مجدي جعفر - قراءة في المجموعة القصصية ( فاكهة بشرية ) للكاتبة هدى توفيق

اختارت الكاتبة فترة زمنية من أخطر الفترات التي مر بها المجتمع المصري، وهي فترة الانفتاح الإقتصادي، والذي أسماه الكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين ( انفتاح السداح مداح ) والذي تحول فيه المجتمع المصري مائة وثمانون درجة، من نظام اشتراكي إلى نظام رأسمالي، هذا التحول السريع والمباغت، ولم يكن المجتمع مهيئا له أثر تأثيرا بالغا في الشخصية المصرية، وتكاد تكون معظم قصص المجموعة القصصية، رصدا دقيقا للتغيرات التي طرأت على الشخصية المصرية بسبب هذا القرار المتعجل وغير المدروس.

في قصتها ( أصابع ذهبية ) مثلا قدمت لنا الأربع إخوة أصحاب الأصابع الذهبية، كنموذج دال على الشخصيات التي نشأت وترعرت في ظل الانفتاح، وتمثل النماذج التي أفرزتها هذه الفترة خير تمثيل، وتشير فيها إلى :

1 – بزوغ نجم أصحاب حرف ومهن مثل مهنة الحلاقة، فالأخ الأكبر صاحب الأصابع الذهبية، كان حاذقا وذكيا وماهرا، ونقل إلى إخوته الأصغر خبرته ومهارته، فصاروا نجوما تتقاطر عليهم الفتيات والسيدات بعد أن افتتحوا كوافيرا للسيدات يحمل اسم ( الأصابع الذهبية ).

2 – شيوع ثقافة الاهتمام بالجسد، وخاصة عند المرأة.

3 – سرعة انتشار هذا التحول السريع ( ثقافة الانفتاح الجديدة ) إلى أقاليم مصر، واختارت الكاتبة بني سويف نموذجا، لقربها جغرافيا من القاهرة، ولأنها أيضا موطن أصحاب الأصابع الذهبية، فاختار الأخ الأكبر المحل في بندر بني سويف، ( في حي راق يطلق عليه أحياء بني سويف الجديدة، وسط محلات حديثة باسماء أجنبية وحديثة الطراز، مثل : شانيل، لارا، بلونو، مازنجر وغيرها من الأسماء التي طرأت على الطراز الجديد في المدينة منذ التسعينيات ).

4 – ابتعاد أصحاب المال عن ضخ أموالهم في انتاج السلع الضرورية أو حتى التجارة فيها، فتحولت الأموال إلى السلع الترفيهية والكمالية والاستهلاكية، فنجد شركاء أثرياء يشاركون الأخ الأكبر بفتح سنتر من طابقين وكوافير بأحد الأحياء الراقية بالقاهرة، هم برأس المال وهو بخبرته وأصابعه الذهبية، ( فالمحل كان يتميز بتوفير الشراء لجميع أدوات الماكياج، والمساحيق، حتى الباروكة، والأظافر العيرة التي تُلصق بالأصابع الحقيقية، وبمختلف ألوان الطلاء " المانكير والبادكير " ).

5 – من ملكات نجوم هذا العصر، هو الانتهازية، وهذا ما نجده في الأخ الأكبر النهاز للفرص وفي شركائه الموسرين أيضا.

( الأخ الأكبر كان يتعامل في تجارة البضائع المستوردة، التي تأتيه عن طريق أصدقاء يسافرون إلى تركيا وليبيا، والسوق الحرة، غير ما يأتي من العتبة والموسكي، والوكالة، وكل مناطق الأسواق المنتجة من المحافظات في ذاك الوقت مع الثمانينيات، في عصر الانفتاح والمضاربات، والتوكيلات، التي انتشرت في ربوع مصر كلها ).

6 – أصبح الاحتياج إلى الكوافير النسائي الماهر ضرورة ملحة تقتضيها ظروف العصر، فتفرق الأخوة المهرة الشركاء أصحاب الأصابع الذهبية في أماكن متفرقة.

7 – أصبح الربح هو الذي يحكم العملية الاقتصادية، فذهبت الأموال إلى السلع غير الضرورية والتي تدر أرباحا هائلة، فتغيرت أدوات الإنتاج ووسائله.

وركزت الكاتبة كاميراتهاعلى الأخ الثاني لتعكس من خلاله الثقافة الجديدة لهذه الطبقة التي بدأت تملك المال وتأخذ طريقها للصعود بسرعة الصاروخ، وتزيح من أمامها الطبقة المتوسطة، عصب أي مجتمع، وتقدم لنا ثقافتهم في الملبس، والمأكل، والأغاني الجديدة وتمثلهم للثقافة الغربية، وقد أخذوا من الثقافة الغربية كل ما هو سيء تاركين أعظم ما فيها وهو التقدم العلمي المذهل، والعمل وخلافه.

ومن الخصائص التي تميزت بها الكاتبة:

أ - القدرة الهائلة على الوصف، والمهارة في رصد التفاصيل الصغيرة، قد يمتد الوصف عندها أحيانا ليحتل أكثر من ثلاثة أرباع القصة، ورغم طول الوصف الذي تتطلبه الرواية أكثر من القصة القصيرة، لا يستنكفه القارئ ولا يمله، بل يستعذبه، فقد يتسع وصفها للكوافير إلى عدة صفحات، وتصف كل ما تلتقطه بعينيها، إنسانا كان أو حيوانا أو مكانا أو .. أو .. ورغم جمال الوصف عندها، ولكنه في أحيان قليلة يكون عبئا على القصة.

ب – الاهتمام بالبُعد الحكائي، والولع بالحكايات، فتنتقل من حكاية إلى حكاية، وقد تنتظم القصة الواحدة أكثر من حكاية، وقد تتولد من الحكاية حكاية جديدة، وكأن الحكايات عندها تتناسل وتتوالد.

ج – الاهتمام برسم شخصياتها، ولننظر كيف رسمت شخصية الأخ الثاني الذي كان أقصر إخوته قامة ( سمين الوجه، بشفتين غليظتين، بشرة سمراء، وشعر أكرت، بالتواءات خشنة لا يقصها، وعلى جانبي وجهه سوالف طويلة فتجعله أشبه بالهيبز، ورواد موسيقى الروك التي كان يعشق الإنصات إليها ومشاهدتها ).

( يدخن السجائر المستوردة )، وتشير من خلال هذا الوصف إلى إحلال ثقافة جديدة فرغت الشخصية المصرية من خصوصياتها،وتصفه أيضا من خلال صورتين معلقتين بالمحل، يظهر في الصورة الأولى مع كلبه ( وهو يرتدي بدلة بيضاء صيفية، بقميص أخضر فاتح، وكرافت عريض، مقلم بالأخضر والأبيض، وخلفية سوداء، وبجانبه الكلب جولد الضخم، جالسا أسفل قدميه، يتدلى منه سلسلة فضية لامعة، التقطها له صديقه المصوراتي المعروف نجمة عرابي، بلقطاته المميزة في التقاط النظرات المعبرة، واللفتة الجاذبية المثيرة للتمعن، وبطل الصورة يبتسم بغرور، وأنفه مع كلبه ، بعنفوانه وكبريائه، بعيون صقرية، ولكنها عذبة ووديعة، يلتف رقبته طوق جلدي أسود ).

والكاتبة لا تقف عند الوصف الخارجي لشخصياتها، ولكنها تغوص بداخلها أيضا، ناقلة ما يعتمل في نفسها الموارة، وما يدور في عقلها، وهذا ما فعلته بالضبط مع الأخ الثاني التي سردت لنا معاناته ومكابداته، حتى الكلب الذي وصفته لنا في الصورة، تذكر لنا أزماته الداخلية الخانقة هو الآخر، وتحكي لنا قصة الكلب منذ أن اشتراه الأخ الثاني من أحد الأصدقاء الذي سافر للعمل بالخارج، وأوصاه به خيرا، وأخبره بما يحب وما يكره، والوجبات المفضلة له، حتى نوع الشامبو الذي يجب أن يستعمله، تحكي لنا قصة الكلب منذ أن اشتراه حتى مات على يد والده بعد أن عقر أحد أبناء الجيران الذي لا يفتأ أن يتحرش به ويضايقه ويقذفه بالطوب والحجارة، تخلص الأب منه بالموت ارضاء للجيران وبعد معالجة ابنهم على نفقته، وتسرد لنا حزن الكلب على سفر صاحبه الأول وعزلته، وكيف عافى الطعام وامتنع عن الشراب حتى هزل وأوشك على الموت، فتم الاستعانة بطبيب استطاع أن يخرجه من حالته، وينجح الطبيب في ربط الكلب بصاحبه الجديد، ويتعلق كل منهما بالآخر، وقتل الأب للكلب جعل الابن الثاني حزينا مكتئبا ويهرب من البيت، ولا يطيق البقاء فيه بدون كلبه، وإذا كانت الكاتبة قد صدرت المجموعة بمقولة عن الحقيقة الوحيدة في الحياة والحقيقة الوحيدة في الفن لفرناندو بيسوا، والأولى هي الأحاسيس والثانية هي الوعي بهذه الأحاسيس، فإن الكاتبة كانت على وعي بصير بهذه الأحاسيسن، وكما نقلت أحاسيس الكلب، نقلت أحاسيس صاحبه، وقدمت مشاهد درامية كثيرة من حياته، وكيف التقى بام صديق له بالجامعة، أرملة، فاتنة، وسرعان ما توثقت العلاقة بينهما، وأحبها وتزوجها سرا لمدة عامين، وهروبه إلى الإسكندرية بعد اكتشاف والده رسوبه، وإيهامهم بأنه في البكالوريوس، وتعرفه بالأسكندرية على سيدة كانت متزوجة من رجل ليبي، وأحبت شخصا آخر من جنوب مصر وكان يعمل في الجمارك، وكان قد أحبها، و .. و ..

