التشاؤم طبيعة العقل المتيقظ الذي فتح عينيه فرأى نفسه في القافلة البشرية فأخذ يسأل نفسه: لِمَ يمشي؟ ومن أين إلى أين؟ ولكنه لبث يمشي. . . وكيف لا يتشاءم العقل حين ينظر إلى الكون ويحاول أن يحكم على أشيائه بميزانه، فيجد قاعدا ما كان يجب أن يكون قائما، وقائما ما كان ينبغي له أن يكون قاعدا. هذه النظرة الأولى التي تبدأ في العقل حين يتيقظ وعلى مقدار سعة دوائر العقل تتسع هذه الآماد وتتباعد هذه الدوائر. وهنا يعود العقل في كل مراحله خاسئا يحمل غلى النفس خيبته في رحلته، فتلقاه حاملا الشقاء دون عزاء والحيرة دون إيمان، والنفس إزاء هذا القلق العميق إما أن تعود إلى نفسها ويلتف بعضها على بعضها التفاف الأفعى، تخلق من نفسها العزاء في هذه الحياة؛ وسواء عندها أن تخلقه من إيمان تفرضه أو تفاؤل تؤمن به، فترى في الحياة إشراقا ولا إشراق وبهجة ولا بهجة، فتتغنى مغتبطة بهذا التفاؤل الذي هو وليد ذلك التشاؤم المبطن به، وإما أن تعود ولا تكسب من التشاؤم إلا التشاؤم.
وقد يكون هذا التشاؤم عاما يمثل رسالة الإنسانية المتألمة، وقد يكون خاصا يمثل رسالة الشاعر نفسه، يضع فيها آلامه ولا يتصل بالإنسانية إلا بقدر ما تريد نفسه أن تتصل بها. وآفاق التشاؤم أوسع مدى، وأصحابه أكثر نبلا لأنهم أفنوا ذواتهم في الذات الإنسانية، وأصبحت تتمل فيهم كل آلامها وأوجاعها، لأن الإنسانية ذاتها تجهل ما تريد من الكون وما يراد منها. وآفاق التشاؤم الخاص ضيقة محدودة تدل على أنانية أصحابه، إذ لو أن حظا من حظوظ الحياة الضائعة أتاهم لبدل نظراتهم في الكون ولون لهم شمسا جديدة بألوان غير ألوانهم
ولكن التشاؤم لا تتحد نتائجه؛ فمن التشاؤم ما يذهب بصاحبه إلى الاستسلام حين يؤمن بعجزه، وإلى الزهد حين يؤمن بفناء الحياة، وهذا أقبح التشاؤم وان يكن أصدقه عند العقل. ومن التشاؤم ما يثير في النفس قوى المقاومة فيها بالعنف والشدة، وبهذا التشاؤم تعتز الحياة وتشرق ألوانها القاتمة؛ فشوبنهاور ونيتشه رجلا تشاؤم حالك اللون، ولكن تشاؤم شوبنهاور قاده إلى الاعتقاد بأن العدم وحده هو الذي ينقذ الإنسانية من آلامها التي تتذوقها بين الموت والحياة. وتشاؤم نيتشه كان موقظا لنفسه وحافزا قويا له لعبادة الحياة لأنها الحياة مهما كانت ألوانها ومهما طغت آلامها.
لست أعرف في الأدب العربي أبلغ تشاؤما من اثنين: المعري وابن الرومي وثالثهما المتنبي. . . أما الأولان فقد سلكا في تشاؤمهما مسلكا عدمياً يدعو إلى احتقار الحياة، والمعري هو القائل بأن الولادة جناية، وهو الي غلبت عليه فكرة صوفية غير مؤمنة؛ وابن الرومي هو الذي جعل من حياة الإنسان مأساة يبدأ أولها بعويل الطفل حين يولد وتنتهي بمثله حين يموت. أما المتنبي فقد كان جهازه العصبي عنيفا، وكان تشاؤمه مضطربا متوثبا لم يدفعه إلا إلى مقاومة الحياة؛ لا يصدفه عنها صادف لأنه مؤمن بها ومستهام بها ولو أنها عجوز دردبيس! وقد كان تشاؤمه، اجتماعيا - وهو ما اصطلح أدباؤنا على تسميته بالحكمة المتنبية - وتشاؤمه الاجتماعي كان وليد حظه في هذا الوجود الذي جعل من حياته المبهمة والمعلومة مرحلة آلام وجهاد. تشاؤمه في نظراته الاجتماعية ولا يرى منها إلا ما يتصل بنفسه؛ ولقد يطغى هذا التشاؤم على بقية نظراته في مسائل الحياة والكون لأنه كان مريضا بحب معالي الأمور، مريضا بعظمة نفسه، كأنما يرى - بعد أن حرمه المجتمع حقه - يرى واجبه أن يضع نفسه - وهو حر بها - موضعا عاليا، وذا أقل ما يفعل؟ ولا أستطيع إلا أن أتصور تلك الحدة في جهازه العصبي الذي كان عنيفا في احتداده متوترا في هدوئه. وهنا كان سر اختلاف التشاؤم بين المعري والمتنبي. فالمعري كان أوسع أفقا في دائرته ومغازيه، وكان نظره أعم في مسائل الكون والحياة لأنه وف درسه وشعره عليها، وكان له في زهده وعماه ما يصرفه عن الاشتغال بدنياه. فمال به تشاؤمه إلى الزهد والعدمية كما مال بشوبنهاور. مع أن المعري أحد محبي المتنبي والمتأثرين به، أخذ منه تشاؤمه وأغفل ما كان عنده من أسباب المقاومة. وإذا فكر الإنسان قليلا في حاله بدا له أن الكآبة تنتظره، وأن كل فكرة هنا تقوده إلى الحزن. وما حياة الإنسان على الأرض إلا مأساة تنتهي دائما بالدموع والشقاء والموت. يعلم المفكرون هذا المغزى ولكن بعضهم لا يقول به. بل إن منهم من يدعو إلى الإيمان القوي بالحياة. ولكن هل كان الناس كلهم يملكون هذه القوة الروحية؟ وهما أمران مختلفان؛ أن يتغلب المرء على تشاؤمه وهمومه في سبيل إتمام دورة الحياة، أو أن يجتنب الحياة تطغى عليه أنانية حاقدة. وهل كان هذا الإيمان القوي بالحياة إلا نتيجة تشاؤم عميق ونفور عميق من الحياة وولع عنيف بها يولده هذا النفور؟
في فلسفة المعري تشاؤم ليس بإيجابي صرف، ولكنه تشاؤم سلبي. فيها انطلاق من الذاتية وتعلق بالذاتية: لا تطلق (أم دفر) لمجرد نتنها ولكنها تدانت من (أم دفر) فلم تبؤ إلا بالخيبة. فلسفة وجدت ذاتها ضائعة بين الذوات؛ ومثل ذات المعري لم تأت لتكون ضائعة، فشنت الغارة على الدنيا وعلى أهلها وانتقمت لذاتها منها ومنهم، وبهذا استغنت عن ذاتها في ناحية وتمسكت بذاتها من ناحية ثانية. ولهذه الذات خطرها لأنها أنانية حاقدة نصبت نفسها فوق غيرها وطفقت تعطى أحكامها القاسية على الناس وقيمهم وعقائدهم، وتسخر منهم وتفشي معايبهم وتكشف عن مخازيهم، وهي في كل هذا فرحة مختالة، ترى في كل خطوة تخطوها ظفرا لها لامعا. ولهذه العلة وحدها كان يأنس بالمعري كل متشائم لأنه يحسن له الانتقام من الحياة وأبناء الحياة ولكنه ظفر موهوم لا يكلف صاحبه إلا النقمة. أما من لا يزالون يتلمسون في أنفسهم بقية من الحياة النشيطة فهم لا يرضون عن هذا التشاؤم. فالمتنبي متشائم يهاجم فساد الناس والمجتمع ولكنه لا يهرب من الحياة ولا ييأس منها يأسا قاتما، في يأسه انطلاق وفي نغمته رضا، وحياته وأدبه شيئاًن متصلان لا يمكن أن ينفصلا لأنهم يعبران أصدق التعبير عما يريد أن يقوله عن الحياة، ولأن حقائقه العامة كانت مستخلصة من حقائق الحياة الخاصة.
- 2 -
ادخل في كل باب ولجه المتنبي: في اجتماعياته وفي إحساسه بذاته وفي نظراته إلى الحياة والموت وما وراء الموت تجد في ثنايا هذه النظرات تشاؤما عميقا ينفذ إليه النظر الثاقب، وتجد أن هذه المقاومة التي تمثل الرجولة الكبيرة قد كلفت صاحبها كثيرا، وجعلت حياته مسرحا للاضطراب والشقاء. أما المجتمع عنده، فهو غاب تتصارع فيه سباع الأنس، ينال واحدها الشيء غلابا واغتصابا. وقد تنقلب هذه السباع غربانا ورخما، فويل للجريح الذي يشكو إليها، وويل للذي يأمن لهم، ويثق بهم، ويغره منهم الثغر المبتسم. ولا عجب إذا تناحرت السباع فالحياء لا يسد لها جوعا والسلام لا يحفظ لها بقاء. والشاعر - خلال ذلك - يريد أن يكون أسدا - ولكن حييا - (وهل ينفع الأسد الحياء من الطوى؟) يريد أن يكسب ما لا يصمه وما لا يشركه فيه وغد. وإذا لم ينل ذلك فالذنب ذنب الزمان الهرم!
كيف يريد أن يقابل مثل هذا المجتمع؟ أيشكو ويتعتب، وهو في كل قصيدة يشكو ويتعتب. أيسكن ويرضى؟
وللواجد المكروب من زفراته ... سكون عزاء أو سكون لغوب
أيرضى عن الحياة وما وصفت إلا لجاهل متعاقل وما شقي فيها إلا عاقل؟ أيطمئن إلى سرورها وقد رأى انتقاله؟ أيسعى في مناكبها ومسعاه منها في شدوق الأراقم؟ أيتعلل بشيء منها ولا أهل يتعلل بهم ولا وطن ولا نديم ولا كأس ولا سكن؟
اتخذ الشاعر مواقف متعددة إزاء المجتمع، فهو طوراً يسعى إلى مدارة أصحابه، وقلما يفعل فيصادق العدو ومن نكد الدنيا مصادقته، وهو طورا - وقد مل من المبالاة بالأرزاء - يسعى إلى أن تهون عليه الأرزاء، وأن يخدر إحساسه بها، لأنه ما انتفع بالمبالاة. وطورا ينظر إلى الأيام نظرة عميقة فلا ينكر عليها تقبلها، ولا يمدحها ولا يذمها، لأنها تبطن لا عن جهل، وتكشف لاعن حلم، ولأنها لا تشبع إلا إذا جاع، ولا تروي إلا إذا ظمئ! وفي هذه النظرة يدنو من مذهب القائلين باللا شعور في الطبيعة. وقد يضطرب هذا الرأي في نفسه فيتصور أن الناس هم الجانون لا الأيام وحدها، فيزيد نقمته على المجتمع، ويصبح لا يميل إلى مجازاة الابتسام بالابتسام، ولا الشك في كل إنسان، لأنه واحد من الأنام، وإنما يريد أن ينتقم من الناس وأن يطأ قلوبهم وآمالهم كما يطأون قلبه وآماله.
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روى رمحه غير راحم
وكيف يكون الذنب كله ذنب الزمان؟ وربما تحسن الصنيع لياليه وإن كدرته أحيانا. ولكن هو الإنسان الذي يركب في قناة الزمان سنانا. وقد يسأم الشاعر من هذه المقاومة العنيفة فيعود إلى عدم الاكتراث بدهره، ويرى أن هذا المراد الذي تتفانى عليه نفوس البشر أحقر من أن نتعادى فيه ونتفانى. ولكنه ينظر إلى نفسه فيرى أن هذا المراد الكبير، المراد الذي جل أن يسمى - هو سبب شقائه. فلو مال عنه لوجد في الحياة رغدا كثيرا وراحة كبيرة، ولكن ما هي قيمة الحياة بدون مراد كبير؟ والمتنبي ليس ممن يرضون بميسور عيشهم! فيتعلل وهو أبلغ تعليل يراه بأن لا عذاب في العذاب، وأن كل بعيد الهم فيها معذب.
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام فليحمل العذاب في سبيل ما جل أن يسمى!
هذه مراحل كان يأوي إليها الشاعر في نضاله، أقربها تجثم فوقه غيوم سوداء من التشاؤم، ولقد زاد في تشاؤمه إحساسه بعظمته التي لا يقنعها مظهر من المظاهر، وهو الذي كان في محفل من الناس واليوم أصبح في محفل من قرود! ولكن المتنبي إزاء هذه النوازع هل راح يبغض الحياة؟ ظل إحساس المتنبي برغم هذه العوارض التي ألمت به إحساسا قويا فنيا، يحب الحياة ولا ينكر ابتغاء كل نفس للحياة وحرصها عليها وهيامها بها. ومن الذي لم يعشق الدنيا والحياة؟ ولكنه لا ينسى أنها لا تنيل أربا ولا تعطى غاية ولا تسمح بوصال. وقد كان هذا وحده كافيا في خلق النفور منها ولكن:
من لذيذ الحياة أنفس في النف ... س وأشهى من أن يمل وأحلى
وإذا الشيخ قال أفٍ فما ملّ ... حياة وإنما الضعف ملا
وإذا كان الشيخ وحده يمل الحياة بسب ضعفه فليبادر وهو فتى - إلى الحياة - يستخلص منها ملذاتها قبل أن تستخلص منه نفسه، ويجنح إلى اللهو فأوقات اللهو تمر سراعاً كأنها كما قال قبل يزودها حبيب راحل! والزمان لا لذيذ خالص فيه ولا سرور كامل. . . وليت شاعرنا يقنع بهذا التعليل، فقد تطغى عليه في بعض مواطنه موجة من التشاؤم لا نجد لها مثيلا إلا عند المعري. . . ينظر إلى الدنيا وقد أعياه أمرها فيراها خائنة:
. . . أخون من مومس ... وأخدع من كفة الحابل
تفانى الرجال على حبها ... وما يحصلون على طائل
يراها خائنة معشوقة
ومن لم يعشق الدنيا قليل ... ولكن لا سبيل إلى الوصال
وقد نظر المتنبي فيما نظر إلى الموت وما بعد الموت، فكان نظره قصيرا فيما وراء الطبيعة وخياله محدودا؛ ليس له رأي ذاتي فيه وإنما يسمع ما قيل ويشك فيما قيل؟ ولعله سما في قصيدته التي رثى بها عمة عضد الدولة سموا يذكرنا بما سما إليه المعري في الرثاء. فقد مزج نظرته بشيء من الفلسفة الوثنية التي تعيد الأرواح إلى جوها والأجساد إلى تربها وترى كل شيء معلقا بالزمان
نحن بنو الموتى، فما بالنا ... نعاف ما لابد من شربه تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هن من كسبه
فهذه الأرواح من جوه ... وهذه الأجساد من تربه
يموت راعي الضأن في جهله ... ميتة جالينوس في طبه
وربما زاد على عمره ... وزاد في الأمن على سربه
وغاية المفرط في سلمه ... كغاية المفرط في حربه
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
فكم في هذه الصورة الأخيرة من ورعة وتشاؤم! وقد تكون روعتها في انطلاقها وإطلاقها الخيال للسامع، فيصور ويمثل منتهى هذا الحسن الذي يسببه، وقد وددت لو أنقل صورة لمثل هذا المنتهى للشاعر الفرنسي (بودلير) في قصيدته (جيفة) وهل يريد المتنبي من هذا المنتهى إلا هذه الجيفة؟ وليته رسم لنا خطوطها وأتم صورتها، ولكن الموت قد يعكر على المتنبي هناءه، ولكنه لا يمنعه منه وقد يستغل اسمه وهوله - أمام محبوبته، وجيفته - فيطلب إليها أن تزوده من حسن وجهها قبل أن يحول، وأن تصله في هذه الدنيا لأن المقام فيها قليل، أما رعشة الموت فهو يحسها ويلمسها ويراها ويدرك كما أدرك المعري بنظره الشامل أننا:
يدفن بعضنا بعضا وتمشي ... أواخرنا على هام الأولي
وهل في هذه النظرات العميقة إلا تشاؤم عميق؟ ولكنه لم يسلم صاحبه إلى الاستسلام؛ تشاؤم يرى كل ما يشق منظره فيحسب يقظات العين حلما! ويعفو عن الزمن لأنه لا يعقل أن يبلغه ما ليس يبلغه الزمن من نفسه. وهكذا خلق هذا التشاؤم فيه قوة يعود تعليلها إلى أمور كثيرة، منها إلى مزاجه ومنها إلى بيئته؛ وحقا إذا كان مزاجه العصبي قد أضربه في موطن فقد عاد عليه بفوائد كثيرة في مواطن كثيرة. منها هذه المقاومة العنيفة والمجابهة التي يطفح بها شعره، وقد كان أولى بهذا التشاؤم أن يقوده إلى ما قاد المعري إليه برغم أن المعري لم يبل في الحياة والأصحاب بمثل ما ابتلى به المتنبي.
هذا الجانب من جوانب المتنبي أعجب به وأعتز به لأنه علامة من علامات الرجولة الممسوخة في هذا الجيل، تصون عزتها ولا تنسى أن تبرز بذاتها إزاء كل ذات مهما تناهت عظمتها، وهل تستطيع أن تجد قصيدة لم يطبعها المتنبي بذاته؟ بل هل كان المتنبي قادرا على التجرد من ذاته؟ ألا نراه يتغنى في كل مقطوعة بذاته؟ ويحن إلى غايته ويطأ هام الملوك والخلائق وينقض على الزمان يراغمه وعلى الحظ يصاوله، ولعل المتنبي أول شاعر قام يحاول إخضاع الحظ والناس لموازين العقل والذكاء.
ولعل أصحابنا النقاد يرون مغامز في المتنبي، فيأخذون عليه رياءه ومبالغته وتقلبه، ويتخذون موقفه مع كافور حجة على غدره وتقلبه. ومثل هذا النقد صدق يشهد به المتنبي وأشعاره، ولكي أعتقد أن هذا الرياء الذي تنقم عليه الأخلاق لم يكن إلا رياء فنيا - والرياء الفني يغمر كل شعرنا وأدبنا ولا يزال. . . ولو كان من نوع ذلك الرياء اللين لكان لصاحبه شأن مع رجال الأحكام. وإن شخصيته المتجردة من شعره كانت شخصية عنيفة قاسية لا تهاود في عزتها. الأمر الذي يدل على أن رياءه هو الرياء الذي تواضع عليه شعراء ذلك العصر وأدباؤه وتقبلوه ولم يستقبحوه.
حياة زاهرة بالأهوال والآمال كلما صدع لها الدهر أملا زادت حزما وعزما، غير مستعظمة إلا نفسها ولا قابلة إلا لخالقها حكما؛ حياة تود أن تنفصل عن الناس لتتصل بالناس، وذات لم يترك لها الدهر مجالا للنظر في غير ذاتها، في شعرها أثر عصرها وبيئتها، وفي شعرها أثر العصور. ولعمري إن هذا لهو الأدب الحي الذي تتوق إليه الآداب العالمية اليوم، أدب ترتسم فيه الرسالة القومية والرسالة الإنسانية. . .
ما أفقر أدبنا الحاضر على غناه إلى متنبي جديد يفيض قوة وعزيمة على رغم تشاؤمه! ولعله إذا عاد يغير شيئاً في رسالته ويجعلها رسالة قوية يفرضها فرضا بقوة البيان شاعر ذو كبرياء وسلطان، على شعب مريض أصبح السائر لا يسير بينه إلا بألف ترجمان.
(دير الزور)
* (كلمة أعدت لتلقى في مهرجان دمشق فجاءت متأخرة)
مجلة الرسالة - العدد 176
بتاريخ: 16 - 11 - 1936
وقد يكون هذا التشاؤم عاما يمثل رسالة الإنسانية المتألمة، وقد يكون خاصا يمثل رسالة الشاعر نفسه، يضع فيها آلامه ولا يتصل بالإنسانية إلا بقدر ما تريد نفسه أن تتصل بها. وآفاق التشاؤم أوسع مدى، وأصحابه أكثر نبلا لأنهم أفنوا ذواتهم في الذات الإنسانية، وأصبحت تتمل فيهم كل آلامها وأوجاعها، لأن الإنسانية ذاتها تجهل ما تريد من الكون وما يراد منها. وآفاق التشاؤم الخاص ضيقة محدودة تدل على أنانية أصحابه، إذ لو أن حظا من حظوظ الحياة الضائعة أتاهم لبدل نظراتهم في الكون ولون لهم شمسا جديدة بألوان غير ألوانهم
ولكن التشاؤم لا تتحد نتائجه؛ فمن التشاؤم ما يذهب بصاحبه إلى الاستسلام حين يؤمن بعجزه، وإلى الزهد حين يؤمن بفناء الحياة، وهذا أقبح التشاؤم وان يكن أصدقه عند العقل. ومن التشاؤم ما يثير في النفس قوى المقاومة فيها بالعنف والشدة، وبهذا التشاؤم تعتز الحياة وتشرق ألوانها القاتمة؛ فشوبنهاور ونيتشه رجلا تشاؤم حالك اللون، ولكن تشاؤم شوبنهاور قاده إلى الاعتقاد بأن العدم وحده هو الذي ينقذ الإنسانية من آلامها التي تتذوقها بين الموت والحياة. وتشاؤم نيتشه كان موقظا لنفسه وحافزا قويا له لعبادة الحياة لأنها الحياة مهما كانت ألوانها ومهما طغت آلامها.
لست أعرف في الأدب العربي أبلغ تشاؤما من اثنين: المعري وابن الرومي وثالثهما المتنبي. . . أما الأولان فقد سلكا في تشاؤمهما مسلكا عدمياً يدعو إلى احتقار الحياة، والمعري هو القائل بأن الولادة جناية، وهو الي غلبت عليه فكرة صوفية غير مؤمنة؛ وابن الرومي هو الذي جعل من حياة الإنسان مأساة يبدأ أولها بعويل الطفل حين يولد وتنتهي بمثله حين يموت. أما المتنبي فقد كان جهازه العصبي عنيفا، وكان تشاؤمه مضطربا متوثبا لم يدفعه إلا إلى مقاومة الحياة؛ لا يصدفه عنها صادف لأنه مؤمن بها ومستهام بها ولو أنها عجوز دردبيس! وقد كان تشاؤمه، اجتماعيا - وهو ما اصطلح أدباؤنا على تسميته بالحكمة المتنبية - وتشاؤمه الاجتماعي كان وليد حظه في هذا الوجود الذي جعل من حياته المبهمة والمعلومة مرحلة آلام وجهاد. تشاؤمه في نظراته الاجتماعية ولا يرى منها إلا ما يتصل بنفسه؛ ولقد يطغى هذا التشاؤم على بقية نظراته في مسائل الحياة والكون لأنه كان مريضا بحب معالي الأمور، مريضا بعظمة نفسه، كأنما يرى - بعد أن حرمه المجتمع حقه - يرى واجبه أن يضع نفسه - وهو حر بها - موضعا عاليا، وذا أقل ما يفعل؟ ولا أستطيع إلا أن أتصور تلك الحدة في جهازه العصبي الذي كان عنيفا في احتداده متوترا في هدوئه. وهنا كان سر اختلاف التشاؤم بين المعري والمتنبي. فالمعري كان أوسع أفقا في دائرته ومغازيه، وكان نظره أعم في مسائل الكون والحياة لأنه وف درسه وشعره عليها، وكان له في زهده وعماه ما يصرفه عن الاشتغال بدنياه. فمال به تشاؤمه إلى الزهد والعدمية كما مال بشوبنهاور. مع أن المعري أحد محبي المتنبي والمتأثرين به، أخذ منه تشاؤمه وأغفل ما كان عنده من أسباب المقاومة. وإذا فكر الإنسان قليلا في حاله بدا له أن الكآبة تنتظره، وأن كل فكرة هنا تقوده إلى الحزن. وما حياة الإنسان على الأرض إلا مأساة تنتهي دائما بالدموع والشقاء والموت. يعلم المفكرون هذا المغزى ولكن بعضهم لا يقول به. بل إن منهم من يدعو إلى الإيمان القوي بالحياة. ولكن هل كان الناس كلهم يملكون هذه القوة الروحية؟ وهما أمران مختلفان؛ أن يتغلب المرء على تشاؤمه وهمومه في سبيل إتمام دورة الحياة، أو أن يجتنب الحياة تطغى عليه أنانية حاقدة. وهل كان هذا الإيمان القوي بالحياة إلا نتيجة تشاؤم عميق ونفور عميق من الحياة وولع عنيف بها يولده هذا النفور؟
في فلسفة المعري تشاؤم ليس بإيجابي صرف، ولكنه تشاؤم سلبي. فيها انطلاق من الذاتية وتعلق بالذاتية: لا تطلق (أم دفر) لمجرد نتنها ولكنها تدانت من (أم دفر) فلم تبؤ إلا بالخيبة. فلسفة وجدت ذاتها ضائعة بين الذوات؛ ومثل ذات المعري لم تأت لتكون ضائعة، فشنت الغارة على الدنيا وعلى أهلها وانتقمت لذاتها منها ومنهم، وبهذا استغنت عن ذاتها في ناحية وتمسكت بذاتها من ناحية ثانية. ولهذه الذات خطرها لأنها أنانية حاقدة نصبت نفسها فوق غيرها وطفقت تعطى أحكامها القاسية على الناس وقيمهم وعقائدهم، وتسخر منهم وتفشي معايبهم وتكشف عن مخازيهم، وهي في كل هذا فرحة مختالة، ترى في كل خطوة تخطوها ظفرا لها لامعا. ولهذه العلة وحدها كان يأنس بالمعري كل متشائم لأنه يحسن له الانتقام من الحياة وأبناء الحياة ولكنه ظفر موهوم لا يكلف صاحبه إلا النقمة. أما من لا يزالون يتلمسون في أنفسهم بقية من الحياة النشيطة فهم لا يرضون عن هذا التشاؤم. فالمتنبي متشائم يهاجم فساد الناس والمجتمع ولكنه لا يهرب من الحياة ولا ييأس منها يأسا قاتما، في يأسه انطلاق وفي نغمته رضا، وحياته وأدبه شيئاًن متصلان لا يمكن أن ينفصلا لأنهم يعبران أصدق التعبير عما يريد أن يقوله عن الحياة، ولأن حقائقه العامة كانت مستخلصة من حقائق الحياة الخاصة.
- 2 -
ادخل في كل باب ولجه المتنبي: في اجتماعياته وفي إحساسه بذاته وفي نظراته إلى الحياة والموت وما وراء الموت تجد في ثنايا هذه النظرات تشاؤما عميقا ينفذ إليه النظر الثاقب، وتجد أن هذه المقاومة التي تمثل الرجولة الكبيرة قد كلفت صاحبها كثيرا، وجعلت حياته مسرحا للاضطراب والشقاء. أما المجتمع عنده، فهو غاب تتصارع فيه سباع الأنس، ينال واحدها الشيء غلابا واغتصابا. وقد تنقلب هذه السباع غربانا ورخما، فويل للجريح الذي يشكو إليها، وويل للذي يأمن لهم، ويثق بهم، ويغره منهم الثغر المبتسم. ولا عجب إذا تناحرت السباع فالحياء لا يسد لها جوعا والسلام لا يحفظ لها بقاء. والشاعر - خلال ذلك - يريد أن يكون أسدا - ولكن حييا - (وهل ينفع الأسد الحياء من الطوى؟) يريد أن يكسب ما لا يصمه وما لا يشركه فيه وغد. وإذا لم ينل ذلك فالذنب ذنب الزمان الهرم!
كيف يريد أن يقابل مثل هذا المجتمع؟ أيشكو ويتعتب، وهو في كل قصيدة يشكو ويتعتب. أيسكن ويرضى؟
وللواجد المكروب من زفراته ... سكون عزاء أو سكون لغوب
أيرضى عن الحياة وما وصفت إلا لجاهل متعاقل وما شقي فيها إلا عاقل؟ أيطمئن إلى سرورها وقد رأى انتقاله؟ أيسعى في مناكبها ومسعاه منها في شدوق الأراقم؟ أيتعلل بشيء منها ولا أهل يتعلل بهم ولا وطن ولا نديم ولا كأس ولا سكن؟
اتخذ الشاعر مواقف متعددة إزاء المجتمع، فهو طوراً يسعى إلى مدارة أصحابه، وقلما يفعل فيصادق العدو ومن نكد الدنيا مصادقته، وهو طورا - وقد مل من المبالاة بالأرزاء - يسعى إلى أن تهون عليه الأرزاء، وأن يخدر إحساسه بها، لأنه ما انتفع بالمبالاة. وطورا ينظر إلى الأيام نظرة عميقة فلا ينكر عليها تقبلها، ولا يمدحها ولا يذمها، لأنها تبطن لا عن جهل، وتكشف لاعن حلم، ولأنها لا تشبع إلا إذا جاع، ولا تروي إلا إذا ظمئ! وفي هذه النظرة يدنو من مذهب القائلين باللا شعور في الطبيعة. وقد يضطرب هذا الرأي في نفسه فيتصور أن الناس هم الجانون لا الأيام وحدها، فيزيد نقمته على المجتمع، ويصبح لا يميل إلى مجازاة الابتسام بالابتسام، ولا الشك في كل إنسان، لأنه واحد من الأنام، وإنما يريد أن ينتقم من الناس وأن يطأ قلوبهم وآمالهم كما يطأون قلبه وآماله.
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روى رمحه غير راحم
وكيف يكون الذنب كله ذنب الزمان؟ وربما تحسن الصنيع لياليه وإن كدرته أحيانا. ولكن هو الإنسان الذي يركب في قناة الزمان سنانا. وقد يسأم الشاعر من هذه المقاومة العنيفة فيعود إلى عدم الاكتراث بدهره، ويرى أن هذا المراد الذي تتفانى عليه نفوس البشر أحقر من أن نتعادى فيه ونتفانى. ولكنه ينظر إلى نفسه فيرى أن هذا المراد الكبير، المراد الذي جل أن يسمى - هو سبب شقائه. فلو مال عنه لوجد في الحياة رغدا كثيرا وراحة كبيرة، ولكن ما هي قيمة الحياة بدون مراد كبير؟ والمتنبي ليس ممن يرضون بميسور عيشهم! فيتعلل وهو أبلغ تعليل يراه بأن لا عذاب في العذاب، وأن كل بعيد الهم فيها معذب.
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام فليحمل العذاب في سبيل ما جل أن يسمى!
هذه مراحل كان يأوي إليها الشاعر في نضاله، أقربها تجثم فوقه غيوم سوداء من التشاؤم، ولقد زاد في تشاؤمه إحساسه بعظمته التي لا يقنعها مظهر من المظاهر، وهو الذي كان في محفل من الناس واليوم أصبح في محفل من قرود! ولكن المتنبي إزاء هذه النوازع هل راح يبغض الحياة؟ ظل إحساس المتنبي برغم هذه العوارض التي ألمت به إحساسا قويا فنيا، يحب الحياة ولا ينكر ابتغاء كل نفس للحياة وحرصها عليها وهيامها بها. ومن الذي لم يعشق الدنيا والحياة؟ ولكنه لا ينسى أنها لا تنيل أربا ولا تعطى غاية ولا تسمح بوصال. وقد كان هذا وحده كافيا في خلق النفور منها ولكن:
من لذيذ الحياة أنفس في النف ... س وأشهى من أن يمل وأحلى
وإذا الشيخ قال أفٍ فما ملّ ... حياة وإنما الضعف ملا
وإذا كان الشيخ وحده يمل الحياة بسب ضعفه فليبادر وهو فتى - إلى الحياة - يستخلص منها ملذاتها قبل أن تستخلص منه نفسه، ويجنح إلى اللهو فأوقات اللهو تمر سراعاً كأنها كما قال قبل يزودها حبيب راحل! والزمان لا لذيذ خالص فيه ولا سرور كامل. . . وليت شاعرنا يقنع بهذا التعليل، فقد تطغى عليه في بعض مواطنه موجة من التشاؤم لا نجد لها مثيلا إلا عند المعري. . . ينظر إلى الدنيا وقد أعياه أمرها فيراها خائنة:
. . . أخون من مومس ... وأخدع من كفة الحابل
تفانى الرجال على حبها ... وما يحصلون على طائل
يراها خائنة معشوقة
ومن لم يعشق الدنيا قليل ... ولكن لا سبيل إلى الوصال
وقد نظر المتنبي فيما نظر إلى الموت وما بعد الموت، فكان نظره قصيرا فيما وراء الطبيعة وخياله محدودا؛ ليس له رأي ذاتي فيه وإنما يسمع ما قيل ويشك فيما قيل؟ ولعله سما في قصيدته التي رثى بها عمة عضد الدولة سموا يذكرنا بما سما إليه المعري في الرثاء. فقد مزج نظرته بشيء من الفلسفة الوثنية التي تعيد الأرواح إلى جوها والأجساد إلى تربها وترى كل شيء معلقا بالزمان
نحن بنو الموتى، فما بالنا ... نعاف ما لابد من شربه تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هن من كسبه
فهذه الأرواح من جوه ... وهذه الأجساد من تربه
يموت راعي الضأن في جهله ... ميتة جالينوس في طبه
وربما زاد على عمره ... وزاد في الأمن على سربه
وغاية المفرط في سلمه ... كغاية المفرط في حربه
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
فكم في هذه الصورة الأخيرة من ورعة وتشاؤم! وقد تكون روعتها في انطلاقها وإطلاقها الخيال للسامع، فيصور ويمثل منتهى هذا الحسن الذي يسببه، وقد وددت لو أنقل صورة لمثل هذا المنتهى للشاعر الفرنسي (بودلير) في قصيدته (جيفة) وهل يريد المتنبي من هذا المنتهى إلا هذه الجيفة؟ وليته رسم لنا خطوطها وأتم صورتها، ولكن الموت قد يعكر على المتنبي هناءه، ولكنه لا يمنعه منه وقد يستغل اسمه وهوله - أمام محبوبته، وجيفته - فيطلب إليها أن تزوده من حسن وجهها قبل أن يحول، وأن تصله في هذه الدنيا لأن المقام فيها قليل، أما رعشة الموت فهو يحسها ويلمسها ويراها ويدرك كما أدرك المعري بنظره الشامل أننا:
يدفن بعضنا بعضا وتمشي ... أواخرنا على هام الأولي
وهل في هذه النظرات العميقة إلا تشاؤم عميق؟ ولكنه لم يسلم صاحبه إلى الاستسلام؛ تشاؤم يرى كل ما يشق منظره فيحسب يقظات العين حلما! ويعفو عن الزمن لأنه لا يعقل أن يبلغه ما ليس يبلغه الزمن من نفسه. وهكذا خلق هذا التشاؤم فيه قوة يعود تعليلها إلى أمور كثيرة، منها إلى مزاجه ومنها إلى بيئته؛ وحقا إذا كان مزاجه العصبي قد أضربه في موطن فقد عاد عليه بفوائد كثيرة في مواطن كثيرة. منها هذه المقاومة العنيفة والمجابهة التي يطفح بها شعره، وقد كان أولى بهذا التشاؤم أن يقوده إلى ما قاد المعري إليه برغم أن المعري لم يبل في الحياة والأصحاب بمثل ما ابتلى به المتنبي.
هذا الجانب من جوانب المتنبي أعجب به وأعتز به لأنه علامة من علامات الرجولة الممسوخة في هذا الجيل، تصون عزتها ولا تنسى أن تبرز بذاتها إزاء كل ذات مهما تناهت عظمتها، وهل تستطيع أن تجد قصيدة لم يطبعها المتنبي بذاته؟ بل هل كان المتنبي قادرا على التجرد من ذاته؟ ألا نراه يتغنى في كل مقطوعة بذاته؟ ويحن إلى غايته ويطأ هام الملوك والخلائق وينقض على الزمان يراغمه وعلى الحظ يصاوله، ولعل المتنبي أول شاعر قام يحاول إخضاع الحظ والناس لموازين العقل والذكاء.
ولعل أصحابنا النقاد يرون مغامز في المتنبي، فيأخذون عليه رياءه ومبالغته وتقلبه، ويتخذون موقفه مع كافور حجة على غدره وتقلبه. ومثل هذا النقد صدق يشهد به المتنبي وأشعاره، ولكي أعتقد أن هذا الرياء الذي تنقم عليه الأخلاق لم يكن إلا رياء فنيا - والرياء الفني يغمر كل شعرنا وأدبنا ولا يزال. . . ولو كان من نوع ذلك الرياء اللين لكان لصاحبه شأن مع رجال الأحكام. وإن شخصيته المتجردة من شعره كانت شخصية عنيفة قاسية لا تهاود في عزتها. الأمر الذي يدل على أن رياءه هو الرياء الذي تواضع عليه شعراء ذلك العصر وأدباؤه وتقبلوه ولم يستقبحوه.
حياة زاهرة بالأهوال والآمال كلما صدع لها الدهر أملا زادت حزما وعزما، غير مستعظمة إلا نفسها ولا قابلة إلا لخالقها حكما؛ حياة تود أن تنفصل عن الناس لتتصل بالناس، وذات لم يترك لها الدهر مجالا للنظر في غير ذاتها، في شعرها أثر عصرها وبيئتها، وفي شعرها أثر العصور. ولعمري إن هذا لهو الأدب الحي الذي تتوق إليه الآداب العالمية اليوم، أدب ترتسم فيه الرسالة القومية والرسالة الإنسانية. . .
ما أفقر أدبنا الحاضر على غناه إلى متنبي جديد يفيض قوة وعزيمة على رغم تشاؤمه! ولعله إذا عاد يغير شيئاً في رسالته ويجعلها رسالة قوية يفرضها فرضا بقوة البيان شاعر ذو كبرياء وسلطان، على شعب مريض أصبح السائر لا يسير بينه إلا بألف ترجمان.
(دير الزور)
* (كلمة أعدت لتلقى في مهرجان دمشق فجاءت متأخرة)
مجلة الرسالة - العدد 176
بتاريخ: 16 - 11 - 1936