إنّ المطّلع على الواقع النّقدي العربي لا يستطيع بأيّة حال من الأحوال أن يُنكر أو يتجاهل إشكالية المصطلحات،و من ثمّ فإنّه من العسير ضبط نظرية نقديةعربية بحتة،ذلك أنّ النّقل للموروث النّقدي الغربي سواء من خلال أعمال التعريب أو التّرجمة،يضع النّاقد العربي أمام إشكالية تطبيق النظريات الغربية على الآداب العربية،وربّما تجاوز بعض النّقاد ثقافتهم وحضارتهم،بإقحام مناهج لاتمُتُّ بصلة إلى الأدب العربي،ذلك أنّ لكلّ أدب خصائصه المتفرّدة و المميّزة له،علاوةً على الانتصار إلى المناهج النّقدية الغربية،مع العلم أنّ جلّ هذه النّظريات أسّس لها القدماء في أُمَّاتِ كتبهم و مصنّفاتهم؟
و أمام الحشد الهائل من المصطلحات النّقدية،يجدُر بنا الالتفات إلى الدراسات النّقدية العربية القديمة ،بما أثرت به الدّرس النّقدي،كما لا يمنعنا المقام من الأخذ ببعض النّظريات الغربية مع الأخذ بالاعتبار مدى توافق هذه المناهج مع الخطاب الأدبي العربي.
فهل ما يقدّمه النّقاد العرب من نتاجات"نقديّة"،هي تطبيقٌ لمناهج لها أُطُرها المميّزة لها،أم أنّ هذه الجهود ـ في سوادهاـ هي قراءات متتالية تحتكم إلى الذّوق و الرّؤية؟ .
و قد ورد مصطلح التّناص في النّقد العربي القديم بمفهوم " السّرقات الأدبية"و الأخذ و غيرهما،فتجلّى ذلك في دراسات القدماء،واعتبروا هذه الظّاهرة ضربا من الاستيلاء على أفكار الغير دون الإمعان في الدّواعي الدّافعة إلى ذلك،من حفظ القرآن و الحديث النّبوي الشّريف ،و الاطلاع الواسع على الموروث الشّعري،و عُرِفَ " مصطلح التّناص" فيما بعد في البلاغة العربية بالاقتباس إذا تعلّق الأمر بالقرآن الكريم و الحديث النّبوي الشّريف،و إذا تعلّق بغيرهما فيُعرف بالتّضمين أو الأخذ.
و للتّناص أهميّة كبيرة في فهم مرجعية العملية الشّعرية و الوقوف على الاتّجاهات الثّقافية و التّاريخية و غيرهما،و التي تُمثّل وعي الشّاعـر و إدراكه أثناء الإبداع،فالنّص امتداد لمجموعة من النّصوص المتداخلة و الموافقة لقصدية المؤلّف.
و يرى فاضل تامر أنّ النقد الحديث أطلق اصطلاح التّناص على السّرقات،و أراد به تقاطع النّصوص أو حوار النصوص فيما بينها،و لا يمكن فهم النّص المقروء دون الرّجوع إلى مجموعة من النّصوص التي سبقته و ساهمت في تكوينه[1].
و يُشير حسين جمعة إلى اتّجاهين في التّناص:اتّجاه خارجي يتمثّل في الإرث الثقافي الذي يفد إلى المبدع من كل مكان،وفي كل زمان،غير عابئ بالحدود المكانية والزمانية،وعليه أن يتكيف مع هذا الإرث آخذا منه ما يحتاج إليه، ومكوناً صوراً مستمدة منه لكنها مغايرة له،ويدخل فيه (التناص الخارجي والداخلي) سواء أكان النص قديماً أم مُعاصراً..ومهما كانت طبيعة الآلية المستخدمة في ذلك رمزاً أو إشارة؛ تلميحاً أو تصريحاً،استشهاداً أو أخذاً وتضميناً،ترصيعاً أو تصريعاً[2]،و تحكمُ كلَّ مبدعٍ مجموعة من النّصوص والثقافات،يتكيّف معها بناءً على طباعه الشّخصية ويشيع هذا النّوع من التّناص لما يتّصف به من وعي كامل بالنُصوص السابقة؛ فهذا لا يعني أن نهمل تلك الإشارات الهائلـة التي تتشكل في منطقـة اللاّوعي عند المنتج،فكلُّ نـصًّ ـ على ما يحتويه من إبداع ـ هو نسيجٌ من الاستشهادات والنّصوص السّابقة،وكل منتج أو مبدع ـ حسب رولان بارت "يكتب منطلقاً من لغته التي ورثها عن سالفيه؛والكتابة هي شيء يتبناه الكاتب"،وهذا الرأي لا يختلف كثيراً عما عرض لـه عبد القاهر[3]،في فهم اللغة واستدعاء كل ما يحتاج إليه منها للقيام بعملية تحويل جديدة لإنتاج نص إبداعي جديد، مرتبط بالجذور،فالرّؤية الدّقيقة ـ إلى هذه المقولة ـ تنبئ بأن شعراء العربية لم يخرجوا عن ذلك،فتداخل النصوص في ضوء الاتجاه الخارجي،وفي ضوء لغتهم الموروثة أساس انبثاق تجربتهم الإبداعية في حالتي المماثلة والمخالفة[4]
أما مرجعية نظرية التناص عند العرب فهي ترجع بالفضل إلى الدراسات النصية للقرآن الكريم،والإحاطة بمعاني كل نص كبر أم صغر، ولو كان آية واحدة... ثم صار النص حاملاً لمفهوم التأويل والتفسير؛ وربما المجاز الذي بدأ به أبو عبيدة معمر بن المثنى (210 هـ)في كتابه (مجاز القرآن) وابن قتيبة (ت 276هـ). في كتابه (تأويل مشكل القرآن) أما كتاب الجاحظ (ت255هـ)،(نظم القرآن) فلم يصل إلينا....[5] ،وقد سبق ابن قيم الجوزية بارت إلى التّحليل اللّغوي – في إطار السّياق الثّقافي العربي- فوقف عند آيتين اثنتين فقط من سورة الفاتحة )إياك نعبد وإياك نستعين( بالدّراسة و التّحليل و التّفسير في كتابه "مدارج السالكين"...فلم ينته من تحليله لهما حتى استكمله فبلغ ثلاثة مجلدات[6].