أعتقد أن هذه هي القصة المفتاح، ومن خللها نستظيع الولوج إلى عالم الكاتبة، وما تثيره من رؤى وأفكار وقضايا في فترة تحول سياسي واقتصادي مر بها المجتمع المصري.

في ( يوميات تباريح أندلسية )، تعلن الكاتبة أنها ستدون بعض الحكايات، وهذه الحكايات ستتناول الحب والعاصفة والجريمة، وكأنها تحدد سلفا للقارئ الموضوعات التي ستتناولها، والحب في تلك الفترة أصبح مرادفا للجنس، وشاعت الجريمة وانتشرت وأخذت أشكالا غريبة وجديدة وغير مألوفة على المجتمع.

و ( قصة الجريمة الكاملة ) هي إفراز ذلك العصر، أربع شباب يتعاطون الكيف، ويتاجرون في المواد المخدرة، وهم يعملون كصبية لتاجر كبير، يوزعون المخدرات نظير نسبة معينة، ويحقدون على زميل لهم، يضاجع فتاة جميلة، ويريدون أن يتقاسمونها معه، فيرفض بشدة، فهو يريدها خالصة له وحده، وتفشل معه كل الحيل، فيقررون قتله، والكاتبة تنحرف بالقصة انحرافا حادا وخطيرا، فمن محاولة قتله وتعذيبه، يذهبون إلى البحيرة ( حوش عيسى ) ويقتلون عامل مدرسة يمت لأحدهم بصلة قرابة، فيهربون إلى الإسكندرية و تعج القصة بأحداث أخرى كثيرة، قد تفتقد إلى التماسك، والترابط المنطقي، وربما أرادت من خلال هذه الأحداث المفككة أن تبين أثار تعاطيهم للبرشام والمخدرات، الذي ذهب بعقولهم، وعندما يذهب العقل، يكون اللامنطق، وكأنها تشير إلى أن الجنس المتمثل في محاولتهم المستميتة مشاركتهم صديقهم فتاته الجميلة، والمخدرات حيث يقومون بتعاطيها وتوزيعها، هما من أسباب الجريمة.

وكنت أتمنى أن تكون بداية القصة من السطر السادس : ( كان لطفي جالسا في شقة وضيعة، بل ممكن أن نصفها بالحقيرة، .....) فالأسطر الخمس الأولى تكشف القصة، وتقدم العظة التي يجب أن يستشفها القارئ بنفسه.

