لابد لكل مرة من أول مرة, وأول مرة كانت ليلا, وهناك قمر ينشر سلاما فضياء, والنبع صاف, يتدفق ماؤه علي مهل, وبخرير حنون, ولا تملك حين تري الماء وقد ذاب فيه القمر, ذوبانا طازجا يحدث أمامك, وفي الحال: إلا أن تظمأ, وتحاول تشرب, أو تذوق, وملت بجسدي كله, ومددت يدي وما كادت القطرات المتلألئة الباردة تصل إلي فمي, ما كدت استمتع بلذة التذوق الأول, حتي رأيت, بجوار صورتي المهتزة اهتزاز درجات الأبيض والأسود فيها, واهتزاز القمر, صورة رأس اخر, رأس طويل ممتد إلي الأمام وكأنما امتدت يد جذبت ملامحه كلها بعنف, رأس طويل ينتهي بشق عرضي واسع سعة لاحد لها, وكأنما لا يكفي هذا فايضا شق بالطول, رأس جمل لابد, بلاصوت, بلا ضجة, بلا حركة.
فجأة كان الرأس الغريب لم أذعر ولا صرخت, فقط دهشت, والتفت لا لشيء إلا لأتأكد, كان قد ذيب القمر واختفي النبع والخرير ولا فضة, كنت فقط وحدي وأمامي غير بعيد عني ذلك الأسي يطل علي من فوق, لا أري له جسدا وإنما فقط رقبة غليظة: طويلة, مقوسة: حادة من أسفل كأنها مخرطة, رقبة تنتهي من أمام برأسي: ذلك الرأس ولا جسد والأغرب اني لا أعجب, ولا أتساءل كيف يمكن لرقبة أن تنبع من لا جسد, فهمي كله كان ذلك الرأس المطل علي من أعلي, فهو حتي لم يكن يطل علي, وكأنه لا يراني أو لست هناك بالمرة, وخوفي كان أن يراني فجأة, فينتفض, ويعض, ولكن ابدا. لا غضب في عينيه ولا انفعال, لا شيء, إنما عينان كبيرتان مستقرتان علي الأمام ولا شيء أمام.
وكأنما ردا علي تساؤلاتي, وظنوني التي تنشأ وتدور بلا حماس في ركن المنظر الأيمن, وفي برواز صغير مربع وكما يحدث في برامج التليفزيون وعلي شاشته, حدث بدأ يدور, غامضا كتمثيليات الكهنة في حجرات المعابد الخلفية, كالتشخيص الصامت الذي يعيد به القسس العشاء الأخيرة وصلب المسيح رأيت ذلك الجمل مسحوبا, وساحبة صاحبه وعلي وقع متئد وكأنما كل خطوة حدث وتاريخ يمضيان, ثم بلا مقدمات, بلا معركة, بلا فاغل أو طلقة أو سلاح, بلا شيء علي الاطلاق سقط الرجل ذو الجلباب الأبيض والعمامة, سقط الصاحب, سقط قتيلا فحول رأسه المطروح فوق الأرض ورغم ظلام المشهد كانت بركة دم, وأيضا لا انطلق الجمل هاربا, ولا جعجع مولا ثار أو( ضرب بالقلة), ظل واقفا وقد تدلي مقوده في الهواء ينظر, من عل, أيضا إلي أمام, نظرة مليئة بكل شيء إلي درجة اللاشيء, ثابتة مستمرة وكأنما كانت ابدا وستظل تكون.
ورغم تأكدي اني لا أحلم: وان ما حدث رأيته: قلت: حلم يقظة, رؤيا: تخريف, أبدا لن تعود.
