياة!
د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب ازهري
مجلة النيل والفرات، عدد: 34، الشكر والتقدير لأسرة التحرير