وفي قصة ( حلم فرعوني ) تشير إلى الفساد الذي استشرى في المجتمع المصري، وبلغ مداه، فتجرأ رجال المال الجُدد في هذه الفترة على مقابر الأجداد العظام، وتشكلت عصابات ومافيا بحثا عن الكنوز المدفونة في باطن الأرض، وتبدأ القصة بمهندس مصري كان يعمل مع الأمريكان إبان حرب الخليج وإثر اجتياح صدام العراق لدولة الكويت في العام 1991م، وكان عمله مع أجهزة المخابرات في تكنولوجيا الاتصالات، وتدرب على الأجهزة ذات التقنيات والكفاءة العالية، وعاد إلى أرض الوطن بعد أن شبع ومل من الأمريكان والحروب والتجسس والتلصص التكنولوجي، ويكتشف هذا المهندس مقبرة بإحدى قرى بني سويف، يُشاع أنها مقبرة كاملة لملك وملكة وأولادهما الثلاثة من الأسرة الثالثة للمصريين القدماء، تقع في المنطقة الجبلية شرق النيل، والجبل على ارتفاع ثلاثين مترا، ( في وجه الجبل محفور نصف وجه الملك، ويشير بيديه إلى هرم ميدوم، لكن أين المقبرة بالضبط، لا يُعرف بعد وجودها الحقيقي، ولكن يبدو أنها في هذا المكان، وذلك من إشارات تدل على ذلك، أثبتها البحث والتحري .. )

والعم سليمان شارك المهندس بمكافأة المعاش، طمعا في نصيب له من الكنز الفرعوني، والحلم بالثراء، والمهندس لا يعمل وحده، كان يشترك معه حوالي خمسة وعشرون شخصا من رجال الدولة ورجال الأعمال ورجال من مباحث الآثار، وذلك لتسهيل إدخال الآت الحفر، والتنقيب، وعندما تم عرض الصور على الخبراء، أكدوا على وجود المقبرة كاملة، وهؤلاء الخبراء الأجانب جاءوا بمعرفة رجل الأعمال الذي يعيش في لندن منذ أكثر من العشرين عاما، وضخ أكثر من ( 600 مليون دولار أمريكي ) للظفر بهذه المقبرة، وهذه المقبرة مليئة بالأنفاق والتعاريج، وبها مجرى مائي متغلغل في الجبال من الأعلى إلى الأسفل، وبها صور للبوم والفئران والقرود، ويظل المجرى المائي، رغم الأجهزة المتطورة هو العائق في سبيل وصولهم إلى المقبرة واغتنام كنوزها وخيراتها، وهذا ما يؤرق العم سليمان، وما يؤرقه أيضا أن المهندس هو حلقة الوصل الأولى والأساسية لكل مجريات الأمور، وترتيبها لتدور في دائرة مغلقة عليه هو فقط، فماذا لو حدث للمهندس مكروه؟ لو مات، هل تضيع أمواله؟

والقصة على هذا النحو تسير سيرا جميلا، ولكن الكاتبة للأسف تصر على الانحراف بمسارها، وتذهب إلى العم سليمان ليستعيد بطولاته ومغامراته النسائية، ويلقي علينا دروسا في الفحولة والجنس، ونحن لسنا ضد أن تعالج الكاتبة موضوع الجنس من خلال العم سليمان أو غيره، ولكن الموضوع صار عبئا على القصة، وكان يمكن اجتزاء العم سليمان في قصة مستقلة، وخاصة أن هذا الموضوع شائق وجيد، ووفرت الكاتبة البدايات الحقيقية مع بدايات الانفتاح وانتشار اشرطة الفيديو التي تروج للبورنو وطرق الجنس وخلافه من هذه الثقافة التي شاعت وانتشرت : ( من صغري وأنا أحب الجنس، وادمن مشاهدة أفلام البورنو، كنت أؤجر شرائط الفيديو من عند عماد خانكة، اشهر محل لإيجار وشراء الشرائط، باحدث الأوضاع، والألقاب الجديدة، التي تظهر في سوق المشاهدات والأفلام على عرض جهاز الفيديو، الذي اشتريته مستعملا من أحد اصدقائي في العمل .. )

وعلاقته بزوجته مأزومة :

( هجرتني زوجتي لسنوات طوال، لأنها تعلم أنني لا أحبها، وأخونها بكل بجاحة وجهر، دون أي خشية أو مراعاة لها )

( وهي تعترف أنها لا تحبني، ولا تطيق مضاجعتي أو عشرتي في منزل واحد )

وعلى لسان العم سليمان تسرد الكاتبة مغامراته النسائية، من جمالات الفتاة الصغيرة والتي تنادية بالخال على عادة أبناء الريف المصري، وزميلته في العمل، وجارته السمراء وصولا إلى ناهد آخر حكاياته مع الحب والجنس ( كنت أعشفها ولم ألمسها، لأنني تمنيتها زوجة وحبيبة لبقية عمري، الذي ضاع مع من كن يعانين ويبحثن عن البديل، حتى يفرغن مني، ويبحثن عن هدفهن الأحسن، .. )

وتأخذنا الكاتبة من موضوع الجنس إلى موضوع الجن الذي تلبس حبيبته، ويضاجعها ويعاشرها معاشرة الأزواج، وتردده على الشيوخ بعد أن بدأ يحس بالهمود وحالة الارتخاء، فأكد له الشيخ الدجال بأن زوجته هي قامت بعمل ربط له :

( تناولت كل الأعشاب، ووضعت كل الأحجبة سواء المشبوكة في الفانلة، وتحت الوسادة )

وبعد فشل الشيوخ في معالجة حالته يذهب إلى الطبيب، الذي ينجح في معالجته عن طريق بعض الحقن والعفاقير.

أعتقد أن القصة القصيرة لا تحتمل كل هذه الأحداث ولا كل هذه الحكايات، فهل يمكن اجتزاء هذه القصة إلى قصتين أو أكثر؟

أعتقد أن الكاتبة وفرت كل عوامل النجاح لقصتين أو أكثر تتناسل وتتوالد من هذه القصة الأم.

وفي قصة ( حالة شعبية مفرطة ) تقترب الكاتبة أكثر من الهامشيين الذين يعيشون في العشوائيات، وبمهارتها المعروفة في الوصف، تقدم لنا وصفا دقيقا لأحد الأحياء العشوائية بمبانيه الواطئة والمتراصة في غير نظام، وشوارعه الضيقة، وحواريه وأزقته، وتنقل لنا طرق وأساليب الحياة في هذا الحي، والفهلوة في التقاط الرزق، والجدعنة، وتعظيم دور الأشقياء والبلطجية، وقدمت لنا طقوس الفرح في أحد حفلات العُرس في هذا الحي، وحضور المخدرات والمكيفات بكل أنواعها، وأساليب وطرق تقديمها، وهي على مستويات :

( الأولى : حبوب النوفاسيين، برونكلاز، نوفوترل، كل بلطجي يختار ما يناسب ذاقته.

المستوى الثاني : طبق به قطع من الحشيش، ونتف من الأفيون، ويأتي رجل يضع الواجب وينصرف، ويأتي رجل آخر يضع صندوقا من البيرة أسفل أقدام البلطجية، ويتناوب الجميع التناول من الطبق الأول والثاني بين خلطة الاستحلاب أو الاستنشاق والشم أو في أكواب ماء أو الشاي أو لفائف السجائر بعد تفريغها بلفها بماكينة أو يدوي أو خوابير أو على الشيشة كل على حسب دماغ البلطجي الذي يتناول الواجب )

وتأتي ( قصة أقوى من الزمان ) لتحتفي الكاتبة بالصوت والضوء واللون، وتتألق فيها الكاتبة فنيا، وتؤكد تالقها الفني، وتماهيها مع الكون، ومحاولة التصالح مع النفس والبشر والإله الأعظم، ومع الوطن الذي يبقى أبدا أقوى من الزمان.

ومن القصص الجياد، قصة ( فلورا الافتراضية ) التي استخدمت فيها خاصيتي الاختزال والتكثيف وهما من أهم خصائص القصة القصيرة، وتدور فكرتها حول إدمان إحدى الفتيات للسوشيال ميديا، وتنعزل عن الواقع المحيط بها، وتعيش بالكلية في هذا العالم الافتراضي، وأصبحت تقاسي وتعاني الأمرين من حركتها في واقعها المُعاش وفي حركتها أيضا داخل محيطهاالاجتماعي، وتُقابل بالسخرية من زميلاتها، وتذهب بها أمها إلى طبيب نفسي ليجد حلا لابنتها التي انفصلت عن واقعها بحلوه ومره وخيره وشره.

وتميزت قصة ( ها .. ها .. أنا الأمل ) بإيجابية بطلتها، وإصرارها على النجاح، رغم المثبطات والمعوقات، فعانت من زرجة ثانية ( ضرتها )، ومن الزوج الخائن، الذي تزوج من سكرتيرته وخسر كل أملاكه، وعانت في تربيتها لأولادها بعد أن انفصلت عن زوجها، حتى ثورة ينايرحرقت قلبها، عندما قالوا لها ببرود إن أوراقك قد حُرقت في ثورة يناير، فانحرق قلبها لأنها كانت تُمني النفس بهذه الشهادة لتحقق حلمها في العمل كمدرسة، وبذلت جهدا كبيرا في الالتحاق بالتعليم المدمج وهي الحاصلة على دبلوم التجارة، وذاكرت واجتهدت وأتت ثورة يناير لتُجهض الحلم، وللأسف تم تحميل هذه الثورة كل الموبقات، وهي إشارة ذكية من الكاتبة إلى الذين يُحملون الثورة كل الموبقات وكل الشرور وتعليق كل الفشل والخيبات عليها، ولم تيأس هذه السيدة، ولكنها أعادت الكرة من جديد، وحصلت على الشهادة، لتحقق حلمها في النهاية بالعمل كمعلمة للاطفال.

ومن القصص البديعة والماتعة قصة ( الثلاثاء الحزين )، فتقترب الكاتبة من عالم المسنين، وتتعامل بنبل وشفافية مع الأم التي أقعدها المرض، ولا تستطيع أن تقضي حاجتها، وليس لها في الدنيا من يعني بها ويقوم على خدمتها ونظافتها غير ابنها وابنتها، وقد قسما أيام الأسبوع بينهما، ويبقى يوم الثلاثاء فقط، لا يذهب أي منهما إليها في هذا اليوم، فيغزوها الحزن الشديد، ويعتصرها الألم، وتسود الدنيا في وجهها، وتدعو على نفسها بالموت، فهي تريد أن تتطهر لتؤدي الصلوات، ولا تستطيع، وتقيم الكاتبة علاقة جميلة بين البنت في طفولتها والأم في شيخوختها، وتقيم مقابلة ذكية بين دس الأم لإبنتها الحبوب والدواء في سندوتش الحلاوة، وبين اخفاء الأم في شيخوختها علبة الحلاوة التي منعها الأطباء من تناولها، ومحاولتها اختلاس بعض الحلاوة في غفلة من ابنتها، وتتماهى طفولة البنت مع شيخوخة الأم، وكأن العوامل المشتركة بين مرحلتي الطفولة والشيخوخة أكثر بكثير مما نعرف، فعزفت الكاتبة بمهارة على عفوية وبراءة الطفولة والشيخوخة.

ومن القصص اللافتة والكاشفة لطبقة الهامشيين الذين يعيشون على أطراف الحياة، تقترب الكاتبة من طفلة عدوانية، فتكت بإحدى زميلاتها في المدرسة، وكادت أن تقضي عليها، وهذا الفعل استوجب فصلها من المدرسة، وهذه البنت كما حدثت جدتها التي ترعاها للأخصائية النفسية وللأخصائية الاجتماعية وللمعلمات، ضحية أب حرامي، نعم ابني حرامي وأمها هربت وتزوجت وهي على ذمة ابنها زواجا عرفيا من آخر دون طلاق، وأنجبت منه طفلا، وهربت لتتزوج من ثالث وأنجبت منه طفلين، ولم يتم تسجيلهما بسجلات الحكومة حتى اليوم، وهي حاليا بالسجن، بعد أن رفع ابنها دعوة زواجها من آخر وهي على ذمته، ودعوة أخرى للطعن في نسب البنت، وترجوهم الجدة بضرورة تسليم ملفها لها لتقدمه إلى مؤسسة رعاية، أكثر من ثلاثة أشهر وهي تجري على مكاتب الموظفين، حتى حصلت على الموافقة، لم يبق أمامها غير تسليم ملفها، لترتاح من همها، فلم تعد بقادرة على خدمتها، والجري وراءها في الشوارع والخرابات، ولأن القانون يمنع تسليم ملف الطالبة لولي الأمر شخصيا، فكيف يتم تسليم الملف وابنها مسجل خطر، وهارب من الحكومة وكاره للبنت ولا يطيقها، وعندما سألتها الموظفة عن هاتف مدير أو مديرة مؤسسة رعاية الأيتام، أعطتها التليفون، وعندما سألتها عن اسمه أو اسمها، قالت اتوبيس! فضحكت الموظفة وقالت مستنكرة : اسمه اتوبيس؟ ردت الجدة، كان ابني الآخر يُملل علىّ رقم هاتف مدير مؤسسة الرعاية وأنا بالأتوبيس، وطلبت من جار لي بالمقعد أن يسجل لي الرقم، وعندما سألني عن اسمه ليسجله، قلت له : اكتب اتوبيس!!