و يبدو أن المنهج الذي اتبعه بارت ـوهو متطور جداً عما اتبعه ابن القيمـ متأثر بمنهج ابن القيم... وما من أحد يشك في ذلك كله، لأن بارت لم يلتقّبالثقافة العربية مصادفة، فالمصادفة لا تتكرر...ممّا يؤكد لنا أن بارت اطلع عليها يوم كان أستاذاً في جامعة الإسكندرية بمصر قبل استقراره بالكلية الفرنسية حتى وفاته سنة 1980م[7].
وقد لمعت في الغرب أسماء عدّة لنظرية التّناص في أمريكا وفرنسا خاصة؛مثل جولياكريستيفا،فأرست فيها مصطلح (النّص) ثم حدّدت إجراءات مفهوم (التّناص) وسبقت إليه وعرّفته؛ولكنه لم يكن التعريف الأخير فقالت: "النّصّ جهاز لساني يعيد توزيع نظام اللّغة واضعاً الحديث التواصلي؛ نقصد المعلومات المباشرة في علاقة مع ملفوظات مختلفة سابقة أو متزامنة"[8]،وقد استنبطته من باختين في دراسته لدستويفسكي،دون أن يستخدم مصطلح التّناص،وجيرار جينيت ورولان بارت، وميشيل أريفي ولوران جيني وجان ريكاردو وميشيل ريفاتير و غيرهم.
فالتناص عند (مارك أنجينو): "هي تقاطع في النص مؤدَّى مأخوذ من نصوص سابقة"[9]،ولما استعمل أنجينو مصطلح التناصية لنظرية التناص ومثله (لوران جيني) استعمل (ريفاتير مصطلح التناص، ويعرف كل منهما مصطلحه النصي. فيقترح (لوران جيني) تعريفاً لها: "هي "عمل يقوم به نص مركزي لتحويل نصوص وتمثلها ويحتفظ بريادة المعنى" [10]،و يعرّف(ميشيل ريفاتير) التناص بقوله: "إن التناص هو أن يلحظ القارئ علاقات بين عمل وأعمال أخرى سبقته أو جاءت بعده"[11]،و يعني ذلك تشكيل نصٍّ جديد من نصوص سابقة أو معاصرة، "بحيث يغدو النّصّ المتناصُّ خلاصة لعدد من النّصوص التي تمحي الحدود بينها،و أُعِيدت صياغتها بشكلٍ جديد،بحيث لم يبقَ منَ النّصوص السابقة سوى مادّتها"[12]،و عند جيني فالنّصّ تحويلُ عدّة نصوص،يقوم بها نصٌّ مركزي يحتفظ بريادة المعنى[13]،بينما يقول (بارت): "إن تبادل النصوص أشلاء نصوص دارت أو تدور في فلك نص يعتبر مركزاً وفي النهاية تتحد معه... كلّنص هو تناص، والنصوص الأخرى تتراءى فيه بمستويات متفاوتة". "واللغة هي النظام العلامي الوحيد الذي يمتلك القدرة على تفسير الأنظمة الدلالية الأخرى؛ وعلى تفسير نفسه بنفسه أيضاً"[14] .
وتتّجه نظرية التّناص إلى النص وحده مضمون الخطاب،فهو شبكة لا متناهية من الشفرات، وموضع تطابق ـ في أحايين كثيرة ـ و تقاطع في غالب الأحيان،و التي يدركها المتلقّي؛ فالنّص مبنيٌّ على اقتباسات كثيرة لنصوص سابقة،عن قصد التّقليد و المحاكاة نظرًا للافتتان بجمالية اللّغة الشّعرية،و استحسان معنى من المعاني،و ربّما كان هذا التّناص ـ في رأينا ـ تناصّا حياديا في بعض الأحيان،ذلك أنّ نفسية كلّ إنسان معرّضةٌ للتّطابق أو التّشابه مع حالات أخرى،ومن ثمّ نرى أنّ الظّروف الاجتماعية و الثقافية و الحالات الشّعوريـة من ألم و سعادة،قد تتكرّر عند بعض الأشخاص،فلا يجوز لنا إقحام التّناص في ذلك،بمجرد التّشابه أو التّطابق بين خطابين متباعدين زمنيا.
و يقول علي جعفر العلاّق "إنّ الذّاكرة الشّعرية بئرٌ طافحةٌ حتّى القرار بخزين لا ينتهي من القراءات المنسية و الواعية،و لا تتمّ كتابة القصيدة بمعزل عن تلك البئر الغاصّة بخزينها المتلاطم،فهي ليست نتاجا تلقائيا،بل عملٌ يستندُ إلى خميرة من الخبرات و القراءات التي تنتشرُ في ثنايا النّص،لتتجسّد بعد ذلك عبر مراياه المتشكّلة صياغةً و أبنية و تقنيات"[15]،و نشير إلى أنّ استيعاب الماضي و ما يتعلّق به من جوانب ثقافية و فكرية و غير ذلك،يمكّن الشاعر من الوصول إلى مرحلة النّضج الفكري و الثقافي،فيصل إلى التّميّز في الإبداع.
وتتميّز اللغة الشعرية باحتوائها مختلف الظّواهر التّاريخيّة والتّّراثية؛فيستلهمُ الشّاعرالمعاني و الآيات القرآنية،كما يُولعُ بالشّعر العربي القديم،ويوظّف كلّ ذلك في أشعـاره؛ما يُتــيحُ لهبناء قصائـده على نحوٍ تصاعدي،يُفجّر من خلاله طاقاته التّعبيريـة و الشّعورية و الفكرية.
1ـ استلهام المعاني القرآنية :
و تعدّ هذه الخاصية من أكثر المجالات انتشارا عند الشعراء،إذ أن ثقافة الشاعر الدينية و البيئة المحافظة تساهم بقدر كبير في تكوين شاعريته و توجّهه الديني،فيعمدُالشاعر إلى الاسترشاد بالقرآن الكريم واستلهام معانيه،فهل نصطلح عليه بالتناص ؟
إنّ أشكال التقارب بين الأعمال من الجنس نفسه،أو من أجناس أخرى في المعاني و الألفاظ و الصّور و الأساليب ،لا نجد حرجا في توظيف مصطلح التناص،حيث تكون الأعمال من فعل المخلوق،على أنّ هذا المصطلح لا يكون مع النصّ القرآني،فيكون استلهام المعاني القرآنية أقرب إلى الحقيقة العلمية،ذلك للاختلاف في المنزلة.
2- التناص مع التاريخ :
تتميز اللغة الشعرية باحتواء أنها مختلف الظواهر التاريخية و التراثية،فيستلهمالشّاعر الأحداث و الشخصيات التاريخية،و يضعها في أشعاره،و يبدو أن استدعاء الشخصيات و ما تتميز به من دلالات و إشارات، يُـتيحُللشاعر بناء قصائده على نحو تصاعدي،بتفجير طاقاتـه التعبيريـة و الشعورية والفكرية،ويوزع التناص مع التاريخ على ثلاث محاور.
* التناص بالعلم أو الكنية :
و يعدّ هذا المحور من أكثر آليات الاستدعاء مباشرة،فالأسماء تحدد الزمان و المكان؛و يرى أحمد مجاهد أن هذا النوع يقوم على استدعاء الاسم أو الشخصية،و في الجانب الفني يعد أقل آليات الاستدعاء مع آليتي الدور أو القول[16]،و تُتيح معرفة الشخصيات فهم المشاعر و المواقف من خلال تضمن الأسماء التراثية و الشخصيات التاريخية
* التناص بالدور:
و يرادُبه الدور الذي قامت به الشخصية إذ يمكن للمبدع توظيف الشخصية التراثية المستدعاة من آلية الدور،عبر تقنيات متعددة مثل المزج و التداخل بين ما هو تراثي و ما هو حديث،أو خلق رؤية جديدة يفسر من خلالها الدور القديم أو مخالفة الدور القديم جملة[17]،و يرتبط هذا النوع بالشخصيات التي تمتلك ميزة خاصة ومنفردة،فإذا تعلق الأمر بالأنبياء و الرسل فيوظف الشاعر صور المعجزات،و إذا تعلق الأمر بغيرهم وظف الشاعر مواقفهم الإيجابية أو السلبية و رؤيتهم للحياة و الكون بوجه عام .
و لتوظيف آلية الدور ميزة خاصة،مبنية على قصدية الشاعر ، ففي مقام مدح الرسول صلى الله عليه و سلم ، يحنُّإلى البقاع المقدسة،و يذكر ـ على العمومـزوار البيت الحرام و يذكر ما قاموا به من المناسك،و يحقق هذا التوظيف فاعلية في جمالية القصيدة،لما يـحيـل إليـه مـن روابـط لــدى المتلقـي بالوقـوف و التأمـل و الاستذكــار،و يتميـز هـذا النــوع بالخصوصيــة و الانفراديـة .
3- التناص مع الشعر العربي القديم :
سنسعى في هذاالبحثإلى رصد الوقوف على ظاهرةالتناص مع الشعر الجاهلي و الأموي والعباسي وشعر التصوف،ذلك أن أي عمل أدبي لا يخلو من تقاطعات مع نصوص أخرى،و يبرر ذلك الإطلاع على الموروث الأدبي و حفظ جيده،فالذاكـرة الشعريـة مليئـة بمخزون هائل مـن القـراءات و قد تكون الإفادة منها بطريقـة واعيـة أو غير واعيـة؛و يشتمل الشعر الجاهلي على قدر كبير من الخصائص الفنية و الجمالية،و يظل ـ بذلك ـ منبعا للشعراء القدماء و المحدثين و المعاصرين،لما يتمتع به ثراءٍبالإمكانات الفنية و الطاقات التعبيرية فيحقّق متعة كشف ذاته و كشف الآخر،و يثير كل الإيحاءات و الدلالات التي ترتبط بالملتقي .
و يـمثّل العصر العباسيأيضاعصر الانفتـاح و التطـوّر في مختلف المجالات،فتطورت العلوم و نشطت حركـة الترجمـة ،فألمّ العرب بثقافات الأمم الأخرى،و يبدو هذا الأثر واضحا في تجدد الموضوعات واستحداث الأوزان .
و يمكن للقارئ أن يستشفّ أثر الشّعر العبّاسي عند الشّعراء،إذْ تحفلُ دواوين الشعراءبأمثلةٍ كثيرةتتقاطع مع شعر المتنبي و أبي تمـامو غيرهما،فتداخلت النّصـوص في كثيـر من المواضـع و ساهمت في تشكيــل النـص " المثال "،فالنص الواحد تتداخل فيه نصوص أخرى أما و يتطلب الوقوف على هذا الأمر اطلاعا واسعا على الشعر بمختلف أغراضه.
كمايُعدّ الشعر الصوفي من أهم المصادر التي استقى منها الشعراء،فقد وظفوا كثيرا من الرموز و الصور للتعبير عن تجاربهم،فكان شعر ابن عربي و السهروردي و الحلاج و ابن القارض و غيرهم منبعا يستقي منه الشعراء،و غالبا ما كان توظيف هذا التراث مرتبطا بالمدائح النبوية و بالرحلة،حيث تمثلان محورا يحوم حوله الشعراء،و إذا كان شعراء الصوفية قد جعلوا المحبة أساسا للمعرفة،فإن كثيرا من الشّعراءقد جعلوامنها السبيل التي تقربهمإلى الله عز و جل،و تتقاطع خطاباتهممع شعراء التصوف في الرمز الغزليو الخمري،حيث يوظف ألفاظ الغزل ( الحبيـبو الوصـلو الشـوقو الحـبوالصبابـة،و الخمر و الصهباءو غيرها....)،و كـل هذه الألفـاظ و غيرها نجدهـا في شعـر التصـوف و توحي بمرحلة من مراحل الارتقاء و المعرفة.
على أنّ بعضا من الشعراء وقفوا عند حدود الكلمة فاكتفوا بذكر بعض المصطلحات ،و تقديمها بطريقة عكسية،فوقعوا في اللاتطابق،بين المصطلح و الرمز و التجربة الذاتية،فالتجربة الصوفية هي تجربة ذوقية خاصة،و لا يُمكن توظيف المصطلحات و الرموز على نحو الصوفيين ما لم يقف الشعراء عند التجربة الباطنية .
من التّنــــاص إلى تقاطع النّصوص:
نسعى بهذا التصور إلى إرساء مصطلح بديل نرى أنّه أقرب إلى الحقيقة العلمية و هو:تقاطع النصوص، ليكون بديلا عن مصطلح التّناص،و ذلك أن كثيرا من الأعمال الأدبية في تماثلها أو تقاربها لا تندرج ضمن نظرية التّناص،كونها صادرة عن مبدعين لم يجمعهم الزمان و لا المكان،إنما تقاربت أو تماثلت أعمالهم نظرا للتّشابه في الحالات النّفسية أو الاجتماعية،ما جعل الطرح النّقدي يقفُ عند الوصف الإقحامي لنظريّة التّناص ،لذلك وجب الوقوف على التّجارب الذّاتية و العوامل الاجتماعية للتّـوصّل إلى حقيقة تقاطع الأعمال الأدبية في كثير من المواضع .
1ـ التقاطع الإرادي (القصدي):و هو ما يكونُ تقاطعا شعوريًّا،عن معرفة و دراية،فالذّاكرة الشّعرية طافحةٌ بمخزونٍ هائلٍ من النّصوص الأدبيّة،ما يجعل حضورها حضورا مستمرّا عن وعيٍ تام،فتكون ا لمعاني و الصّور تجسيدًا لذلك،الأمر الذي يدعونا على الاستعانة بمناهج أخرى كالمنهج التّاريخي و المنهج الاجتماعي للتّوصّل إلى ضبط ظواهر التّقاطع بين النّصوص الأدبية .
2ـ التقاطع اللاّإرادي (اللاّقصدي):و يكون لا شعوريّا،إذْ تطفو النصوص المحفوظة بشكلٍ غير واعٍ،نظرا للتّوافق بين الحالات اللاّشعورية للمبدع و حالاته الشّعورية،فيكون بذلك تداعي الأفكار،و يُمكن الاستعانة بالمنهج النّفساني لرصد هذه التّقاطعات؛و نُشير إلى أنّ التّماثل في الأشكال التّعبيريّة مقترنٌ بتماثل أو تقارب الحالات النّفسيّة،ما يدعونا إلى اعتبار تشابه بعض النّصوص ضربا من التّقاطع اللاّإرادي،فالمعاني متداولةٌ و إنّما يقعُ الاختلاف في سَوْقها و صياغتها في أساليب قدْ تتقاربُ في مُجملها،فيكونُ إقحاميا لظاهرة التّناص .
و على هذا الأساس وجبَ الوقوف على هذه الظاهرة،و تبيّن أبعادها و فيما إذا كان التشابه الحاصل بين الأعمال تقاطعًا إراديا ناتجا عن الافتتان بالأدب في مختلف عصوره،أو الاطلاع الواسع على نصوصه،أو تقاطعا لا إراديا لا تندرج ضمن القصدية و إنما يقعُ للتّشابه في الظروف النّفسيّة و الاجتماعية .
الهامش:
1) ـ من سلطة النص إلى سلطة القارئ،د/فاضل تامر،مجلة الفكر العربي المعاصر،العدد48\1988.
2) ـ المسْبار في النّقد الأَدبي (دراسة في نقد النقد للأدب القديم و التناص)،أ.د.حسين جمعة، من منشورات اتحاد الكتاب العرب،دمشق،2003،ص156.
3) ـ ينظر:الخطيئة والتكفير، د.عبد الله محمد الغذامي، النادي الأدبي الثقافي، جدة، السعودية، 1985م،ص 12
4) ـ المسبار في النقد الأدبي،د. حسين جمعة ص 153
5) ـ المرجع نفسه ،ص 139
6) الخطيئة والتكفير،ص68ـ
7) ـ المسبار في النقد الأدبي،ص167
8) ـ نظرية النص،رولان بارث،ص 23،نقلا:عن:المـِسْـبار فـي النـَّـقْـد الأَدبـي،أ.د.حسين جمعة،ص140
9) ـ التناصية (أنجينو) 60، نقلا عن:المـِسْـبار فـي النـَّـقْـد الأَدبـي أ.د.حسين جمعة ، ص 140
10) ـ التناصية (أنجينو) 69 نقلا عن:المـِسْـبار فـي النـَّـقْـد الأَدبـي،ص 140
11) ـ طروس الأدب على الأدب (جيرار جينيت) 126 ،نقلا عن: المـِسْـبار فـي النـَّـقْـد الأَدبـي 140
12)ـ النّصّ الغائب،تجلّيات التّناص في الشّعر العربي،محمد عزّام،دراسة،اتّحاد الكتّاب العرب،دمشق،2001، www.awu-dam.org
13) ـ ينظر:في أصول الخطاب النّقدي الجديد،مارك أنجينو،منشورات وزارة الثّقافة و الإعلام،العراق، (دت)،ص104.
