رياض بوبسيط - تشظي الرؤى السردية وتعدد السياق الزمني في رواية "البومزين" لأنور إسلام فيساح:

أخدت الرؤى السردية نصاب السيادة في الأعمال السردية الروائية، ذلك أنها المحدد لبنية النص وطريقة بناء الأحداث فيه، فمن الرؤى مايكون فيها السارد أكبر من شخصية النص، وفيها ما يكون أصغر من الشخصية، وفي أحيان كثيرة يكون السارد موازيا للشخصية، فتكون الرؤية السردية هنا بضمير المتكلم. هذا التنوع في الرؤى السردية تربطه علاقة تاثير وتأثر بالسياق العام لنص الرواية، فالسياق في الخطابات الأدبية هو المرجع الذي كتبت عنه، والأصل الذي ولدت منه، وهو متعدد ومتنوع يشمل المواقف والشخصيات وكذلك زمان النص ومكانه، وكل سياق من هذه السياقات يتنوع ويتسع شيئا فشيئا إلى أن يتعدد ويأخذ أنواعا مختلفة تخدم النص الذي استدعاها لضرورته السردية.

1/تشظي الرؤية السردية:
اعتمد نص « البومزين يطلق لحيته أيضاً» في سرد الأحداث وتركيبها على رؤية سردية كان فيها السارد موجودا في أغلب الشخصيات، حيث أنه كان يتكلم بلسانها معتمدا في ذلك على ضمير المتكلم، وهذا لأنه يعرف جيداً شخصيات نصه ووظائفها الدلالية، كما أنه يعلم جيداً متى تتطور رمزيتها وتتسع مكانتها في النص. ولذلك غلب على البنية السردية ضمير المتكلم الذي كان يمثل البومزين في مغفر الشرطة، دحمان في المصحة العقلية، وشاوش الفراهيدي في المجلد المكتوب والموجود بغرفة البومزين، وعلى هذا الأساس عرفت الرؤية السردية تشظيا وانكسارا في الإنتقال من سارد إلى آخر، إذ لم يعرف هذا الإنتقال ترابطا بين فصول النص وانما كان بلا ترتيب ولا تنظيم، فالانتقال من فصل لآخر، والانتقال من شخصية البومزين التي يتم التحقيق معها في جريمة القتل، إلى شخصية دحمان الموجود بمصحة عقلية لوصفه بالمجنون، ثم شخصية شاوش الفراهدي، لم يخضع لأي ترتيب في الأحداث والزمان والمكان، حيث كان الإنتقال عشوائيا من زمن الواقع إلى زمن الماضي ومعه زمن العشرية السوداء، ثم الانتقال من مغفر الشرطة إلى الحوش المخفي بمدينة الرغاية، إلى القالة ثم عنابة، ثم يأخد الإنتقال شكلا آخر من جديد. هذا التعدد والتنوع أحدث تشظيا سرديا زاد من جمالية السرد وغموض احداث الرواية، وهذا ما يحتم على المتلقي التركيز وقراءة النص إلى آخر صفحة دون تجزيئ، لأن القارئ هنا لن يفهم الشخصيات ودورها في أحداث النص من الصفحات والفصول الأولى مالم يكمل قرائته، فصاحب النص لم يصف شخصيات نصه، ولم يعطي كل المعلومات عنها، وهذا ضرب من أضرب التشويق الذي يهدف إلى شد انتباه القارئ إلى آخر صفحة، فالتشظي في طريقة السرد يلزم المتلقي بالتفكير وتأويل الأحداث وكذلك تتبعها وتخييلها، والربط بين شخصية البومزين وعلاقتها بدحمان وسامية وشخصية الفراهيدي أيضاً، فيصبح هنا جزءًا لا يتجزأ من هذا النص. إذ يقوم بتوقع أحداثه وما سيؤول إليه حال الشخصيات في قادم الصفحات، وهذا ما يجعل ترتيب الأحداث وتنظيمها ومعرفة الصلة بين الشخصيات من مهمة المتلقي، وبالتالي فإن الإعتماد على هذا الاسلوب لم يكن اعتباطا وإنما كان هروبا من السرد المباشر والممل في كثير من الأحيان، فالتشظي في مفهومه العام هو تدوير في الأحداث وشخصياتها من أجل التلاعب بعقل المتلقي، خاصة وأن الشخصيات في نص البومزين هي شخصية واحدة ولكنها أخدت أدوارا مختلفة وهذا ما ميز هذا النص، إذ احسن الاشتغال على ذلك، فربط بين هذه الشخصيات المتخيلة ربطا منطقيا يقنعك أنها شخصيات مختلفة إن لم تكمل قراءة النص، أو إن لم تعتمد على التأويل والربط بينها وبين الادوار التي تؤديها في النص. ويجدر الإشارة إلى أن هذه الرؤية في السرد ليست بالجديدة، إذ اعتمدها كبار الأدباء العرب على غرار نجيب محفوظ في نص المرايا، وعبد الله عيسى لحيلح في نص كراف الخطايا. وقد وفق السارد في توظيفها هنا إلى حد بعيد.