وفي الصباح, أي صباح, فلا زمن, كنت استحم تحت الدش حولي ستارة تمنع تسرب الرذاذ, مستمتعا الي اقصي حد بأني داخل الحمام الخالي, وداخل الستارة النيلونية المزركشة: مع نفسي تماما, وإذا بشيء يداعب الستارة النيلونية المزركشة: ثم يزيحها وتظهر الشفتان الضخمتان أو بالأحري الثلاث شفاه, منفرجة ومفتوحة وكأنما تنوي ابتلاع كل شيء بينها تبدو الأسنان, كبيرة, مطبقة, محكمة وكأنما تخاف ذا فتحت ان تفلت شيئا, أي شيء, ثم أصبح الرأس كله معي, داخل الستارة تحت الرأس كله معي, داخل الستارة, تحت الدش, دهشت قليلا ولكني واصلت الاستحمام ورحت من خلال اسلاك الماء الرفيعة اتطلع مليا الي العينين لعلي ألمح شيئا لعلي أعرف لماذا أطل وماذا يريد, لعلي أدرك للحظة انه يراني حتي, ولكن, ابدا, كان يطل, من عل, وأيضا إلي الأمام.
فتحت الجريدة أقرأها, ولم أدهش حين شعرت بحركة, ولا حين اهتزت السطور, ثم تباعدت, وبلا صوت تمزيق اخترق الرأس الجريدة, وأصبحت لا أري سوي شفاهه الثلاث, بشع منظرها, قريبة جدا من وجهي, فتحات أنفه الواسعة أراها, بكل شعرة داخلها والاسنان كبيرة منظمة منطبقة ليس بينها فرجة.
ركبت الاتوبيس, والازدحام واصل حد الاختناق ولا هم لكل منا الا المحافظة علي كيانه, الكمساري علي نقوده والراكب علي شرفه, وفجأة وجدت الرأس الصامت الصائم عن الحركة يطل, كان مشهده كفيلا بإثارة الذعر أو علي الأقل التطلع ولكن الغريب ان النادر من الركاب هو الذي انتبه, وحتي لم يطل انتباهه, انما هي نظرة القاها كأنما تعود ان يلقيها ثم عاد الي معركة المحافظة علي ذاته, الأغلب الأهم لم يحفل حتي بمجرد الانتباه.
وفي المساء, داخل غرفة النوم المغلقة, ولا شيء هناك سوي الحب والرغبة, إذا بي اكتشفت ان شيئا يتسلل بغلظة بيننا, بلا عنف, وبلا حياء وربما بلا وعي بما يدور ولكنه أصبح في النهاية بيننا, ولم تحتمل هي, بكل عنف وغضب واستنكار ازاحته جانبا فانزاح, ولكنه: بتؤدة وبصبر وبإصرار عاد يتسلل بين صدرينا وبطريقة بدا معها ان لا فائدة من ازاحته.
ورغم اني لم أكن مندهشا, أو غاضبا بشدة, أو مستنكرا الا ان شعورا ما بدأت أحبه, شعورا لا أجد له وصفا فالقدماء ربما لم يعرفوه ولم يكتشفوا له أسما, لكنه أصبح موجودا, وملحا, وهكذا اخبرت زملائي في الكتب وأصدقائي وواحد منهم فقط هو الذي أبي أن يصدق أما الباقون جميع فقد ضحكوا وظلوا يثيروا حيالي وضحكون وكأني, أخيرا رويت نكتة قديمة, كان واضحا أنهم من زمن يعانون نفس الشعور, وان رأس الجمل يظهر لهم في كل مكان وفي أي ساعة, ولكن السؤال: أهو نفس الرأس يظهر للجميع, أم ان لكل منا رأس جمله الخاص كما يقولون في الأساطير أن لكل منا اخته تحت الأرض أو فوقها أو ككتابه يوم القيامة حتي حق يعلق في عنقه؟
تشعبت المناقشات وامتدت والغريب أن الجزء الأكبر منها كان في حضوره, وقد أطل علينا من الباب المؤدي لمكتب المدير, أطل بنفس طريقته, من فوق, أمامنا يحدث صامت لا يتحرك, عيناه حافلتان بكل شيء الي درجة اللاشيء, والمناقشات حامية صارخة أحيانا قد تؤؤب الي هدوء, حين يتخذ أحدهم وضع العالم العارف, وبصوت خافت يتكلم ويحلل, بينما رأس الجمل يطل عليه من فوق, مناقشات كالزوابع الصغيرة أو الكبيرة لا تلبث أن تذوب في بحر ساكن تماما كأن سطحه من زجاج, بحر واسع لا حد له ولا شاطئ.
أنا شخصيا, رغم أنه يظهر لي في اليوم أكثر من مرة وفي آخر الأماكن توقعا أن أراه, أحيانا أكاد أشك في عقلي وفي حواسي وأرفض أن أصدق ما أري بل حتي ما يراه الاخرون معي.
هناك خطا ما لابد, العلم يرفض والعقل يرفض ولكن الكارثه أنه واقع وموجود.
أثور وأرفض ما تشاء لي الثورة والرفض ولكنها نوبات, ليست سوي نوبات لا تلبث, بهدوء أن تذوب, بنفس التؤدة التي يظهر بها رأس الجمل, كل ما يحدث أنه لدي كل نوبة, خاصة اذا أدت بي الي غيظ أو انفعال تزداد بشدة مرات ظهوره, بحيث أراه داخلي أنا, موجودا بتحديقته الأمامية التي لا تطرف داخل ذاتي الخاصة تماما, وأسراري, بل أحيانا أراه في طفولتي يطل علي أمي وهي تضعني أو ربما علي أبي وهو يخلفني, أحيانا وأنا أرنو إلي المستقبل وخططي للغد من خلال أكوام المشاريع والخطط بأذنيه الصغيرتين الغريبتين تزيحان الأكوام جانبا ليظهر الأسي ويعلوا ويبدأ يأخذ وضعه التقليدي.
ماذا أفعل؟
كلما سألت الناس قالوا افعل مثلما يفعل الناس, واسأل ماذا يفعلون فأجدهم لا يفعلون شيئا بالمرة, أحيانا يحاول البعض لمسها والتمليس عليها وهدهدتها, أحيانا يثور البعض ويغضب ويسبها, بعض اخر يركلها وينطحها ولكن رأس الجمل تبقي دائما كما هي, ويبقي الناس كما هم, تبدو لهم الطريقة يعجبون لها أول الأمر, ثم يتحدثون فيها, ثم يسلون الحديث, ولا يعود ذلك الوجود الغريب لرأس الجمل ظاهرة قابلة للتوقف أو حتي النظر, بل تتحول علي يد الناس, وهم في هذا عباقرة, الي ظاهرة مفيدة, مرة في الاعتذار عن تأخير, في تبرير الوخم, في رفض العمل وكله من رأس الجمل.
ويتم هذا كله دون أن يثير دهشة أحد, أو استغرابه, لهذا فرأس الجمل لا يكف عن الظهور, ربما لو اندهشنا: فقط اندهشنا, كلنا اندهشنا كلما ظهر لما ظهر, بما نحن مرضي, كلما مرضي قد أصبنا يوما خفي في خيالنا ترك اثاره علي هيئة رأس جمل, أو ربما لاصابة قضت لينا علي مراكز الدهشة والعجب أو ربما شيء اخر, ربما التطور اجل التطور قد وصل بنا الي مرحلة الانسان الذي لابد ان يظهر له رأس الجمل, بحيث تكون الكارثة لا أن يظهر, وإنما ان نستيقظ ذات صباح فنجده لا يظهر أي مصيبة ساع؟؟ وأي ضياع, وماذا نفعل ونحن لا نفعل شيئا الا ان نراه, لا يرانا ولكنا نراه, الان.
وبلا ذرة دهشة أو غرابة ودون ان ارفع رأسي متأكد ان رأس الجمل يطل علي, ذلك الرأس الكبير الطويل وكأنما سطت ملامحه كثيرا الي امام والشفاه الثلاث الكبيرة الي حد الورم, والاسنان المتراصة سنة كبيرة بجوار سنة كبيرة منطبقة تماما ولا فرجة بينها, الي امامه يتطلع ولا يتحرك ولا يعض ولا يزول.
فتأكد ايضا ايها القارئ انك وبنفس القدرة العبقرية علي انعدام الدهشة ستتقبل ظهوره لك من بين السطور, بنفس القدرة علي انعدام الدهشة من أمر مفروغ منه.
أول عمل أدبي ينشر للدكتور يوسف ادريس في الأهرام1969
فجأة كان الرأس الغريب لم أذعر ولا صرخت, فقط دهشت, والتفت لا لشيء إلا لأتأكد, كان قد ذيب القمر واختفي النبع والخرير ولا فضة, كنت فقط وحدي وأمامي غير بعيد عني ذلك الأسي يطل علي من فوق, لا أري له جسدا وإنما فقط رقبة غليظة: طويلة, مقوسة: حادة من أسفل كأنها مخرطة, رقبة تنتهي من أمام برأسي: ذلك الرأس ولا جسد والأغرب اني لا أعجب, ولا أتساءل كيف يمكن لرقبة أن تنبع من لا جسد, فهمي كله كان ذلك الرأس المطل علي من أعلي, فهو حتي لم يكن يطل علي, وكأنه لا يراني أو لست هناك بالمرة, وخوفي كان أن يراني فجأة, فينتفض, ويعض, ولكن ابدا. لا غضب في عينيه ولا انفعال, لا شيء, إنما عينان كبيرتان مستقرتان علي الأمام ولا شيء أمام.
وكأنما ردا علي تساؤلاتي, وظنوني التي تنشأ وتدور بلا حماس في ركن المنظر الأيمن, وفي برواز صغير مربع وكما يحدث في برامج التليفزيون وعلي شاشته, حدث بدأ يدور, غامضا كتمثيليات الكهنة في حجرات المعابد الخلفية, كالتشخيص الصامت الذي يعيد به القسس العشاء الأخيرة وصلب المسيح رأيت ذلك الجمل مسحوبا, وساحبة صاحبه وعلي وقع متئد وكأنما كل خطوة حدث وتاريخ يمضيان, ثم بلا مقدمات, بلا معركة, بلا فاغل أو طلقة أو سلاح, بلا شيء علي الاطلاق سقط الرجل ذو الجلباب الأبيض والعمامة, سقط الصاحب, سقط قتيلا فحول رأسه المطروح فوق الأرض ورغم ظلام المشهد كانت بركة دم, وأيضا لا انطلق الجمل هاربا, ولا جعجع مولا ثار أو( ضرب بالقلة), ظل واقفا وقد تدلي مقوده في الهواء ينظر, من عل, أيضا إلي أمام, نظرة مليئة بكل شيء إلي درجة اللاشيء, ثابتة مستمرة وكأنما كانت ابدا وستظل تكون.
ورغم تأكدي اني لا أحلم: وان ما حدث رأيته: قلت: حلم يقظة, رؤيا: تخريف, أبدا لن تعود.
وفي الصباح, أي صباح, فلا زمن, كنت استحم تحت الدش حولي ستارة تمنع تسرب الرذاذ, مستمتعا الي اقصي حد بأني داخل الحمام الخالي, وداخل الستارة النيلونية المزركشة: مع نفسي تماما, وإذا بشيء يداعب الستارة النيلونية المزركشة: ثم يزيحها وتظهر الشفتان الضخمتان أو بالأحري الثلاث شفاه, منفرجة ومفتوحة وكأنما تنوي ابتلاع كل شيء بينها تبدو الأسنان, كبيرة, مطبقة, محكمة وكأنما تخاف ذا فتحت ان تفلت شيئا, أي شيء, ثم أصبح الرأس كله معي, داخل الستارة تحت الرأس كله معي, داخل الستارة, تحت الدش, دهشت قليلا ولكني واصلت الاستحمام ورحت من خلال اسلاك الماء الرفيعة اتطلع مليا الي العينين لعلي ألمح شيئا لعلي أعرف لماذا أطل وماذا يريد, لعلي أدرك للحظة انه يراني حتي, ولكن, ابدا, كان يطل, من عل, وأيضا إلي الأمام.
فتحت الجريدة أقرأها, ولم أدهش حين شعرت بحركة, ولا حين اهتزت السطور, ثم تباعدت, وبلا صوت تمزيق اخترق الرأس الجريدة, وأصبحت لا أري سوي شفاهه الثلاث, بشع منظرها, قريبة جدا من وجهي, فتحات أنفه الواسعة أراها, بكل شعرة داخلها والاسنان كبيرة منظمة منطبقة ليس بينها فرجة.
ركبت الاتوبيس, والازدحام واصل حد الاختناق ولا هم لكل منا الا المحافظة علي كيانه, الكمساري علي نقوده والراكب علي شرفه, وفجأة وجدت الرأس الصامت الصائم عن الحركة يطل, كان مشهده كفيلا بإثارة الذعر أو علي الأقل التطلع ولكن الغريب ان النادر من الركاب هو الذي انتبه, وحتي لم يطل انتباهه, انما هي نظرة القاها كأنما تعود ان يلقيها ثم عاد الي معركة المحافظة علي ذاته, الأغلب الأهم لم يحفل حتي بمجرد الانتباه.
وفي المساء, داخل غرفة النوم المغلقة, ولا شيء هناك سوي الحب والرغبة, إذا بي اكتشفت ان شيئا يتسلل بغلظة بيننا, بلا عنف, وبلا حياء وربما بلا وعي بما يدور ولكنه أصبح في النهاية بيننا, ولم تحتمل هي, بكل عنف وغضب واستنكار ازاحته جانبا فانزاح, ولكنه: بتؤدة وبصبر وبإصرار عاد يتسلل بين صدرينا وبطريقة بدا معها ان لا فائدة من ازاحته.
ورغم اني لم أكن مندهشا, أو غاضبا بشدة, أو مستنكرا الا ان شعورا ما بدأت أحبه, شعورا لا أجد له وصفا فالقدماء ربما لم يعرفوه ولم يكتشفوا له أسما, لكنه أصبح موجودا, وملحا, وهكذا اخبرت زملائي في الكتب وأصدقائي وواحد منهم فقط هو الذي أبي أن يصدق أما الباقون جميع فقد ضحكوا وظلوا يثيروا حيالي وضحكون وكأني, أخيرا رويت نكتة قديمة, كان واضحا أنهم من زمن يعانون نفس الشعور, وان رأس الجمل يظهر لهم في كل مكان وفي أي ساعة, ولكن السؤال: أهو نفس الرأس يظهر للجميع, أم ان لكل منا رأس جمله الخاص كما يقولون في الأساطير أن لكل منا اخته تحت الأرض أو فوقها أو ككتابه يوم القيامة حتي حق يعلق في عنقه؟
تشعبت المناقشات وامتدت والغريب أن الجزء الأكبر منها كان في حضوره, وقد أطل علينا من الباب المؤدي لمكتب المدير, أطل بنفس طريقته, من فوق, أمامنا يحدث صامت لا يتحرك, عيناه حافلتان بكل شيء الي درجة اللاشيء, والمناقشات حامية صارخة أحيانا قد تؤؤب الي هدوء, حين يتخذ أحدهم وضع العالم العارف, وبصوت خافت يتكلم ويحلل, بينما رأس الجمل يطل عليه من فوق, مناقشات كالزوابع الصغيرة أو الكبيرة لا تلبث أن تذوب في بحر ساكن تماما كأن سطحه من زجاج, بحر واسع لا حد له ولا شاطئ.
أنا شخصيا, رغم أنه يظهر لي في اليوم أكثر من مرة وفي آخر الأماكن توقعا أن أراه, أحيانا أكاد أشك في عقلي وفي حواسي وأرفض أن أصدق ما أري بل حتي ما يراه الاخرون معي.
هناك خطا ما لابد, العلم يرفض والعقل يرفض ولكن الكارثه أنه واقع وموجود.
أثور وأرفض ما تشاء لي الثورة والرفض ولكنها نوبات, ليست سوي نوبات لا تلبث, بهدوء أن تذوب, بنفس التؤدة التي يظهر بها رأس الجمل, كل ما يحدث أنه لدي كل نوبة, خاصة اذا أدت بي الي غيظ أو انفعال تزداد بشدة مرات ظهوره, بحيث أراه داخلي أنا, موجودا بتحديقته الأمامية التي لا تطرف داخل ذاتي الخاصة تماما, وأسراري, بل أحيانا أراه في طفولتي يطل علي أمي وهي تضعني أو ربما علي أبي وهو يخلفني, أحيانا وأنا أرنو إلي المستقبل وخططي للغد من خلال أكوام المشاريع والخطط بأذنيه الصغيرتين الغريبتين تزيحان الأكوام جانبا ليظهر الأسي ويعلوا ويبدأ يأخذ وضعه التقليدي.
ماذا أفعل؟
كلما سألت الناس قالوا افعل مثلما يفعل الناس, واسأل ماذا يفعلون فأجدهم لا يفعلون شيئا بالمرة, أحيانا يحاول البعض لمسها والتمليس عليها وهدهدتها, أحيانا يثور البعض ويغضب ويسبها, بعض اخر يركلها وينطحها ولكن رأس الجمل تبقي دائما كما هي, ويبقي الناس كما هم, تبدو لهم الطريقة يعجبون لها أول الأمر, ثم يتحدثون فيها, ثم يسلون الحديث, ولا يعود ذلك الوجود الغريب لرأس الجمل ظاهرة قابلة للتوقف أو حتي النظر, بل تتحول علي يد الناس, وهم في هذا عباقرة, الي ظاهرة مفيدة, مرة في الاعتذار عن تأخير, في تبرير الوخم, في رفض العمل وكله من رأس الجمل.
ويتم هذا كله دون أن يثير دهشة أحد, أو استغرابه, لهذا فرأس الجمل لا يكف عن الظهور, ربما لو اندهشنا: فقط اندهشنا, كلنا اندهشنا كلما ظهر لما ظهر, بما نحن مرضي, كلما مرضي قد أصبنا يوما خفي في خيالنا ترك اثاره علي هيئة رأس جمل, أو ربما لاصابة قضت لينا علي مراكز الدهشة والعجب أو ربما شيء اخر, ربما التطور اجل التطور قد وصل بنا الي مرحلة الانسان الذي لابد ان يظهر له رأس الجمل, بحيث تكون الكارثة لا أن يظهر, وإنما ان نستيقظ ذات صباح فنجده لا يظهر أي مصيبة ساع؟؟ وأي ضياع, وماذا نفعل ونحن لا نفعل شيئا الا ان نراه, لا يرانا ولكنا نراه, الان.
وبلا ذرة دهشة أو غرابة ودون ان ارفع رأسي متأكد ان رأس الجمل يطل علي, ذلك الرأس الكبير الطويل وكأنما سطت ملامحه كثيرا الي امام والشفاه الثلاث الكبيرة الي حد الورم, والاسنان المتراصة سنة كبيرة بجوار سنة كبيرة منطبقة تماما ولا فرجة بينها, الي امامه يتطلع ولا يتحرك ولا يعض ولا يزول.
فتأكد ايضا ايها القارئ انك وبنفس القدرة العبقرية علي انعدام الدهشة ستتقبل ظهوره لك من بين السطور, بنفس القدرة علي انعدام الدهشة من أمر مفروغ منه.
أول عمل أدبي ينشر للدكتور يوسف ادريس في الأهرام1969