14) ـ نظرية النص (بارت) 38 و 44 ، نقلا عن:المـِسْـبار فـي النـَّـقْـد الأَدبـي،ص 140
15) ـ الشّعر و التّلقّي ـ علي جعفر العلاق، دراسة نقدية ـدار الشّروق للنّشر و التوزيع،عمان،ط2، 2002،ص131
16) ـ أشكال التناص الشعري ـ دراسة في توظيف الشخصيات التراثية،أحمد مجاهد ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب،مصر،ط1،1988،ص 115.
17) ـ أشكال االتناص الشعري ، أحمد مجاهد ، ص 88
د. أحمد حاجـي
جامعة ورقلة ( الجزائر )
و أمام الحشد الهائل من المصطلحات النّقدية،يجدُر بنا الالتفات إلى الدراسات النّقدية العربية القديمة ،بما أثرت به الدّرس النّقدي،كما لا يمنعنا المقام من الأخذ ببعض النّظريات الغربية مع الأخذ بالاعتبار مدى توافق هذه المناهج مع الخطاب الأدبي العربي.
فهل ما يقدّمه النّقاد العرب من نتاجات"نقديّة"،هي تطبيقٌ لمناهج لها أُطُرها المميّزة لها،أم أنّ هذه الجهود ـ في سوادهاـ هي قراءات متتالية تحتكم إلى الذّوق و الرّؤية؟ .
و قد ورد مصطلح التّناص في النّقد العربي القديم بمفهوم " السّرقات الأدبية"و الأخذ و غيرهما،فتجلّى ذلك في دراسات القدماء،واعتبروا هذه الظّاهرة ضربا من الاستيلاء على أفكار الغير دون الإمعان في الدّواعي الدّافعة إلى ذلك،من حفظ القرآن و الحديث النّبوي الشّريف ،و الاطلاع الواسع على الموروث الشّعري،و عُرِفَ " مصطلح التّناص" فيما بعد في البلاغة العربية بالاقتباس إذا تعلّق الأمر بالقرآن الكريم و الحديث النّبوي الشّريف،و إذا تعلّق بغيرهما فيُعرف بالتّضمين أو الأخذ.
و للتّناص أهميّة كبيرة في فهم مرجعية العملية الشّعرية و الوقوف على الاتّجاهات الثّقافية و التّاريخية و غيرهما،و التي تُمثّل وعي الشّاعـر و إدراكه أثناء الإبداع،فالنّص امتداد لمجموعة من النّصوص المتداخلة و الموافقة لقصدية المؤلّف.
و يرى فاضل تامر أنّ النقد الحديث أطلق اصطلاح التّناص على السّرقات،و أراد به تقاطع النّصوص أو حوار النصوص فيما بينها،و لا يمكن فهم النّص المقروء دون الرّجوع إلى مجموعة من النّصوص التي سبقته و ساهمت في تكوينه[1].
و يُشير حسين جمعة إلى اتّجاهين في التّناص:اتّجاه خارجي يتمثّل في الإرث الثقافي الذي يفد إلى المبدع من كل مكان،وفي كل زمان،غير عابئ بالحدود المكانية والزمانية،وعليه أن يتكيف مع هذا الإرث آخذا منه ما يحتاج إليه، ومكوناً صوراً مستمدة منه لكنها مغايرة له،ويدخل فيه (التناص الخارجي والداخلي) سواء أكان النص قديماً أم مُعاصراً..ومهما كانت طبيعة الآلية المستخدمة في ذلك رمزاً أو إشارة؛ تلميحاً أو تصريحاً،استشهاداً أو أخذاً وتضميناً،ترصيعاً أو تصريعاً[2]،و تحكمُ كلَّ مبدعٍ مجموعة من النّصوص والثقافات،يتكيّف معها بناءً على طباعه الشّخصية ويشيع هذا النّوع من التّناص لما يتّصف به من وعي كامل بالنُصوص السابقة؛ فهذا لا يعني أن نهمل تلك الإشارات الهائلـة التي تتشكل في منطقـة اللاّوعي عند المنتج،فكلُّ نـصًّ ـ على ما يحتويه من إبداع ـ هو نسيجٌ من الاستشهادات والنّصوص السّابقة،وكل منتج أو مبدع ـ حسب رولان بارت "يكتب منطلقاً من لغته التي ورثها عن سالفيه؛والكتابة هي شيء يتبناه الكاتب"،وهذا الرأي لا يختلف كثيراً عما عرض لـه عبد القاهر[3]،في فهم اللغة واستدعاء كل ما يحتاج إليه منها للقيام بعملية تحويل جديدة لإنتاج نص إبداعي جديد، مرتبط بالجذور،فالرّؤية الدّقيقة ـ إلى هذه المقولة ـ تنبئ بأن شعراء العربية لم يخرجوا عن ذلك،فتداخل النصوص في ضوء الاتجاه الخارجي،وفي ضوء لغتهم الموروثة أساس انبثاق تجربتهم الإبداعية في حالتي المماثلة والمخالفة[4]
أما مرجعية نظرية التناص عند العرب فهي ترجع بالفضل إلى الدراسات النصية للقرآن الكريم،والإحاطة بمعاني كل نص كبر أم صغر، ولو كان آية واحدة... ثم صار النص حاملاً لمفهوم التأويل والتفسير؛ وربما المجاز الذي بدأ به أبو عبيدة معمر بن المثنى (210 هـ)في كتابه (مجاز القرآن) وابن قتيبة (ت 276هـ). في كتابه (تأويل مشكل القرآن) أما كتاب الجاحظ (ت255هـ)،(نظم القرآن) فلم يصل إلينا....[5] ،وقد سبق ابن قيم الجوزية بارت إلى التّحليل اللّغوي – في إطار السّياق الثّقافي العربي- فوقف عند آيتين اثنتين فقط من سورة الفاتحة )إياك نعبد وإياك نستعين( بالدّراسة و التّحليل و التّفسير في كتابه "مدارج السالكين"...فلم ينته من تحليله لهما حتى استكمله فبلغ ثلاثة مجلدات[6].
و يبدو أن المنهج الذي اتبعه بارت ـوهو متطور جداً عما اتبعه ابن القيمـ متأثر بمنهج ابن القيم... وما من أحد يشك في ذلك كله، لأن بارت لم يلتقّبالثقافة العربية مصادفة، فالمصادفة لا تتكرر...ممّا يؤكد لنا أن بارت اطلع عليها يوم كان أستاذاً في جامعة الإسكندرية بمصر قبل استقراره بالكلية الفرنسية حتى وفاته سنة 1980م[7].
وقد لمعت في الغرب أسماء عدّة لنظرية التّناص في أمريكا وفرنسا خاصة؛مثل جولياكريستيفا،فأرست فيها مصطلح (النّص) ثم حدّدت إجراءات مفهوم (التّناص) وسبقت إليه وعرّفته؛ولكنه لم يكن التعريف الأخير فقالت: "النّصّ جهاز لساني يعيد توزيع نظام اللّغة واضعاً الحديث التواصلي؛ نقصد المعلومات المباشرة في علاقة مع ملفوظات مختلفة سابقة أو متزامنة"[8]،وقد استنبطته من باختين في دراسته لدستويفسكي،دون أن يستخدم مصطلح التّناص،وجيرار جينيت ورولان بارت، وميشيل أريفي ولوران جيني وجان ريكاردو وميشيل ريفاتير و غيرهم.
فالتناص عند (مارك أنجينو): "هي تقاطع في النص مؤدَّى مأخوذ من نصوص سابقة"[9]،ولما استعمل أنجينو مصطلح التناصية لنظرية التناص ومثله (لوران جيني) استعمل (ريفاتير مصطلح التناص، ويعرف كل منهما مصطلحه النصي. فيقترح (لوران جيني) تعريفاً لها: "هي "عمل يقوم به نص مركزي لتحويل نصوص وتمثلها ويحتفظ بريادة المعنى" [10]،و يعرّف(ميشيل ريفاتير) التناص بقوله: "إن التناص هو أن يلحظ القارئ علاقات بين عمل وأعمال أخرى سبقته أو جاءت بعده"[11]،و يعني ذلك تشكيل نصٍّ جديد من نصوص سابقة أو معاصرة، "بحيث يغدو النّصّ المتناصُّ خلاصة لعدد من النّصوص التي تمحي الحدود بينها،و أُعِيدت صياغتها بشكلٍ جديد،بحيث لم يبقَ منَ النّصوص السابقة سوى مادّتها"[12]،و عند جيني فالنّصّ تحويلُ عدّة نصوص،يقوم بها نصٌّ مركزي يحتفظ بريادة المعنى[13]،بينما يقول (بارت): "إن تبادل النصوص أشلاء نصوص دارت أو تدور في فلك نص يعتبر مركزاً وفي النهاية تتحد معه... كلّنص هو تناص، والنصوص الأخرى تتراءى فيه بمستويات متفاوتة". "واللغة هي النظام العلامي الوحيد الذي يمتلك القدرة على تفسير الأنظمة الدلالية الأخرى؛ وعلى تفسير نفسه بنفسه أيضاً"[14] .
وتتّجه نظرية التّناص إلى النص وحده مضمون الخطاب،فهو شبكة لا متناهية من الشفرات، وموضع تطابق ـ في أحايين كثيرة ـ و تقاطع في غالب الأحيان،و التي يدركها المتلقّي؛ فالنّص مبنيٌّ على اقتباسات كثيرة لنصوص سابقة،عن قصد التّقليد و المحاكاة نظرًا للافتتان بجمالية اللّغة الشّعرية،و استحسان معنى من المعاني،و ربّما كان هذا التّناص ـ في رأينا ـ تناصّا حياديا في بعض الأحيان،ذلك أنّ نفسية كلّ إنسان معرّضةٌ للتّطابق أو التّشابه مع حالات أخرى،ومن ثمّ نرى أنّ الظّروف الاجتماعية و الثقافية و الحالات الشّعوريـة من ألم و سعادة،قد تتكرّر عند بعض الأشخاص،فلا يجوز لنا إقحام التّناص في ذلك،بمجرد التّشابه أو التّطابق بين خطابين متباعدين زمنيا.
و يقول علي جعفر العلاّق "إنّ الذّاكرة الشّعرية بئرٌ طافحةٌ حتّى القرار بخزين لا ينتهي من القراءات المنسية و الواعية،و لا تتمّ كتابة القصيدة بمعزل عن تلك البئر الغاصّة بخزينها المتلاطم،فهي ليست نتاجا تلقائيا،بل عملٌ يستندُ إلى خميرة من الخبرات و القراءات التي تنتشرُ في ثنايا النّص،لتتجسّد بعد ذلك عبر مراياه المتشكّلة صياغةً و أبنية و تقنيات"[15]،و نشير إلى أنّ استيعاب الماضي و ما يتعلّق به من جوانب ثقافية و فكرية و غير ذلك،يمكّن الشاعر من الوصول إلى مرحلة النّضج الفكري و الثقافي،فيصل إلى التّميّز في الإبداع.
وتتميّز اللغة الشعرية باحتوائها مختلف الظّواهر التّاريخيّة والتّّراثية؛فيستلهمُ الشّاعرالمعاني و الآيات القرآنية،كما يُولعُ بالشّعر العربي القديم،ويوظّف كلّ ذلك في أشعـاره؛ما يُتــيحُ لهبناء قصائـده على نحوٍ تصاعدي،يُفجّر من خلاله طاقاته التّعبيريـة و الشّعورية و الفكرية.
1ـ استلهام المعاني القرآنية :
و تعدّ هذه الخاصية من أكثر المجالات انتشارا عند الشعراء،إذ أن ثقافة الشاعر الدينية و البيئة المحافظة تساهم بقدر كبير في تكوين شاعريته و توجّهه الديني،فيعمدُالشاعر إلى الاسترشاد بالقرآن الكريم واستلهام معانيه،فهل نصطلح عليه بالتناص ؟
إنّ أشكال التقارب بين الأعمال من الجنس نفسه،أو من أجناس أخرى في المعاني و الألفاظ و الصّور و الأساليب ،لا نجد حرجا في توظيف مصطلح التناص،حيث تكون الأعمال من فعل المخلوق،على أنّ هذا المصطلح لا يكون مع النصّ القرآني،فيكون استلهام المعاني القرآنية أقرب إلى الحقيقة العلمية،ذلك للاختلاف في المنزلة.
2- التناص مع التاريخ :
تتميز اللغة الشعرية باحتواء أنها مختلف الظواهر التاريخية و التراثية،فيستلهمالشّاعر الأحداث و الشخصيات التاريخية،و يضعها في أشعاره،و يبدو أن استدعاء الشخصيات و ما تتميز به من دلالات و إشارات، يُـتيحُللشاعر بناء قصائده على نحو تصاعدي،بتفجير طاقاتـه التعبيريـة و الشعورية والفكرية،ويوزع التناص مع التاريخ على ثلاث محاور.
* التناص بالعلم أو الكنية :
و يعدّ هذا المحور من أكثر آليات الاستدعاء مباشرة،فالأسماء تحدد الزمان و المكان؛و يرى أحمد مجاهد أن هذا النوع يقوم على استدعاء الاسم أو الشخصية،و في الجانب الفني يعد أقل آليات الاستدعاء مع آليتي الدور أو القول[16]،و تُتيح معرفة الشخصيات فهم المشاعر و المواقف من خلال تضمن الأسماء التراثية و الشخصيات التاريخية
* التناص بالدور:
و يرادُبه الدور الذي قامت به الشخصية إذ يمكن للمبدع توظيف الشخصية التراثية المستدعاة من آلية الدور،عبر تقنيات متعددة مثل المزج و التداخل بين ما هو تراثي و ما هو حديث،أو خلق رؤية جديدة يفسر من خلالها الدور القديم أو مخالفة الدور القديم جملة[17]،و يرتبط هذا النوع بالشخصيات التي تمتلك ميزة خاصة ومنفردة،فإذا تعلق الأمر بالأنبياء و الرسل فيوظف الشاعر صور المعجزات،و إذا تعلق الأمر بغيرهم وظف الشاعر مواقفهم الإيجابية أو السلبية و رؤيتهم للحياة و الكون بوجه عام .
و لتوظيف آلية الدور ميزة خاصة،مبنية على قصدية الشاعر ، ففي مقام مدح الرسول صلى الله عليه و سلم ، يحنُّإلى البقاع المقدسة،و يذكر ـ على العمومـزوار البيت الحرام و يذكر ما قاموا به من المناسك،و يحقق هذا التوظيف فاعلية في جمالية القصيدة،لما يـحيـل إليـه مـن روابـط لــدى المتلقـي بالوقـوف و التأمـل و الاستذكــار،و يتميـز هـذا النــوع بالخصوصيــة و الانفراديـة .
3- التناص مع الشعر العربي القديم :
سنسعى في هذاالبحثإلى رصد الوقوف على ظاهرةالتناص مع الشعر الجاهلي و الأموي والعباسي وشعر التصوف،ذلك أن أي عمل أدبي لا يخلو من تقاطعات مع نصوص أخرى،و يبرر ذلك الإطلاع على الموروث الأدبي و حفظ جيده،فالذاكـرة الشعريـة مليئـة بمخزون هائل مـن القـراءات و قد تكون الإفادة منها بطريقـة واعيـة أو غير واعيـة؛و يشتمل الشعر الجاهلي على قدر كبير من الخصائص الفنية و الجمالية،و يظل ـ بذلك ـ منبعا للشعراء القدماء و المحدثين و المعاصرين،لما يتمتع به ثراءٍبالإمكانات الفنية و الطاقات التعبيرية فيحقّق متعة كشف ذاته و كشف الآخر،و يثير كل الإيحاءات و الدلالات التي ترتبط بالملتقي .
و يـمثّل العصر العباسيأيضاعصر الانفتـاح و التطـوّر في مختلف المجالات،فتطورت العلوم و نشطت حركـة الترجمـة ،فألمّ العرب بثقافات الأمم الأخرى،و يبدو هذا الأثر واضحا في تجدد الموضوعات واستحداث الأوزان .
و يمكن للقارئ أن يستشفّ أثر الشّعر العبّاسي عند الشّعراء،إذْ تحفلُ دواوين الشعراءبأمثلةٍ كثيرةتتقاطع مع شعر المتنبي و أبي تمـامو غيرهما،فتداخلت النّصـوص في كثيـر من المواضـع و ساهمت في تشكيــل النـص " المثال "،فالنص الواحد تتداخل فيه نصوص أخرى أما و يتطلب الوقوف على هذا الأمر اطلاعا واسعا على الشعر بمختلف أغراضه.
كمايُعدّ الشعر الصوفي من أهم المصادر التي استقى منها الشعراء،فقد وظفوا كثيرا من الرموز و الصور للتعبير عن تجاربهم،فكان شعر ابن عربي و السهروردي و الحلاج و ابن القارض و غيرهم منبعا يستقي منه الشعراء،و غالبا ما كان توظيف هذا التراث مرتبطا بالمدائح النبوية و بالرحلة،حيث تمثلان محورا يحوم حوله الشعراء،و إذا كان شعراء الصوفية قد جعلوا المحبة أساسا للمعرفة،فإن كثيرا من الشّعراءقد جعلوامنها السبيل التي تقربهمإلى الله عز و جل،و تتقاطع خطاباتهممع شعراء التصوف في الرمز الغزليو الخمري،حيث يوظف ألفاظ الغزل ( الحبيـبو الوصـلو الشـوقو الحـبوالصبابـة،و الخمر و الصهباءو غيرها....)،و كـل هذه الألفـاظ و غيرها نجدهـا في شعـر التصـوف و توحي بمرحلة من مراحل الارتقاء و المعرفة.
على أنّ بعضا من الشعراء وقفوا عند حدود الكلمة فاكتفوا بذكر بعض المصطلحات ،و تقديمها بطريقة عكسية،فوقعوا في اللاتطابق،بين المصطلح و الرمز و التجربة الذاتية،فالتجربة الصوفية هي تجربة ذوقية خاصة،و لا يُمكن توظيف المصطلحات و الرموز على نحو الصوفيين ما لم يقف الشعراء عند التجربة الباطنية .
من التّنــــاص إلى تقاطع النّصوص:
نسعى بهذا التصور إلى إرساء مصطلح بديل نرى أنّه أقرب إلى الحقيقة العلمية و هو:تقاطع النصوص، ليكون بديلا عن مصطلح التّناص،و ذلك أن كثيرا من الأعمال الأدبية في تماثلها أو تقاربها لا تندرج ضمن نظرية التّناص،كونها صادرة عن مبدعين لم يجمعهم الزمان و لا المكان،إنما تقاربت أو تماثلت أعمالهم نظرا للتّشابه في الحالات النّفسية أو الاجتماعية،ما جعل الطرح النّقدي يقفُ عند الوصف الإقحامي لنظريّة التّناص ،لذلك وجب الوقوف على التّجارب الذّاتية و العوامل الاجتماعية للتّـوصّل إلى حقيقة تقاطع الأعمال الأدبية في كثير من المواضع .
1ـ التقاطع الإرادي (القصدي):و هو ما يكونُ تقاطعا شعوريًّا،عن معرفة و دراية،فالذّاكرة الشّعرية طافحةٌ بمخزونٍ هائلٍ من النّصوص الأدبيّة،ما يجعل حضورها حضورا مستمرّا عن وعيٍ تام،فتكون ا لمعاني و الصّور تجسيدًا لذلك،الأمر الذي يدعونا على الاستعانة بمناهج أخرى كالمنهج التّاريخي و المنهج الاجتماعي للتّوصّل إلى ضبط ظواهر التّقاطع بين النّصوص الأدبية .
2ـ التقاطع اللاّإرادي (اللاّقصدي):و يكون لا شعوريّا،إذْ تطفو النصوص المحفوظة بشكلٍ غير واعٍ،نظرا للتّوافق بين الحالات اللاّشعورية للمبدع و حالاته الشّعورية،فيكون بذلك تداعي الأفكار،و يُمكن الاستعانة بالمنهج النّفساني لرصد هذه التّقاطعات؛و نُشير إلى أنّ التّماثل في الأشكال التّعبيريّة مقترنٌ بتماثل أو تقارب الحالات النّفسيّة،ما يدعونا إلى اعتبار تشابه بعض النّصوص ضربا من التّقاطع اللاّإرادي،فالمعاني متداولةٌ و إنّما يقعُ الاختلاف في سَوْقها و صياغتها في أساليب قدْ تتقاربُ في مُجملها،فيكونُ إقحاميا لظاهرة التّناص .
و على هذا الأساس وجبَ الوقوف على هذه الظاهرة،و تبيّن أبعادها و فيما إذا كان التشابه الحاصل بين الأعمال تقاطعًا إراديا ناتجا عن الافتتان بالأدب في مختلف عصوره،أو الاطلاع الواسع على نصوصه،أو تقاطعا لا إراديا لا تندرج ضمن القصدية و إنما يقعُ للتّشابه في الظروف النّفسيّة و الاجتماعية .
الهامش:
1) ـ من سلطة النص إلى سلطة القارئ،د/فاضل تامر،مجلة الفكر العربي المعاصر،العدد48\1988.
2) ـ المسْبار في النّقد الأَدبي (دراسة في نقد النقد للأدب القديم و التناص)،أ.د.حسين جمعة، من منشورات اتحاد الكتاب العرب،دمشق،2003،ص156.
3) ـ ينظر:الخطيئة والتكفير، د.عبد الله محمد الغذامي، النادي الأدبي الثقافي، جدة، السعودية، 1985م،ص 12
4) ـ المسبار في النقد الأدبي،د. حسين جمعة ص 153
5) ـ المرجع نفسه ،ص 139
6) الخطيئة والتكفير،ص68ـ
7) ـ المسبار في النقد الأدبي،ص167
8) ـ نظرية النص،رولان بارث،ص 23،نقلا:عن:المـِسْـبار فـي النـَّـقْـد الأَدبـي،أ.د.حسين جمعة،ص140
9) ـ التناصية (أنجينو) 60، نقلا عن:المـِسْـبار فـي النـَّـقْـد الأَدبـي أ.د.حسين جمعة ، ص 140
10) ـ التناصية (أنجينو) 69 نقلا عن:المـِسْـبار فـي النـَّـقْـد الأَدبـي،ص 140
11) ـ طروس الأدب على الأدب (جيرار جينيت) 126 ،نقلا عن: المـِسْـبار فـي النـَّـقْـد الأَدبـي 140
12)ـ النّصّ الغائب،تجلّيات التّناص في الشّعر العربي،محمد عزّام،دراسة،اتّحاد الكتّاب العرب،دمشق،2001، www.awu-dam.org
13) ـ ينظر:في أصول الخطاب النّقدي الجديد،مارك أنجينو،منشورات وزارة الثّقافة و الإعلام،العراق، (دت)،ص104.
14) ـ نظرية النص (بارت) 38 و 44 ، نقلا عن:المـِسْـبار فـي النـَّـقْـد الأَدبـي،ص 140
15) ـ الشّعر و التّلقّي ـ علي جعفر العلاق، دراسة نقدية ـدار الشّروق للنّشر و التوزيع،عمان،ط2، 2002،ص131
16) ـ أشكال التناص الشعري ـ دراسة في توظيف الشخصيات التراثية،أحمد مجاهد ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب،مصر،ط1،1988،ص 115.
17) ـ أشكال االتناص الشعري ، أحمد مجاهد ، ص 88
د. أحمد حاجـي
جامعة ورقلة ( الجزائر )