-الكنز في الرحلة
هذا هو ملخص الكتاب الصغير الذي لا يتجاوز المائة في عدد صفحاته, واقتبس عبارة قالها أحد القراء على موقع القراءات الجيدة (الكنز هو الحكاية,وما يخطه الكاتب هنا هو التأويل). وفي العادة يتناول النقد الأدبي (المتضمن للحكي) أي حكاية بأحد شكلين؛ حكاية الحكاية,أي تحليلها وبيان الجيد من السئ فيها. أو إعادة حكاية الحكاية؛ تفكيكها وتأويلها,أي إعادة بناءها وتركيبها. ولتحقيق هذا يستعين كاتبنا بمجموعة من الأدوات البنيوية والتفكيكية والسيميائية والمورفولوجية والسردية استنادا إلى فلسفات فرديناند دي سوسير وشارل ساندرس بيرس ورولان بارت وأومبرتو إيكو وغريماس[31] وليفي شتراوس الذي تحدث ذات مرة -أو ربما شخص آخر- عن شخصية خيالية في رواية أطلقت رصاصة على شخصية أخرى. هي لم تصبه,وهذا ما يهم القارئ. ولكن ما يهم نوع آخر من القراء هو التساؤل حول أين استقرت الرصاصة؟. القراءات التفكيكية تجيب عن مثل تلك الأسئلة,وتصنع امتداد من الحكايات ينبثق عن الحكاية الأولى (موضع التفكيك). أنا أستمتع بهذا النوع من القراءات الأدبية والنقدية,وقد يستمتع بها كل من يريد معايشة شخصيات الحكاية حتى بعد انتهاء الحكاية,ولكن في بعض الأحوال قد يغدوا مملا خاصة إذا أطال الكاتب بلا طائل في أكثر من موضع.
الكاتب يعمل على تفكيك سبع حكايات هي حجر سنمار,وامرئ القيس,حاسب كريم الدين, صندوق وضاح اليمن,سلامة والقس,أبو حيان الموسوس والماء,وحكاية الحالمين. وهي من أشهر الحكايات في تاريخ القصص العربي,ويعتمد في قراءتها على ما ورد عنها في مصادر تعد من أمهات كتب الأدب العربي اليوم,حجر سنمار ورد ذكرها في (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب) للثعالبي. وتوجد إشارة عنها في كتاب الأغاني الذي يُعد من أمهات الكتب إلى جوار الأربعة التي ذكرها بن خلدون؛أدب الكاتب لابن قتيبة،والكامل للمبرد،والبيان والتبيين للجاحظ,والنوادر لأبي علي القالي (وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها) على حد تعبير ابن خلدون نفسه. كتاب الأغاني فيه نقل عن ابن الكلبي لبعض ما روي عن امرئ القيس (ويرجع الكاتب إلى مصادر أخرى لهذه الحكاية مثل الشعر والشعراء لابن قتيبة). ينقل الأصفهاني أيضا حكاية عن صندوق وضاح اليمن,وحكاية أخرى -أقلهم شهرة- عن عابد اسمه عبد الرحمن بن عبد الله. وحكاية عن أبو حيان الموسوس نقلها الكاتب عن كتاب طبقات الشعراء لابن المعتز. والمصدر الأخير هو ألف ليلة وليلة التي أخذ عنها حكايتين؛حاسب كريم الدين,وحكاية الحالمين (كما سماها سعيد الغانمي). إن تعدد المصادر,وعلى ما نعرفه عنها من ضخامة المتن (طبعة بولاق عام 1868 لكتاب الأغاني في 20 مجلدا),بالإضافة إلى عمق هذه القصص,كلها دلالات على التاريخ القديم للرواية العربية,والقص القصيرة (وحتى القصة القصيرة جدا),برغم مزاعم الغرب بأنهم مخترعين الرواية,ولي دراسة أنشرها قريبا في هذا الباب,ومن نتائجها أن الغرب هم فقط طوروا الشكل الروائي الذي تلقفوه عن العرب,مؤسسين للشكل الجديد المتعارف عليه اليوم للرواية.
الحكاية الأولى حجر سنمار عن أشهر حجر وأشهر جدار في تاريخ العرب,إذا تحرك الحجر سقط الجدار,وتهاوى قصر الخورنق الذي كان منيعا لا يمكن سقوطه,وعجيبة من عجائب الدهر مثل حدائق بابل وسور الصين وأسوار طروادة,ومثل أسوار طروادة كان الحجر تنويعا على حصان طروادة. القصر ملك للنعمان بن المنذر,أشهر ملوك المناذرة قبل الإسلام,والمناذرة عائلة كبيرة (سلالة أو عشيرة) حكمت العراق في العصر الجاهلي. والنعمان ملك قوي,كان له يومان في العام (أو ربما مراوحة بين يوم ويوم كل يوم) يوم حزن ويوم سعد,إذا صادف أحدهما في يوم قتله,وإذا صادف أحد في اليوم الآخر حقق له مطلبه. وله حكايات أخرى عجيبة مع حاتم الطائي (قيل أنه أكرم من عرف العرب),ومع عنترة بن شداد فله مآثر معه حين أغار على إبل النعمان -ومن يجرؤ غير عنترة- ليأخذها