2/تعدد السياق الزماني:
عرف هذا النص تعددا في الشخصيات والأحداث والسياق، وهذا ما أدى إلى تعدد السياق الزمني للنص وتشظيه هو الآخر، حيث كان الإنتقال من زمن لآخر يختلف ويتنوع من فصل لآخر، ومن سارد لسارد آخر أيضاً، ولهذا جاء سياق الزمان في نص البومزين على النحو الآتي:

2/1/ سياق الزمن الشخصي:
وهو السياق الزمني الذي كان خاصاً بشخوص الرواية، إذ يعتبر زمنهم الشخصي، فكان الزمن سياقيا بدورهم في النص، ولا يتسع إلا باتساع الآحداث. لذلك كان زمن الحاضر مرتبطا بسياق الأحداث وهي تدور في مغفر الشرطة بالنسبة لبومزين، وكذلك المصحة العقلية بالنسبة لدحمان، وكان زمن الماضي عندما يتعلق الأمر بأحداث الحوش المخفي، أحداث الفراهيدي مع دحمان وكذلك حبيبته سامية، إضافة إلى أحداث القالة...

2/2/ سياق الزمن الاسترجاعي:
وقد اعتمده نص البومزين كثيرا، حيث كان يسترجع زمن الماضي والذي جرت فيه أغلب أحداث الرواية، حيث اعتمدت شخصية البومزين على استرجاع زمن العشرية السوداء عندما كان في الحوش المخفي، وما حدث له من وقائع مع صديقه دحمان وحبيبته سامية والتي ألزمته بالعودة إلى مسقط رأسه بمدينة القالة.

2/3/ سياق الزمن الواقعي:
الزمان هنا أخد سياق الواقع حيث كانت الشخصيات تماثل واقعها، واقع السجن بالنسبة للبومزين، وواقع المصحة العقلية لدحمان، أما شخصية شاوش الفراهدي المكتوبة في ذاك المجلد، فقد كان واقعها الحاضر عندما كانت في يد ضابط الشرطة، والماضي عندما يسترجعها البومزين ودحمان في شرح وقائع وأحداث الماضي، وبالتالي فالسياق الزمني في هذا النص تنوع لكنه خدم أحداث الرواية بطبيعة الحال.
ومن الأمور التي يجب الوقوف عندها أيضاً هي أن تنوع السياق الزمني وانتقاله من زمن لآخر، لم يكن وفق ترتيب زمني، وإنما كان وفق الرؤية السردية التي خطت الأحداث وكتبتها.

وعلى الرغم من أن نص البومزين نص جميل أجاد تشكيل بنيته السردية والتنويع فيها وفي شخصياتها وأحداثها، إلا أنه لم يخلوا من الأخطاء النحوية واللغوية، وحتى أخطاء الصياغة،والتي أحدثت تشظيا في البنية اللغوية للنص، وهو تشظ غير محمود يجب الاشتغال عليه وتداركه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى