الخمرة...
مصلوبة
على نخلة اعتذاري
كم غفلت عنه
**
يتململ الرمل
حتى يفنى مشرئبا للماء
وعلى موسيقى فنائه
يورق الزهر
**
على أوج القلب
أجلس
لأنصت لألوان الروح
**
سأضع قدمي
على مفرق الشوق
وأتجه ...
للعدم
======
من بين غموم ركامات الشعر المتعالية حتى أوج الإحباط، المتناثرة يمين الروح وشمالها حد الإحساس بضيق كل هذا الفراغ الممتد أمام العين كبهو سماوي مفتوح على الكارثة، من بين كل هذه الغموم الروحية، والنكبات الحرون التي ابتلينا بها في هذا الزمن المقلوب حاله، تخرج علينا (خيرية صابر)، هذه الشاعرة فارهة الرقي، شديدة رهافة البصيرة، فاتنة السياحات الروحية الحامية في ملكوت الحرف واللون والصيرورة الدائبة الناصعة، تخرج علينا من غار حراء قلبها لتحدثنا عن وقائع قلبها الطاهر مع صلصلات الأزل النازل عليها من سماء الروح، والكائن الأعلى واجب الوجود. تحدثنا عن ذلك؛ لا بثرثرات الكهان وسجعاتهم الرتوب، ولا بشقشقات الخطباء فاغري الأشداق حتى ابتلاع العالم وراء ضروسهم وأنيابهم، ولا بسرود الحكائين طويلي الأنفاس باردي العيون والخطوات، لا بشيء من ذلك، ولا بغيره مما هو شبيه به، بل بلغة الرهافة والتوترات الجوانية الجنينية العاصفة داخل إهاب الجسد الإنساني، والروح البشري، بلغة الحرائق الوردية الهاجمة في هدوء قاتل، تتحدث إلينا الشاعرة، وهي تروي لنا سيرة تجليات الأوجاع النبيلة عليها، وتجلياتها هي على هذه الأوجاع، سيرة الكينونة الحزينة وهي تضع أقدامها المضمخة بتراب الفجيعة والفقد والمذلة، في مفرق الأشواق العليا، المتجهة بإصرار نبوي راكض صوب ارتعاشات الماء الأول، حين لم يكن معه إلا حفيف أمواجه المنورة بأنوار المشيئة العليا، المتفتحة كوردة حمراء، بعد كمونٍ في العماء لا يعلم مداه إلا رب الجمال الواحد الأحد، سيرة الإنسان العائد إلى الله مغتسلاً بالخجل والاعتذار إليه، لا لفرط ذنوب اجترحتها يداه، بل بإحساس عميق نافذ إلى أقاصي مدارك الروح بأن فكرة انفصال قطرة الماء الإنسانية عن بحر اللاهوت العلوي هي بحد ذاتها فكرة تستدعي استغفار الأبد! كأنه ما كان يجب أن يكون هذا الانفصال، كأنه كان يجب أن يدوم التوحد والعناق، أن يظل امتزاج الشذى بالخمرة الأولى بلا انقطاع ولا قطيعة، أن تذوب النغمة الهاربة في سيمفونية الجمال الأزلي المتوحد المكتفي بذاته، المتشبع برنين أجراسه، الفواح لعينه بأريج ما ملكت يداه في يديه! سيرة اللعبة الأضدادية الإلهية الخداعة التي سينسحق تحت عجلاتها كثير من فاقدي متعة التأمل والتوقف ومساءلة الذات والضمير، هذه اللعبة العالية الجميلة التي سيلعبها العاشقون العارفون بذكاء باذخ مع مفردات العالم وهي تتبادل مواقعَها كل حين، ونعوتَها كلَّ آنٍ، فلا العالي بعالٍ، ولا السافل بسافل، ولا الأسود بأسود، ولا الأبيض بأبيض، فكلٌّ في كلٍّ سيذوب، بل هو ذائبٌ، وإن حدَّثت العيونُ العابرة على السطوح بمقالاتٍ أخرى..، إنها اللعبة الأكثر رهافة وذكاء وإمتاعاً وإدهاشاً؛ لما ينبلج عن دياجيها من أقمار كاملة الروعة والبهاء، ولما ينبجس عن حجاراتها من بحار وعوالم وفراديس وحنين يتململ تململ السقيم، فلا يقر لرعشته قرار حتى يصافح ورد الصباح ونداه!
إننا الآن أمام هذه المصلوبة على نخلة اعتذاراتها إلى الله، يسيل الدمع على وجنتيها الورديتين أحمر قانيا بلون الدم العاشق الطروب، لن نسمع ولولة ضاجَّة، ولا صراخاً عالياً، ولا ندباً مدوياً، ولن نسمع تشنجات في الوجه، ولا نتوءات في السحنة، ولا تغيرات فيزيائية في السطح الخارجي للصورة المصلوبة.. لن نسمع شيئاً من ذلك، بل سنسمع بوضوح بالغ اليقين أنيناً مكتوماً، نشيجاً مكظوماً، خربشاتِ أظافرَ للروح وهي تخمش وجهها الواقف في محراب المواجهة المرتجفة للنور الضاحك الأعلى!! أين الذنوب؟ لا ذنوب!! ففيم الأنين والنشيج إذن؟! ثمة ما هو أنكى وأفدح من كل ذنوب العالم! وما كل جبال الذنوب وهي التي تنسفها نسفاً قطرة ندى واحدة من قطرات رحمته وجوده؟!! العاشقون لا يتوقفون هنالك، للعاشقين ينابيع أخرى يأتيهم منها الألم السماوي الجارح، ذلك الذي يقض مضاجعهم، ويكدر عيشهم، ويسلب منهم كل احتمال للبهجة والفرح والسرور!
الغفلة عنه هي أم كبائر العاشقين العارفين، هي جنابتهم التي لا تطهرهم منها كل بحار العالم وأنهاره، هي سوءاتهم المكشوفة التي سلخ الشيطان عنها ثيابهم النورانية الأولى، هي خجلهم الأبدي حتى وإن عفا وغفر!!
ما كان لعاشق عارف أن يسهو عن الله ويغفل ويلهو! ما كان لروح أن يبارحها الشوق والنظر! ما كان لقلب أن يولِّي وجهَ نبضِه شطر غيره، وهل ثمة غير؟! الكل باطل ووحده هو الحق! الكل فان ووحده هو الباقي! الكل هش ووحده هو القوي المتين! الكل به مس من ضرورة ووحده الغني الأبهى! إذاً فليطهر العاشقين الصلبُ! لا مناص ولا مفر، وهيهات بغير الصلب النبوي تسترد الروح الآيبة إلى حظيرتها السماوية بعض جمالها وعزتها التي تهيئها وتصلحها للوقوف بتلك العتبات الإلهية الحنون! على أنه ليست القضية في الحنان، فهو سابغ، عظيم، رحمن، رحيم، القضية في العشق الذي خانَ ذاته وضميره ومعناه هنيهة من عمره! في الوردة التي نامت وتركت عطرها تأكله ذئاب الأثير! في القلب الذي لم تغلَق شبابيكُه المطلة على العالم المغرور جيداً؛ تركِت تعصف بها الرياح، في الليل البهيم، بعدها ما عاد القلب قلباً، وما عاد الليل ليلاً، بدأت اللعبة الحارقة، وتنفست الروح أشواك التشوش والتلفت والتفلت من جاذبية سدرة أنوارها المقدسة، والانحراف صوب اللا قداسة واللا طهر واللا وضوء!!
الآن يتململ الرمل - بوصفه رديف الأبدية في تأويل كثير من العارفين- تململا من نوع غريب، نوع مقلوب، نوع يبحث عن الفناء ليذوب فيه، عن الماء ليتحد به، عن النفخة الأولى لترتد نبوَّةُ الجسد الفاقد بصيرةً، وتشتعل الروح بنيران الشجرة الخضراء
للدكتور البيومى محمد عوض - مصر
مصلوبة
على نخلة اعتذاري
كم غفلت عنه
**
يتململ الرمل
حتى يفنى مشرئبا للماء
وعلى موسيقى فنائه
يورق الزهر
**
على أوج القلب
أجلس
لأنصت لألوان الروح
**
سأضع قدمي
على مفرق الشوق
وأتجه ...
للعدم
======
من بين غموم ركامات الشعر المتعالية حتى أوج الإحباط، المتناثرة يمين الروح وشمالها حد الإحساس بضيق كل هذا الفراغ الممتد أمام العين كبهو سماوي مفتوح على الكارثة، من بين كل هذه الغموم الروحية، والنكبات الحرون التي ابتلينا بها في هذا الزمن المقلوب حاله، تخرج علينا (خيرية صابر)، هذه الشاعرة فارهة الرقي، شديدة رهافة البصيرة، فاتنة السياحات الروحية الحامية في ملكوت الحرف واللون والصيرورة الدائبة الناصعة، تخرج علينا من غار حراء قلبها لتحدثنا عن وقائع قلبها الطاهر مع صلصلات الأزل النازل عليها من سماء الروح، والكائن الأعلى واجب الوجود. تحدثنا عن ذلك؛ لا بثرثرات الكهان وسجعاتهم الرتوب، ولا بشقشقات الخطباء فاغري الأشداق حتى ابتلاع العالم وراء ضروسهم وأنيابهم، ولا بسرود الحكائين طويلي الأنفاس باردي العيون والخطوات، لا بشيء من ذلك، ولا بغيره مما هو شبيه به، بل بلغة الرهافة والتوترات الجوانية الجنينية العاصفة داخل إهاب الجسد الإنساني، والروح البشري، بلغة الحرائق الوردية الهاجمة في هدوء قاتل، تتحدث إلينا الشاعرة، وهي تروي لنا سيرة تجليات الأوجاع النبيلة عليها، وتجلياتها هي على هذه الأوجاع، سيرة الكينونة الحزينة وهي تضع أقدامها المضمخة بتراب الفجيعة والفقد والمذلة، في مفرق الأشواق العليا، المتجهة بإصرار نبوي راكض صوب ارتعاشات الماء الأول، حين لم يكن معه إلا حفيف أمواجه المنورة بأنوار المشيئة العليا، المتفتحة كوردة حمراء، بعد كمونٍ في العماء لا يعلم مداه إلا رب الجمال الواحد الأحد، سيرة الإنسان العائد إلى الله مغتسلاً بالخجل والاعتذار إليه، لا لفرط ذنوب اجترحتها يداه، بل بإحساس عميق نافذ إلى أقاصي مدارك الروح بأن فكرة انفصال قطرة الماء الإنسانية عن بحر اللاهوت العلوي هي بحد ذاتها فكرة تستدعي استغفار الأبد! كأنه ما كان يجب أن يكون هذا الانفصال، كأنه كان يجب أن يدوم التوحد والعناق، أن يظل امتزاج الشذى بالخمرة الأولى بلا انقطاع ولا قطيعة، أن تذوب النغمة الهاربة في سيمفونية الجمال الأزلي المتوحد المكتفي بذاته، المتشبع برنين أجراسه، الفواح لعينه بأريج ما ملكت يداه في يديه! سيرة اللعبة الأضدادية الإلهية الخداعة التي سينسحق تحت عجلاتها كثير من فاقدي متعة التأمل والتوقف ومساءلة الذات والضمير، هذه اللعبة العالية الجميلة التي سيلعبها العاشقون العارفون بذكاء باذخ مع مفردات العالم وهي تتبادل مواقعَها كل حين، ونعوتَها كلَّ آنٍ، فلا العالي بعالٍ، ولا السافل بسافل، ولا الأسود بأسود، ولا الأبيض بأبيض، فكلٌّ في كلٍّ سيذوب، بل هو ذائبٌ، وإن حدَّثت العيونُ العابرة على السطوح بمقالاتٍ أخرى..، إنها اللعبة الأكثر رهافة وذكاء وإمتاعاً وإدهاشاً؛ لما ينبلج عن دياجيها من أقمار كاملة الروعة والبهاء، ولما ينبجس عن حجاراتها من بحار وعوالم وفراديس وحنين يتململ تململ السقيم، فلا يقر لرعشته قرار حتى يصافح ورد الصباح ونداه!
