1- أكرم هنية في جديده.. دروب جميلة القاتلة
بعد انقطاع ست سنوات عن نشر القصة القصيرة يصدر القاص أكرم هنية مجموعته القصصية "دروب جميلة" (2007)، وكانت آخر مجموعاته القصصية "أسرار الدوري" (2001). وكتب القاص قصصه الأخيرة الثمانية ما بين 2004 و2006، ما يعني أنه لم ينقطع عن الكتابة، وإنما انقطع عن النشر.
وربما قرأ المرء العنوان قراءتين، قبل أن يقرأ القصص، الأولى: دروبٌ جميلةٌ، والثانية دوربُ جميلة. وفي الأولى تكون جميلة صفة لدروب التي هي خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه قصص عنوانها دروبٌ جميلةٌ، او مبتدأ خبره محذوف، ويكون التقدير: دروبٌ جميلةٌ قصصٌ قصيرة كتبها أكرم هنية. وفي الثانية تكون جميلة مضاف إليه مجرور بالفتحة بدل الكسرة، لأنها ممنوعة من الصرف.
وحين يقرأ المرء القصص فإنه سيقصي الاحتمال الأول، ويعزز القراءة الثانية. فجميلة هي الفتاة التي أحبها عيسى اليافاوي، ولم يعد يعرف عنها، أثر حرب العام 1948، شيئا، وخمن أنها سارت في دروب ثلاثة هي: "أن تذهب مع عائلتها برا إلى القدس أو رام الله أو غزة، أو أن تذهب بحرا إلى لبنان أو غزة، كما فعل آلاف من أبناء المدينة، أو أن تبقى في يافا" (ص55). ونعرف أنها بقيت في يافا، وأنها استشهدت مع عائلتها هناك.
وستكون الدروب صعبة وقاسية في كثير من القصص، بخاصة التي قارب القاص فيها الموضوعات الوطنية: زمن حسان، وكان ذلك قبيل موتنا، ودروب جميلة. وربما تذكر المرء، وهو يقرأ هذه القصص وعنوان المجموعة، إن كان قارئا للأدب العالمي، قصة (جورج أمادو) "دروب الجوع"، وقصة (جنكيز ايتماتوف) "جميلة". ودروب الأولى دروب جوع وقسوة، وقصة جميلة لا تسر أيضا، إذ أجبرت على الزواج ممن لا تحب، وقضت حياتها في هم وغم.
تأتي قصة "زمن حسان" على حياة الفلسطينيين إبان انتفاضة الأقصى، وعلى معاناتهم على الحواجز، وهكذا تكون دروبهم دروبا صعبة وقاسية. وتأتي قصة "كان ذلك قبيل موتنا" على سجان وسجين فلسطينيين، سار الأول في ركاب اتفاقيات (أوسلو)، وسار الثاني في ركاب المعارضة، ولم يَنجُ هذا أو ذاك، فقد ماتا، إبان انتفاضة الأقصى، إثر قصف الطائرات الإسرائيلية لسجن نابلس المركزي، وتأتي الثالثة "دروب جميلة" على قصة عيسى اليافاوي الذي يقيم في المنفى، في الكويت، بعد نكبة العام 1948، وهناك يموت، بعيداً عن مدينته وحبيبته التي كانت ماتت في عام النكبة.
وسيلحظ المرء ضربا من استحضار الماضي في بعض القصص سواء التي تناول كاتبها فيها موضوعا وطنيا "دروب جميلة" أو تلك التي أتى فيها ساردها على تجربة شخصية مر بها "في البحث عن الزميلة ندى"، وفي هذه لا ينفصل الهم العام عن الهم الخاص، وفي "ترانزيت الأطياف الشاحبة"، فهذه من ألفها إلى يائها تدور حول علاقة عابرة بين رجل وامرأة، في روما، يظن الرجل أنه كان يعرف المرأة، وهكذا يتساءل، إن كانت هي التي عرفها. وهذا ما يكون، ففي نهاية القصة تناديه المرأة/ نادية باسمه: رمزي، ما يؤكد له أنها هي.
وسيلحظ المرء أيضا أن أحداث القصص لا تدور في مكان واحد. فبعضها يجري في فلسطين: زمن حسان وكان ذلك قبيل موتنا ودروب جميلة [فلسطين والكويت] وألوان هادئه ومونولوج نهاري، وستة مقاعد في مقهى صغير، وبعضها يجري في الكويت: دروب جميلة، وفي مصر: في البحث عن الزميلة ندى، وفي روما: ترانزيت الأطياف الشاحبة.
وإذا كان هناك تنوع في المكان، فإن الأسلوب السردي يكاد يتقارب، فالقصص كلها، إلا في مواطن في بعض القصص، تسرد عبر الضمير الأول. ويختلف السارد فهو في "زمن حسان" حسان الذي ولد على الحاجز، والسارد في "كان ذلك قبيل موتنا" فلسطيني ينتمي إلى حركة فتح غدا موظفا في السلطة الوطنية بعد إنشائها، والسارد في "دروب جميلة" هو طبيب الأسنان الذي يسرد ما حدث معه، ويسرد أيضا ما سرده عيسى اليافاوي عليه، فالقارئ لا يصغي إلى عيسى يقص عليه، وإنما يصغي إلى طبيب الأسنان يقص ما مر به وما قصه عيسى عليه. وربما بدا الاختلاف في السرد قليلا في قصة " في البحث عن الزميلة ندى"، إذ نصغي إلى نحن تقص، ثم إلى أنا من ضمن النحن تقص. مرة يقص الخمسة معا، ومرة يقص واحد منهم عن تجربته هو. وتشبه هذه القصة القصة الأخيرة "ستة مقاعد في مقهى صغير" ففيها نصغي إلى سبعة شخوص: أربعة رجال وامرأتين وصاحب المقهى، كل يقص ما يفكر به، وما يدور في خلده. وإذا كنا في "في البحث عن الزميلة ندى" نقرأ قصا بضمير الأنا. فالأفراد ليسوا أصدقاء عاشوا، فترة، متقاربين، وإنما هم لا يعرفون بعضهم، وما يجمعهم هو المكان الذي يجلسون فيه، كل على طاولة منفردة. المكان، لا العلاقات، هو ما يجمعهم.
وربما كانت بعض قصص هذه المجموعة غير منفصلة عن قصص سابقة للكاتب نفسه، بخاصة قصة "في البحث عن الزميلة ندى"، فقارئها سرعان ما يتذكر قصة "وردتان للزميلة ندى" التي برزت في مجموعة "هزيمة الشاطر حسن" (1980). السارد في الثانية "في البحث عن الزميلة ندى" يزور القاهرة للمشاركة في مؤتمر عن العولمة. وحين يشاهد صورة ندى في الصحيفة يتذكر علاقته معها قبل خمسة وعشرين عاما، ويحاول أن يتصل بها. ما الذي يربطه بها الآن، وقد غدت له عائلته وغدت لها عائلتها؟ هذا هو السؤال الذي يراود السارد، ثمّ عمّ سيتحدثان؟ ويتذكر الأيام الجميلة التي عاشها معها يوم كان طالبا جامعيا يدرس في القاهرة. يتذكر أيام المظاهرات والاجتماعات والحب وما شابه.
هل القصة السابقة هي القصة الوحيدة التي تذكر قارئ قصص هنية الجديدة بقصصه السابقة؟ لا أظن ذلك، فهناك قصص أخرى فيها من السمات المشتركة مع القصص السابقة ما فيها. كان أكرم هنية يلجأ أحيانا كثيرة في بناء قصصه إلى المخيلة واللامعقول، وهذا ما بدا في قصص مثل: "مؤتمر فعاليات القرية يصدر نداءً هاماً"، و"قبل الحصار" ...بعد الشمس بقليل... في الأولى ترفض الأجنة الخروج من أرحام الأمهات، لأن الآباء يقيمون في المنافي، ولا تريد الأجنة حياة بلا آباء، أو بآباء بعيدين عن الوطن، وفي الثانية يصحو أهل القدس، ذات صباح، ليجدوا الصخرة انسرقت. وفي زمن حسان، في المجموعة الجديدة "دروب جميلة" يولد حسان على الحاجز، وينمو، ويذهب إلى المدرسة، ويدخل إلى الجامعة، ويتزوج، وينجب، والحواجز التي أقيمت بعد 2002 بين مدن الضفة ما زالت موجودة. لا تخلو القصة من عنصر الخيال الذي برز في قصص الكاتب منذ بدأ يكتب. وليس عنصر الخيال هو العنصر الوحيد. في المجموعة الجديدة يعود هنية ليكتب قصصا ذات بناء، وهو ما يبدو في قصة "كان ذلك قبيل موتنا"، وهو بذلك يواصل ما بدا في قصص سابقة له مثل قصة "عندما أضيء، ليل القدس" (1986) وقبلها "يوم قتل إبراهيم الأقرع". ثمة لازمة تتكرر في القصة بين فقرة وفقرة، أو ثمة تواز في السرد، فتارة يسرد بضمير الهو وطورا بضمير الأنا، وسنلحظ هذا الأسلوب يبدو بارزاً مؤخرا في رواية الفلسطيني أنور حامد "حجارة الألم" (2005) المكتوبة بغير العربية أصلا، والمنقولة إليها، وفي رواية "شيكاغو" (2007) لعلاء الأسواني.
قصة زمن حسان نموذجاً:
في قصة "زمن حسان" نصغي إلى حسان يقص علينا قصته، وكما ذكرت، فقد ولد حسان على الحاجز. والحاجز بين مدن الضفة وقراها غدا أمرا قائما منذ اشتدت انتفاضة الأقصى واتخذت الأحداث فيها مجرى عنيفا، وتحديدا منذ التفجيرات التي قام بها الفلسطينيون في الحافلات الإسرائيلية والأسواق والمطاعم في المدن الإسرائيلية أيضا. كان الحاجز منذ العام 1967 طيارا في الغالب، يقام في مكان معين، لفترة معينة، ثم سرعان ما يزول. والمشكلة الأساس كانت في جسور العبور بين الضفتين الشرقية والغربية، فعلى هذه الجسور قاسى الفلسطينيون وعانوا، ومروا بحالات من الإذلال: الفحص الآلي، والانتظار والتحقيق والمنع من السفر، والاقتياد إلى السجن، وربط الحطة والعقال بالحذاء. وقد عبر الأدباء، شعراءَ وقصاصين، عن هذا كله في أشعارهم وقصصهم. وربما يتذكر قراء فدوى طوقان قصيدتها المشهورة عن حالة الذل التي مرت هي بها، مثل مئات الآلاف من الفلسطينيين.
وفي فترة انتفاضة الأقصى لم تخل كتابات كثيرة من الكتابة عن الحواجز وما يلم بالناس عليها. ثمة عشرات، بل مئات المقالات، وثمة قصص ربما كان أبرزها قصة عزمي بشارة "الحاجز" (2004) التي نعتها بأنها "شظايا رواية"، وفيها صور، بلوحات ساخرة، معاناة الفلسطينيين على الحواجز.
فكرة قصة زمن حسان، إذن هي فكرة مطروقة نوعا ما، فما الجديد الذي أتى به أكرم هنية؟ هذا هو السؤال الذي يثيره المرء حين يقرأها.
حين بدأ أكرم هنية يكتب القصة القصيرة وينشرها، هنا في فلسطين، كانت قصصه لافتة من نواح عديدة، فهو كان من أوائل الذين وظفوا التراث العربي الشعبي والفصيح، في قصصه، مثله مثل إميل حبيبي في فلسطين المحتلة في العام 1948، وهو كان أول من وظف اللامعقول في بناء قصصه أيضا. وربما أفاد في ذلك من دراسته الأدب الإنجليزي، وإقامته فترة طويلة في القاهرة، ما بين 1971 و 1976، وهو أيضا أول من بنى قصته على أحداث كانت تبدو خيالية، لكنها مع مرور الأيام غدت أمرا واقعا. إن بناء قصة يتخيل فيها الراوي سرقة الأقصى، في العام 1979، كان أمرا جديدا في قصتنا. الحدث متخيل فلم تسرق الصخرة، لكن أكرم هنية الذي بدأ يزور القدس يوميا، ليعمل في جريدة الشعب محرراً فرئيس تحرير، كان يشاهد المستوطنات تكبر على أطراف المدينة، وكان يصغي إلى أخبار تتحدث عن محاولات صهيونية عديدة لشراء بيوت في البلدة القديمة، وهكذا رأى أن القدس في طريقها إلى الضياع.
في قصة زمن حسان، يعيد الكاتب كتابة أحداث الواقع كتابة فيها قدر كبير من الخيال. فحسان الذي يولد على الحاجز، في انتفاضة الأقصى، أي بعد 28/9/2000، يكبر ويتعلم ويذهب إلى المدرسة ويدخل إلى الجامعة ويتخرج منها، ويغدو موظفا ثم يتزوج وينجب أيضا. والمدة ما بين ولادته وإنجابه لا تتجاوز السنوات الخمس أو الست على أكثر تقدير. وهنا يريد القاص أن يقول: لقد غدا الحاجز أمرا واقعا. لقد أقيمت قرية على الحاجز، بني فيها بيوت، وجاءها أغراب ليقطنوا فيها، وتشكل لها مجلس محلي، وما زال الحاجز حاجزا. ونمت بين أفراد حرس الحدود والجيش الإسرائيلي وبين حسان وأترابه علاقات، تبدو أحيانا صاخبة ملتهبة، حيث يرشق الناس الحجارة على الجنود، وتبدو أحيانا أخرى عادية، ولا أريد أن أقول: علاقات فيها قدر من الصداقة. فحسان حين يحادث الجندي الأرمني (أفنر)، في لحظات الهدوء، يحادثه بخجل، ذلك أن الجندي جندي احتلال، على الرغم من إنه صارح (حسان)، ذات مرة، بأنه أراد أن يترك السيارة التي كانت فيها أم حسان وقريباتها، ليلة ولادة حسان، تمر لتلد أم حسان ابنها في المشفى، لا على الحاجز، كما حدث، ولكنها الأوامر التي تلقاها (أفنر)، هي التي حالت بينه وبين السماح للسيارة بالمرور.
نحن إذن في القصة أمام قصة للخيال في بنائها نصيب كبير، علماً بأن كل ما يرد فيها يجري يوميا على الحواجز، وربما جرى عليها أكثر بكثير مما ورد في القصة، بل وأعنف بكثير منها، وربما يتذكر أهل مدينة نابلس قصة الفتاة النابلسية ميسون الحايك المتزوجة من شاب ريفي كان تعرف إليها في الجامعة فتزوج منها، وأنجب طفلة، لكنه قتل على الحاجز، وهو ينقل زوجته لكي تلد في المشفى، وأصيب أبوه بجراح خطيرة. وسيكون عيد ميلاد البنت، إن كان عيدا، مناسبة قتل والدها.
ينتزع أكرم هنية إذن أخبار قصته من الواقع، لكنه لا يكتب قصة واقعية مائة بالمائة، فللخيال، كما ذكرت نصيب فيها. وهي قصة تذكرنا برواية سليم بركات "فقهاء الظلام" (1985)، وأظن أن أكرم هنية قرأها، فلقد تسربت نسخ منها، في حينه، إلى القدس، بعد أن أصدرها محمود درويش عن سلسلة كتاب "الكرمل" الذي صدرت عنه أعمال أكرم هنية معا. وتقوم رواية "فقهاء الظلام" على حدث متخيل. إن سليم بركات يعيد كتابة ما يجري في قرية كردية بأسلوب خيالي، فبطل الرواية يولد ويكبر وينمو ويتزوج ويخلف، وكل هذا يجري في عام واحد. هكذا ينمو ويكبر فجأة، ويريد أن يتزوج مرة واحدة، ويحاول الأب أن يتهرب منه، لكن زوجته تقترح عليه أن يزوجه من ابنة أخيه "مهمد". وهكذا ينمو البطل في الساعة الواحدة ما يقارب ثلاثة أعوام. وحجة البطل في ذلك: "يوم واحد يكفي. أن تستمر في التذوق يعني ألا تعيش أكثر. المعرفة تكفي والإحساس بالطعم شواذ في القاعدة". (ص27)
وربما تذكر قارئ قصة هنية قصيدة محمود درويش "جندي يحلم بالزنابق البيضاء". فثمة حوار في القصة، في لحظات الاسترخاء على الحاجز، بين حسان وبين (أفنر) الذي لم يخدم هو فقط في الجيش الإسرائيلي، وإنما أرى حسانا صورة لابنائه الثلاثة، وهم يرتدون بدلة (تساهال). يجري الحوار التالي بينهما:
"أذكر أنني سألته، وأنا أتصبب عرقا في ظهيرة يوم حزيراني لافح: أفنر.. كم فلسطينيا قتلت في حياتك؟
لم يهزه السؤال، وإن تردد قبل أن تخرج الكلمات منه بطيئة: لا أعتقد أنني قتلت أحدا، ويضيف: ربما جرحت عديدين" (ص22).
وهذا الحوار نقرأ مثيلا له في قصيدة محمود درويش المذكورة التي عاد وكتب قصيدة قريبة منها، من جديد، في ديوانه: لماذا تركت الحصان وحيداً (1995) هي قصيدة "عندما يبتعد". في جندي يحلم بالزنابق البيضاء يجري بين الشاعر والجندي الحوار التالي:
- وكم قتلت؟
– يصعب أن أعدهم...
– لكني نلت وساما واحداً.
– سالته معذبا نفسي، إذن
صف لي قتيلا واحداً.
أصلح من جلسته وداعب الجريدة المطوية
وقال لي كأنه يسمعني أغنية:
كخيمة هوى على الحصى
وعانق الكواكب المحطمة
(ص216) من أ.ك.ط6/1987)
وعموما فإن قارئ دروب جميلة سيقرأ قصصا تقارب الهم الوطني، وأخرى تقارب الهم الذاتي الإنساني أيضا، وأهم ما يميزها أنها قصص لا تخلو من عنصر التشويق.
دروب جميلة القاتلة
***
2- قراءة تحليلية لقصة "عندما أضيء ليل القدس"
هذه القراءة التحليلية لقصة أكرم هنية "عندما أضيء ليل القدس" تنجز بمناسبة صدور أعماله القصصية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (2003) في بيروت.
ويعود السبب في اختيار هذه القصة دون غيرها، إلى أسباب منها أنني اخترت عنوانها، مع بعض التغيير، لكتابة مقالة عن أكرم هنية، يوم إبعاده، في العام 1986، وكان مقالا عابرا سببه مناسبة غير سارة، ومنها أن القصة لها في نفس مؤلفها وقع مميز، وهذا ما أخبرني به أحد طلبة الدراسات العليا الذي أنجز رسالة ماجستير في قصص أكرم هنية، ولكنه لم يدرس القصة إلا ضمن دراسته قصص الكاتب كلها، وهكذا لم يخصص لها مساحة كاملة، وهذا ما سأفعله هنا، وثمة ما هو متعلق بالسبب الأول، وهو عودتي المتأخرة لنصوص قديمة كتبت عنها مقالات أو أشرت إليها في دراسات، لأكتب عنها، من جديد، لاختبار مقولة نقدية من مقولات نظرية التلقي الألمانية، وهي أن قراءة نص واحد من قارئ واحد، في زمنين مختلفين تؤدي إلى قراءتين مختلفتين، وسبب ذلك الثقافة التي يكتسبها القارئ، وتطور آرائه ووعيه النقدي، واختلاف حالته في أثناء القراءة.
بين يدي النص:
كتب أكرم هنية هذه القصة ونشرها في مجموعة "طقوس ليوم آخر" (قبرص، 1986)، وضَمَّت هذه المجموعة مجموعات القاص الثلاثة الصادرة في (1979) (1980) (1981)، والقصة، بالإضافة إلى سبع قصص أخرى لم تظهر في المجموعات الثلاثة الأولى. هذا يعني أن أكرم هنية انقطع خمس سنوات عن إصدار أية مجموعة جديدة، وهذا يعني أيضا أنه ما عاد مكثرا في كتابة القصص، كما بدأ في سنوات كتابته الأولى. ويمكن قول الشيء نفسه عن مجموعة "أسرار الدوري" (2001) التي صدرت بعد خمسة عشر عاماً من صدور "طقوس ليوم آخر".
اعتمادا على تاريخ النشر يمكن الإشارة إلى زمن الكتابة، وهو، كما يفترض، 1986، وهذان الزمنان خارجيان، مثلهما مثل زمن القارئ. ولكن ماذا عن الزمن الداخلي؟ يستطيع المرء أن يحدد هذا الزمن اعتمادا على معطيات داخلية، وإن لم يذكر بالضبط. ثمة في النص إشارة إلى الاحتلال، احتلال اليهود المدينة، وتم هذا كما نعرف، بعد العام 1967. وثمة في النص أيضا إشارة إلى الحرب اللبنانية، الحرب الأهلية، وابتدأت هذه منذ 1975، واستمرت إلى فترة كتابة القصة. وإذا كان هذا هو الزمن القصصي المعيش من أكثر شخوص القصة، فإن رجل الضوء ذا الدلالة الرمزية يعود بنا إلى أول مزارع كنعاني زرع أشجارا في فلسطين، ويمر بنا مرورا عابراً في تاريخ الغزوات، فهو الجندي البسيط الذي حارب الغزاة، وهم كثر، وهو العامل الذي بنى سور القدس، وهو الفلاح الذي ألقى أول حجر على سفينة الغزاة عام 1882، وهو الرجل الذي ظهر على سور القدس زمن القصة وجريان أحداثها.
ويستطيع القريب من أكرم هنية، الذي عايش الأحداث زمن كتابتها، وزار القدس في حينه، يستطيع أن يحدد الزمن القصصي، وهو 1985 أو قبلها بقليل، ففي هذا العام استرخى أهل الضفة، وبدأوا يمارسون طقوسا أتى عليها المؤلف الضمني في الصفحتين الأولى والثانية من القصة، إنها أجواء ليالي رمضان في ذلك العام، أجواء الفرح والسهر التي لم يكن يعكر صفوها سوى دوريات الجيش الإسرائيلي.
السارد في القصة:
ليس هناك سارد واحد يسرد القصة من أولها إلى آخرها، هناك مؤلف وهناك أربع شخصيات نصغي إليها، كما نصغي إلى كلام المؤلف. والمؤلف غير محدد الملامح، ويستطيع المرء ان يطابق بينه وبين أكرم هنية الكاتب. وكان أكرم هنية، في حينه يعمل في جريدة "الشعب" المقدسية ويرأس تحريرها، وكان على قرب شديد من أجواء المدينة التي أتى المؤلف على وصفها. المؤلف، إذن، وهو المؤلف الضمني، لا يختلف عن الكاتب الحقيقي للقصة، عن أكرم هنية، ويتم السرد هنا بضمير الهو، الضمير الثالث. ولكن هذا الضمير يتغير فلا يسيطر على القصة كلها، إذ أن الشخصيات الأخرى: الطفل الفتاة، الرجل، رجل الضوء، تتكلم وتقص عن ذاتها وعما جرى معها من خلال الضمير الأول، ضمير الأنا. ويبدو السارد/ المؤلف كلي المعرفة، إذ يعرف الكثير عن المواطنين. ولغة السارد، مثل لغة شخوصه، هي العربية الفصيحة. لكأن أكرم هنية أدخل لغة شخوصه في مياه نهر (ليثي) كما يقول (ميخائيل باختين)، حيث انصهرت كلها في مستوى واحد، وبذلك تكون لغة القصة أقرب إلى لغة الشاعر الغنائي، هذه التي لا تعدد في المستوى اللغوي فيها. المؤلف يكتب بالفصيحة، والطفل يتكلم بالفصيحة، وكذلك الفتاة والرجل، بل أن رجل الضوء الذي تعود جذوره إلى بداية الحضور الكنعاني في فلسطين يتكلم العربية الفصيحة.
بنية النص:
يتكون النص من أحد عشر مقطعا على النحو التالي:
المؤلف [حوالي 96 سطرا].
الطفل [ثمانية أسطر].
الفتاة [سبعة عشر سطرا].
الرجل [خمسة وثلاثون سطرا].
رجل الضوء [أربعة أسطر].
المؤلف [أربعة أسطر].
الطفل [أربعة أسطر].
الفتاة [سبعة أسطر].
الرجل [خمسة أسطر].
10- رجل الضوء [ثمانية أسطر].
11- المؤلف [تسعة أسطر]. [طبعة الكرمل، 1986].
يفتتح المؤلف الضمني النص ويختتمه، وما بين الافتتاح والاختتام يظهر أيضا في الوسط، إنه يتكلم ثلاث مرات، فيما يتكلم الآخرون مرتين، وتبدو القصة، إذا استعرنا من الشعر مصطلحاته حول شكل القصيدة الحديثة، تبدو دائرية الشكل وحلزونيته في الوقت نفسه. المؤلف هو نقطة البدء، وهو نقطة الوسط، وهو نقطة النهاية. وثمة في المقطع الأول أيضا عبارة مركزية يعود إليها المؤلف كلما سرد فقرة لتكون نقطة انطلاق لمواصلة القص. إنها عبارة "صاح الطفل: انظروا"، وتتكرر هذه في المقطع الأول على النحو التالي:
صاح الطفل: انظروا.
صاح الطفل: انظروا.
انظروا "صاح الطفل.
صرخ الطفل: انظروا.
انظروا. انظروا. انظروا. أخذ الطفل يصرخ محتداً.
وثمة عبارات دالة أخرى في النص وهي:
ليل القدس الطويل.
.... يبحثن عن زبائن لليلهن الطويل.
أقص شعري.. أعرف أنه يحبه أسود طويلاً كالليل الذي اعتاد أن يسير فيه.
وانبعثت عندما كنتم تصنعون مهرجان الألوان في هذا الليل الطويل.
وهي أيضا:
حتى لعلع الرصاص [ينتهي بها المقطع 1 و2 و 3 و4].
عندما لعلع الرصاص [ينتهي بها المقطع 5].
قد أطلقوا النار بغزارة نحوه [ينتهي بها المقطع 6].
عندما سمعنا صوت الرصاص [ينتهي بها المقطع 7].
عندما لعلع الرصاص [ينتهي بها المقطع 8].
عندما انهال الرصاص عليه [ينتهي بها المقطع 9].
أطلقوا الرصاص [ينتهي بها المقطع 10].
وينتهي المقطع الحادي عشر، بصوت المؤلف:
"كانت القدس تستحم في بحر الضوء الرقيق الحالم الذي انبثق فيها، وفي بحر البشر المحتشدين في كل مكان. ونسمات منعشة تهب من جميع الاتجاهات. وكان العلم "يرفرف عالياً".
ثمة رجل هو رجل الضوء، يحل في رجل من أهل القدس، في ليلة من ليالي رمضان، ويرى فيه الناس شخصا عزيزاً عليهم، يلفت طفل الأنظار إليه بعبارة: انظروا، ويصعد الطفل إليه وكذلك الفتاة والرجل، ليلتقوا به، ولكن ما يفرق بين هؤلاء ورجل الضوء هو الرصاص، وهكذا يجرح رجل الضوء، ويختفي لكنه لا يموت، وهكذا تنتهي القصة بإعلاء العلم الفلسطيني الذي يرفرف فوق أسوار القدس عالياً.
إن ليل القدس طويل، لأن القدس تحت الاحتلال، والناس ينتظرون المخلص، الفادي، الثوري، وحين يظهر يتطلعون إليه، لكن رصاص الجنود يلعلع ولا يكتمل اللقاء.
لنعد إلى بناء النص:
يعقب كل عبارة في المقطع الأول عبارة أخرى، باستثناء العبارة الأولى، حين يكرر الطفل عبارة انظروا ثانية، يعقب المؤلف: لم يستمع إليه أحد. وحين يكررها الطفل ثالثة يعقب المؤلف: لكن أحدا لم ينتبه إليه وهو يشد ثوب أمه المنشغلة بالحديث مع...، وحين يكرر صراخه، يعقب المؤلف: لكن أحداً لم يستمع إليه وقد أخذتهم الرهبة، وفي المرة الخامسة يصرخ الطفل ويبكي ويشير بيديه وهنا: انتبه بعض لصرخته وإلحاحه ونبهوا غيرهم".
لكأن أكرم هنية يقول: خدوافالها من أطفالها، ولكأنه تنبأ بالانتفاضة التي اندلعت في نهاية العام 1987، وكان للأطفال دور بارز فيها. ولكأن أكرم هنية يقول: ولكن من يصغي إلى هؤلاء ويستمع إليهم.
نأتي إلى ردود الأفعال إزاء بروز رجل الضوء. يلجأ القاص، قبل أن يخصص حيزاً للطفل والفتاة والرجل، إلى تصوير ردود أفعال الناس إزاء ظهور رجل الضوء، وتبدو على النحو التالي:
"هتف رجل وهو يبكي: أنه ابني قتله اليهود.
"وصرخت امرأة كان يحيط بها أطفالها: إنه ابني الذي استشهد في لبنان".
" وهتف رجل مأخوذ بغرابة ما يجري: إنه المهدي المنتظر".
"وقالت امرأة عجوز: إنه ابني التائه في المنفى".
"وقال شاب بسرعة حاسمة: إنه شقيقي المعتقل في السجن".
"وقال آخر: "إنه ولي من أولياء الله في هذه الليلة المباركة".
"وتقدم طفل للأمام وسط الجموع: إنه أبي الغائب في السجن".
"وقالت امرأة وهي ترسم علامة الصليب: يا عذراء. إنه يسوع. يسوع يا مخلصي".
"وارتعش جسد فتاة لم تحاول مقاومة دموعها وهي تهمس: إنه حبيبي. اعرفه. إنه فارسي.. انتظرته طويلا. ها قد أتى".
وكما يقول المثل الشعبي "اللي على بال أم حسين بتحلم فيه بالليل"، وكل واحد من أبناء الشعب الفلسطيني يفتقد عزيزا، وهكذا يرى كل واحد من أهل القدس وزوارها في رجل الضوء العزيزَ الذي يفتقده.
ولا يخوض أكرم هنية في قصة كل واحد من هؤلاء، إنه يختار ما قاله الطفل، وما قالته الفتاة، ويضيف إلى هذين قصة رجل آخر لم نصغ إلى صوته بين الأصوات. وتسير القصص الفرعية على النحو التالي:
الطفل: كان أول من رأى رجل الضوء، وأول من صعد نحوه. يقول الطفل: "شعرت أنه يشبه أبي الغائب منذ سنوات، والذي تقول أمي إنه سافر". ويضيف" عندما رآني فتح ذراعيه، ورفعني عالياً وضمني إليه"، ولكن ما يفرق بينهما الرصاص.
هكذا يكون رجل الضوء الأب الغائب، ولكنه لا يتخلى عن أبنائه.
الفتاة: تنتظر حبيبها، مع أنهم قالوا لها إنه لن يأتي، إلا أنها واثقة من أنه لا يتأخر عن موعده، وتصعد إليه وتعانقه، ومدّ يده وربت على كتفي، مسح دمعة من عيني، وبدأنا نتحدث". ولكن ما يفرق بينهما الرصاص.
تعده أنها ستنتظره، ويتعهد بأنه لن يغيب طويلا. وهكذا يكون الحبيب الوفي.
الرجل: الرجل متزوج وله أبناء، وبدا رجل الضوء رفيق عمره وصديقه الذي لم يره منذ زمن طويل، لقد قاتلا معا في لبنان واختفت أخبار رجل الضوء، ودارت حوله الشائعات. هل استشهد؟ هل أسر؟ هل التجأ إلى الجنوب؟
ويصعد الرجل إلى السور لملاقاة صديقه رجل الضوء، ويتبادلان معا حديثا قصيرا، ولكن ما يفرق بينهما هو رصاص الاحتلال. يسأل رجل الضوء صديقه عن أمه وأبيه- أم رجل الضوء وأبيه ويعد أنه سيعود. إنه الوفي لصديقه ولأمه ولأبيه.
رجل الضوء: يظهر رجل الضوء عندما رأى الناس يبحثون، في ليل القدس الطويل، عن نسمة هواء وضحكة ولحظة فرح. ويقول: "كان لا بد أن أظهر".
ويخبرنا عن نفسه بالتالي:
"لست أنا تماماً من رأيتموه، ولكنني هو بصورة أو بأخرى. لست ملاكا ولست شيطاناً". و"أنا مزيج لقائكم". واللقاء لا يقتصر على أهل القدس. إنه يضم أهل القرى والمخيمات المجاورة.
وكما ذكرت فثمة دلالة رمزية لرجل الضوء تتضح من خلال الفقرة التالية:
"ولدت عندما رأيتموني أضيء القدس. ولكنها لم تكن حياتي الأولى. عشت قبلها حيوات كثيرة في عصور أخرى.
وكما أشرت، فإنه، لحظة ظهر، تقمص رجلا كان واقفاً على السور. وثمة امتداد أفقي وآخر عمودي له. له عائلة وله أطفال وله حبيبة وله أصدقاء، وقد اتضح هذا من خلال القصص الثلاث، كما لاحظنا. ولكنه أيضا ظهر في العصور الأخرى على النحو التالي:
المزارع الكنعاني الذي زرع أول شتلة هنا.
الجندي البسيط الذي حارب الغزاة في فلسطين.
العامل الذي بنى السور.
الفلاح الذي ألقى أول حجر على سفينة الغزاة عام 1882.
وكما له امتداد في المكان، في القدس، له امتداد في الزمان
إنه تموز الفلسطيني، ولد مرات عديدة ومات مرات عديدة. مات على يد الأعداء، ومات على يد الأصدقاء، وله قبور في عمان والشام وبيروت والجنوب. ويشعر أنه يعرف كل واحد من أهل القدس. وهو النور، وحين أطلق الإسرائيليون النار عليه أطلقوها لأنهم لم يتحملوا النور. وحين مات كان موته الجديد. "رحلت بعيداً. إن رجل الضوء، هنا، مثل احمد العربي في قصيدة محمود درويش. احمد الذي يقول:
كلما آخيت عاصمة
رمتني بالحقيبة،
فالتجأت إلى رصيف الحلم والأشعار،
كي أجدد قامتي
المستوى اللغوي في النص:
على الرغم من تعدد الشخوص في النص واختلاف ألسنتهم الاجتماعية: مؤلف، طفل، فتاة، رجل محارب، رجل الضوء الأسطوري الذي عاش في أزمنة متعددة، إلا أن المستوى اللغوي في القصة هو مستوى لغوي واحد. لقد أسلب القاص لغة شخوصه، وأدخلها في مياه نهر (ليثي)، على رأي (ميخائيل باختين). لقد فعل ما يفعله الشاعر الغنائي الذي يطغى على لغته مستوى لغوي واحد.
النص والنصوص الأخرى:
يستطيع المرء أن يبحث في نصوص أخرى للكاتب، ليعزز بعض مقولات النقد البنيوي، ومنها إن ثمة صلة ما يمكن العثور عليها في كتابات كاتب ما، بل وفي نصوص عصر ما، وحين يحاول الناقد أن يتأكد من صدق هذه المقولة في قصص أكرم هنية، فهل يعثر على ما يصل هذه النص بنصوص أخرى للكاتب. أرى شخصيا أن أقرب نصين لهذه القصة هما قصة "القرار" (1980) وقصة "شهادات واقعية حول موت المواطنة" منى. ل"" (1980). في القصة الأولى هناك إشاعة ما تنطلق من البلدة القديمة في نابلس، وهناك رصد لردود الفعل إزاءها، وفي الثانية هناك حادث موت/ انتحار منى. ل، وهناك أيضا رصد لآراء معارفها وأصدقائها وزميلاتها. ثمة في القصص الثلاث حدث بارز لافت، وثمة رصد لردود فعل الآخرين/ إزاءه. وأكرم هنية المهني الصحفي، منذ تخرجه، والسياسي منذ أيام الدراسة في الجامعة، مُنْغَمِس في الواقع، بسبب موقعه، وراصد جيد لآراء الآخرين، إزاء حدث لافت. ولعلني لا أبالغ حين أرغم إنه أبرز كاتب قصصي في فلسطين يدون في قصصه تفاصيل الواقع في الجانب السياسي. الأخبار كلها تأتي إليه وهو في موقعه في الجريدة، وهو بطريقة أكاد أقول مذهلة يرصدها في قصصه، وربما ما كان ليتمكن من ذلك، لولا عمله الصحفي الذي انعكس على قصصه فميزها، وجعل لصوته القصصي اختلافا واضحا.
تحيلنا الكتابة عن صلة النص بنصوصه الأخرى إلى الكتابة عن النص وصلته بنصوص أخرى سابقة ولاحقة. هل يستطيع المرء أن يزعم أن هذا النص متأثر بنصوص سابقة، وأنه ترك أثره في نصوص لاحقة.
تذكر عبارة ليل القدس الطويل المتكررة في القصة، تذكر "قارئ جبرا إبراهيم جبرا بعنوان روايته "صراخ في ليل طويل" (1956)، فهل كان العنوان ترك أثرا على أكرم هنية؟ مجرد تساؤل، مع أن ثمة فارقا بين ما ورد في النصين. الليل الطويل في نص جبرا هو ليل التخلف الاجتماعي، والليل الطويل في قصة هنية هو ليل الاحتلال الجاثم على القدس منذ 1967 حتى تاريخ كتابة القصة، وحتى اللحظة.
تحيل العبارة المتكررة المرء إلى عنوان نصي القصصي "ليل الضفة الطويل". هل كانت العبارة في لا وعيي حين جعلتها عنوانا للنص. كلا النصين يأتيان على واقع الناس تحت الاحتلال.
سئل (امبرتوايكو) من بعض القراء، حين انتهى من كتابة روايته "اسم الوردة"، إن كان قرأ رواية ما فيها شبه بروايته. وكان جوابه: ربما أكون قرأتها، ولكنها لم تكن حاضرة في ذهني وأنا أكتب روايتي. ولا أنكر أنني قرأت قصة هنية وكتبت عنها كتابة عابرة، فهل تركت أثرا عليّ؟ وهل كان لها تأثير على نصي؟ ربما.
كلمة أخيرة:
يكتب أكرم هنية قصته عن فرح أهل القدس في عام 1985، ولكنه يكتب عن فرح لم يكتمل. عن فرح ناقص، فثمة غياب ما سببه الاحتلال، ورجل الضوء في القصة هو الفدائي، وهو الشهيد، وهو ابن هذه البلاد الذي زرعها، وقاوم غزاتها. إنه ليس ملاكا وليس شيطانا. ولعل هذه القصة مثل قصص كثيرة أبرزها بعض قصص مقهى الباشورة لخليل السواحري، وقصة "أبو جابر الخليلي" لتوفيق فياض، وقصة "في الطريق إلى البلدة القديمة" لمحمود شقير، لعل هذه القصة، مثل هذه القصص، ذات أهمية كبيرة لمن يريد أن يدرس مدينة القدس والحياة فيها في ظل الاحتلال. وهي قصص كتبها قاصون عرفوا المدينة وشارعها وأزقتها، والتقطوا تفاصيل الحياة فيها، وكانوا- أي القصاصون- يكتبون عما رأوا وعاشوا وشاهدوا، ولهذا كانت لقصصهم نكهة خاصة.
***
3- العجائبي في القصة القصيرة الفلسطينية : أكرم هنية نموذجا
في كتابه " مدخل إلى الأدب العجائبي " يقتبس ( تزفتين تودوروف ) القول الآتي ل ( بيتر بنزولدت):
"بالنسبة لكثير من الكتاب لم يكن فوق - الطببعي سوى ذريعة لوصف أشياء ما كان لهم أبدا أن يجرؤوا على رسمها بكلمات واقعية " .
هذه المقولة أعادتني إلى الفترة التي عملت فيها محررا في جريدة " الشعب " المقدسية في نهاية سبعينيات القرن العشرين وبداية ثمانينياته .
في تلك الفترة توقف بعض الكتاب عن الكتابة ، لأن ما يكتبونه لا يجد طريقه إلى النشر ، فالرقيب العسكري الإسرائيلي الذي تعرض عليه كتاباتهم لإجازتها غالبا ما كان يعترض على نصوصهم التي يشتم فيها رائحة الدعوة إلى مقاومة الاحتلال ، وكان أكثر الكتاب يؤمنون بأن كتابتهم لا قيمة لها إذا بقيت حبيسة مكاتبهم ولا يقرؤها جمهور القراء ، فالكتاب في ذلك الوقت كانوا يؤمنون بفاعلية الكتابة ودورها وأهميتها في النضال ضد الاحتلال .
شخصيا وجدتني أقدم للكتاب اقتراحا عمليا ، لتجاوز الرقيب والاحتيال عليه ، يتمثل في اللجوء إلى الخيال ، متمثلا في التاريخ ، والكتابة عن فترات تاربخية مشابهة للفترة التاريخية التي نمر بها ، أو تمثل حالات مشابهة للحالة التي نعيشها ، فنكتب عن الفترات التاربخية البعيدة أو الحالات المشابهة ، ونعبر من خلالها عن وضعنا ، فلا نيأس ولا نستسلم ولا ننزوي في الظلال .
من المؤكد أن الفقرة المقتبسة من ( بيتر بنزولدت ) ليست السبب الوحيد لكتابة الأدب العجائبي ، فهناك أسباب أخرى لم تخف على ( تزيفتن تودوروف ) الذي رأى أن للأدب قيمتين ؛ أدبية واجتماعية . لقد ميز ( تودوروف ) بين وظيفة أدبية ووظيفة اجتماعية لفوق - الطبيعي " ، والوظيفة الأدبية غالبا ما تتمثل في الميل إلى التجديد وتحقيق المتعة والدهشة لدى قاريء الأدب . وهو ما تنجزه عموما نصوص أدبية عالمية قديمة وحديثة مثل " ألف ليلة وليلة " ورواية أمريكا الجنوبية التي أدرج كثير من نصوصها تحت مسمى " الواقعية السحرية " ، ولا أغفل هنا عن التذكير بأدب الخيال العلمي ، باعتباره أيضا جنسا أدبيا ... إلخ .
فوق ما سبق فإن المرء حين يفكر في أمر العلاقة بين الخيالي والواقعي - وقد شغل هذا الأدباء وغير الأدباء - يلحظ أن كثيرا مما كان واقعيا صار في باب الخيال ، وأن كثيرا مما عد خيالا صار واقعا ملموسا ، ولا ننسى أن المعتقدات الدينية والكتب السماوية تحفل بالأحداث الواقعية والخيالية جنبا إلى جنب .
لا أريد أن آتي بأمثلة تبرهن على ما سبق فهي كثيرة ، ويكفي الإشارة إلى قصة علي بابا والأربعين حرامي وعبارة " افتح يا سمسم " وقصة الملكين اللذين يعيشان مع الإنسان يحصيان عليه أفعاله . نحن الآن في طريقنا إلى تحقيق ذلك من خلال ااشريحة التي ستزرع في أجسادنا ، ولقد كتبت ، وأنا أكتب يوميات الكورونا ، إن ( بيل غيتس ) حل محل الذات الإلهية بفكرته الشيطانية وبتحقيقها إن نجح في ذلك ، سيحيي ويميت ويشفي ويقتل ويشل ويذل و ... و ... .
في " جدارية " محمود درويش نقرأ السطر الآتي :
" الواقعي هو الخيالي الأكيد "
وهو بناء على ما سبق سطر يمكن عكسه ، فالخيالي صار واقعيا .
لا أريد أن استطرد في التنظير ، فأنا أرغب في التحدث عن العجائبي في قصتنا القصيرة الفلسطينية من خلال نموذج محدد هو قصص القاص أكرم هنية .
ولد هنية في مدينة رام الله في العام ١٩٥٣ ودرس الأدب الانجليزي في جامعة مصرية ما بين ١٩٧١ و ١٩٧٥ وعاد إلى الأردن ، فعمل في صحافتها عامين تقريبا ثم استقر في رام الله ، فعمل في جامعة بير زيت ثم في صحيفة " الشعب " وأبعدته سلطات الاحتلال الإسرائيلي في العام ١٩٨٦ . خلال الأعوام ١٩٧٨ و ١٩٨٦ أصدر أربع مجموعات قصصية صدرت معا في ١٩٨٦ تحت عنوان واحد هو " طقوس ليوم آخر " ، وقد لجأ في بعض هذه القصص إلى كتابة الواقعي من خلال اللاواقعي " فوق - الطبيعي " / العجائبي .
هل يعود السبب فقط إلى التحايل على الرقيب العسكري أم أن ثمة أسبابا أخرى دفعته إلى ذلك ؛ أسباب أدبية ؟
لم ينشر هنية أيا من قصصه في الصحف ، وبالتالي لم يتعرض إلى مضايقات الرقيب الإسرائيلي ، عدا أنه كتب ، بأسلوب واقعي ومباشر ، قصصا كثيرة تقارب الواقع .
ما السبب إذن الذي حدا به إلى اللجوء إلى الغرائبي والعجائبي وفوق الطبيعي ؟ أهو رغبته في التجديد أم تأثره بالآداب العربية ؛ قديمها وحديثها ، وبالأدب العالمي الذي أشار في قصصه إلى بعض عناوينه وأسمائه ؟
هل رغب أيضا أن تعيش قصصه في ذهن قارئه لفترة طويلة ، فالغريب والعجيب ، لا العادي ولا المألوف ، هو ما يثبت في الذاكرة ؟
سوف أتوقف هنا أمام أربع قصص قصيرة من قصصه قارب فيها اليومي والمألوف بأسلوب يعتمد على العجائبي والغرائبي وفوق - الطبيعي ، والقصص هي :
- بعد الحصار ... قبل الشمس بقليل .
- تلك القرية ... ذلك الصباح .
- مؤتمر فعاليات القرية يصدر نداء هاما .
- عندما أضيء ليل القدس .
القصة الأولى : " بعد الحصار ... قبل الشمس بقليل " .
نشرت هذه القصة في المجموعة القصصية الأولى للقاص التي صدرت بعنوان " السفينة الأخيرة ... الميناء الأخير " في العام ١٩٧٩ .
في العام ١٩٧٩ كان مر على احتلال القدس اثنا عشر عاما تعرضت المدينة منذ اليوم الأول للاحتلال إلى التهويد ، فقد هدمت بيوت مثل بيوت حي المغاربة ، وعبدت مساحات مثل بوابة مندلباوم التي كتب عنها في قصص سميرة عزام واميل حبيبي ، وبديء بإنشاء أحياء يهودية في القدس المحتلة حديثا ، وتعرض المسجد الأقصى في العام ١٩٦٨ إلى إشعال النار فيه من مستوطن .
أكرم هنية الذي أخذ يعمل في الصحافة العربية في القدس شاهد الكثير من هذا بحكم ذهابه اليومي إلى المدينة ، ولعله توقع أن يأتي يوم ، أمام الممارسات المذكورة ، يصحو فيه أهل البلدة القديمة فلا يجدون الصخرة والأقصى .
توقعاته هذه ، وقد صاغها وعبر عنها عبر حدث متخيل ، تتحقق رويدا رويدا منذ عقود ، فالإسرائيليون يحفرون تحت الصخرة والأقصى بحثا عن هيكل مزعوم يقولون إنه يعود إليهم ، وهم عدا ذلك يريدون اقتسام المكان مع المسلمين المقادسة ، وإن استمرت محاولات الحفر فقد يأتي يوم ينهار فيه المكانان ويصحو أهل القدس فلا يجدانهما .
لم يعبر هنية عما جال بخاطره وتوقعه بأسلوب واقعي مباشر . لقد لجأ إلى الأسلوب الغرائبي ، وأعتقد أنه كان ذا تأثير أكثر على المتلقي . هل أزعم أن لجوءه إلى الخيالي للتعبير عن الواقعي هو ما جعل القصة تركن في ذهني طويلا أم أن أمر ديمومتها يعود إلى كثرة كتابتي عنها ؟
إن صحوة أهل مكان على مكانهم ، وقد اختفى ، فكرة تطرق إليها في الأدبيات المقدسة وغير المقدسة ، والقدس نفسها مدينة من المدن التي دمرت في التاريخ ثماني عشرة مرة ، ومثلها عاد و " إرم " ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وسد مأرب ، ومدن عالمية صحا أهلها وقد دمرها زلزال ما أو ( تسونامي ) ما .ولكن مثل هذا لم يحدث في القدس في سبعينيات القرن العشرين ، فالصخرة والأقصى لم يختفيا أصلا وما زالا قائمين .
ثالثة الثانية : قصة " تلك القرية ... ذلك الصباح "
أيضا ظهرت هذه القصة في مجموعة " السفينة الأخيرة .. الميناء الأخير " .
لم يقتصر الاستيطان اليهودي على مدينة القدس وحدها ، فقد أقيمت مستوطنات عديدة على أراضي فلسطينية أخرى في غزة والضفة الغربية ، وصادرت إسرائيل لإقامتها آلاف الدونمات . أقيمت هذه المستوطنات بالقرب من المدن الفلسطينية وعلى أراضي قريبة من عشرات ، إن لم يكن مئات ، القرى . وجرفت إسرائيل الأراضي وسوت أماكن عديدة بالأرض وسفلتت الطرق بعد شقها ، ما دفع الفلسطينيين إلى المقاومة بأشكال مختلفة . وقد عبر الشاعر راشد حسين عن إصرار الفلسطيني على المقاومة لدرجة شملت تمرد الشيخ والعكاز والححر :
" ولو قضيتم على الثوار كلهم
تمرد الشيخ والعكاز والححر " .
وذهب أكرم هنية إلى ما هو أكثر من ذلك ، فجعل الأموات تنهض من قبورها لتتمرد وترفض الاستيطان .
هل سينهض الأموات من قبورهم ليقاوموا الاستيطان ؟
مر على موت أبو محمود القاسمي عشرون عاما ، ولم يعكر عليه موته إلا أصوات جرافات الاحتلال تحفر في أرض المقبرة التي دفن فيها .
ينهض أبو محمود من قبره على أصوات الجرافات ويرى بشرا غريبي الملابس وجرافة تجرف القبور ، فيسأل عما يجري ، ويعرف أن اليهود يريدون إقامة مستوطنة ، ومن خلال الحوار ينصب له رجال المخابرات فخا ، فيسألونه عن ماضيه ومقاومته الانتداب وبندقيته ، ويعرفون أن ابنه كمال سار على خطاه فقاوم المحتلين ، وهنا يقرر الجنود إبعاده إلى الأردن ، فيرفض ويلقي بجسده في النهر .
يظهر لجوء القاص إلى الخيال واللامعقول / العجيب / الغريب / فوق الطبيعي في بناء قصته على شخصية متوفاة منذ عشرين عاما تصحو من موتها وتحاور الجنود وترفض الامتثال لأوامرهم . إن قصة قيام موتى وبعثهم قصة لها شبيهها في التراث ووردت في بعض الكتب المقدسة وكانت مثارا للإعجاز وبرهانا للإقناع بقدرة الخالق ، وهي قصة عرفتها الآداب العالمية . نام أهل الكهف ثلاثمائة عام ثم نهضوا من موتهم ، وبعث العازر من موته وبعض المؤمنين ينتظرون عودة المسيح والمهدي المنتظر و ... و ... .
وكما كتبت عن القصة الأولى ، فإن الحدث المتخيل هنا يعمر في الذاكرة لفترة أطول ، ويعزز فكرة المقاومة واتساعها لتشمل من ذكرهم راشد حسين في بيته .
القصة الثالثة :" مؤتمر فعاليات القرية يصدر نداء هاما "
هذه القصة ظهرت في مجموعة " هزيمة الشاطر حسن " الصادرة في العام ١٩٨٠ .
بعد حرب ١٩٧٣ شهدت الضفة الغربية وقطاع غزة موجة هجرة شباب كبيرة إلى دول الخليج وأمريكا بحثا عن فرص عمل . لقد هاجر شباب كثيرون تاركين زوجاتهم وأولادهم باحثين عن فرص عمل ، وقد يعودون وقد لا يعودون ، وقد ينسون أبناءهم في أثناء غربتهم ويتزوجون بنساء أخريات . لقد ترك هؤلاء أرضهم بورا ليصادرها الإسرائيليون ، ونساءهم بلا حرث وأولادهم بلا آباء .
يبني القاص قصته على حدث عجائبي ، والعجائبي ، كما يقول ( تودوروف ) نقلا عن ( كاستكس ) يتميز " بتدخل عنيف للسر الخفي في إطار الواقعية " وهو كما يكتب ( لويس فاكس ) يحب " ان يقدم لنا بشرا مثلنا ، فيما يقطنون العالم الذي توجد فيه ، إذا بهم فجأة يوضعون في حضرة المستغلق عن التفسير " / سر خفي / مستغلق عن التفسير / اللامقبول .
الحدث اللامعقول العصي على التفسير المستغلق في القصة هو تشبث الأجنة برحم الأمهات ورفض الخروج منها إلى الحياة إلا بعودة الحياة .
تخفق القابلتان أم اسماعيل وأم محمد في توليد أربع نسوة ، ويخفق أطباء المشفى في توليد اثنتين من النسوة الأربعة ، ولم يسبق أن حدث شيء مثل هذا ، فما هو السر وما الأمر المستغلق اللامقبول ؟ إن القابلتين والأطباء لم يعرفوا حالات مثل هذه ، وهنا يبدأ البحث عن السر لفك المستغلق .
يجتمع رجال القرية ويتدارسون الأمر وينظرون في الشأن الأسري للأجنة الأربعة ، ويكتشفون السر . الآباء في الغربة والأجنة لا يريدون القدوم إلى عالم بلا آباء .
القصة الرابعة :" عندما أضيء ليل القدس "
كتبت هذه القصة في منتصف ٨٠ ق ٢٠ وتأتي على مدينة القدس في شهر رمضان ، حيث أخذ المقدسيون يقضون ليالي رمضان خارج بيوتهم محتفلين بالحياة .
في أثناء فرحهم واحتفالهم بالحياة يظهر في المدينة " الرجل الضوء " فيلتفت إليه المواطنون ويرى فيه كل واحد منهم من يفتقده وما يفتقده . إنه الشخص الذي يبحثون عنه والأمل المنشود لكل مقدسي :
" وصرخت امرأة كان يحيط بها أطفالها : إنه ابني الذي استشهد في لبنان .
وهتف رجل مأخوذ بغرابة ما يجري : إنه المهدي المنتظر .
وقالت امرأة عجوز : إنه ابني التائه في المنفى.
وقال شاب بسرعة حاسمة : إنه شقيقي المعتقل في السجن .
وقال آخر : إنه ولي من أولياء الله في هذه الليلة المباركة.
وتقدم طفل للأمام وسط الجموع : إنه أبي الغائب في السجن .
وقالت امرأة وهي ترسم علامة الصليب : يا عذراء . إنه يسوع . يسوع يا مخلصي .
وارتعش جسد فتاة لم تحاول مقاومة دموعها وهي تهمس : إنه حبيبي . أعرفه . إنه فارسي .. انتظرته طويلا . ها قد أتى . ها قد أتى . " .
ولنلاحظ هتاف الرجل . لقد هتف مأخوذا بغرابة . ثم إن عيون المحتشدين كانت " مشدودة لما يحدث " ورجل الضوء الذي نصغي في القصة إلى صوته " لست ملاكا ولست شيطانا . أنا أنتم . وانبعثت عندما كنتم تصنعون مهرجان الألوان في هذا الليل الطويل . لذلك عرفني الجميع . أنا من ذكرتم ولكن ليس بالضبط . أنا مزيج لقائكم ، ولدت عندما رأيتموني أضيء القدس . لكنها لم تكن حياتي الأولى . عشت قبلها حيوات كثيرة في عصور أخرى . " .
و
" ولدت مرات عديدة ، ومت مرات عديدة ، وقتلت مرات عديدة على يد الأعداء والأشقاء . لي قبر يضمني في عمان ، وآخر في الشام ، وآخر في بيروت ، وقبر آخر في الجنوب و ... . " .
والرجل الضوء في النهاية هو الفلسطيني الكنعاني وهو الحلم الفلسطيني المنشود لأبناء الشعب الفلسطيني . إنه العلم الفلسطيني يرفرف عاليا فوق أسوار القدس فلا يروق للإسرائيليين فيطلقون النار عليه .
لقد وظف أكرم هنية في بناء قصته اللامعقول / الخيالي / الغرائبي / العجائبي / فوق الطبيعي ليقول من خلاله الواقعي .
والسؤال هو :
هل كان هنية استثناء في هذا الجانب ؟
في جانب القصة القصيرة كانت كتابته لافتة ، ولكن علينا ألا ننسى توظيف الغرائبي في رواية إميل حبيبي " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل " ١٩٧٤ ، ومن المؤكد أنه سيحضر لاحقا في أعمال أدبية كثيرة.
ا . د. عادل الاسطة
نابلس / فلسطين .
الثلاثاء
١ حزيران ٢٠٢١
* ( نص الورقة التي شارك بها أ. د. عادل الاسطة في العام ٢٠٢١ في مؤتمر الأدب العجائبي في معهد القاسمي / باقة ، وقد نشرت في كتاب المؤتمر )
***
4- القدس... الأدب والنبوءة
لا أدري إن كان قراء سميح القاسم يتذكرون قصيدته "ضوء جديد للقصر العتيق"، وآمل ألاّ تخونني ذاكرة العناوين، ولو لم يتخل الشاعر عنها، لعدت إلى أعماله الكاملة لأتأكد من عنوانها، ولكن ماذا أفعل وقد أهديت ديوان الحماسة بأجزائه الثلاثة إلى مكتبة جامعة النجاح الوطنية من ناحية، وغدوت كسولاً من ناحية ثانية؟
حرّض سميح القاسم، يوم كان شيوعياً، الفقراء، وطالبهم بأن يثوروا على واقعهم البائس، وكان مؤمناً أن الدولاب الأكبر، دولاب الإمبريالية على ما أعتقد، سينفتل.
كانت أشعار الشاعر، كما يقول عنوان قصيدته، تلقي الضوء الجديد على القصر العتيق. وكان ماركسياً، والماركسية على رأي مظفر النواب، أم العرافة، كما كتب في قصيدته التي أهداها إلى الضابط الشهيد ابن مصر العربية "لقد قبضوا كلهم/ وأحطهم من يدافع عن قبضة المال/ مدعياً أنها الماركسية أم العرافة".
قصيدة سميح القاسم تلك هي التي جعلتني، في بداياتي النقدية، أكتب مقالة عنوانها "مرحلة النبوءة في الحماسة"، وقد أدرجها الشاعر في أعماله الكاملة (مجلد 7/ في دائرة النقد)، وفي مقالتي، في حينه، كنت متأثراً بما كان شائعاً في حينه في الساحة النقدية العربية، وبالنقد اليساري وغير اليساري، وربما ترك كتاب صلاح عبد الصبور الشاعر المصري "حياتي في الشعر" أثره فيّ، وذلك حين ربط بين الفيلسوف والنبي والشاعر، وذهب إلى أن مهمة الثلاثة هي إصلاح العالم.
محمود درويش الذي كتب في مراحله المبكرة: "نحن أدرى بالشياطين التي تجعل من طفل نبياً" عاد في جداريته (2000) ليكتب: "لست النبي لأدعي وحيا/ وأعلن أن هاويتي صعود" متخلياً عن فكرة الربط بين الشاعر والنبي. لقد أدرك أنه لا يملك بمفاتيح هذا الكون، كأنه سارد عليم إله، أو شاعر عليم إله، إذا استعرنا من الرواية ونقدها مصطلح السارد الإله. ولقد أعلن أنه ليس نبياً ليعلن أن هاويته صعود. هل تذكرون مقطعه الشهير بعد هزيمة حزيران 1967؟
خسرت حلماً جميلاً/ خسرت لسع الزنابق
وكان ليلي طويلاً/ على سياج الحدائق
وما خسرت السبيلا
يومها لم ير في هاوية حزيران هاوية، فلم يخسر السبيل رغم خسارة الحلم. هل اختلف عنه توفيق زياد الذي كتب: "خطوة هذه/ وكم يحدث أن يكبو الهمام/ إنها للخلف خطوة/ من أجل عشر للأمام كان الشعراء الماركسيون في حينه "وعّاظاً ودعائيين وأنبياء المستقبل" والأوصاف السابقة هي لـ (رينيه ويليك) و(أوستن وارين) صاحبي كتاب "نظرية الأدب".
إنهم يملكون منظوراً مستقبلياً للعالم. هل الشعراء أصحاب النبوءة هؤلاء أصحاب نبوءة حقاً أم أن الواقع قال عكس ما يقولون؟
حذف سميح القاسم قصيدته من أعماله الكاملة، واختلفت أشعاره في آخر سنواته عن أشعاره التي كتبها وهو ماركسي، وقال درويش إنه ليس النبي ليدعي وحياً، فهل كان مظفر النواب مثلهما؟
"هذي الأمة لا بد لها أن تأخذ درساً في التخريب" هكذا قال مظفر في إحدى قصائده، فهل ما يحدث، الآن، في العالم العربي إلاّ تحقيق لهذا السطر. ها هي الأمة العربية تأخذ، حقاً، درساً في التخريب، وها هو الخراب يحل بالأمة "سيكون خراباً، سيكون خراباً، هذي الأمة لا بد لها أن تأخذ درساً في التخريب" وما زال صوت مظفر يرن، بحزنه، في أذني، وغالباً ما أتساءل، وأنا أتابع نشرات الأخبار، إن كان مظفر صاحب نبوءة.
ربما الآن، نتذكر أشعار مظفر عن القدس وفيها، وربما يكرر بعضنا: القدس عروس عروبتكم. بل ولطالما كررنا السطر، وهو سطر قال بعض الشعراء أبياتاً تشبهه في فترة احتلال القدس أيام الحروب الصليبية "تسعون عاماً والقدس تصرخ" ولكن كان الحكام صمّاً وعمياناً.
في العام 1979 أصدر القاص أكرم هنية مجموعته القصصية "السفينة الأخيرة.. الميناء الأخير" وكان من ضمنها قصة "بعد الحصار.. قبل الشمس بقليل"، فهل كان القاص يتنبأ بما يجري الآن؟
كان هنية يوم كتب قصته رئيساً لتحرير جريدة الشعب، وكان يذهب إلى القدس يومياً، وستكون هذه محور بعض قصصه في مجموعاته اللاحقة، وقد كان ينظر، فيما حوله، ويرى القدس تحاط بالمستوطنات، بل ويراها تحفل بالإسرائيليين، حتى أن المرء ليشعر وهو يتجول فيها بأنه سيكون، ذات يوم، غريباً فيها، لا قريباً منها كأنها مدينته. وهو عموماً ما أوحى إليّ في العام 1986 لكتابة قصة قصيرة عنوانها "تلك القدس.. ذلك السبت"، حيث زرتها يوم سبت وشعرت أنها ليست المدينة التي أعرف. وسيكتب تميم البرغوثي في العقد الأول من القرن الحالي قصيدته الشهيرة عن القدس، القصيدة التي يصغي المرء إليها في هذه الأيام في الحافلات العمومية.
في قصته "بعد الحصار... قبل الشمس بقليل" يتنبأ هنية بما يؤول إليه الأقصى الآن. هل كانت نبوءته إلاّ اعتماداً على ما يشاهده؟ صحيح أن فكرة القصة تشبه فكرة قصة ليوسف إدريس، فالأخير، كما سمعت، كتب قصة ملخصها أن أهل القاهرة أفاقوا من نومهم، ذات صباح، ولم يجدوا الأهرامات. الأهرامات اختفت. وأهل القدس يصحون ذات صباح فيلاحظون أن الصخرة انسرقت. وكانت المستوطنات في تلك الفترة بدأت تحيط بالمدينة، ولم يكن شراء المنازل في البلدة القديمة قد بدأ يستشري. وهذا ما حدث لاحقاً، وأتى عليه بعض كتابنا مثل أحمد رفيق عوض في روايته "مقامات العشاق والتجار" (1996).
يصحو أهل القدس ويذهبون إلى أعمالهم ويمارسون طقوسهم وشعائرهم، ويلاحظون أن مسجد الصخرة قد اختفى من مكانه. آمنة وأبو فؤاد وأبو مازن وسليمان الخباز أصيبوا بالصدمة، ومثلهم أهل المدينة الذين تعالت أصواتهم:
" ـ ربما يريدون إقامة مستوطنة جديدة مكانه. ـ أو بناء حي جديد. ـ ربما وجدوا مخربين فيه فأخذوه بمن فيه ـ ربما اختطفته طائرات عربية ونقلته إلى إحدى العواصم لتخليص العرب من الشعور بالحاجة لتحرير القدس والمقدسات ... ... ... هل سيغيرون اسم القدس؟ أين سيحتفلون بالإسراء والمعراج؟".
والناس بعضهم، الآن، يتساءلون أيضاً: ماذا سيفعل العرب؟ (والعرب في حال لا تسر أحداً، وهم في حروبهم الداخلية ماضون).
هل الأدب الفلسطيني وحده من تنبّأ بهذا؟ وهل خلا الأدب الصهيوني من نبوءة أيضاً؟
في العام 1902 أصدر (ثيودور هرتسل) روايته "أرض قديمة ـ جديدة"، وفيها يتخيل فلسطين بعد عشرين عاماً من سيطرة الحركة الصهيونية عليها. وسيكون للقدس نصيب من المخيلة، وسيكون أيضاً للهيكل نصيب آخر. ما تخيله (هرتسل) تنفذه إسرائيل الآن، ومن قبل، ولكن خياله كان ناقصاً وعاجزاً في نواحٍ أخرى. لقد تنبّأ بأن يرحب العرب من سكان البلاد بالحركة الصهيونية ومشروعها، ولم يكتب عن النزاعات والحروب التي سببها مشروعه الحضاري الذي دمر شعباً كاملاً. هل خلت رواية (هرتسل) من الإتيان على بناء الهيكل؟
في قصيدته "لاعب النرد" يكتب درويش "والوحي حظ المهارة إذ تجتهد"، ولكن كما كتب كنفاني في روايته "إن خطأ + خطأ لا يساويان صحاً".
عادل الأسطة
2014-11-02
***
5- عن «شارع فرعي في رام الله» لأكرم هنية
«شارع فرعي في رام الله» هو عنوان الإصدار الجديد للقاص أكرم هنية. كان القاص أصدر أولى مجموعاته القصصية في 1979 في رام الله تحت عنوان «السفينة الأخيرة… الميناء الأخير» وفيها كتب عن موضوعات تخص العالم العربي وأخرى تقارب الاحتلال، والعلاقة بين الشاعر والسلطة وزيارة أنور السادات الرئيس المصري للدولة العبرية وسخريته من الثوار وموقف هؤلاء من خطوته التي أقدم عليها. واستوحى الكاتب بعض قصص التراث مثل قصة الشاعر النابغة الذبياني وعلاقته بالنعمان بن المنذر ليقول من خلالها ما أراد قوله عن العلاقة الملتبسة مع الحاكم.
ووظّف في قصصه تلك عنصر الخيال واللامعقول الذي غدا سمة مميزة لقصص الكاتب، سمة ستبرز لاحقاً في مجموعاته القصصية كلها.
المجموعتان الثانية «هزيمة الشاطر حسن»، 1980، والثالثة «وقائع التغريبة الثانية للهلالي»، 1981، تقاربان تقريباً كثيراً من الموضوعات التي قاربها في مجموعته القصصية الأولى، ولكنهما تخوضان أكثر في واقع الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي وتغوصان في حياة أهل الضفة الغربية ومعاناتهم أكثر وأكثر، ولا عجب، فالقاص عاد من العالم العربي واستقر في رام الله وغدا نشيطاً في الحياة السياسية.
لم يتخلّ القاص عن التجريب وعنصر المخيلة واللامعقول، وإلى جانب هذا برز الحس التحريضي الدعائي في القصص التي كتبها. كما لو أن الأديب على رأي الماركسيين يحارب من خلال الكلمة.
البقاء في الأرض ومقاومة الاحتلال ومحاربة الشخصية الفلسطينية السلبية كسمسار الأرض وبائعيها وتمجيد المقاومة، هذه كلها هي موضوعات قصصه وأفكارها، وحتى النموذج النسوي الذي برز في قصصه كان نموذجاً إيجابياً مقاوماً.
سينقطع أكرم هنية عن الكتابة لمدة خمس سنوات وما عاد يصدر كل عام مجموعة قصصية. في العام 1986 ستصدر في قبرص مجموعاته القصصية الثلاث السابقة مع مجموعة جديدة عنوانها «عندما أضيء ليل القدس» ستصدر تحت عنوان هو «طقوس ليوم آخر» وستحضر القدس في قصصه بشكل لافت وكانت حضرت من قبل في قصة «بعد الحصار… قبل الشمس بقليل»، في المجموعة الأولى. كما لو أن القاص كان يتنبأ بما ستؤول إليه المدينة التي أخذ يتردد عليها يومياً منذ 1979 حتى تاريخ إبعاده في العام 1986، أستثني فترة الإقامة الجبرية التي فرضت عليه في رام الله في 1981 و 1982.
ستحتل القدس في قصصه مكانة لم تحتلها مدينة رام الله التي ستحضر بقوة وبشكل لافت في قصته الجديدة «شارع فرعي في رام الله»، 2017. نذ إبعاده عن فلسطين لم يكتب هنية القصص لمدة خمسة عشر عاماً، وفي 2001 سيصدر مجموعته القصصية الخامسة «أسرار الدوري» التي تأتي بعض قصصها على حياته في تونس -وإن بشكل باهت- ولكن القاص سيكتب عن مرحلة ما بعد أوسلو؛ مرحلة السلام وما ألمّ بالمجتمع الفلسطيني إثر عودة الفلسطينيين الجزئية إلى الضفة، وهي عودة أثارت إشكال
لم تستمر فترة الهدوء التي جلبها اتفاق أوسلو فسرعان ما اندلعت انتفاضة الأقصى وبدأت المواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وسيكون لهذه المواجهات آثارها وعواقبها وسيستشهد الفلسطينيون وسيموتون موتاً سريرياً. لا وقت للحب وسحره فالحواجز على الطرق والجنود الإسرائيليون مازالوا يقيمون الحواجز، ما يدفع الشباب الفلسطيني إلى مقاومتهم.
ستشغل انتفاضة الأقصى تفكير الكاتب وسيكون لها حضور في مجموعته القصصية السادسة «دروب جميلة» 2007، وسيذهب القاص إلى أماكن جديدة وأزمنة لم يكن شاهداً عليها. سيكتب في «دروب جميلة» عن يافا قبل العام 1948 ليدحض مقولات صهيونية تذهب إلى أن فلسطين أرض بلا شعب وأنها أرض قاحلة مجدبة خربة جاء اليهود الصهيونيون ليعمروها. لقد كتب هنية عن يافا وازدهار الحياة فيها وعن الثقافة والسينما والكتب.
شارع فرعي في رام الله:
منذ «دروب جميلة» لم ينشر القاص أية قصة قصيرة أو أي عمل أدبي إلا ما كتبه في 2008 عن الراحل محمود درويش. لقد عاش كرئيس تحرير جريدة الأيام في الظل، ونادراً ما أجريت معه مقابلة أدبية، بل ونادراً ما شارك في نشاط أدبي. لقد كان شبه منقطع عن الحياة الأدبية فلا مؤتمرات ولا ندوات ولا مقابلات ولا مراجعات لكتب يقرؤها. كما لو أنه اكتفى بعمله صحفياً.
هذا الشهر فاجأنا بصدور نصه الجديد «شارع فرعي في رام الله» الذي أدرجه تحت دال "قصة". هنا يثير المرء إشكالية التجنيس. هل أخذ القاص يجرب كتابة نص أدبي مبتعداً عن فن القصة القصيرة الذي أخلص له؟
«شارع فرعي في رام الله» تبدو قصصا» قصيرة منفصلة عن بعضها البعض. كما لو أنها أجزاء لا صلة بينها ولكن القارئ ما إن ينتهي من قراءتها حتى يلحظ وحدة السارد والمكان وصورة رام الله بين زمنين مختلفين فيها. كما لو أنها رواية. إنها تذكّر قارئ الأدب الفلسطيني بأعمال أدبية فلسطينية سابقة دُرست مرة على أنها قصص قصيرة وثانية على أنها رواية، مثل «سداسية الأيام الستة» لإميل حبيبي و«مقهى الباشورة» لخليل السواحري. أجواء حرب حزيران وما نجم عنها هي المشترك في قصص السداسية، ومقهى الباشورة والقدس وحرب حزيران هي المشترك في قصص «مقهى الباشورة».
هل كان ما سبق حاضراً في ذهن أكرم هنية؟
سيكتب أكرم هنية عن رام الله التي ولد فيها وعاش فيها لسنوات طويلة، ثم غادرها إلى الدراسة في القاهرة وعاد إليها وأُبعد عنها لسنوات عشر تقريباً ثم عاد ليستقر فيها منذ 1996 وما زال مقيماً فيها. ستشغل رام الله، لا القدس خلافا للسابق، تفكير الكاتب وسيخصها بكتابه الجديد.
رام الله في «شارع فرعي في رام الله» ستحضر لأول مره في عناوين مجموعات الكاتب، وستحضر في القصة كما لم تحضر في قصصه السابقة كلها، فحضورها في مجموعاته الست السابقة كان ضعيفاً وباهتاً أيضاً. ستحضر رام الله بقوة، ومنذ 1997 سيبدأ التركيز على هذه المدينة بشكل لافت حتى أننا أخذنا نكتب عن سرديات رام الله.
يكتب هنية عن رام الله في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ويكتب عنها في العقد الثاني من القرن الحالي، ويرصد التغيرات التي طرأت على البشر والحجر. ويختار الكاتب مهندساً معمارياً ولد في رام الله وعرفها حياً حياً وشارعاً شارعاً وسينما سينما، ويكتب عن جيلين، بل ثلاثة أجيال عاشت في رام الله وكانت نظرتها للمدينة وعلاقتها بها شبه مختلفة.
«شارع فرعي في رام الله» ستنضم إلى سرديات مريد البرغوثي «رأيت رام الله»، 1998، وفاروق وادي «منازل القلب»، 1998، ولكنها تختلف عنهما في أنها ترصد ما ألم بالمدينة في القرن الحادي والعشرين.
هنا يتذكر المرء قصيدة محمود درويش في المدينة وسطره "مدن تبنى على عجل" ولكنه -أي المرء- سيلحظ وجهة نظر أخرى، فالقاص الذي يختفي وراء المهندس ماجد -وفيه من ماجد الكثير، بل إن في ماجد من القاص الكثير- لا يرى في رام الله مدينة موحشة. إنه يرى فيها مدينة جميلة يمكن العيش فيها.
****
6- «شارع فرعي في رام الله» و«اخطية»
تحيل قصة أكرم هنية الجديدة "شارع فرعي في رام الله" قارئ الأدب الفلسطيني إلى نصوص أدباء فلسطينيين منهم إميل حبيبي في روايته "اخطية" 1985 - تماماً كما تحيل قارئ قصص أكرم هنية نفسه إلى قصصه السابقة.
هل يعد الربط بين قصة "شارع فرعي في رام الله" و"اخطية" نوعا من التزيّد والمبالغة والذهاب بعيداً في قراءة النص؟
لا أدري إن كان هذا خطر ببال المؤلف.
لم تعد المقولة النقدية القديمة "المعنى في بطن الشاعر" هي الأكثر شيوعاً كما كان الأمر في قرون وعقود خلت، فلقد شاعت أيضا مقولات نقدية جديدة تهمل المؤلف وتحل القارئ محله.
لقد غدت العلاقة بين النص والقارئ، فالنص مثير والقارئ يتلقاه ويستجيب له بناء على ثقافته، كما يقول (فولفجانج ايزر) أحد أقطاب نظرية التلقي الألمانية التي شاعت في أواخر 70 ق 20، وما زال لها حضور لافت.
باعتباري قارئاً لـ"شارع فرعي في رام الله" فإن العلاقة غدت بيني وبين النص، وعليه سأقدم اجتهاداً ما، قد يروق للمؤلف وقد لا يروق له، وقد يقول إن ما خطر ببالي لم يخطر بباله، وله ذلك.
وأنا أقرأ القصة تذكرت "اخطية" وأخذت أتساءل عن وجه الشبه والاختلاف بين العملين، وأمعنت النظر في هذا.
لم أعد قراءة "اخطية "من جديد فقد اتكأت على ما بقي منها في الذاكرة - وإن تصفحت بعض صفحاتها مجددا.
تقوم "اخطية "على فكرة الكتابة عن حيفا التي كان إميل حبيبي يقيم فيها يوم كتب الرواية ومقارنتها بحيفا في زمن مضى يعود إلى ما قبل العام 1948.
ما بين 1948 و1985 خمسة عقود تقريبا كان إميل شاهدا عليها.
لقد عرف المدينة في زمنين؛ زمن العرب وزمن الدولة العبرية، وأخذ وهو في المدينة زمن الإسرائيليين يحنّ إلى المدينة نفسها زمن العرب، وقد أشار إلى اختلاف الزمن في الرواية، وأشار في التصدير إلى أنه يحنّ إلى حيفا وهو في حيفا.
إنه يشير إلى مرور الزمن منذ الصفحات الأولى للرواية، ويعود ليكتب عن الطفولة المبكرة وحياته في زمن كون المدينة عربية قبل أن تهوّد.
يتحسّر حبيبي على زمن مضى؛ لأنه زمن البراءة والطفولة، ويرثي لزمن آخر جديد فقدت فيه البراءة واستبدلت غزلان المكان ببناجرة وديانات - نسبة إلى بن غوريون ودايان - ويستطيع المرء أن يقتبس فقرات كثيرة يبدو فيها الحنين أوضح ما يكون. (مثلاً ص 70 و71 من طبعة الكرمل 1985):
"كانت الدنيا حلالا، وكان العيش فيها حلالا. ولم نكن نعرف من الحرام ما نتجنبه سوى النميمة. وكنا نتجنبها مهما غلا الثمن........
كانت الجيرة حلالا والجار من أهل البيت، وكان الجار ينتسب إلى جاره. و...و...و...".
يحن إذن إميل إلى المكان وهو فيه، ولكن يجب ألا ننسى أن المكان غير أكثر سكانه وتغيرت أسماء شوارعه، كما حلت لغة أخرى محل العربية وإن ظل العرب الباقون يتكلمون لغتهم العربية التي اختلطت بها لغة أخرى.
كما لو أن إميل حبيبي غير قادر على استيعاب ما جرى وما آل هو وبقية العرب إليه.
الماضي هو الجميل وزمن الطفولة هو الزمن الذهب وأما الحاضر فهو بائس.
هل يختلف الأمر كثيراً في قصة أكرم هنية التي صدرت بعد 32 عاماً من صدور رواية إميل، وإن اختلف فأين تكمن مواطن الاختلاف؟
يكتب هنية قصته عن رام الله، ويرصد التغيرات التي طرأت عليها منذ 50 و 60 ق 20 حتى العام 2016 - التغيرات التي ألمت بالمدينة بعد مجيء السلطة الفلسطينية.
وكما عاش إميل في حيفا في زمنين، فإن هنية عاش في رام الله في زمنين، والكتابة عن المكان في زمنين هي ما يسم عمله من ألفه إلى يائه.
يرصد الكاتب التغيرات التي طرأت على البشر والحجر؛ على العادات والتقاليد واللباس وعلى المباني.
لقد بدت رام الله في العقدين الأخيرين، لمن يعرفها، مدينة مختلفة كليا.
المدينة التي كانت أقرب إلى قرية فيها خدمات مدينة غدت عاصمة وألم بها ما ألم بمدن شهدت تطورات مشابهة، مثل عمان ودبي.
التطورات التي حدثت استساغها قليلون ولم ينسجم معها كثيرون؛ من سكان المدينة نفسها وممن قدم إليها من الريف، والأخيرون يذكرون بالشعراء العرب الذين وفدوا على المدن الكبيرة من الريف، مثل أحمد عبد المعطي حجازي وبدر شاكر السياب. - هنا نتذكر رواية عباد يحيى "جريمة في رام الله" حيث غادر الريفي المدينة وعاد إلى قريته وإن كانت عودته لا تؤيدها المعطيات على أرض الواقع.
هل يحن أكرم هنية إلى رام الله في 50 و60 و70 ق 20، كما حن إميل حبيبي إلى حيفا زمن كون المدينة عربية؟
لا يكتب هنية قصة سيرية - تبدو اخطية في جزء كبير منها أشبه بسيرة ذاتية لإميل - إن الكاتب يختفي وراء المهندس ماجد ويترك له أن يقص عن حياته في رام الله في زمنين مختلفين، وأحيانا، ومن خلال حوارات عديدة، يترك لشخوص آخرين المجال ليعبروا عن وجهات نظرهم في المدينة وفي غيرها من المدن كالقدس عما يجري.
هل بدا هؤلاء كلهم مثل إميل؟
قسم من هؤلاء ينحاز للواقع الجديد ولرام الله الجديدة، بل إن الجيل الجديد الذي لم يعش في المدينة قبل مجيء السلطة يحب رام الله فيما هي عليه ولا يشعر بالغربة التي يشعر بها بعض كبار السن، ولا نجد حنيناً إلى الماضي يشعر بالأسى كما نجده لدى إميل حبيبي نفسه.
وليس أمام المرء إلا أن يثير أسئلة، ولعل أهمها هو: الآن رام الله، خلافا لحيفا، لم تتهوّد؟ ولأن سكانها كانوا عرباً وما زالوا عرباً.
طبعاً هناك مجال لمقاربات أخرى أهمها عنصر اللغة في الرواية والقصة، ولا أعني هنا لغة إميل التراثية ولغة هنية الأقرب إلى الفصيحة المبسطة، وإنما أعني اللغة الثانية التي تحضر في الرواية والقصة؛ العبرية في "اخطية" و"الانجليزية" في "شارع فرعي في رام الله".
عادل الأسطة
2017-07-23
***
7- يوم قتل المواطن إبراهيم الأقرع ... يوم استشهد المواطن إبراهيم النابلسي .
في أثناء الحرب الأخيرة على غزة في الخامس من آب ٢٠٢٢ دار جدل بين كتابنا على صفحات التواصل الاجتماعي تمحور حول ردود أفعال أهل الضفة على الحرب . هل يواصل فلسطينيو الضفة الغربية حياتهم كالمعتاد أم أن عليهم أن يوقفوا مظاهر الحياة متضامنين مع فلسطينيي غزة ؟
كتب الروائي عباد يحيى الآتي :
" إيقاف مظاهر الحياة بما فيها الفرح في ظل المواجهة غير حقيقي ولا عملي وسلبي وصعب ، ولكن بث فعل وطني في أي مظهر من مظاهر الحياة بما فيها الفرح شيء بالمتناول وسهل وحقيقي ... إلخ " .
ما كتبه الروائي لم يرق للناشط والمهندس والفنان التشكيلي الغزي مجدي عاشور فاقتبس ما نشره الروائي وعقب عليه بالآتي :
" اسمعوا بالله عليكم ما كتبه عباد يحيى محرر التراصوت في ظل تعليق بعض الفاعليات الثقافية في الضفة الغربية ، وكأن من واجب أهل غزة الحياة تحت القصف بينما يرقص أهلنا الدبكة وينفخون في الربابة والأرغول في الضفة الغربية . انظروا كيف تتم صياغة المماحكات " .
في ١٣ آب من الشهر نفسه استشهد في نابلس إبراهيم النابلسي واثنان آخران ، فأعلن الحداد العام تضامنا مع أهل الشهداء وحزنا على الشهداء . في اليوم نفسه مساء عرفت من قريبين مني أنهم وعائلاتهم سينفقون يوم غد في أحد الشاليهات في منطقة الأغوار ، وسمعت عن إعدادهم واستعدادهم لما تقتضيه الرحلة وما تتطلبه من طعام وشراب .
لم أبد شخصيا رأيا في الجدل الدائر أو في رحلة معارفي ، ولكني سرعان ما تذكرت قصة الصديق أكرم هنية " يوم قتل المواطن إبراهيم الأقرع " التي نشرها في مجموعته " طقوس ليوم آخر "( ١٩٨٦) ، وبدأت أفكر في نصوص أدبية فلسطينية وعربية أتت من قبل على أحداث شبيهة . تذكرت مثلا رواية الكاتب العربي السوري أديب نحوي " عرس فلسطيني " (١٩٧٠) وتذكرت قصيدة محمود درويش " ونحن نحب الحياة " من مجموعة " ورد أقل "(١٩٨٦) وتذكرت كتابه " ذاكرة للنسيان "(١٩٨٦) الذي كتب فيه عن الحياة في بيروت في أثناء حصارها في العام ١٩٨٢ .
في " عرس فلسطيني " ينتظر الأب عودة ابنه الفدائي سالما من فلسطين ليحتفل به عريسا في الموعد المحدد . في النهار يعد العدة للعرس ليلا ، وفي المساء حيث موعد العرس يأتي نبأ استشهاد ابنه ، فلا يعلنه الأب على الملأ ، ويقرر الاستمرار في مجريات العرس ، فابنه قد يتأخر قليلا في المجيء ويحتفل الحضور .
في حصار بيروت ١٩٨٢ كان أهلها في أثناء اشتداد المعارك يقبعون في الملاجيء ، وما إن يعرفوا عن هدنة حتى يخرجوا ليواصلوا حياتهم ، فيذهب إلى الشاطيء من يريد الاستجمام ويتزوج من كان قرر أن يتزوج ، ولعل هذا ما أوحى لدرويش بكتابة قصيدته " ونحن نحب الحياة " :
" ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا ونرقص بين شهيدين
نرفع مئذنة للبنفسج بينهما أو نخيلا " .
وهو ما نقرؤ شبيها له في " ذاكرة للنسيان " حين يكتب عن مشاهدته مباريات كأس العالم لكرة القدم في ١٩٨٢ وعن المظاهرات التي شهدها الشارع العربي في الجزائر ضد الحكم في حين لم يتظاهر الشارع العربي ضد محاصرة عاصمة عربية يتعرض مواطنوها للقتل والتجويع والعطش :
" ولكني لا أغضب ، كما غضب غيري ، من المظاهرات العربية الصاخبة التي خرجت تحتج على حكم منحاز في مباريات كرة القدم تلهب الحماسة أكثر من هذا الصمود الطويل في بيروت ... ونحن نحب كرة القدم . ونحن أيضا يحق لنا أن نحب كرة القدم ، ويحق لنا أن نرى المباراة . لم لا ؟ .. "( أنظر الصفحات ٥٣ إلى ٥٦ من مجلة " الكرمل " عدد ٢١و٢٢ عام ١٩٨٦ ) .
وأعود إلى قصة " يوم قتل المواطن إبراهيم الأقرع " ، فمن هو إبراهيم ؟ وماذا جرى يوم قتله ؟ وكيف كانت الحياة تسير؟ وماذا يرمي القاص من وراء ذلك؟
إبراهيم هو مواطن فلسطيني صودرت أرضه فدافع عنها وقتل في ٢ أيار ١٩٨٣ . هذا ما يقصه علينا رئيس تحرير جريدة يعرف بالخبر ويتابعه ويفكر في كتابة مقال افتتاحي يتمحور حول الحدث الطازج الساخن .
في اليوم الذي استشهد إبراهيم فيه كانت الحياة تسير في الضفة على طبيعتها . كان الناس مشغولين بهمومهم وهي كثيرة وليست متشابهة ، فمنهم من تشغله مصالحه الخاصة ومنهم من هو مهموم بالوطن . منهم من يبيع أشرطة فيديو ومنهم من يبدل العملات في محل الصرافة الخاص به ، ومنهم المعلم الذي يشارك في اجتماع نقابي ، ومنهم من يذهب لقضاء سهرة في نتانيا ... إلخ
وما يرمي إليه السارد ، ومن ورائه الكاتب ، هو أن الحياة لا تتوقف باستشهاد مواطن . الحياة نهر تجري مياهه ولا تتوقف شئنا أم أبينا ، حزنا أو اعتكفنا في بيوتنا حتى يعود الشهيد إلى الأرض .
وليست هذه القصة الوحيدة للقاص التي يصور فيها انعكاس حدث معين على الناس واختلاف ردود أفعالهم . هناك قصة ثانية في المجموعة نفسها عنوانها " عندما أضيء ليل القدس " ، فحين يظهر رجل الضوء يرى فيه كل مواطن من يفتقده ؛ الأب الشهيد أو الحبيب الغائب أو الابن السجين ... إلخ .
في العام ٢٠٠٦ عندما هاجمت إسرائيل لبنان وسوت الضاحية الجنوبية بالأرض كنا نتابع الأخبار ونشاهد أيضا مباريات كرة القدم ، واحتفل جيراننا يومها بنجاح ابنتهم أو خطبتها ، ومن وحي ذلك أظن أنني كتبت مقالا عنوانه " فرح في بيت الجيران " .
هل أتبنى وجهة نظر عباد يحيى أو وجهة نظر مجدي عاشور ؟ وماذا تقدم وجهة نظري أو تؤخر ؟ الحياة منذ الأزل قائمة على ثنائية الحياة والموت والفرح والحزن والربح والخسارة ، وربما ما نحتاج إليه في الأوقات الحرجة والصعبة والمرة هو أن نقنن من مشاعرنا في الفرح والبهجة . الحياة لا بد أن تستمر .
( مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية ١١ أيلول ٢٠٢٢ ) .
الثلاثاء ٦ أيلول ٢٠٢٢ .
***
8- شيطنة رام الله... تسويق رام الله
ما إن ينتهي المرء من قراءة قصة أكرم هنية الجديدة «شارع فرعي في رام الله» حتى يثير حولها أسئلة عديدة منها ما يخص علاقتها بالتجربة القصصية للقاص، التجربة التي تعود إلى العام 1979 حيث أصدر أولى مجموعاته القصصية «السفينة الأخيرة… الميناء الأخير»، ومنها ما يتعلق بالتجنيس الأدبي لها، أو بصلتها بسرديات رام الله؛ تشابهها معها واختلافها عنها، فهي لا تضاف إليها لأن اسم المدينة كان مكوناً من مكونات العنوان وحسب، وإنما لأنها تقدم تصوراً للمدينة مختلفاً من ناحية وصادراً عن كاتب ولد في رام الله وعاش فيها وما زال.
لم تحضر رام الله في الأدبيات الفلسطينية بشكل عام إلا بعد اتفاقيات ”أوسلو“، وما كتب عن المدينة قبل هذا التاريخ لم يشكل ظاهرة لافتة يمكن أن يشار إليها.
في سيرة فدوى طوقان «رحلة جبلية… رحلة صعبة»، 1986، يقرأ المرء عن حياة ثقافية في المدينة ولم يكن ما كتبته سحر خليفة في «عباد الشمس»، 1979/1980، مختلفاً ومميزاً.
إثر اتفاقيات ”أوسلو“ غدت رام الله شيئاً آخر مختلفاً، ولأنها غدت كذلك فقد أخذت الأقلام تكتب عنها وتلتفت إلى ما يطرأ عليها من تطورات متسارعة.
كتب عنها أحمد رفيق عوض في «مقامات العشاق والتجار»، 1996، وخصها مريد البرغوثي بكتاب كان اسم المدينة مكوناً من مكونات عنوانه «رأيت رام الله» وقارن فيه مؤلفه بين رام الله كما عرفها في الستينيات ورام الله كما رآها بعد ثلاثين عاماً من الغياب عنها، ومثله فعل فاروق وادي في «منازل القلب»، 1998، ولم تكن رام الله في حينه، يوم تأليف الكتابين، تطورت كما تطورت بعد صدور الكتابين.
بعد البرغوثي ووادي كتب محمود شقير نصاً نشره في مجلة «الكرمل» عنوانه «رام الله التي هناك» وأتى فيه على اختلاف المدينة في التسعينيات عنها في الستينيات. كانت رام الله تمدّن الريف ثم صار الريف يريّفها وهذا ما آلم شقير وأحزنه هو المثقف اليساري الذي يميل إلى حياة المدينة لا إلى حياة الريف الفقيرة المحافظة، حيث لا مسرح ولا سينما ولا أمسيات ثقافية ولا..ولا..
عرف البرغوثي ووادي وشقير رام الله في الستينيات وأقاموا فيها وكانوا ميالين إلى الفكر اليساري والعلماني الذي يؤثر الانفتاح ولم يختلف عنهم أكرم هنية.
لم يختلف محمود درويش في موقفه عن الأدباء السابقين بشكل عام وإن اختلفت علاقته برام الله فهو لم يقم فيها قبل 1996. ربما كان مر بها بعد هزيمة حزيران 1967 مروراً عابراً، وحين استقر فيها لم ترق له. لقد رآها مدينة تبنى على عجل ولا ماضي له فيها كما ورد في قصيدته التي أهداها لسليمان النجاب وظهرت في ديوانه «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»، 2009.
بعد أن غدت المدينة أشبه بعاصمة سياسية واقتصادية وثقافية عاش فيها فلسطينيون كثر وفدوا إليها وكان قسم من هؤلاء قدموا من مدن صغيرة أو من قرى الضفة الغربية ولم يألف أكثر هؤلاء حياة المدن الكبيرة المنفتحة والمتطورة بشكل متزايد ومتسارع، وهكذا بدأت تظهر كتابات جديدة لكتاب جدد أغلبهم أقام في رام الله. وكانت عناوين كتبهم تحفل باسم المدينة.
«لا ملائكة في رام الله»، 2010، رواية لكاتبة شابة درست في جامعة بير زيت هي إيناس عبدالله. وربما يكرر المرء وهو يقرأ العنوان المثل الشعبي "أقرأ المكتوب من عنوانه" وبالتالي يعرف، مقدماً، الصورة التي تظهر للمدينة في الرواية. بعد صدور هذه الرواية صدرت روايتان لعباد يحيى هما «رام الله الشقراء»، 2013 و«جريمة في رام الله»، 2017 وقد أثارتا جدلاً واسعاً وبدت صورة رام الله فيهما مختلفة عما قرأناه في النصوص المذكورة ابتداء. بدت صورة رام الله فيهما أشبه بصورة المدينة الكبيرة في الآداب العالمية. رصدت الروايتان التطورات التي ألمت برام الله بعد ”أوسلو“ فكانت المدينة مختلفة. لم تعد مدينة هادئة ووديعة وتحت احتلال أجنبي، غدت مدينة كبيرة يتغول فيها المال وتسودها علاقات اجتماعية عجيبة غريبة؛ انفتاح اجتماعي وسوق اقتصادي ومؤسسات أجنبية وبشر غرباء غدت المدينة بهم شقراء لا حنطية ولا سمراء وغدت مدينة لواط وشذوذ وموطناً للجريمة.
هل شيطن الكتاب الجدد رام الله؟
هذا ما تقوله نصوصهم وهذا ما تقوله أيضاً عناوين رواياتهم.
لم يعرف الكتاب الجدد رام الله قبل 1987 وما رأوه منها وفيها رأوه بعد العام 2007 تقريباً ولهذا لم يظهر للمدينة في كتاباتهم صورتان تنتميان إلى فترتين مختلفتين كلياً. هذا وجه اختلاف بين نصوصهم ونصوص البرغوثي ووادي وشقير، فأين تقع قصة أكرم هنية «شارع فرعي في رام الله»؟
أشرت إلى صلة هنية برام الله وهي صلة تختلف عن صلة الجيل الجديد بها أنه يعرف رام الله في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات ومنذ عاد من المنفى في التسعينيات استقر فيها وأخذ يتابع ما يطرأ عليها من تطورات. هل ننسى أنه واحد ممن ساروا في ركاب ”أوسلو“ وأسهموا في إنجازه؟
أعتقد أن السؤال الأخير هو ما يجب أن يدفع المؤيدين لـ ”أوسلو“ والرافضين لها إلى متابعة كتابات أكرم هنية في أثناء قراءة النصوص الأدبية قراءة سياسية واقتصادية واجتماعية، ذلك أنها صادرة عن كاتب أبعدته سلطات الاحتلال في 1986 لمقاومته الاحتلال ثم عاد إلى رام الله وهو مشارك في مشروع السلام. طبعاً لا أغفل المكانة الأدبية للقاص، فهو من أهم الأسماء القصصية في القصة القصيرة الفلسطينية حيث أصدر خلال 40 عاماً ست مجموعات احتُفل بها.
في قصته الجديدة «شارع فرعي في رام الله» تحضر المدينة من خلال العنوان وتحضر أيضاً في المتن. تحضر في العنوان لأول مرة وتحضر في المتن حضوراً لافتاً فهي لم تحضر في قصص القاص السابقة. في قصصه السابقة كان الحضور للقدس لا لرام الله، وستحضر القدس في القصة الجديدة ولكن بصورة سريعة فهي تخلي المجال لرام الله. ولا يعني هذا أن هنية وبطل قصته تخليا عن القدس.
ما يجب أن ألفت النظر إليه أن لرام الله في القصة غير صورة، وهذه الصور تصدر عن شخصيات عديدة تنتمي لأجيال مختلفة وعلاقة كل شخصية بالمدينة مختلفة تبعاً لمدة إقامته فيها ومتابعته تطوراتها. إن تفصيل هذه الصور وتلك العلاقات يحتاج إلى مساحة أوسع من المساحة التي خصصت للمقال
وإذا كان ثمة انطباع موجز يقول لنا خلاصة صورة رام الله في قصة أكرم هنية فإنه يمكن القول إن القاص لا يشيطن المدينة. إنه يسوقها ويجعل منها مدينة يمكن العيش فيها برغبة وحنين الكبار في السن إلى رام الله في الستينيات والسبعينيات، هو حنين لا يشغل حيزاً في ذهن الجيل الجديد الذي ولد في التسعينيات ورأى رام الله الحالية. لعل الكتابة عن هذا تتطلب وقفة مفصلة أمام العناوين الآتية في القصة «محاولة للتفسير» و «رجل من شارع النزهة» و«أفق متغير» و«نبض مختلف».
***
9- قراءة تحليلية لقصة "عندما أضيء ليل القدس"
هذه القراءة التحليلية لقصة أكرم هنية "عندما أضيء ليل القدس" تنجز بمناسبة صدور أعماله القصصية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (2003) في بيروت.
ويعود السبب في اختيار هذه القصة دون غيرها، إلى أسباب منها أنني اخترت عنوانها، مع بعض التغيير، لكتابة مقالة عن أكرم هنية، يوم إبعاده، في العام 1986، وكان مقالا عابرا سببه مناسبة غير سارة، ومنها أن القصة لها في نفس مؤلفها وقع مميز، وهذا ما أخبرني به أحد طلبة الدراسات العليا الذي أنجز رسالة ماجستير في قصص أكرم هنية، ولكنه لم يدرس القصة إلا ضمن دراسته قصص الكاتب كلها، وهكذا لم يخصص لها مساحة كاملة، وهذا ما سأفعله هنا، وثمة ما هو متعلق بالسبب الأول، وهو عودتي المتأخرة لنصوص قديمة كتبت عنها مقالات أو أشرت إليها في دراسات، لأكتب عنها، من جديد، لاختبار مقولة نقدية من مقولات نظرية التلقي الألمانية، وهي أن قراءة نص واحد من قارئ واحد، في زمنين مختلفين تؤدي إلى قراءتين مختلفتين، وسبب ذلك الثقافة التي يكتسبها القارئ، وتطور آرائه ووعيه النقدي، واختلاف حالته في أثناء القراءة.
بين يدي النص:
كتب أكرم هنية هذه القصة ونشرها في مجموعة "طقوس ليوم آخر" (قبرص، 1986)، وضَمَّت هذه المجموعة مجموعات القاص الثلاثة الصادرة في (1979) (1980) (1981)، والقصة، بالإضافة إلى سبع قصص أخرى لم تظهر في المجموعات الثلاثة الأولى. هذا يعني أن أكرم هنية انقطع خمس سنوات عن إصدار أية مجموعة جديدة، وهذا يعني أيضا أنه ما عاد مكثرا في كتابة القصص، كما بدأ في سنوات كتابته الأولى. ويمكن قول الشيء نفسه عن مجموعة "أسرار الدوري" (2001) التي صدرت بعد خمسة عشر عاماً من صدور "طقوس ليوم آخر".
اعتمادا على تاريخ النشر يمكن الإشارة إلى زمن الكتابة، وهو، كما يفترض، 1986، وهذان الزمنان خارجيان، مثلهما مثل زمن القارئ. ولكن ماذا عن الزمن الداخلي؟ يستطيع المرء أن يحدد هذا الزمن اعتمادا على معطيات داخلية، وإن لم يذكر بالضبط. ثمة في النص إشارة إلى الاحتلال، احتلال اليهود المدينة، وتم هذا كما نعرف، بعد العام 1967. وثمة في النص أيضا إشارة إلى الحرب اللبنانية، الحرب الأهلية، وابتدأت هذه منذ 1975، واستمرت إلى فترة كتابة القصة. وإذا كان هذا هو الزمن القصصي المعيش من أكثر شخوص القصة، فإن رجل الضوء ذا الدلالة الرمزية يعود بنا إلى أول مزارع كنعاني زرع أشجارا في فلسطين، ويمر بنا مرورا عابراً في تاريخ الغزوات، فهو الجندي البسيط الذي حارب الغزاة، وهم كثر، وهو العامل الذي بنى سور القدس، وهو الفلاح الذي ألقى أول حجر على سفينة الغزاة عام 1882، وهو الرجل الذي ظهر على سور القدس زمن القصة وجريان أحداثها.
ويستطيع القريب من أكرم هنية، الذي عايش الأحداث زمن كتابتها، وزار القدس في حينه، يستطيع أن يحدد الزمن القصصي، وهو 1985 أو قبلها بقليل، ففي هذا العام استرخى أهل الضفة، وبدأوا يمارسون طقوسا أتى عليها المؤلف الضمني في الصفحتين الأولى والثانية من القصة، إنها أجواء ليالي رمضان في ذلك العام، أجواء الفرح والسهر التي لم يكن يعكر صفوها سوى دوريات الجيش الإسرائيلي.