مهرا لعبلة (علّم عليه كما نقول في المصرية الدارجة). طلب النعمان من سنمار وهو المهندس الأعظم في عصره,أن يبني له قصرا منيعا,وفعل,ولكنه أطلع الملك النعمان على سرّ -وهو الحجر- إذا انكشف لم يعد القصر منيعا فقتله النعمان حفاظا على سرّه. ولهذا يُضرب المثل بـ (جزاء سنمار) على المحسن حين يكافأ بالإساءة. ويقول الله في كتابه الحكيم (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) الآية 60 من سورة الرحمن. ويسترسل الكاتب في الطريقة التي قُتل بها سنمار,مظهرا تناقضات ليست بالضرورة موجودة في القصة. على سبيل المثال يفترض أن الحرس الذي صحب الملك والمهندس سمع حديثهما عن الحجر,فإذا أمر بقتل سنمار,ألا يفترض أن يأمر بقتل قاتله؟. ربما فعل يا أستاذ سعيد,وربما لم يكن برفقتهما أحد على مستوى السمع. لا توجد تناقضات هنا (أو أن تناقضاتك جاءت في غير موضعها),مهما كثرت تساؤلاتك عن الخورنق,أهو برج أم سور؟.[32] ولكنه أشار إلى حقيقة سردية عن حجر سنمار,كونه حجر الفلاسفة من نوع آخر؛إكسير هندسي للحياة على حد تعبير الكاتب. ومنذ البداية,وفي أول قصة,سوف نتعرف على إسلوب الكاتب الثابت في هذا الكتاب بطريقة أقرب إلى التكرار والتشويق الرخيص. فهو لا يكف عن طرح التساؤلات نعلم أنه سوف يقودنا إلى ما اختاره هو سلفا من إجابات. ولكن لا يفوت سعيد الغانمي,وهو الفيلسوف الكبير,أن يؤرخ من حين لآخر عن بعض الصور الثقافية مثل عظمة الاستدارة عن (دوران القصر حول الشمس) مستعينا ببعض جماليات المكان عند باشلار (لي مقال عن أشهر الكرات في التاريخ يتعرض لهذا الموضوع).[33] ويختم هذا الفصل بتساؤل في محله,بهذه القطعة النصية:- "هل النعمان هو النموذج الوحيد للبحث عن اللانهاية؟ قبل النعمان كان هناك نموذج مماثل -هل كان قبة؟- هو الإمبراطور الصيني (شيه هوانغ تي),الذي بنى سور الصين العظيم,وأحرق الكتب جميعا. وفي رأي بورخيس فإن هذا الإمبراطور (حرّم الموت وبحث عن إكسير البقاء). كان إحراقه الكتب نوعا من التخلص من الماضي,وتبشيرا ببداية جديدة للزمن,وكان بناؤه السور نوعا من الاحتماء بالأبدية من الموت,ومثل النعمان فقد أُتهم (شيه هوانغ تي) بالاستبداد والعنف,لأنه حكم على أمه بالنفي لتهتكها. لكن شيه هوانغ تي والنعمان السائح كليهما نسخة مكررة من ملك أقدم بحث عن إكسير الحياة لكنه لم يفلح. أنه جلجاميش الذي فقد صديقه أنكيدو,كما فقد النعمان صديقه سنمار."[34]
الفصل الثاني وهو بعنوان (حكايات امرئ القيس؛البحث عن أوديب عربي) ويقارن بين الحكايتين العربية واليونانية,والإثنين أبناء ملوك,عبر ثلاثة فصول تشكل ثلاثة مراحل لرحلتهما؛حكاية الطرد,وحكاية اللغز حين "أقسم ألا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة واثنتين"[35] وهي طريقة شائعة في عرض الألغار والمحاججة في التراث العربي (هل تذكرون خطبة الشيخ كشك عن أبو اليزيد البسطامي مع النصاري)[36] . من الملاحظات الموفقة للكاتب أن الحكاية عجيبة (وهي ليست أعجب ما مرّ بأمرئ القيس) تربط بين حل اللغزين ولصق الجسدين وتنثر الرموز الجنسية هنا وهناك مثل الجنس والسمن والعسل والدم.[37] ينقل عن ليفي شتراوس: "هناك تماثل بين العسل ودماء الحيض. فكلاهما مادة متحولة ناتجة عن مطبخ تحتي .. نباتي بالنسبة إلى الأول,وحيواني بالنسبة إلى الثاني. فضلا عن ذلك يمكن أن يكون العسل شافيا أو ساما,مثلما أن المرأة في وضعها الطبيعي عسل,إلا أنها تفرز سما عندما تتوعك."[38] ورغم أنني شعرت أنها كثيرة جدا هذه المبالغة للزواج,إلا أنني متفهم البحث المضني من الكاتب عن تمييز بين "صورتين للزواج,الزواج بوصفه تناسلا طبيعيا,والزواج بوصفه اختيارا ثقافيا."[39] تحل المرأة لغز الرجل وتتزوجه. الحكاية الأخيرة (حكاية الرداء المسموم) يحاول فيه الكاتب أن يفكك لغز موت الأمير برداء مسموم,مثلما حدث مع هرقل متسائلا عن تلك التفاصيل المخفية أو المهملة في الأقاصيص العربية.
من جلجامش إلى بلوقيا,يعقد سعيد الغانمي مقارنة بين حكاية جلجاميش,وحكاية بلوقيا المروية على لسان ملكة الحيات وهي تخاطب حاسب كريم الدين,وهو من شخصيات ألف ليلة وليلة,وبلوقيا بدوره يروي حكاية عن جانشاه رواها له هذا الأخير,تنقلها ملكة الحيات أيضا إلى حاسب. "تستفيد حكاية بلوقيا من عدد من الأساطير العراقية والعربية واليهودية القديمة وتستثمرها في بناء نص متجانس لا زيادة فيه بناءا ومضمونا".[310] ويستفيد سعيد الغامدي من مرجعياته الفلسفية العديدة (بالرجوع إلى فلاسفة مثل عبد الكريم الجيلي وصدر الدين الشيرازي) لتحليل وتفكيك هذه القصة الغير مستقرة على ثابت محدد. القصة عبارة عن مجموعة أسفار بلوقيا,الذي يعبر البحار السبعة وجبل قاف,بحثا عن محمد,في نوع من تأليه محمد[311] ,ويقارن بين بلوقيا والإسكندر ذو القرنين الذي يبحث عن عين الحياة في بحر الظلمات بحسب ما ورد في تاريخ الطبري.[312] ويتتبع الغامدي رحلة بلوقيا بالمقارنة مع رحلات من سبقوه,ليكشف عن الأثر الأدبي الواضح من ملحمة جلجاميش على ألف ليلة وليلة من خلال وسيط الثقافة اليهودية خاصة في مرحلة ما بعد السبي البابلي,وفترة تهود اليمن. "حوّر اليهود الأسطورة العراقية القديمة ثم نقلوها إلى اليمن,وفي اليمن تم تعريب الأسماء اليهودية ومطابقتها للتاريخ اليمني قبل الإسلام,بتحويل جلجامش إلى يوشع بن ليفي ثم إلى الصعب ذي القرنين,وأوتنابشتم إلى خاسيساترا ثم إلى الخضر,وحين عادت هذه الأساطير إلى العراق مرة أخرى,كانت اللغة الأكدية,لغة الملحمة الأم قد دخلت في بحر ظلمات النسيان,لكن العراقيين كانوا يشعرون باتصال هذه الأسطورة بهم على نحو ما,الأمر الذي دفعهم إلى تحويل الصعب ذي القرنين إلى الإسكندر ذي القرنين,الملك اليوناني - العراقي القريب من تاريخهم. ولهذا تميز المرويات العربية بين شخصين عرفا باسم ذي القرنين,أحدهم قديم والآخر متأخر عنه. مؤلفوا حكاية بلوقيا الذين لن نعرف متى كتبوا هذه الحكاية ولا أين,يغترفون من المصادر المذكورة جميعا. سفر بلوقيا إلى القدس للالتقاء بعفان مطابق لسفر الصعب للالتقاء بالخضر في القدس أيضا في رواية وهب بن منبه. وموت عفان مطابق لموت انكيدو في ملحمة جلجامش. والجغرافيا السردية للحكاية مطابقة لجغرافية الحكاية الصوفية. بل إن تعدد المصادر ينكشف في خطأ صغير يرتكبه النص حين يذكر ماء الحياة [662] ثم يذكر (العشب الذي كل من أكل منه لا يموت) [ص 663] ليرجع بعد ذلك إلى ذكر ماء الحياة [ص 664]. وفي جميع المصادر المذكورة ما من إشارة إلى (عشبة الحياة) إلا في ملحمة جلجامش. بينما تتفق جميع المصادر الأخرى على نبع الحياة. لقد حولت ألف ليلة وليلة جلجاميش إلى بلوقيا,وانكيدو إلى عفان,وأوتنابشتم إلى ملكة الحيات,واستعارت الخضر في آخر الحكاية من بقية المصارد. والقدر واحد."[313] تحليل ذكي من المؤلف يكشف عن تغلغل الموروث اليهودي في التراث الإسلامي,ما يستدعي قراءة متأنية ليس فقط لألف ليلة,بل للدخيل على الحديث النبوي من ضعيف وموضوع وإسرائيليات. وقد أشار أحمد خالد توفيق في أكثر من موضع إلى الإشارات العديدة المناهضة للإسلام داخل متن الليالي العربية (مثل الرجل الذي ركب عفريت طار به ومات فقط لأنه قال سبحان الله فاحترق العفريت وسقط!). بالفعل يستأنف الكاتب تحليله ويربط بين حاسب ويوسف,وميدوسا وملكة الحيات وسيرينا وليليث,والمزيد من الإحالات على جلجاميش ومصادر أخرى في الفانتازيا العربية الإسلامية. هذا الفصل هو أمتع فصول الكتاب.
إن تنقيب سعيد الغامدي عن (الأثر الثقافي للأشياء) يبدوا مذهلا وأكثر وضوحا في فصل (صندوق وضاح اليمن) الذي يأتي تتمة لسردية أو لعبة الصناديق الصينية [314] التي خاضها حاسب في الفصل السابق. "حيث كل صندوق في داخل صندوق آخر".[315] رعب ما وراء الباب المغلق على حد تعبير أحمد خالد توفيق. والذي يجسد متعة (الحكاية داخل الحكاية). قيل أن أم البنين زوجة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك أحبت وضاح اليمن,بلغ خبره إلى الخليفة الذي دخل إلى مخدع زوجته,وكان عندها صناديق كثيرة تخفي عشيقها في أحدها. وقد عرف أي صندوق تخبأه فيه,فجلس عليه,وطلبه منها,قالت اطلب غيره,قال ما يريد إلا غيره,فقالت خذه يا أمير المؤمنين. "فدعا بالخدم وأمرهم بحمله,فحمله حتى انتهى به إلى مجلسه فوضعه فيه,ثم دعا عبيدا له فأمرهم فحفروا بئرا في المجلس عميقة,فنحي البساط وحفرت إلى الماء. ثم دعا بالصندوق فقال: (يا هذا,إنه بلغنا شيء إذا كان حقا فقد كفناك ودفناك ودفنا ذكرك وقطعنا أثرك إلى آخر الدهر,وإن كان باطلا فإنا دفنا الخشب,وما أهون ذلك). ثم قذف به في البئر وهيل عليه التراب,وسويت الأرض,ورد البساط إلى حاله. وجلس الوليد عليه. ثم ما رُئي بعد ذلك اليوم لوضاح أثر في الدنيا إلى هذا اليوم. وما رأت أم البنين لذلك أثرا في وجه الوليد حتى فرّق الموت بينهما".[316] وهي قصة مخيفة بحق عن صندوق كان تابوتا. وقد ذكر الكاتب أن صاحب الأغاني ينقل عن كتاب المغتالين عن ابن الكلبي.[317] في الأخير يعيد تساؤل سابق كما في الحكاية الأولى عن من يروي الحكاية؟[318] حسنا,يظهر أن الراوي هو وضاح نفسه يا كاتب.
في الحكاية الخامسة قصة مؤثرة عن أعمى لم يكن أعمى,ولكن تظاهر بالعمى -في نوع من العمى الطوعي- حتى لا يجرح زوجته العمياء,في جمع بين البصر والبصيرة,وتحليل للنظر بحسب رأي الشيطان,وتمثيل ثقافي للزواج بوصفه (مرحلة اختبار تنتهي بدار القرار),ويتم إبدال العشق بالبصر بالعشق بالسمع,ويغذي هذا التصور تراث من الشعر الكفيف للعشق بالأذنين تمثله أبيات بشار بن برد[319]
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
وتراث من ثقافة المشافهة.
-ما عميت ولكن تعاميت حذرا أن تحزن المرأة[320]
الحكاية السادسة حكاية قصيرة عن أبو حيان الموسوس,وكان عنده وسوسا وهوس بصب الماء,فكان كل يوم يحمل جرة كبيرة من الماء ليصبها في النهر أو خلافه. و"كان إذا جنه الليل وضع الجرة وجلس يبكي عليها ويقول: اللهم فرج عني وخفف عليّ هذا العمل الذي أنا فيه".[321] والوسوسة كما جاء في لسان العرب هي (الكلام الخفي في اختلاط). ويتجاهل الكاتب الإحالة إلى أسطورة سيزيف,ويركز أكثر في العلاقة اللغوية بين السفر والسفر بفتح السين أو بكسرها,وبين الماء والموه (من التمويه) وبين الجن والجنون.[322] موضوع ممتع,ولكنه لم يتطرق إليه إلا بشكل سطحي وممل هنا.
يستهل الحكاية السابعة والأخيرة بحديث مطول عن الرسائل المدفونة في أرض داخل قمقم يعثر عليها فلاح,أو الملقاة في البحر يتعلق بشبكة صياد,دون ذكر لما قد يحتويه هذا القمقم من جن أو مارد أو عفريت. الحكاية عن رجل من بغداد كان غنيا وأضحى فقيرا,وقبل أن يطلب من أحد مساعدته حين لم يعد يمتلك شيئا,وبدلا من أن يعثر على قمقم فيه عفريت يحقق له أمنية بالثراء,يزوره حلم في المنام ونداء بالذهاب إلى مصر. يتعثر به الحظ هناك ويشتبه به لصا وبعد (علقة سخنة كما يقول المصريين) فكيلوا له الضرب والجلد,أشفق عليه ضابط الشرطة ويسأله عن قصته,يرويها له,فيرد عليه هازئا: يالك من شخص غبي,تصدق ما تقوله الأحلام. لقد حلمت,مثلك,بكنز في بغداد,في المحلة الفلانية والشارع الفلاني,تحت سدرة في بيت فلان. لكنني لم أكن غبيا مثلك لأذهب. والآن خذ هذه القروش,وعد إلى بغداد.[323] في الواقع الضابط لم يصف إلا بيته هو,ويعود سريعا ليحفر فيجد الكنز الذي بحث عنه في مصر.
يذكر الكاتب أن الحكاية وردت في ثلاث مواضع,الأولى في ألف ليلة وليلة,وهي الليلة الحادية والخمسين بعد الثلاثمائة مع مجموعة من الحكايات الصغيرة. واعتقد أن هذه الأصل لولا أنه ربما هناك حدوث لتناص مع المصدر الثاني,القصة يرويها يحيى ابن عاصم الأندلسي في كتابه حدائق الأزاهر. "هناك نسخة ثالثة ينقلها بورخيس في كتابه (تاريخ عالمي للعار) عن الليلة نفسها من ألف ليلة وليلة مع اختلاف في التفاصيل والأماكن والسند, ولم أجد مصدرها العربي".[324] فهي اقتباس أو نقل عن مصدر وقع في يدي بورخيس المعروف عنه اقتناءه للكتب المهمة النادرة. وهناك نسخة رابعة لم يذكرها الكاتب,في رواية باولو كويلو الشهيرة (الخيميائي) والتي اقتبسها عن الليالي العربية.
وتأكيدا على تأثير القصة العربية (التي يمكن وصفها بحسب طولها وطبيعتها إلى قصة أو أقصوصة أو حكاية أو مقامة) على الرواية الغربية,يوضع الكاتب مراعاة حكايتنا تلك لبعض أهم وظائف السرد (فلا تتواجد شخصية إلا ولها وظيفة,ولا يصدر فعل إلا ويؤدي إلى مسار معين). فما من شيء في الحكاية إلا وله وظيفة[325] ,على مستوى السرد أو اللغة أو الإتصال أو خلاف ذلك. بل بنا إلى نوع من تفسير الأحلام في السرد العربي كأنه مهد التحليل النفسي (وبالفعل من يطلع على تفسير الأحلام لابن سيرين أو النابلسي يجد العديد من الإشارات النفسية الفرويدية). عدا عن ذلك يزيد الكاتب بما لا فائدة من زيادته,ما يدعونا للتساؤل لما كل هذا الحديث المتكلف؟. مثلما أرفق شكل بالصفحة 85 يمكن وصفه بأنه (ولا له تلاتين لزمة) بالتعبير العامي المصري الدارج. أي لا فائدة ترجا منه.
ولكن يظل الكتاب في مجمله ممتع جدا.
قراءات مشابهة
-في جو من الندم الفكري / عبد الفتاح كيليطو
-صيادو الذاكرة / رضوى عاشور
-خطاب الجنون / أحمد بن علي آل مريع
-الكثير من نصوص الناقد العراقي وعالم السرديات عبد الله إبراهيم
[HR][/HR]
[31]مثلما استشهد في تحليل له ص 23.
[32]ص 8.
[33]ص 12.
[34]ص 13.
[35]ص 21,22.
[36]استمع إليها عبر هذا الرابط
[37]ص 24,25.
[38]ص25.
[39]ص 27.
[310]ص 35,36.
[311]ص 36,37.
[312]ص 37,38.
[313]ص 41,42.
[314]ص 43.
[315]ص 43.
[316]ص 53:55.
[317]ص 55.
[318]ص 58.
[319]ص 66.
[320]ص 65.
[321]ص 71.
[322]ص 74.
[323]ص 78.
[324]ص 79.
[325]ص 79,80,81,82.
هذا هو ملخص الكتاب الصغير الذي لا يتجاوز المائة في عدد صفحاته, واقتبس عبارة قالها أحد القراء على موقع القراءات الجيدة (الكنز هو الحكاية,وما يخطه الكاتب هنا هو التأويل). وفي العادة يتناول النقد الأدبي (المتضمن للحكي) أي حكاية بأحد شكلين؛ حكاية الحكاية,أي تحليلها وبيان الجيد من السئ فيها. أو إعادة حكاية الحكاية؛ تفكيكها وتأويلها,أي إعادة بناءها وتركيبها. ولتحقيق هذا يستعين كاتبنا بمجموعة من الأدوات البنيوية والتفكيكية والسيميائية والمورفولوجية والسردية استنادا إلى فلسفات فرديناند دي سوسير وشارل ساندرس بيرس ورولان بارت وأومبرتو إيكو وغريماس[31] وليفي شتراوس الذي تحدث ذات مرة -أو ربما شخص آخر- عن شخصية خيالية في رواية أطلقت رصاصة على شخصية أخرى. هي لم تصبه,وهذا ما يهم القارئ. ولكن ما يهم نوع آخر من القراء هو التساؤل حول أين استقرت الرصاصة؟. القراءات التفكيكية تجيب عن مثل تلك الأسئلة,وتصنع امتداد من الحكايات ينبثق عن الحكاية الأولى (موضع التفكيك). أنا أستمتع بهذا النوع من القراءات الأدبية والنقدية,وقد يستمتع بها كل من يريد معايشة شخصيات الحكاية حتى بعد انتهاء الحكاية,ولكن في بعض الأحوال قد يغدوا مملا خاصة إذا أطال الكاتب بلا طائل في أكثر من موضع.
الكاتب يعمل على تفكيك سبع حكايات هي حجر سنمار,وامرئ القيس,حاسب كريم الدين, صندوق وضاح اليمن,سلامة والقس,أبو حيان الموسوس والماء,وحكاية الحالمين. وهي من أشهر الحكايات في تاريخ القصص العربي,ويعتمد في قراءتها على ما ورد عنها في مصادر تعد من أمهات كتب الأدب العربي اليوم,حجر سنمار ورد ذكرها في (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب) للثعالبي. وتوجد إشارة عنها في كتاب الأغاني الذي يُعد من أمهات الكتب إلى جوار الأربعة التي ذكرها بن خلدون؛أدب الكاتب لابن قتيبة،والكامل للمبرد،والبيان والتبيين للجاحظ,والنوادر لأبي علي القالي (وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها) على حد تعبير ابن خلدون نفسه. كتاب الأغاني فيه نقل عن ابن الكلبي لبعض ما روي عن امرئ القيس (ويرجع الكاتب إلى مصادر أخرى لهذه الحكاية مثل الشعر والشعراء لابن قتيبة). ينقل الأصفهاني أيضا حكاية عن صندوق وضاح اليمن,وحكاية أخرى -أقلهم شهرة- عن عابد اسمه عبد الرحمن بن عبد الله. وحكاية عن أبو حيان الموسوس نقلها الكاتب عن كتاب طبقات الشعراء لابن المعتز. والمصدر الأخير هو ألف ليلة وليلة التي أخذ عنها حكايتين؛حاسب كريم الدين,وحكاية الحالمين (كما سماها سعيد الغانمي). إن تعدد المصادر,وعلى ما نعرفه عنها من ضخامة المتن (طبعة بولاق عام 1868 لكتاب الأغاني في 20 مجلدا),بالإضافة إلى عمق هذه القصص,كلها دلالات على التاريخ القديم للرواية العربية,والقص القصيرة (وحتى القصة القصيرة جدا),برغم مزاعم الغرب بأنهم مخترعين الرواية,ولي دراسة أنشرها قريبا في هذا الباب,ومن نتائجها أن الغرب هم فقط طوروا الشكل الروائي الذي تلقفوه عن العرب,مؤسسين للشكل الجديد المتعارف عليه اليوم للرواية.
الحكاية الأولى حجر سنمار عن أشهر حجر وأشهر جدار في تاريخ العرب,إذا تحرك الحجر سقط الجدار,وتهاوى قصر الخورنق الذي كان منيعا لا يمكن سقوطه,وعجيبة من عجائب الدهر مثل حدائق بابل وسور الصين وأسوار طروادة,ومثل أسوار طروادة كان الحجر تنويعا على حصان طروادة. القصر ملك للنعمان بن المنذر,أشهر ملوك المناذرة قبل الإسلام,والمناذرة عائلة كبيرة (سلالة أو عشيرة) حكمت العراق في العصر الجاهلي. والنعمان ملك قوي,كان له يومان في العام (أو ربما مراوحة بين يوم ويوم كل يوم) يوم حزن ويوم سعد,إذا صادف أحدهما في يوم قتله,وإذا صادف أحد في اليوم الآخر حقق له مطلبه. وله حكايات أخرى عجيبة مع حاتم الطائي (قيل أنه أكرم من عرف العرب),ومع عنترة بن شداد فله مآثر معه حين أغار على إبل النعمان -ومن يجرؤ غير عنترة- ليأخذها مهرا لعبلة (علّم عليه كما نقول في المصرية الدارجة). طلب النعمان من سنمار وهو المهندس الأعظم في عصره,أن يبني له قصرا منيعا,وفعل,ولكنه أطلع الملك النعمان على سرّ -وهو الحجر- إذا انكشف لم يعد القصر منيعا فقتله النعمان حفاظا على سرّه. ولهذا يُضرب المثل بـ (جزاء سنمار) على المحسن حين يكافأ بالإساءة. ويقول الله في كتابه الحكيم (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) الآية 60 من سورة الرحمن. ويسترسل الكاتب في الطريقة التي قُتل بها سنمار,مظهرا تناقضات ليست بالضرورة موجودة في القصة. على سبيل المثال يفترض أن الحرس الذي صحب الملك والمهندس سمع حديثهما عن الحجر,فإذا أمر بقتل سنمار,ألا يفترض أن يأمر بقتل قاتله؟. ربما فعل يا أستاذ سعيد,وربما لم يكن برفقتهما أحد على مستوى السمع. لا توجد تناقضات هنا (أو أن تناقضاتك جاءت في غير موضعها),مهما كثرت تساؤلاتك عن الخورنق,أهو برج أم سور؟.[32] ولكنه أشار إلى حقيقة سردية عن حجر سنمار,كونه حجر الفلاسفة من نوع آخر؛إكسير هندسي للحياة على حد تعبير الكاتب. ومنذ البداية,وفي أول قصة,سوف نتعرف على إسلوب الكاتب الثابت في هذا الكتاب بطريقة أقرب إلى التكرار والتشويق الرخيص. فهو لا يكف عن طرح التساؤلات نعلم أنه سوف يقودنا إلى ما اختاره هو سلفا من إجابات. ولكن لا يفوت سعيد الغانمي,وهو الفيلسوف الكبير,أن يؤرخ من حين لآخر عن بعض الصور الثقافية مثل عظمة الاستدارة عن (دوران القصر حول الشمس) مستعينا ببعض جماليات المكان عند باشلار (لي مقال عن أشهر الكرات في التاريخ يتعرض لهذا الموضوع).[33] ويختم هذا الفصل بتساؤل في محله,بهذه القطعة النصية:- "هل النعمان هو النموذج الوحيد للبحث عن اللانهاية؟ قبل النعمان كان هناك نموذج مماثل -هل كان قبة؟- هو الإمبراطور الصيني (شيه هوانغ تي),الذي بنى سور الصين العظيم,وأحرق الكتب جميعا. وفي رأي بورخيس فإن هذا الإمبراطور (حرّم الموت وبحث عن إكسير البقاء). كان إحراقه الكتب نوعا من التخلص من الماضي,وتبشيرا ببداية جديدة للزمن,وكان بناؤه السور نوعا من الاحتماء بالأبدية من الموت,ومثل النعمان فقد أُتهم (شيه هوانغ تي) بالاستبداد والعنف,لأنه حكم على أمه بالنفي لتهتكها. لكن شيه هوانغ تي والنعمان السائح كليهما نسخة مكررة من ملك أقدم بحث عن إكسير الحياة لكنه لم يفلح. أنه جلجاميش الذي فقد صديقه أنكيدو,كما فقد النعمان صديقه سنمار."[34]
الفصل الثاني وهو بعنوان (حكايات امرئ القيس؛البحث عن أوديب عربي) ويقارن بين الحكايتين العربية واليونانية,والإثنين أبناء ملوك,عبر ثلاثة فصول تشكل ثلاثة مراحل لرحلتهما؛حكاية الطرد,وحكاية اللغز حين "أقسم ألا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة واثنتين"[35] وهي طريقة شائعة في عرض الألغار والمحاججة في التراث العربي (هل تذكرون خطبة الشيخ كشك عن أبو اليزيد البسطامي مع النصاري)[36] . من الملاحظات الموفقة للكاتب أن الحكاية عجيبة (وهي ليست أعجب ما مرّ بأمرئ القيس) تربط بين حل اللغزين ولصق الجسدين وتنثر الرموز الجنسية هنا وهناك مثل الجنس والسمن والعسل والدم.[37] ينقل عن ليفي شتراوس: "هناك تماثل بين العسل ودماء الحيض. فكلاهما مادة متحولة ناتجة عن مطبخ تحتي .. نباتي بالنسبة إلى الأول,وحيواني بالنسبة إلى الثاني. فضلا عن ذلك يمكن أن يكون العسل شافيا أو ساما,مثلما أن المرأة في وضعها الطبيعي عسل,إلا أنها تفرز سما عندما تتوعك."[38] ورغم أنني شعرت أنها كثيرة جدا هذه المبالغة للزواج,إلا أنني متفهم البحث المضني من الكاتب عن تمييز بين "صورتين للزواج,الزواج بوصفه تناسلا طبيعيا,والزواج بوصفه اختيارا ثقافيا."[39] تحل المرأة لغز الرجل وتتزوجه. الحكاية الأخيرة (حكاية الرداء المسموم) يحاول فيه الكاتب أن يفكك لغز موت الأمير برداء مسموم,مثلما حدث مع هرقل متسائلا عن تلك التفاصيل المخفية أو المهملة في الأقاصيص العربية.
من جلجامش إلى بلوقيا,يعقد سعيد الغانمي مقارنة بين حكاية جلجاميش,وحكاية بلوقيا المروية على لسان ملكة الحيات وهي تخاطب حاسب كريم الدين,وهو من شخصيات ألف ليلة وليلة,وبلوقيا بدوره يروي حكاية عن جانشاه رواها له هذا الأخير,تنقلها ملكة الحيات أيضا إلى حاسب. "تستفيد حكاية بلوقيا من عدد من الأساطير العراقية والعربية واليهودية القديمة وتستثمرها في بناء نص متجانس لا زيادة فيه بناءا ومضمونا".[310] ويستفيد سعيد الغامدي من مرجعياته الفلسفية العديدة (بالرجوع إلى فلاسفة مثل عبد الكريم الجيلي وصدر الدين الشيرازي) لتحليل وتفكيك هذه القصة الغير مستقرة على ثابت محدد. القصة عبارة عن مجموعة أسفار بلوقيا,الذي يعبر البحار السبعة وجبل قاف,بحثا عن محمد,في نوع من تأليه محمد[311] ,ويقارن بين بلوقيا والإسكندر ذو القرنين الذي يبحث عن عين الحياة في بحر الظلمات بحسب ما ورد في تاريخ الطبري.[312] ويتتبع الغامدي رحلة بلوقيا بالمقارنة مع رحلات من سبقوه,ليكشف عن الأثر الأدبي الواضح من ملحمة جلجاميش على ألف ليلة وليلة من خلال وسيط الثقافة اليهودية خاصة في مرحلة ما بعد السبي البابلي,وفترة تهود اليمن. "حوّر اليهود الأسطورة العراقية القديمة ثم نقلوها إلى اليمن,وفي اليمن تم تعريب الأسماء اليهودية ومطابقتها للتاريخ اليمني قبل الإسلام,بتحويل جلجامش إلى يوشع بن ليفي ثم إلى الصعب ذي القرنين,وأوتنابشتم إلى خاسيساترا ثم إلى الخضر,وحين عادت هذه الأساطير إلى العراق مرة أخرى,كانت اللغة الأكدية,لغة الملحمة الأم قد دخلت في بحر ظلمات النسيان,لكن العراقيين كانوا يشعرون باتصال هذه الأسطورة بهم على نحو ما,الأمر الذي دفعهم إلى تحويل الصعب ذي القرنين إلى الإسكندر ذي القرنين,الملك اليوناني - العراقي القريب من تاريخهم. ولهذا تميز المرويات العربية بين شخصين عرفا باسم ذي القرنين,أحدهم قديم والآخر متأخر عنه. مؤلفوا حكاية بلوقيا الذين لن نعرف متى كتبوا هذه الحكاية ولا أين,يغترفون من المصادر المذكورة جميعا. سفر بلوقيا إلى القدس للالتقاء بعفان مطابق لسفر الصعب للالتقاء بالخضر في القدس أيضا في رواية وهب بن منبه. وموت عفان مطابق لموت انكيدو في ملحمة جلجامش. والجغرافيا السردية للحكاية مطابقة لجغرافية الحكاية الصوفية. بل إن تعدد المصادر ينكشف في خطأ صغير يرتكبه النص حين يذكر ماء الحياة [662] ثم يذكر (العشب الذي كل من أكل منه لا يموت) [ص 663] ليرجع بعد ذلك إلى ذكر ماء الحياة [ص 664]. وفي جميع المصادر المذكورة ما من إشارة إلى (عشبة الحياة) إلا في ملحمة جلجامش. بينما تتفق جميع المصادر الأخرى على نبع الحياة. لقد حولت ألف ليلة وليلة جلجاميش إلى بلوقيا,وانكيدو إلى عفان,وأوتنابشتم إلى ملكة الحيات,واستعارت الخضر في آخر الحكاية من بقية المصارد. والقدر واحد."[313] تحليل ذكي من المؤلف يكشف عن تغلغل الموروث اليهودي في التراث الإسلامي,ما يستدعي قراءة متأنية ليس فقط لألف ليلة,بل للدخيل على الحديث النبوي من ضعيف وموضوع وإسرائيليات. وقد أشار أحمد خالد توفيق في أكثر من موضع إلى الإشارات العديدة المناهضة للإسلام داخل متن الليالي العربية (مثل الرجل الذي ركب عفريت طار به ومات فقط لأنه قال سبحان الله فاحترق العفريت وسقط!). بالفعل يستأنف الكاتب تحليله ويربط بين حاسب ويوسف,وميدوسا وملكة الحيات وسيرينا وليليث,والمزيد من الإحالات على جلجاميش ومصادر أخرى في الفانتازيا العربية الإسلامية. هذا الفصل هو أمتع فصول الكتاب.
إن تنقيب سعيد الغامدي عن (الأثر الثقافي للأشياء) يبدوا مذهلا وأكثر وضوحا في فصل (صندوق وضاح اليمن) الذي يأتي تتمة لسردية أو لعبة الصناديق الصينية [314] التي خاضها حاسب في الفصل السابق. "حيث كل صندوق في داخل صندوق آخر".[315] رعب ما وراء الباب المغلق على حد تعبير أحمد خالد توفيق. والذي يجسد متعة (الحكاية داخل الحكاية). قيل أن أم البنين زوجة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك أحبت وضاح اليمن,بلغ خبره إلى الخليفة الذي دخل إلى مخدع زوجته,وكان عندها صناديق كثيرة تخفي عشيقها في أحدها. وقد عرف أي صندوق تخبأه فيه,فجلس عليه,وطلبه منها,قالت اطلب غيره,قال ما يريد إلا غيره,فقالت خذه يا أمير المؤمنين. "فدعا بالخدم وأمرهم بحمله,فحمله حتى انتهى به إلى مجلسه فوضعه فيه,ثم دعا عبيدا له فأمرهم فحفروا بئرا في المجلس عميقة,فنحي البساط وحفرت إلى الماء. ثم دعا بالصندوق فقال: (يا هذا,إنه بلغنا شيء إذا كان حقا فقد كفناك ودفناك ودفنا ذكرك وقطعنا أثرك إلى آخر الدهر,وإن كان باطلا فإنا دفنا الخشب,وما أهون ذلك). ثم قذف به في البئر وهيل عليه التراب,وسويت الأرض,ورد البساط إلى حاله. وجلس الوليد عليه. ثم ما رُئي بعد ذلك اليوم لوضاح أثر في الدنيا إلى هذا اليوم. وما رأت أم البنين لذلك أثرا في وجه الوليد حتى فرّق الموت بينهما".[316] وهي قصة مخيفة بحق عن صندوق كان تابوتا. وقد ذكر الكاتب أن صاحب الأغاني ينقل عن كتاب المغتالين عن ابن الكلبي.[317] في الأخير يعيد تساؤل سابق كما في الحكاية الأولى عن من يروي الحكاية؟[318] حسنا,يظهر أن الراوي هو وضاح نفسه يا كاتب.
في الحكاية الخامسة قصة مؤثرة عن أعمى لم يكن أعمى,ولكن تظاهر بالعمى -في نوع من العمى الطوعي- حتى لا يجرح زوجته العمياء,في جمع بين البصر والبصيرة,وتحليل للنظر بحسب رأي الشيطان,وتمثيل ثقافي للزواج بوصفه (مرحلة اختبار تنتهي بدار القرار),ويتم إبدال العشق بالبصر بالعشق بالسمع,ويغذي هذا التصور تراث من الشعر الكفيف للعشق بالأذنين تمثله أبيات بشار بن برد[319]
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
وتراث من ثقافة المشافهة.
-ما عميت ولكن تعاميت حذرا أن تحزن المرأة[320]
الحكاية السادسة حكاية قصيرة عن أبو حيان الموسوس,وكان عنده وسوسا وهوس بصب الماء,فكان كل يوم يحمل جرة كبيرة من الماء ليصبها في النهر أو خلافه. و"كان إذا جنه الليل وضع الجرة وجلس يبكي عليها ويقول: اللهم فرج عني وخفف عليّ هذا العمل الذي أنا فيه".[321] والوسوسة كما جاء في لسان العرب هي (الكلام الخفي في اختلاط). ويتجاهل الكاتب الإحالة إلى أسطورة سيزيف,ويركز أكثر في العلاقة اللغوية بين السفر والسفر بفتح السين أو بكسرها,وبين الماء والموه (من التمويه) وبين الجن والجنون.[322] موضوع ممتع,ولكنه لم يتطرق إليه إلا بشكل سطحي وممل هنا.
يستهل الحكاية السابعة والأخيرة بحديث مطول عن الرسائل المدفونة في أرض داخل قمقم يعثر عليها فلاح,أو الملقاة في البحر يتعلق بشبكة صياد,دون ذكر لما قد يحتويه هذا القمقم من جن أو مارد أو عفريت. الحكاية عن رجل من بغداد كان غنيا وأضحى فقيرا,وقبل أن يطلب من أحد مساعدته حين لم يعد يمتلك شيئا,وبدلا من أن يعثر على قمقم فيه عفريت يحقق له أمنية بالثراء,يزوره حلم في المنام ونداء بالذهاب إلى مصر. يتعثر به الحظ هناك ويشتبه به لصا وبعد (علقة سخنة كما يقول المصريين) فكيلوا له الضرب والجلد,أشفق عليه ضابط الشرطة ويسأله عن قصته,يرويها له,فيرد عليه هازئا: يالك من شخص غبي,تصدق ما تقوله الأحلام. لقد حلمت,مثلك,بكنز في بغداد,في المحلة الفلانية والشارع الفلاني,تحت سدرة في بيت فلان. لكنني لم أكن غبيا مثلك لأذهب. والآن خذ هذه القروش,وعد إلى بغداد.[323] في الواقع الضابط لم يصف إلا بيته هو,ويعود سريعا ليحفر فيجد الكنز الذي بحث عنه في مصر.
يذكر الكاتب أن الحكاية وردت في ثلاث مواضع,الأولى في ألف ليلة وليلة,وهي الليلة الحادية والخمسين بعد الثلاثمائة مع مجموعة من الحكايات الصغيرة. واعتقد أن هذه الأصل لولا أنه ربما هناك حدوث لتناص مع المصدر الثاني,القصة يرويها يحيى ابن عاصم الأندلسي في كتابه حدائق الأزاهر. "هناك نسخة ثالثة ينقلها بورخيس في كتابه (تاريخ عالمي للعار) عن الليلة نفسها من ألف ليلة وليلة مع اختلاف في التفاصيل والأماكن والسند, ولم أجد مصدرها العربي".[324] فهي اقتباس أو نقل عن مصدر وقع في يدي بورخيس المعروف عنه اقتناءه للكتب المهمة النادرة. وهناك نسخة رابعة لم يذكرها الكاتب,في رواية باولو كويلو الشهيرة (الخيميائي) والتي اقتبسها عن الليالي العربية.
وتأكيدا على تأثير القصة العربية (التي يمكن وصفها بحسب طولها وطبيعتها إلى قصة أو أقصوصة أو حكاية أو مقامة) على الرواية الغربية,يوضع الكاتب مراعاة حكايتنا تلك لبعض أهم وظائف السرد (فلا تتواجد شخصية إلا ولها وظيفة,ولا يصدر فعل إلا ويؤدي إلى مسار معين). فما من شيء في الحكاية إلا وله وظيفة[325] ,على مستوى السرد أو اللغة أو الإتصال أو خلاف ذلك. بل بنا إلى نوع من تفسير الأحلام في السرد العربي كأنه مهد التحليل النفسي (وبالفعل من يطلع على تفسير الأحلام لابن سيرين أو النابلسي يجد العديد من الإشارات النفسية الفرويدية). عدا عن ذلك يزيد الكاتب بما لا فائدة من زيادته,ما يدعونا للتساؤل لما كل هذا الحديث المتكلف؟. مثلما أرفق شكل بالصفحة 85 يمكن وصفه بأنه (ولا له تلاتين لزمة) بالتعبير العامي المصري الدارج. أي لا فائدة ترجا منه.
ولكن يظل الكتاب في مجمله ممتع جدا.
قراءات مشابهة
-في جو من الندم الفكري / عبد الفتاح كيليطو
-صيادو الذاكرة / رضوى عاشور
-خطاب الجنون / أحمد بن علي آل مريع
-الكثير من نصوص الناقد العراقي وعالم السرديات عبد الله إبراهيم
[HR][/HR]
[31]مثلما استشهد في تحليل له ص 23.
[32]ص 8.
[33]ص 12.
[34]ص 13.
[35]ص 21,22.
[36]استمع إليها عبر هذا الرابط
[38]ص25.
[39]ص 27.
[310]ص 35,36.
[311]ص 36,37.
[312]ص 37,38.
[313]ص 41,42.
[314]ص 43.
[315]ص 43.
[316]ص 53:55.
[317]ص 55.
[318]ص 58.
[319]ص 66.
[320]ص 65.
[321]ص 71.
[322]ص 74.
[323]ص 78.
[324]ص 79.
[325]ص 79,80,81,82.