وقصة ( فاكهة بشرية ) من القصص الطريفة، وصاغتها الكاتبة بلغة ساخرة، فمنجة وموزة من عائلة بطيخ من إحدى قرى كفر شكر، تعملان كموظفتين بسيطتين، ويعانيان من شظف العيش وعُسر الحال، موزة تزوجت وطُلقت ولم تنجب، ومنجة هي الأخرى تزوجت وطُلقت ولكنها أنجبت أربعة أولاد ( شاب معاق عمره ثمانية عشر عاما، وهو الابن الوحيد الذي يسير بكرسي متحرك، رغم أن بقية بناتها في صحة تامة ).

ومنجة شخصية نكدية، تبكي دون سبب، وتضحك دون سبب، وغير سوية نفسيا، وتقيم الكاتبة مقاربة رائعة بين حياة منجة وحياة هؤلاء النسوة اللاتي يعملن بالمجلس القومي للمرأة، فكل أماني منجة أن تعمل في هذا المجلس ولو ليوم واحد :

( كانت تطمح أن تعمل في المجلس القومي للمرأة مرة واحدة، وتتشدق وتتحدث كما تشاهدهن في التلفزيون، وهن يصخبن، ويعبرن عن حقوقهن، ويتألقن بالملابس والماكياج، بين الجلسة، والوقفة، والابتسامات، والجميع يلتقطن لهن الصور، وتجري معهن الحوارات الصحفية، والتلفزيونية، و .. )

ومن أحلام منجة الجميلة :

( تتمنى لو تتخصص بالدفاع عن اقتناص حقوق المعاقين، مثل ابنها المكلومة من أجله، ولكل من يشبه حالته بشكل أو بآخر )

ومن خلال هذه المقاربة تبرز الهوة الواسعة بين القلة القليلة من النسوة المترفات اللائي يطالبن بحقوق المرأة، وبين معاناة المرأة الحقيقية في واقع ردي وفي زمن نكد وضنين، فمنجة أوقعها حظها العاثر في زوج معتوه يؤمن بالسحر، وينفق كل أمواله على كتب السحر، ويدهن جسمه بكل أنواع الزيوت، وينتظر العفاريت، ويرى بعين خياله المريض صورا على الحائط، فيظنها أعمالا من السحر قامت زوجته منجه بعملها له، فيضربها ضربا مبرحا، فأين هؤلاء المتشدقات بحقوق المرأة من هذه المنجة التي لا تكف عن البكاء وساءت حالتها النفسية؟!.

الكاتبة تلفت النظر إلى تمثيلية هؤلاء اللاتي يتم اختيارهن بعناية ودقة ليدافعن عن حقوق المرأة وهن أبعد ما يكونون عن المرأة وحقوقها، فهاهي منجة مُستلبة من كل حقوقها، وتعري هذا المجلس والكاتبة تنهي قصتها نهاية ضاحكة، ولكنه ضحك كالبكا، فتقول لها أختها موزة وهي تراها تبكي وتنهمر الدموع من عينيها :

-يا منجة ألم تستو بعد؟!.

فترد عليها :

-آه، أصل لسه ع الشجرة.

هل لأهمية هذه القصة الموضوعية وقيمتها الفنية العالية، اختارتها الكاتبة لتكون عنوانا لمجموعتها القصصية؟

العنوان في رأيي يجب أن يعبر عن الجو العام للمجموعة، ويكون لكل قصة في المجموعة نصيب منه، وليس من الضروري أن يحمل العنوان الرئيس اسم قصة من قصص المجموعة، فهل كان من الممكن أن تختار الكاتبة عنوانا آخر؟.

وبعد

هذه قراءة في معظم قصص المجموعة، وأرجو ألا تثير ملاحظاتي القليلة سحابا ولا تعكر صفوا، كما أرجو أن أكون قد نثرت بعض قطرات الضوء حولها، وهدى توفيق كاتبة جادة ولديها مشروعها الإبداعي الطموح، وتمتلك قدرات سردية هائلة، وقادرة على التجاوز والإضافة وإثراء السرد العربي.

....................................................

( ورقة نقدية لمناقشة المجموعة يوم الثلاثاء الموافق 21/ 2 / 2023م بنادي " الساردون يغردون " الساعة التاسعة مساء بتوقيت القاهرة، عبر تقنية الزووم والبث المباشر )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى