"تخيّل أنّ كل البشر يعيشون لأجل اليوم.. وتخيّل أنه لا توجد دول.. ليس ذلك بالأمر العسير.. ليس ثمة ما تقتل أو تموت لأجله.. وليس ثمة دين.. وتخيّل أنّ كل البشر يعيشون في سلام..." جون لينون
تصفّحت أنجلينا كتيبات العطلة السمكية التي أحضرها لها شفيق من مكاتب وكالات السفر في المدينة. اتسعت عيناها إعجابا وهي تنظر إلى إحدى صفحات كتيب وكالة أسفار (أير تورز).
“أعتقد أني وجدت المدينة! انظر!" صاحت بإثارة.
ترك شفيق ما كان بين يديه وهرع نحوها.
“انظر إلى هذه الصور! انظر إلى هذه الشواطئ الذهبية! كم هي جميلة!" هتفت بإثارة ثم رفعت بصرها نحوه.
لمعت عيناه إعجابا وهو ينظر إلى تلك الصور التي ذكّرته بشواطئ بلاده.
“واو! واو! واو!.. برافو أنجلينا! روعة!..." صاح فورا في عفوية، ولم يكد يقع بصره على اسم المدينة حتى انقبض صدره، وابتسر وجهه، وانعقد لسانه فلم ينبس ببنت شفة.
أنجلينا المنشغلة بالإشهار ومنتجعات البحر وفنادقها بين يديها لم تنتبه إلى ردة فعله هذه.
“أعجبني فندق (كنعان سبا هوتل) لكنه يبدو مرتفع التكلفة! دعني أريك فندقا آخر يبدو مناسبا لنا من حيث القرب من وسط المدينة والمرافق والتكلفة، ويبدو رائعا من خلال الصور!" هتفت وهي تقلب الصفحات. "إنه فندق (عدن)! أقل من ميل واحد من وسط المدينة ويؤمن خدمة النقل من المطار. وهو قريب من الشواطئ وكل المرافق في المدينة! ويقع على بعد عشر دقائق فقط من متحف العلوم والتكنولوجيا والفضاء الوطني الإسرائيلي في مدينة حيفا.. لن نجد أفضل من ذلك!"
وقف شفيق أمامها مشدوها، ملجم اللسان، لا يدري ما يقوله لها. رحل بوجدانه بغتة إلى مهد الحضارات البشرية والديانات السماوية الممتدة عبر آلاف السنين.. إلى أرض طاهرة عكّر صفوها الصراع.. وإلى أرض سلام خيّمت فيها طويلا أشباح الحرب..
وبينما كان يفكر في كل ذلك، لم يكن يدري لماذا سرح فكره فجأة إلى كلمات أغنيةِ "تخيّلْ" ل جون لينون:
"تخيّل أنّ كل البشر يعيشون لأجل اليوم..
تخيّل أنه لا توجد دول..
ليس ذلك صعبا..
لا شيء تقتل أو تموت لأجله..
ولا دين..
وتخيّل أنّ كل البشر يحيون حياتهم في سلام..."
ما أسهل تخيل هذا العالم الجميل وما أصعب تجسيده في واقع مرير تميزه الاختلافات والنزاعات منذ فجر الإنسانية، في كامل أرجاء الدنيا!
لقد وهبت الطبيعة الإنسان خيالا واسعا، وعقلا مفكرا عظيما. فهل أحسن الإنسان استخدامهما؟!
إن كان في وسع الإنسان أن يستخدم هذا الخيال والسباحة به إلى أبعد الحدود، وإلى حد تشييد عالم جميلٍ وآمنٍ مجرد من الحدود وكل ما من شأنه أن يفرّق شمل البشر وينشر الضغينة والشر بينهم، على منوال عالم "تخيل ل جون لينون"، فقد ظلّ هذا الإنسان، على ما يبدو، عاجزا عن استخدام العقل لإحلال الأمن ونشر رسالة المحبة والسلام في العالم! وكان من النتائج المنطقية لغياب السلام في هذا العالم إقامة مزيد من الحدود، ونصب الحواجز، ونشر الأسلاك الشائكة بين الأمم بدلا من فتح الحدود ومدّ جسور المحبة والصداقة والتعاون بينها، وهي جميعا تشترك في امتلاك العقل والمشاعر، والقدرة على التفكير وحل المشاكل ومراعاة المشاعر. وتشترك هذه الشعوب بكل أعراقها وألوانها ولغاتها، وبمعتقداتها ومن غير معتقداتها، في انتمائها إلى الجنس البشري!
أنجلينا كانت بريئة عندما اختارت سواحل جميلة أثارت إعجابها. وكان شفيق نفسه بريئا في تلك اللحظة عندما نظر إليها نظرة طبيعية عفوية مجرّدة من ثوب الخلفيات، ودنس الحسابات، وكل المؤثرات، فعَلق بها بصرُه، وتعلقت بها روحه، إلى أن تدخَّل عقله بجبروته فأزاح نظره عنها، وشوّه له منظرها بحبر أحكام لم يساهم هو في إصدارها، وخلفيات وخلافات لا ذنب له فيها!
وها هو عقله يأمره بوصد الأبواب في وجهها، وصرف باله عنها، ويحذره من عواقب اجتياز خط أحمر أحاطه مجتمعه بها، ويذكره أنّ في منطق الأذهان المتعصبة، مَن يقرب المحرم، لا يُرحَم.
تغيّرت ملامح أنجلينا فجأة وهي تراه منشغل البال، متوترا على غير العادة في مثل هذه الساعة الجميلة وهي تحدثه عن موضوع السفر المفرح والمثير، وهو من كاد يطير من شدة الفرح لأجله.
“ماذا حصل؟ هل أنت على ما يرام حبيبي؟" سألته في حيرة.
“لا بأس، لا تشغلي بالك.. لكن إسرائيل في الوقت الحاضر.. أعتذر.. لأني لا أريد متاعب مع أحد."
أنجلينا التي فهمت المسألة الآن، ألقت الكتيب على الأرض دون تفكير، وراحت تعتذر كما لو أنها ارتكبت أكبر ذنب في الدنيا.
شفيق سارع فورا إلى طمأنتها أنّ الخطأ لم يكن منها ولا منه هو، وإنما من الأجواء السياسية المتوترة، والأفكار المتعصبة، والمواقف المتصلبة، والتصورات الخاطئة في الشرق التي ما زالت، إلى زمننا هذا، تؤمن بإمكانية طرد شعوب برمتها من أرض تحيا فيها منذ آلاف السنين وإلقائها في عرض البحر، تغرقها الأمواج، وتنهشها الحيتان في عالم يتسع لكل البشر!
لم تكن تلك الشواطئ الذهبية الخلابة هي كل ما أثار اهتمامه بل ايضا مدينة القدس. إنها القدس التي شهدت عبر تاريخها الطويل تعاقب الامبراطوريات والحضارات.. لشدّ ما أعجب بتنوعها الثقافي وثرائها الفكري الذي ما برح يذكّره بالعاصمة البريطانية لندن التي يتعايش فيها كل أجناس الدنيا ودياناتها في أمن وسلام.. وينتابه شعور أن "أورشليم/ القدس"، التي تضم أكبر الديانات في الدنيا، تستطيع أن تكون يوما أجمل وأرقى نموذج للتعايش والمحبة والتسامح في العالم!
أبلغ شفيق أنجلينا أن إيمانه بمدينة قدس آمنة متعددة الأجناس والديانات والثقافات ألهمه يوما لأن يكتب مقالة بعنوان "مدينة التسامح والسلام" تدعو إلى المحبة والتعايش بين أبناء العم. وكم كانت سعادته لما شاهد مقالته في إحدى الصحف العربية. عرضها على صديقه جمال عندما زاره ذات مساء. وكان متعلما متخرجا من معهد اللغات في الجامعة المركزية بالجزائر العاصمة، شغوفا باللغة والأدب. فالتمس منه رأيه في المقال.
قرأ صديقه المقال بتمهل وإمعان وهو يهز رأسه من حين إلى آخر متعجبا، وما إن بلغ نهايته حتى انفجر ضاحكا حتى دمعت عيناه.
“أقول بالمختصر المفيد..." قال له وهو يمسح دمعه بطرف كمّه. "لو أنّك وقفت الآن أمام عساكر إسرائيليين وقرأت مقالاتك هذه، لما أطلقوا عليك رصاصة واحدة!"
لم يفهم شفيق حينئذ ما كان يقصده صديقه، ولا علاقة مقاله المسالم بالعساكر ونقطة التفتيش والرصاص، ولم يحفل بشيء. وسرعان ما غيّرا الموضوع لينشغلا بالحديث عن مشاغل أخرى لا تنتهي.
وفي وقت لاحق، وفي سكون غرفته، استحضر ذلك المشهد الذي صوّره له صحبه عندما فرغ من قراءة مقاله. لم يكن ذلك المقال، على ما يبدو، عند حسن ظن هذا الرجل لأنه لم يكن بتلك اللهجة التي كان يتطلع إلى مشاهدتها في كتابه. فالتعامل مع الخصم لا يكون إلاَّ بالسلاح، وهو يملك سلاحا فتاك يتمثل في القلم، ومع ذلك لم يشهره في وجه "الأعداء". هكذا كان ينظر صديقه إلى موقفه. وهكذا سينظر مجتمعه إلى مقاله وإلى مواقفه التي صقلتها الحياة في بيئة بعيدة عن مجتمعه يحيا فيها كل أعراق الدنيا وألوانها ودياناتها في انسجام لا يوصف.
ما أقصر نظر هذا الصديق إن لم يستطع أن يمتد خلف قشرة الجوزة إلى اللب الكامن في أعماق ذاته! وما أضيق فكره إن لم يتسع لفهم ما يجول في خاطره وإدراك أفكاره ومواقفه! وما أجهله! فمع أنه يعرفه منذ أمد طويل، لم يكن يعرف عنه، على ما يبدو، إلاَّ القليل!
سنوات طويلة من الصداقة واللقاءات المتتالية والزيارات المتكررة والأحاديث التي لا تكاد تنقطع، لم تعنه على فهم طبعه! فهو حتى الآن، لم يدرك بعد أنّ روحه تطفح إكبارا وإجلالا للمحبة والإنسانية والحضارة التي لا مكان فيها ولا معنى في قاموسها العظيم للتفكير الأحادي الضيق والشعور العدائي وأسلوب القوة والعنف. لم يكن يدري لماذا في هذه اللحظات، وأكثر من أي وقت مضى، امتلكه شعور غريب بالتعلق بأنغام كلمات أغنيةِ "تخيّلْ" لجون لينون. تغمره سيولها العذبة، فتطهّر روحه من الأفكار السلبية، وتفعم نفسه بالمشاعر الإنسانية. كان يعيش كل كلمة وكل نغمة منها بكل جوارحه، فيشعر بالتأثر حينا، والطرب إلى حد الجنون أحيانا:
"تخيّل أنّ كل البشر يعيشون لأجل اليوم..
تخيّل أنه لا توجد دول..
ليس ذلك بالأمر العسير..
ليس ثمة ما تقتل أو تموت لأجله..
وليس ثمة دين..
وتخيّل أنّ كل البشر يحيون حياتهم في سلام..." جون لينون
بقلم: مولود بن زادي كاتب ومترجم وباحث مقيم في بريطانيا
تصفّحت أنجلينا كتيبات العطلة السمكية التي أحضرها لها شفيق من مكاتب وكالات السفر في المدينة. اتسعت عيناها إعجابا وهي تنظر إلى إحدى صفحات كتيب وكالة أسفار (أير تورز).
“أعتقد أني وجدت المدينة! انظر!" صاحت بإثارة.
ترك شفيق ما كان بين يديه وهرع نحوها.
“انظر إلى هذه الصور! انظر إلى هذه الشواطئ الذهبية! كم هي جميلة!" هتفت بإثارة ثم رفعت بصرها نحوه.
لمعت عيناه إعجابا وهو ينظر إلى تلك الصور التي ذكّرته بشواطئ بلاده.
“واو! واو! واو!.. برافو أنجلينا! روعة!..." صاح فورا في عفوية، ولم يكد يقع بصره على اسم المدينة حتى انقبض صدره، وابتسر وجهه، وانعقد لسانه فلم ينبس ببنت شفة.
أنجلينا المنشغلة بالإشهار ومنتجعات البحر وفنادقها بين يديها لم تنتبه إلى ردة فعله هذه.
“أعجبني فندق (كنعان سبا هوتل) لكنه يبدو مرتفع التكلفة! دعني أريك فندقا آخر يبدو مناسبا لنا من حيث القرب من وسط المدينة والمرافق والتكلفة، ويبدو رائعا من خلال الصور!" هتفت وهي تقلب الصفحات. "إنه فندق (عدن)! أقل من ميل واحد من وسط المدينة ويؤمن خدمة النقل من المطار. وهو قريب من الشواطئ وكل المرافق في المدينة! ويقع على بعد عشر دقائق فقط من متحف العلوم والتكنولوجيا والفضاء الوطني الإسرائيلي في مدينة حيفا.. لن نجد أفضل من ذلك!"
وقف شفيق أمامها مشدوها، ملجم اللسان، لا يدري ما يقوله لها. رحل بوجدانه بغتة إلى مهد الحضارات البشرية والديانات السماوية الممتدة عبر آلاف السنين.. إلى أرض طاهرة عكّر صفوها الصراع.. وإلى أرض سلام خيّمت فيها طويلا أشباح الحرب..
وبينما كان يفكر في كل ذلك، لم يكن يدري لماذا سرح فكره فجأة إلى كلمات أغنيةِ "تخيّلْ" ل جون لينون:
"تخيّل أنّ كل البشر يعيشون لأجل اليوم..
تخيّل أنه لا توجد دول..
ليس ذلك صعبا..
لا شيء تقتل أو تموت لأجله..
ولا دين..
وتخيّل أنّ كل البشر يحيون حياتهم في سلام..."
ما أسهل تخيل هذا العالم الجميل وما أصعب تجسيده في واقع مرير تميزه الاختلافات والنزاعات منذ فجر الإنسانية، في كامل أرجاء الدنيا!
لقد وهبت الطبيعة الإنسان خيالا واسعا، وعقلا مفكرا عظيما. فهل أحسن الإنسان استخدامهما؟!
إن كان في وسع الإنسان أن يستخدم هذا الخيال والسباحة به إلى أبعد الحدود، وإلى حد تشييد عالم جميلٍ وآمنٍ مجرد من الحدود وكل ما من شأنه أن يفرّق شمل البشر وينشر الضغينة والشر بينهم، على منوال عالم "تخيل ل جون لينون"، فقد ظلّ هذا الإنسان، على ما يبدو، عاجزا عن استخدام العقل لإحلال الأمن ونشر رسالة المحبة والسلام في العالم! وكان من النتائج المنطقية لغياب السلام في هذا العالم إقامة مزيد من الحدود، ونصب الحواجز، ونشر الأسلاك الشائكة بين الأمم بدلا من فتح الحدود ومدّ جسور المحبة والصداقة والتعاون بينها، وهي جميعا تشترك في امتلاك العقل والمشاعر، والقدرة على التفكير وحل المشاكل ومراعاة المشاعر. وتشترك هذه الشعوب بكل أعراقها وألوانها ولغاتها، وبمعتقداتها ومن غير معتقداتها، في انتمائها إلى الجنس البشري!
أنجلينا كانت بريئة عندما اختارت سواحل جميلة أثارت إعجابها. وكان شفيق نفسه بريئا في تلك اللحظة عندما نظر إليها نظرة طبيعية عفوية مجرّدة من ثوب الخلفيات، ودنس الحسابات، وكل المؤثرات، فعَلق بها بصرُه، وتعلقت بها روحه، إلى أن تدخَّل عقله بجبروته فأزاح نظره عنها، وشوّه له منظرها بحبر أحكام لم يساهم هو في إصدارها، وخلفيات وخلافات لا ذنب له فيها!
وها هو عقله يأمره بوصد الأبواب في وجهها، وصرف باله عنها، ويحذره من عواقب اجتياز خط أحمر أحاطه مجتمعه بها، ويذكره أنّ في منطق الأذهان المتعصبة، مَن يقرب المحرم، لا يُرحَم.
تغيّرت ملامح أنجلينا فجأة وهي تراه منشغل البال، متوترا على غير العادة في مثل هذه الساعة الجميلة وهي تحدثه عن موضوع السفر المفرح والمثير، وهو من كاد يطير من شدة الفرح لأجله.
“ماذا حصل؟ هل أنت على ما يرام حبيبي؟" سألته في حيرة.
“لا بأس، لا تشغلي بالك.. لكن إسرائيل في الوقت الحاضر.. أعتذر.. لأني لا أريد متاعب مع أحد."
أنجلينا التي فهمت المسألة الآن، ألقت الكتيب على الأرض دون تفكير، وراحت تعتذر كما لو أنها ارتكبت أكبر ذنب في الدنيا.
شفيق سارع فورا إلى طمأنتها أنّ الخطأ لم يكن منها ولا منه هو، وإنما من الأجواء السياسية المتوترة، والأفكار المتعصبة، والمواقف المتصلبة، والتصورات الخاطئة في الشرق التي ما زالت، إلى زمننا هذا، تؤمن بإمكانية طرد شعوب برمتها من أرض تحيا فيها منذ آلاف السنين وإلقائها في عرض البحر، تغرقها الأمواج، وتنهشها الحيتان في عالم يتسع لكل البشر!
لم تكن تلك الشواطئ الذهبية الخلابة هي كل ما أثار اهتمامه بل ايضا مدينة القدس. إنها القدس التي شهدت عبر تاريخها الطويل تعاقب الامبراطوريات والحضارات.. لشدّ ما أعجب بتنوعها الثقافي وثرائها الفكري الذي ما برح يذكّره بالعاصمة البريطانية لندن التي يتعايش فيها كل أجناس الدنيا ودياناتها في أمن وسلام.. وينتابه شعور أن "أورشليم/ القدس"، التي تضم أكبر الديانات في الدنيا، تستطيع أن تكون يوما أجمل وأرقى نموذج للتعايش والمحبة والتسامح في العالم!
أبلغ شفيق أنجلينا أن إيمانه بمدينة قدس آمنة متعددة الأجناس والديانات والثقافات ألهمه يوما لأن يكتب مقالة بعنوان "مدينة التسامح والسلام" تدعو إلى المحبة والتعايش بين أبناء العم. وكم كانت سعادته لما شاهد مقالته في إحدى الصحف العربية. عرضها على صديقه جمال عندما زاره ذات مساء. وكان متعلما متخرجا من معهد اللغات في الجامعة المركزية بالجزائر العاصمة، شغوفا باللغة والأدب. فالتمس منه رأيه في المقال.
قرأ صديقه المقال بتمهل وإمعان وهو يهز رأسه من حين إلى آخر متعجبا، وما إن بلغ نهايته حتى انفجر ضاحكا حتى دمعت عيناه.
“أقول بالمختصر المفيد..." قال له وهو يمسح دمعه بطرف كمّه. "لو أنّك وقفت الآن أمام عساكر إسرائيليين وقرأت مقالاتك هذه، لما أطلقوا عليك رصاصة واحدة!"
لم يفهم شفيق حينئذ ما كان يقصده صديقه، ولا علاقة مقاله المسالم بالعساكر ونقطة التفتيش والرصاص، ولم يحفل بشيء. وسرعان ما غيّرا الموضوع لينشغلا بالحديث عن مشاغل أخرى لا تنتهي.
وفي وقت لاحق، وفي سكون غرفته، استحضر ذلك المشهد الذي صوّره له صحبه عندما فرغ من قراءة مقاله. لم يكن ذلك المقال، على ما يبدو، عند حسن ظن هذا الرجل لأنه لم يكن بتلك اللهجة التي كان يتطلع إلى مشاهدتها في كتابه. فالتعامل مع الخصم لا يكون إلاَّ بالسلاح، وهو يملك سلاحا فتاك يتمثل في القلم، ومع ذلك لم يشهره في وجه "الأعداء". هكذا كان ينظر صديقه إلى موقفه. وهكذا سينظر مجتمعه إلى مقاله وإلى مواقفه التي صقلتها الحياة في بيئة بعيدة عن مجتمعه يحيا فيها كل أعراق الدنيا وألوانها ودياناتها في انسجام لا يوصف.
ما أقصر نظر هذا الصديق إن لم يستطع أن يمتد خلف قشرة الجوزة إلى اللب الكامن في أعماق ذاته! وما أضيق فكره إن لم يتسع لفهم ما يجول في خاطره وإدراك أفكاره ومواقفه! وما أجهله! فمع أنه يعرفه منذ أمد طويل، لم يكن يعرف عنه، على ما يبدو، إلاَّ القليل!
سنوات طويلة من الصداقة واللقاءات المتتالية والزيارات المتكررة والأحاديث التي لا تكاد تنقطع، لم تعنه على فهم طبعه! فهو حتى الآن، لم يدرك بعد أنّ روحه تطفح إكبارا وإجلالا للمحبة والإنسانية والحضارة التي لا مكان فيها ولا معنى في قاموسها العظيم للتفكير الأحادي الضيق والشعور العدائي وأسلوب القوة والعنف. لم يكن يدري لماذا في هذه اللحظات، وأكثر من أي وقت مضى، امتلكه شعور غريب بالتعلق بأنغام كلمات أغنيةِ "تخيّلْ" لجون لينون. تغمره سيولها العذبة، فتطهّر روحه من الأفكار السلبية، وتفعم نفسه بالمشاعر الإنسانية. كان يعيش كل كلمة وكل نغمة منها بكل جوارحه، فيشعر بالتأثر حينا، والطرب إلى حد الجنون أحيانا:
"تخيّل أنّ كل البشر يعيشون لأجل اليوم..
تخيّل أنه لا توجد دول..
ليس ذلك بالأمر العسير..
ليس ثمة ما تقتل أو تموت لأجله..
وليس ثمة دين..
وتخيّل أنّ كل البشر يحيون حياتهم في سلام..." جون لينون
بقلم: مولود بن زادي كاتب ومترجم وباحث مقيم في بريطانيا