ليس من شك في أن ثقافتنا المحدثة التي تبوأت في مصر مكانة مرموقة ومنزلة شريفة قد استفادت من التراث الأزهريّ وعلمائه استفادة عظيمة، وليس تتلمذ كثير من روّاد العصر على علماء الأزهر وكتبهم إلا صدى لنوعٍ من التقدير العام ونوعٍ من إثبات التأثر والتأثير، حيث كانت شبيبة الأدباء والمفكرين من أدباء القرن الماضي يلجأون إلى الأزهر وكتبه باعتباره مورد الثقافة وداعمها حينئذٍ، وحين ندرك هذا التواصل المعرفي بين الثقافة الأزهرية والثقافة الحديثة تتأكد لنا حقيقة عدم وجود صراع حقيقي بين الثقافتين، نعم قد يكون عند البعض ممن درس في الأزهر واتجه إلى الحياة الفكرية أو الصحفية بعض النقد لطريقة التعليم الأزهرية، لكن لا يصل إلى عدم الاعتراف بمرجعية الأزهر الثقافية، فما وصل من وصل من الأدباء والمفكرين إلى تلك المنزلة المجتمعية الرفيعة إلا بعد عكوفهم على الكتب الأزهرية في بداية طلبهم للعلوم؛ كالدكتور طه حسين وأحمد حسن الزيات وأحمد أمين، وغيرهم من أعلام الحركة الثقافية الحديثة، ويؤكد الكثير من مؤرخي الثقافة في كتبهم المتعددة على الدور الفعال للأزهر في الثقافة المعاصرة، واستفادة روّادها من ثقافة الأزهريين؛ كالمؤرخ محمد عبد الله عنان ، حيث كتب: "يجب ألا ننسى نصيب الأزهر في هذه الحركة الثقافية الباهرة، فقد كان بين طلاب هذه البعثات عدد كبير من طلاب الأزهر، وكان منهم نوابغ أفذاذ مثل رفاعة بك الطهطاوي إمام البعثة الأولى وصاحب الفضل في إنشاء مدرسة الألسن الشهيرة، وإبراهيم بك النبراوي وغيرهما ممن تلقوا دراستهم الإعدادية بالأزهر، ثم إن أبناء الأزهر هم الذين اضطلعوا بأعظم قسط في إخراج الموسوعات والمراجع العربية والإسلامية التي عكفت مطبعة بولاق على إصدارها منذ منتصف القرن الماضي، والتي ما زالت أثمن وأجلّ مجموعة في المكتبة العربية، وكانت من أعظم العوامل التي مهدت إلى بعث الأدب العربي القديم".
****
شخصية فريدة
إنّ وراء كلّ كتابة عن شخصية من الشخصيات أمرين يضيق بهما المؤرخ ذرعًا: شخصية متوسطة الإنتاج ومعلومات عنها قليلة تقصر عن تجلية حياته، وشخصية عظيمة الإنتاج المعرفي ومعلومات متوفرة تزيد عن قدرة الباحث وإمكانياته، فهو في هذه الحال يحاول -إن تشجع- أن يلخص من حياته أهمها وأجلها، وقد يبلغ وقد لا يبلغ، هكذا أخذت هذه الفائدة عن أستاذي الأكبر محمد رجب البيومي بمعناها لا بلفظها، وباتت الشواهد تؤكدها.
ولا ينكر أيّ متتبع أو مهتم بالنهضة الثقافية الحديثة وجود شخصية فريدة كان لها بالغ الأثر في التكوين الثقافي لجمهرة من الشخصيات الرائدة في العصر الحديث، ولم يتوقف أثره عند التلاميذ، بل تعداه إلى جماعة من الحفدة المهتمين بتراث جدهم، وهذا الارتباط أو ما يمكن أن نطلق عليه اتصال السند الأدبي أو الكتابي يتشكل في ذاته ليؤكد على وحدة أدبية متكاملة بين الجد والحفيد، وهذه الوحدة كانت الأساس الذي أرسى قواعد النبوغ الأدبي جيداً.
****
سيد بن علي المرصفيّ
من طلائع رزق شبيبة الأدب في القرن الماضي ما صادف وقت طلبهم للعلوم من استضاءة الجامع الأزهر آنذاك ببدر من بدور الأدب العربي وإمام من أئمة اللغة، فاتصلوا به ولازموه، وتلقوا عنه من أسرار اللغة ما زاد من حرصهم على الكتابة.
استمر العلامة الكامل الشيخ سيد بن علي المرصفي الشافعي في التدريس مدة طويلة، وأقرأ كتباً عديدة، وتخرجت عليه من دروسه طبقات عديدة من الجهابذة النحارير والتلامذة الفحول، والحق يقال إن النهضة الأدبية الحديثة والصنعة التحقيقية ولدت على يد هذا الرجل، ومن العجب العجاب أن يلتفت لطلابه وخريجيه، دون الاحتفاء به، وهو كما قال أستاذنا البيومي "حقيق أن يكتب له في سجل التاريخ الأدبي المعاصر صحيفة وضاءة تتألق سطورها بالزهو والاعتزاز"، وقد وصفه السيد زكي مجاهد في كتابه "الأخبار التاريخية في السيرة الذكية" بالإمام الأوحد لسائر الأدباء في البلد الأمين.
تلقت الأوساط الأدبية هذا التأثير بكثير من العناية، وأعجبت به أيما إعجاب حتى اكتسب المرصفي له أنصاراً من التلاميذ المباشرين ومن طلاب تلاميذه، يفتخرون بانتسابهم إليه، وينقلون مجالسه الأدبية ويصفونها كما تلقوها عن أساتذتهم.
واختلط به أعلام النهضة الفكرية والتدريسية آنذاك، فمن الآخذين عنه: السيد مصطفى المنفلوطي وأحمد حسن الزيات، وطه حسين، وعبد العزيز البشري، وزكي مبارك، وعلي عبد الرازق، والسيد محمود شاكر، وحسن السندوبي، ومحمد محيي الدين عبد الحميد، وأحمد شفيع السيد، وعلي الجارم، وحسن القاياتي، وإبراهيم الدباغ، وغيرهم من الأعلام والنبهاء.
وبلغ بطلابه ذروة الكمال العلمي، فاشتهرت أسماؤهم في أوساط الثقافة والتدريس عن طريقه، وعن مكانة الآخذين عنه في المجتمع كتب أستاذنا رجب البيومي: "لم يفارق الحياة سنة 1931 حتى رأى بعينه أبناءه في حلقات الدرس، يقودون زمام الرأي في مضمار الصحافة والتأليف، ويتسنمون زعامة الفكر في أقطار العروبة، فقرّ عيناً بما غرس، وأدرك أن دوحته الوارفة قد آتت من كل زوج بهيج".
****
أساتذة البيومي
وبواسطة تلاميذ العلامة سيد بن علي المرصفي النبهاء اتصل كثيرون من الحفدة بالأدب والإنشاء، ومن هؤلاء الذين كانوا لهم اتصال به وبكتبه وتلاميذه أستاذنا الأكبر محمد رجب البيومي، فقد تلقى عن جمع من تلاميذه، منهم تلميذه النابغة الأستاذ أحمد حسن الزيات، وقد تكلم الزيات عن أثر المرصفي في تكوينه الأدبي بقوله: "كان أستاذنا المرصفي يطبعنا في النظم: على غرار الحماسة، وفي النثر على غرار الكامل، ويزين لنا أن ننظم معلقة كطرفة، أو ننشئ خبراً كأبي عبيدة".
وينقل أستاذنا البيومي عن أستاذه أحمد شفيع السيد -تلميذ المرصفي- وصف مجالسه الأدبية في بيته، فإذا انتهى من درسه الأدبي بالأزهر انتقل بطلابه إلى بيته، وفي طريقه إلى بيته يتزاحم على السير معه أفواجٌ من الطلبة، حتى إذا أتى بيته دخل معه نجباء تلاميذه، وجلسوا معه في سمر أدبي مشبع بالإفادة والاعتزاز بالعربية وآثار السلف في اللغة والدين، ومن حولهم تتراءى كتب الشيخ الأدبية مركومة، فيقرأ الطلاب فيها كما يرغبون، ولربما استعار بعض الطلبة ما يريدون منها.
وقد أخبرنا البيومي بما كتبه أستاذه زكي مبارك في الرسالة عن أستاذه المرصفي بأنه كان: "أول رجل تسامى إلى نقد مؤلفات الأكابر من القدماء، وكان أول رجل أقرّ كرسي الأدب بالأزهر الشريف، وكان أول رجل جعل للأديب مكانة بين جماعة كبار العلماء، فكان بتلك الصفات أوحد عصره بلا جدال".
وقال زكي مبارك في موضع آخر في معرض رده على السباعي البيومي: "كان المصلح المنشود لكتاب الكامل هو شيخنا العظيم "سيد بن علي المرصفي" الذي قضى من عمره عشرين سنة وهو يراوح المبرد ويغاديه بالنظر الثاقب والفهم العميق".
وتكمن عظمة المرصفي عند عارفي قدره أنّه استطاع مع طلابه أن يجعل مؤلفات المبرد وأبي تمام وابن عبدربه في الدرس الأزهري في القرن الماضي، فاقترنت تلك المؤلفات بالحواشي الأزهرية لشيوخ الأزهر العطار والشرقاوي والباجوري، وهذه فضيلة كبرى قلّ من ينتبه إليها.
****
حفيد المرصفي
شيخنا العظيم محمد رجب البيومي من الشخصيات المعاصرة كبيرة القدر التي تزخر بكثير من المعارف والفنون، فقد زخرت حياته بكثير من الأعمال الجليلة، وتنوعت ألوان المعارف في شخصيته الموسوعية المنعوتة بكثير من الألقاب الحقيقية، فهو على سبيل الحقيقة لا المجاز "أديب المؤرخين" و "مؤرخ الأدباء" و "أستاذ الأجيال" و "أستاذ الكل" و "رائد الدراسات الحديثة" و "أديب الأزهر ومؤرخه" و "عميد الأدب العربي الحديث" و "منصف الحضارة الإسلامية والتاريخ العربي" و "الأديب المحافظ" و "الأستاذ الأكبر" وهو اللقب الذي أطلقته عليه منذ عرفته وصحبته، وإن كان هو لا يعبأ بمثل هذه الألقاب، ولا يلتفت إليها، بل لا يرتضيها، ويراها في كثير من الأحايين ضرباً من عبث الشباب المبني على العاطفة، ولا شك عند كل منصف أنه يستحق تلك الألقاب عن جدارة كاملة.
ويمثل العلامة الأوحد سيد بن علي المرصفي في نظر أستاذنا البيومي الحلقة الأهم في دور علماء الأزهر والتراث العربي في إذكاء النهضة الأدبية الحديثة، فقد جلس المرصفي يدرس اللغة والأدب مدة طويلة، ويزاحم دروس علوم الشريعة، حتى جذب الأنظار إلى دروسه، وكوّن صفوة من الطلاب يجتمعون حول فكرته، وبفضل المرصفي وطلابه عادت كتب الأدب إلى الدروس بصفة منتظمة، وقد كانت من قبل مهملة لا يلتفت إليها إلا الصفوة من المتخصصين، إلى جانب طباعتها السيئة كثيرة التحريف والتصحيف، فعمد المرصفي إلى أجلّ كتبها وأعظمها فائدة لدراستها دراسة فاحصة ناقدة، فكانت الأمالي لأبي علي القاري والحماسة لأبي تمام والكامل لابن المبرد هي كتبه المعتمدة في التدريس، والتي من خلالها استطاع أن يحيي حلقات الأدب والدرس، وعن أثر هذه الدروس كتب شيخنا الأجل محمد رجب البيومي عن المرصفيّ أنه: "قطع زهرة شبابه في تفهم أسراره [أي الكامل للمبرد] واكتناه مراميه، وجاء شرحه الفخم في أجزائه الثمانية دليلًا ملموساً، على أن المبرد قد عاد إلى الحياة مرة أخرى بالأزهر، واستبدل القاهرة بحاضرة العباسيين"، وفي موضوع آخر يقول: "لقد استطاع سيد بن علي أن يعيد إلى القاهرة في مطلع هذا القرن مجالس بغداد في أسطع عصورها الزاهية".
وكانت كتب المرصفي وآثاره الأدبية من الكتب المهمة التي كان يرجع إليها أستاذنا محمد رجب البيومي، وقد اعترف له بدقة الفهم بقوله: "وقد أدركنا من قراءة الكامل وشرحه سعة علم المبرد وكثرة محفوظه، كما لمسنا دقة فهم المرصفي".
ولم ينس الحفيد -لحبه وتأثره بجده المرصفي- أن يوجه نداءً عاجلًا إلى لجنة إحياء التراث القديم بوزارة الثقافة يحثهم فيه إلى طبع شروحه المخطوطة على الحماسة والأمالي والعقد، فكتب: "إذا كان أكثر هذه الشروح الرائعة لا يزال مطموراً في دفائنه الخطية، فإننا نأمل أن يرى النور إذا فطنت إليه لجنة إحياء التراث القديم في وزارة الثقافة والإرشاد، وحسبنا اليوم أن نحكم على صنيعه بالمبرد في الكامل، فهو الوثيقة الميسرة للباحثين، وبه يتضح الحكم عن حيدة وإنصاف".
****
البيومي راوية الشعر
تكلم كثيراً أستاذي الأكبر محمد رجب البيومي في كثير من كتبه عن رواية الشعر وضرورته، وهو فن مهم قلّ الاعتناء به، وكانت قديماً تعقد لأجله المجالس وتقام له المسابقات، وآخر من أخذت عنهم وعرفتهم ممن لهم باع في رواية الشعر قديمه وحديثه أستاذنا شاعر الرسول السيد محمد بدر الدين التلاوي، فكان يروي الشعر في مجلسه اليومي، وربما روى لنا في الجلسة الواحدة أكثر من مائة بيت بخلاف إسماع الحاضرين عيون قصائده، وهو شاعر أصيل من شعراء مجلة "الرسالة الزياتية" وسبق أن تكلمت عنه في بعض مقالاتي، ومنهم أيضاً أستاذنا العظيم البيومي، وقد عرفت أن هذا الفن والاهتمام بالشعر أخذه عن أستاذه العلامة الراوية والأديب الشاعر أحمد شفيع السيّد الذي وصفه بصاحب الشاعرية الأصيلة والراوية قوي الحافظة، حيث طالبه بحفظ كثيرٍ من الأشعار، وهو على حد وصفه كان "راوية ممتازاً يروي أمامه البيت فيقرنه بعدة أبيات ثيلت في معناه على مر العصور"، وهكذا فتن التلميذ بالأستاذ في الحفظ الجيد والرواية لعيون الشعر، وهذا الاهتمام الشديد بحفظ الشعر وروايته هو في الأصل "سنة مرصفية" فقد وصف الدكتور طه حسين في كتابه "تجديد ذكرى أبي العلاء" أستاذه المرصفيّ بأنه من أكثر علماء مصر رواية للشعر، ولا سيما الشعر الجاهلي، وشعر صدر الإسلام، وله طريقته البارعة الخاصة في رواية الشعر، أبان عنها الأستاذ محمود شاكر في مجلة "الرسالة"، حيث قال: "كان الشيخ حسن التقسيم للشعر حين يقرؤه، فيقف حين ينبغي الوقوف، ويمضي حيث تتصل المعاني، فإذا سمعت الشعر وهو يقرؤه فهمته، على ما فيه من غريب أو غموض أو تقديم أو تأخير أو اعتراض فكأنه يمثله لك تمثيلًا لا تحتاج بعده إلى شرح أو توقيف".
وهكذا ورث الأمر الحفيد البيومي عن أستاذه الراوية أحمد شفيع السيد عن شيخ الجماعة العلامة الكامل سيد بن علي المرصفي، وكان من عادة أستاذه أحمد شفيع السيد أنه يقرأ عليهم في المحاضرات من ذاكرته قصائد لأعلام الشعر العربي في أزهى عصوره، وكان لديه محفوظ واسع من تراث الأوائل، ويقف عند كل بيت وقفة توضح معناه، وتشير إلى أبرز مبناه، وكان أستاذنا البيومي يكتب ما يقوله ويجمعه في دفتر خاص، ويقدمه إليه فكان يسعد كثيراً بذلك، وكان يطلب من طلابه أن يعرضوا عليه بعض آثارهم الشعرية، وفي بعض الأوقات يتجه إلى مناقشتهم فيما يحفظونه من القصائد الشعرية.
لدي مباحث كثيرة حول مدرسة المرصفي واتصالنا بها تجمعت أهدافها، واتضحت معالمها، لكني أرجئ كتابتها حتى تأتي مناسبة حافزة.
د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب ازهري
****
شخصية فريدة
إنّ وراء كلّ كتابة عن شخصية من الشخصيات أمرين يضيق بهما المؤرخ ذرعًا: شخصية متوسطة الإنتاج ومعلومات عنها قليلة تقصر عن تجلية حياته، وشخصية عظيمة الإنتاج المعرفي ومعلومات متوفرة تزيد عن قدرة الباحث وإمكانياته، فهو في هذه الحال يحاول -إن تشجع- أن يلخص من حياته أهمها وأجلها، وقد يبلغ وقد لا يبلغ، هكذا أخذت هذه الفائدة عن أستاذي الأكبر محمد رجب البيومي بمعناها لا بلفظها، وباتت الشواهد تؤكدها.
ولا ينكر أيّ متتبع أو مهتم بالنهضة الثقافية الحديثة وجود شخصية فريدة كان لها بالغ الأثر في التكوين الثقافي لجمهرة من الشخصيات الرائدة في العصر الحديث، ولم يتوقف أثره عند التلاميذ، بل تعداه إلى جماعة من الحفدة المهتمين بتراث جدهم، وهذا الارتباط أو ما يمكن أن نطلق عليه اتصال السند الأدبي أو الكتابي يتشكل في ذاته ليؤكد على وحدة أدبية متكاملة بين الجد والحفيد، وهذه الوحدة كانت الأساس الذي أرسى قواعد النبوغ الأدبي جيداً.
****
سيد بن علي المرصفيّ
من طلائع رزق شبيبة الأدب في القرن الماضي ما صادف وقت طلبهم للعلوم من استضاءة الجامع الأزهر آنذاك ببدر من بدور الأدب العربي وإمام من أئمة اللغة، فاتصلوا به ولازموه، وتلقوا عنه من أسرار اللغة ما زاد من حرصهم على الكتابة.
استمر العلامة الكامل الشيخ سيد بن علي المرصفي الشافعي في التدريس مدة طويلة، وأقرأ كتباً عديدة، وتخرجت عليه من دروسه طبقات عديدة من الجهابذة النحارير والتلامذة الفحول، والحق يقال إن النهضة الأدبية الحديثة والصنعة التحقيقية ولدت على يد هذا الرجل، ومن العجب العجاب أن يلتفت لطلابه وخريجيه، دون الاحتفاء به، وهو كما قال أستاذنا البيومي "حقيق أن يكتب له في سجل التاريخ الأدبي المعاصر صحيفة وضاءة تتألق سطورها بالزهو والاعتزاز"، وقد وصفه السيد زكي مجاهد في كتابه "الأخبار التاريخية في السيرة الذكية" بالإمام الأوحد لسائر الأدباء في البلد الأمين.
تلقت الأوساط الأدبية هذا التأثير بكثير من العناية، وأعجبت به أيما إعجاب حتى اكتسب المرصفي له أنصاراً من التلاميذ المباشرين ومن طلاب تلاميذه، يفتخرون بانتسابهم إليه، وينقلون مجالسه الأدبية ويصفونها كما تلقوها عن أساتذتهم.
واختلط به أعلام النهضة الفكرية والتدريسية آنذاك، فمن الآخذين عنه: السيد مصطفى المنفلوطي وأحمد حسن الزيات، وطه حسين، وعبد العزيز البشري، وزكي مبارك، وعلي عبد الرازق، والسيد محمود شاكر، وحسن السندوبي، ومحمد محيي الدين عبد الحميد، وأحمد شفيع السيد، وعلي الجارم، وحسن القاياتي، وإبراهيم الدباغ، وغيرهم من الأعلام والنبهاء.
وبلغ بطلابه ذروة الكمال العلمي، فاشتهرت أسماؤهم في أوساط الثقافة والتدريس عن طريقه، وعن مكانة الآخذين عنه في المجتمع كتب أستاذنا رجب البيومي: "لم يفارق الحياة سنة 1931 حتى رأى بعينه أبناءه في حلقات الدرس، يقودون زمام الرأي في مضمار الصحافة والتأليف، ويتسنمون زعامة الفكر في أقطار العروبة، فقرّ عيناً بما غرس، وأدرك أن دوحته الوارفة قد آتت من كل زوج بهيج".
****
أساتذة البيومي
وبواسطة تلاميذ العلامة سيد بن علي المرصفي النبهاء اتصل كثيرون من الحفدة بالأدب والإنشاء، ومن هؤلاء الذين كانوا لهم اتصال به وبكتبه وتلاميذه أستاذنا الأكبر محمد رجب البيومي، فقد تلقى عن جمع من تلاميذه، منهم تلميذه النابغة الأستاذ أحمد حسن الزيات، وقد تكلم الزيات عن أثر المرصفي في تكوينه الأدبي بقوله: "كان أستاذنا المرصفي يطبعنا في النظم: على غرار الحماسة، وفي النثر على غرار الكامل، ويزين لنا أن ننظم معلقة كطرفة، أو ننشئ خبراً كأبي عبيدة".
وينقل أستاذنا البيومي عن أستاذه أحمد شفيع السيد -تلميذ المرصفي- وصف مجالسه الأدبية في بيته، فإذا انتهى من درسه الأدبي بالأزهر انتقل بطلابه إلى بيته، وفي طريقه إلى بيته يتزاحم على السير معه أفواجٌ من الطلبة، حتى إذا أتى بيته دخل معه نجباء تلاميذه، وجلسوا معه في سمر أدبي مشبع بالإفادة والاعتزاز بالعربية وآثار السلف في اللغة والدين، ومن حولهم تتراءى كتب الشيخ الأدبية مركومة، فيقرأ الطلاب فيها كما يرغبون، ولربما استعار بعض الطلبة ما يريدون منها.
وقد أخبرنا البيومي بما كتبه أستاذه زكي مبارك في الرسالة عن أستاذه المرصفي بأنه كان: "أول رجل تسامى إلى نقد مؤلفات الأكابر من القدماء، وكان أول رجل أقرّ كرسي الأدب بالأزهر الشريف، وكان أول رجل جعل للأديب مكانة بين جماعة كبار العلماء، فكان بتلك الصفات أوحد عصره بلا جدال".
وقال زكي مبارك في موضع آخر في معرض رده على السباعي البيومي: "كان المصلح المنشود لكتاب الكامل هو شيخنا العظيم "سيد بن علي المرصفي" الذي قضى من عمره عشرين سنة وهو يراوح المبرد ويغاديه بالنظر الثاقب والفهم العميق".
وتكمن عظمة المرصفي عند عارفي قدره أنّه استطاع مع طلابه أن يجعل مؤلفات المبرد وأبي تمام وابن عبدربه في الدرس الأزهري في القرن الماضي، فاقترنت تلك المؤلفات بالحواشي الأزهرية لشيوخ الأزهر العطار والشرقاوي والباجوري، وهذه فضيلة كبرى قلّ من ينتبه إليها.
****
حفيد المرصفي
شيخنا العظيم محمد رجب البيومي من الشخصيات المعاصرة كبيرة القدر التي تزخر بكثير من المعارف والفنون، فقد زخرت حياته بكثير من الأعمال الجليلة، وتنوعت ألوان المعارف في شخصيته الموسوعية المنعوتة بكثير من الألقاب الحقيقية، فهو على سبيل الحقيقة لا المجاز "أديب المؤرخين" و "مؤرخ الأدباء" و "أستاذ الأجيال" و "أستاذ الكل" و "رائد الدراسات الحديثة" و "أديب الأزهر ومؤرخه" و "عميد الأدب العربي الحديث" و "منصف الحضارة الإسلامية والتاريخ العربي" و "الأديب المحافظ" و "الأستاذ الأكبر" وهو اللقب الذي أطلقته عليه منذ عرفته وصحبته، وإن كان هو لا يعبأ بمثل هذه الألقاب، ولا يلتفت إليها، بل لا يرتضيها، ويراها في كثير من الأحايين ضرباً من عبث الشباب المبني على العاطفة، ولا شك عند كل منصف أنه يستحق تلك الألقاب عن جدارة كاملة.
ويمثل العلامة الأوحد سيد بن علي المرصفي في نظر أستاذنا البيومي الحلقة الأهم في دور علماء الأزهر والتراث العربي في إذكاء النهضة الأدبية الحديثة، فقد جلس المرصفي يدرس اللغة والأدب مدة طويلة، ويزاحم دروس علوم الشريعة، حتى جذب الأنظار إلى دروسه، وكوّن صفوة من الطلاب يجتمعون حول فكرته، وبفضل المرصفي وطلابه عادت كتب الأدب إلى الدروس بصفة منتظمة، وقد كانت من قبل مهملة لا يلتفت إليها إلا الصفوة من المتخصصين، إلى جانب طباعتها السيئة كثيرة التحريف والتصحيف، فعمد المرصفي إلى أجلّ كتبها وأعظمها فائدة لدراستها دراسة فاحصة ناقدة، فكانت الأمالي لأبي علي القاري والحماسة لأبي تمام والكامل لابن المبرد هي كتبه المعتمدة في التدريس، والتي من خلالها استطاع أن يحيي حلقات الأدب والدرس، وعن أثر هذه الدروس كتب شيخنا الأجل محمد رجب البيومي عن المرصفيّ أنه: "قطع زهرة شبابه في تفهم أسراره [أي الكامل للمبرد] واكتناه مراميه، وجاء شرحه الفخم في أجزائه الثمانية دليلًا ملموساً، على أن المبرد قد عاد إلى الحياة مرة أخرى بالأزهر، واستبدل القاهرة بحاضرة العباسيين"، وفي موضوع آخر يقول: "لقد استطاع سيد بن علي أن يعيد إلى القاهرة في مطلع هذا القرن مجالس بغداد في أسطع عصورها الزاهية".
وكانت كتب المرصفي وآثاره الأدبية من الكتب المهمة التي كان يرجع إليها أستاذنا محمد رجب البيومي، وقد اعترف له بدقة الفهم بقوله: "وقد أدركنا من قراءة الكامل وشرحه سعة علم المبرد وكثرة محفوظه، كما لمسنا دقة فهم المرصفي".