إننا الآن أمام هذه المصلوبة على نخلة اعتذاراتها إلى الله، يسيل الدمع على وجنتيها الورديتين أحمر قانيا بلون الدم العاشق الطروب، لن نسمع ولولة ضاجَّة، ولا صراخاً عالياً، ولا ندباً مدوياً، ولن نسمع تشنجات في الوجه، ولا نتوءات في السحنة، ولا تغيرات فيزيائية في السطح الخارجي للصورة المصلوبة.. لن نسمع شيئاً من ذلك، بل سنسمع بوضوح بالغ اليقين أنيناً مكتوماً، نشيجاً مكظوماً، خربشاتِ أظافرَ للروح وهي تخمش وجهها الواقف في محراب المواجهة المرتجفة للنور الضاحك الأعلى!! أين الذنوب؟ لا ذنوب!! ففيم الأنين والنشيج إذن؟! ثمة ما هو أنكى وأفدح من كل ذنوب العالم! وما كل جبال الذنوب وهي التي تنسفها نسفاً قطرة ندى واحدة من قطرات رحمته وجوده؟!! العاشقون لا يتوقفون هنالك، للعاشقين ينابيع أخرى يأتيهم منها الألم السماوي الجارح، ذلك الذي يقض مضاجعهم، ويكدر عيشهم، ويسلب منهم كل احتمال للبهجة والفرح والسرور!
الغفلة عنه هي أم كبائر العاشقين العارفين، هي جنابتهم التي لا تطهرهم منها كل بحار العالم وأنهاره، هي سوءاتهم المكشوفة التي سلخ الشيطان عنها ثيابهم النورانية الأولى، هي خجلهم الأبدي حتى وإن عفا وغفر!!
ما كان لعاشق عارف أن يسهو عن الله ويغفل ويلهو! ما كان لروح أن يبارحها الشوق والنظر! ما كان لقلب أن يولِّي وجهَ نبضِه شطر غيره، وهل ثمة غير؟! الكل باطل ووحده هو الحق! الكل فان ووحده هو الباقي! الكل هش ووحده هو القوي المتين! الكل به مس من ضرورة ووحده الغني الأبهى! إذاً فليطهر العاشقين الصلبُ! لا مناص ولا مفر، وهيهات بغير الصلب النبوي تسترد الروح الآيبة إلى حظيرتها السماوية بعض جمالها وعزتها التي تهيئها وتصلحها للوقوف بتلك العتبات الإلهية الحنون! على أنه ليست القضية في الحنان، فهو سابغ، عظيم، رحمن، رحيم، القضية في العشق الذي خانَ ذاته وضميره ومعناه هنيهة من عمره! في الوردة التي نامت وتركت عطرها تأكله ذئاب الأثير! في القلب الذي لم تغلَق شبابيكُه المطلة على العالم المغرور جيداً؛ تركِت تعصف بها الرياح، في الليل البهيم، بعدها ما عاد القلب قلباً، وما عاد الليل ليلاً، بدأت اللعبة الحارقة، وتنفست الروح أشواك التشوش والتلفت والتفلت من جاذبية سدرة أنوارها المقدسة، والانحراف صوب اللا قداسة واللا طهر واللا وضوء!!
الآن يتململ الرمل - بوصفه رديف الأبدية في تأويل كثير من العارفين- تململا من نوع غريب، نوع مقلوب، نوع يبحث عن الفناء ليذوب فيه، عن الماء ليتحد به، عن النفخة الأولى لترتد نبوَّةُ الجسد الفاقد بصيرةً، وتشتعل الروح بنيران الشجرة الخضراء
للدكتور البيومى محمد عوض - مصر