ولم ينس الحفيد -لحبه وتأثره بجده المرصفي- أن يوجه نداءً عاجلًا إلى لجنة إحياء التراث القديم بوزارة الثقافة يحثهم فيه إلى طبع شروحه المخطوطة على الحماسة والأمالي والعقد، فكتب: "إذا كان أكثر هذه الشروح الرائعة لا يزال مطموراً في دفائنه الخطية، فإننا نأمل أن يرى النور إذا فطنت إليه لجنة إحياء التراث القديم في وزارة الثقافة والإرشاد، وحسبنا اليوم أن نحكم على صنيعه بالمبرد في الكامل، فهو الوثيقة الميسرة للباحثين، وبه يتضح الحكم عن حيدة وإنصاف".
****
البيومي راوية الشعر
تكلم كثيراً أستاذي الأكبر محمد رجب البيومي في كثير من كتبه عن رواية الشعر وضرورته، وهو فن مهم قلّ الاعتناء به، وكانت قديماً تعقد لأجله المجالس وتقام له المسابقات، وآخر من أخذت عنهم وعرفتهم ممن لهم باع في رواية الشعر قديمه وحديثه أستاذنا شاعر الرسول السيد محمد بدر الدين التلاوي، فكان يروي الشعر في مجلسه اليومي، وربما روى لنا في الجلسة الواحدة أكثر من مائة بيت بخلاف إسماع الحاضرين عيون قصائده، وهو شاعر أصيل من شعراء مجلة "الرسالة الزياتية" وسبق أن تكلمت عنه في بعض مقالاتي، ومنهم أيضاً أستاذنا العظيم البيومي، وقد عرفت أن هذا الفن والاهتمام بالشعر أخذه عن أستاذه العلامة الراوية والأديب الشاعر أحمد شفيع السيّد الذي وصفه بصاحب الشاعرية الأصيلة والراوية قوي الحافظة، حيث طالبه بحفظ كثيرٍ من الأشعار، وهو على حد وصفه كان "راوية ممتازاً يروي أمامه البيت فيقرنه بعدة أبيات ثيلت في معناه على مر العصور"، وهكذا فتن التلميذ بالأستاذ في الحفظ الجيد والرواية لعيون الشعر، وهذا الاهتمام الشديد بحفظ الشعر وروايته هو في الأصل "سنة مرصفية" فقد وصف الدكتور طه حسين في كتابه "تجديد ذكرى أبي العلاء" أستاذه المرصفيّ بأنه من أكثر علماء مصر رواية للشعر، ولا سيما الشعر الجاهلي، وشعر صدر الإسلام، وله طريقته البارعة الخاصة في رواية الشعر، أبان عنها الأستاذ محمود شاكر في مجلة "الرسالة"، حيث قال: "كان الشيخ حسن التقسيم للشعر حين يقرؤه، فيقف حين ينبغي الوقوف، ويمضي حيث تتصل المعاني، فإذا سمعت الشعر وهو يقرؤه فهمته، على ما فيه من غريب أو غموض أو تقديم أو تأخير أو اعتراض فكأنه يمثله لك تمثيلًا لا تحتاج بعده إلى شرح أو توقيف".
وهكذا ورث الأمر الحفيد البيومي عن أستاذه الراوية أحمد شفيع السيد عن شيخ الجماعة العلامة الكامل سيد بن علي المرصفي، وكان من عادة أستاذه أحمد شفيع السيد أنه يقرأ عليهم في المحاضرات من ذاكرته قصائد لأعلام الشعر العربي في أزهى عصوره، وكان لديه محفوظ واسع من تراث الأوائل، ويقف عند كل بيت وقفة توضح معناه، وتشير إلى أبرز مبناه، وكان أستاذنا البيومي يكتب ما يقوله ويجمعه في دفتر خاص، ويقدمه إليه فكان يسعد كثيراً بذلك، وكان يطلب من طلابه أن يعرضوا عليه بعض آثارهم الشعرية، وفي بعض الأوقات يتجه إلى مناقشتهم فيما يحفظونه من القصائد الشعرية.
لدي مباحث كثيرة حول مدرسة المرصفي واتصالنا بها تجمعت أهدافها، واتضحت معالمها، لكني أرجئ كتابتها حتى تأتي مناسبة حافزة.
د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب ازهري