السارد في القصة:
ليس هناك سارد واحد يسرد القصة من أولها إلى آخرها، هناك مؤلف وهناك أربع شخصيات نصغي إليها، كما نصغي إلى كلام المؤلف. والمؤلف غير محدد الملامح، ويستطيع المرء ان يطابق بينه وبين أكرم هنية الكاتب. وكان أكرم هنية، في حينه يعمل في جريدة "الشعب" المقدسية ويرأس تحريرها، وكان على قرب شديد من أجواء المدينة التي أتى المؤلف على وصفها. المؤلف، إذن، وهو المؤلف الضمني، لا يختلف عن الكاتب الحقيقي للقصة، عن أكرم هنية، ويتم السرد هنا بضمير الهو، الضمير الثالث. ولكن هذا الضمير يتغير فلا يسيطر على القصة كلها، إذ أن الشخصيات الأخرى: الطفل الفتاة، الرجل، رجل الضوء، تتكلم وتقص عن ذاتها وعما جرى معها من خلال الضمير الأول، ضمير الأنا. ويبدو السارد/ المؤلف كلي المعرفة، إذ يعرف الكثير عن المواطنين. ولغة السارد، مثل لغة شخوصه، هي العربية الفصيحة. لكأن أكرم هنية أدخل لغة شخوصه في مياه نهر (ليثي) كما يقول (ميخائيل باختين)، حيث انصهرت كلها في مستوى واحد، وبذلك تكون لغة القصة أقرب إلى لغة الشاعر الغنائي، هذه التي لا تعدد في المستوى اللغوي فيها. المؤلف يكتب بالفصيحة، والطفل يتكلم بالفصيحة، وكذلك الفتاة والرجل، بل أن رجل الضوء الذي تعود جذوره إلى بداية الحضور الكنعاني في فلسطين يتكلم العربية الفصيحة.
بنية النص:
يتكون النص من أحد عشر مقطعا على النحو التالي:
المؤلف [حوالي 96 سطرا].
الطفل [ثمانية أسطر].
الفتاة [سبعة عشر سطرا].
الرجل [خمسة وثلاثون سطرا].
رجل الضوء [أربعة أسطر].
المؤلف [أربعة أسطر].
الطفل [أربعة أسطر].
الفتاة [سبعة أسطر].
الرجل [خمسة أسطر].
10- رجل الضوء [ثمانية أسطر].
11- المؤلف [تسعة أسطر]. [طبعة الكرمل، 1986].
يفتتح المؤلف الضمني النص ويختتمه، وما بين الافتتاح والاختتام يظهر أيضا في الوسط، إنه يتكلم ثلاث مرات، فيما يتكلم الآخرون مرتين، وتبدو القصة، إذا استعرنا من الشعر مصطلحاته حول شكل القصيدة الحديثة، تبدو دائرية الشكل وحلزونيته في الوقت نفسه. المؤلف هو نقطة البدء، وهو نقطة الوسط، وهو نقطة النهاية. وثمة في المقطع الأول أيضا عبارة مركزية يعود إليها المؤلف كلما سرد فقرة لتكون نقطة انطلاق لمواصلة القص. إنها عبارة "صاح الطفل: انظروا"، وتتكرر هذه في المقطع الأول على النحو التالي:
صاح الطفل: انظروا.
صاح الطفل: انظروا.
انظروا "صاح الطفل.
صرخ الطفل: انظروا.
انظروا. انظروا. انظروا. أخذ الطفل يصرخ محتداً.
وثمة عبارات دالة أخرى في النص وهي:
ليل القدس الطويل.
.... يبحثن عن زبائن لليلهن الطويل.
أقص شعري.. أعرف أنه يحبه أسود طويلاً كالليل الذي اعتاد أن يسير فيه.
وانبعثت عندما كنتم تصنعون مهرجان الألوان في هذا الليل الطويل.
وهي أيضا:
حتى لعلع الرصاص [ينتهي بها المقطع 1 و2 و 3 و4].
عندما لعلع الرصاص [ينتهي بها المقطع 5].
قد أطلقوا النار بغزارة نحوه [ينتهي بها المقطع 6].
عندما سمعنا صوت الرصاص [ينتهي بها المقطع 7].
عندما لعلع الرصاص [ينتهي بها المقطع 8].
عندما انهال الرصاص عليه [ينتهي بها المقطع 9].
أطلقوا الرصاص [ينتهي بها المقطع 10].
وينتهي المقطع الحادي عشر، بصوت المؤلف:
"كانت القدس تستحم في بحر الضوء الرقيق الحالم الذي انبثق فيها، وفي بحر البشر المحتشدين في كل مكان. ونسمات منعشة تهب من جميع الاتجاهات. وكان العلم "يرفرف عالياً".
ثمة رجل هو رجل الضوء، يحل في رجل من أهل القدس، في ليلة من ليالي رمضان، ويرى فيه الناس شخصا عزيزاً عليهم، يلفت طفل الأنظار إليه بعبارة: انظروا، ويصعد الطفل إليه وكذلك الفتاة والرجل، ليلتقوا به، ولكن ما يفرق بين هؤلاء ورجل الضوء هو الرصاص، وهكذا يجرح رجل الضوء، ويختفي لكنه لا يموت، وهكذا تنتهي القصة بإعلاء العلم الفلسطيني الذي يرفرف فوق أسوار القدس عالياً.
إن ليل القدس طويل، لأن القدس تحت الاحتلال، والناس ينتظرون المخلص، الفادي، الثوري، وحين يظهر يتطلعون إليه، لكن رصاص الجنود يلعلع ولا يكتمل اللقاء.
لنعد إلى بناء النص:
يعقب كل عبارة في المقطع الأول عبارة أخرى، باستثناء العبارة الأولى، حين يكرر الطفل عبارة انظروا ثانية، يعقب المؤلف: لم يستمع إليه أحد. وحين يكررها الطفل ثالثة يعقب المؤلف: لكن أحدا لم ينتبه إليه وهو يشد ثوب أمه المنشغلة بالحديث مع...، وحين يكرر صراخه، يعقب المؤلف: لكن أحداً لم يستمع إليه وقد أخذتهم الرهبة، وفي المرة الخامسة يصرخ الطفل ويبكي ويشير بيديه وهنا: انتبه بعض لصرخته وإلحاحه ونبهوا غيرهم".
لكأن أكرم هنية يقول: خدوا فالها من أطفالها، ولكأنه تنبأ بالانتفاضة التي اندلعت في نهاية العام 1987، وكان للأطفال دور بارز فيها. ولكأن أكرم هنية يقول: ولكن من يصغي إلى هؤلاء ويستمع إليهم.
نأتي إلى ردود الأفعال إزاء بروز رجل الضوء. يلجأ القاص، قبل أن يخصص حيزاً للطفل والفتاة والرجل، إلى تصوير ردود أفعال الناس إزاء ظهور رجل الضوء، وتبدو على النحو التالي:
"هتف رجل وهو يبكي: أنه ابني قتله اليهود.
"وصرخت امرأة كان يحيط بها أطفالها: إنه ابني الذي استشهد في لبنان".
" وهتف رجل مأخوذ بغرابة ما يجري: إنه المهدي المنتظر".
"وقالت امرأة عجوز: إنه ابني التائه في المنفى".
"وقال شاب بسرعة حاسمة: إنه شقيقي المعتقل في السجن".
"وقال آخر: "إنه ولي من أولياء الله في هذه الليلة المباركة".
"وتقدم طفل للأمام وسط الجموع: إنه أبي الغائب في السجن".
"وقالت امرأة وهي ترسم علامة الصليب: يا عذراء. إنه يسوع. يسوع يا مخلصي".
"وارتعش جسد فتاة لم تحاول مقاومة دموعها وهي تهمس: إنه حبيبي. اعرفه. إنه فارسي.. انتظرته طويلا. ها قد أتى".
وكما يقول المثل الشعبي "اللي على بال أم حسين بتحلم فيه بالليل"، وكل واحد من أبناء الشعب الفلسطيني يفتقد عزيزا، وهكذا يرى كل واحد من أهل القدس وزوارها في رجل الضوء العزيزَ الذي يفتقده.
ولا يخوض أكرم هنية في قصة كل واحد من هؤلاء، إنه يختار ما قاله الطفل، وما قالته الفتاة، ويضيف إلى هذين قصة رجل آخر لم نصغ إلى صوته بين الأصوات. وتسير القصص الفرعية على النحو التالي:
الطفل: كان أول من رأى رجل الضوء، وأول من صعد نحوه. يقول الطفل: "شعرت أنه يشبه أبي الغائب منذ سنوات، والذي تقول أمي إنه سافر". ويضيف" عندما رآني فتح ذراعيه، ورفعني عالياً وضمني إليه"، ولكن ما يفرق بينهما الرصاص.
هكذا يكون رجل الضوء الأب الغائب، ولكنه لا يتخلى عن أبنائه.
الفتاة: تنتظر حبيبها، مع أنهم قالوا لها إنه لن يأتي، إلا أنها واثقة من أنه لا يتأخر عن موعده، وتصعد إليه وتعانقه، ومدّ يده وربت على كتفي، مسح دمعة من عيني، وبدأنا نتحدث". ولكن ما يفرق بينهما الرصاص.
تعده أنها ستنتظره، ويتعهد بأنه لن يغيب طويلا. وهكذا يكون الحبيب الوفي.
الرجل: الرجل متزوج وله أبناء، وبدا رجل الضوء رفيق عمره وصديقه الذي لم يره منذ زمن طويل، لقد قاتلا معا في لبنان واختفت أخبار رجل الضوء، ودارت حوله الشائعات. هل استشهد؟ هل أسر؟ هل التجأ إلى الجنوب؟
ويصعد الرجل إلى السور لملاقاة صديقه رجل الضوء، ويتبادلان معا حديثا قصيرا، ولكن ما يفرق بينهما هو رصاص الاحتلال. يسأل رجل الضوء صديقه عن أمه وأبيه- أم رجل الضوء وأبيه ويعد أنه سيعود. إنه الوفي لصديقه ولأمه ولأبيه.
رجل الضوء: يظهر رجل الضوء عندما رأى الناس يبحثون، في ليل القدس الطويل، عن نسمة هواء وضحكة ولحظة فرح. ويقول: "كان لا بد أن أظهر".
ويخبرنا عن نفسه بالتالي:
"لست أنا تماماً من رأيتموه، ولكنني هو بصورة أو بأخرى. لست ملاكا ولست شيطاناً". و"أنا مزيج لقائكم". واللقاء لا يقتصر على أهل القدس. إنه يضم أهل القرى والمخيمات المجاورة.
وكما ذكرت فثمة دلالة رمزية لرجل الضوء تتضح من خلال الفقرة التالية:
"ولدت عندما رأيتموني أضيء القدس. ولكنها لم تكن حياتي الأولى. عشت قبلها حيوات كثيرة في عصور أخرى.
وكما أشرت، فإنه، لحظة ظهر، تقمص رجلا كان واقفاً على السور. وثمة امتداد أفقي وآخر عمودي له. له عائلة وله أطفال وله حبيبة وله أصدقاء، وقد اتضح هذا من خلال القصص الثلاث، كما لاحظنا. ولكنه أيضا ظهر في العصور الأخرى على النحو التالي:
المزارع الكنعاني الذي زرع أول شتلة هنا.
الجندي البسيط الذي حارب الغزاة في فلسطين.
العامل الذي بنى السور.
الفلاح الذي ألقى أول حجر على سفينة الغزاة عام 1882.
وكما له امتداد في المكان، في القدس، له امتداد في الزمان
إنه تموز الفلسطيني، ولد مرات عديدة ومات مرات عديدة. مات على يد الأعداء، ومات على يد الأصدقاء، وله قبور في عمان والشام وبيروت والجنوب. ويشعر أنه يعرف كل واحد من أهل القدس. وهو النور، وحين أطلق الإسرائيليون النار عليه أطلقوها لأنهم لم يتحملوا النور. وحين مات كان موته الجديد. "رحلت بعيداً. إن رجل الضوء، هنا، مثل احمد العربي في قصيدة محمود درويش. احمد الذي يقول:
كلما آخيت عاصمة
رمتني بالحقيبة،
فالتجأت إلى رصيف الحلم والأشعار،
كي أجدد قامتي
المستوى اللغوي في النص:
على الرغم من تعدد الشخوص في النص واختلاف ألسنتهم الاجتماعية: مؤلف، طفل، فتاة، رجل محارب، رجل الضوء الأسطوري الذي عاش في أزمنة متعددة، إلا أن المستوى اللغوي في القصة هو مستوى لغوي واحد. لقد أسلب القاص لغة شخوصه، وأدخلها في مياه نهر (ليثي)، على رأي (ميخائيل باختين). لقد فعل ما يفعله الشاعر الغنائي الذي يطغى على لغته مستوى لغوي واحد.
النص والنصوص الأخرى:
يستطيع المرء أن يبحث في نصوص أخرى للكاتب، ليعزز بعض مقولات النقد البنيوي، ومنها إن ثمة صلة ما يمكن العثور عليها في كتابات كاتب ما، بل وفي نصوص عصر ما، وحين يحاول الناقد أن يتأكد من صدق هذه المقولة في قصص أكرم هنية، فهل يعثر على ما يصل هذه النص بنصوص أخرى للكاتب. أرى شخصيا أن أقرب نصين لهذه القصة هما قصة "القرار" (1980) وقصة "شهادات واقعية حول موت المواطنة" منى. ل"" (1980). في القصة الأولى هناك إشاعة ما تنطلق من البلدة القديمة في نابلس، وهناك رصد لردود الفعل إزاءها، وفي الثانية هناك حادث موت/ انتحار منى. ل، وهناك أيضا رصد لآراء معارفها وأصدقائها وزميلاتها. ثمة في القصص الثلاث حدث بارز لافت، وثمة رصد لردود فعل الآخرين/ إزاءه. وأكرم هنية المهني الصحفي، منذ تخرجه، والسياسي منذ أيام الدراسة في الجامعة، مُنْغَمِس في الواقع، بسبب موقعه، وراصد جيد لآراء الآخرين، إزاء حدث لافت. ولعلني لا أبالغ حين أرغم إنه أبرز كاتب قصصي في فلسطين يدون في قصصه تفاصيل الواقع في الجانب السياسي. الأخبار كلها تأتي إليه وهو في موقعه في الجريدة، وهو بطريقة أكاد أقول مذهلة يرصدها في قصصه، وربما ما كان ليتمكن من ذلك، لولا عمله الصحفي الذي انعكس على قصصه فميزها، وجعل لصوته القصصي اختلافا واضحا.
تحيلنا الكتابة عن صلة النص بنصوصه الأخرى إلى الكتابة عن النص وصلته بنصوص أخرى سابقة ولاحقة. هل يستطيع المرء أن يزعم أن هذا النص متأثر بنصوص سابقة، وأنه ترك أثره في نصوص لاحقة.
تذكر عبارة ليل القدس الطويل المتكررة في القصة، تذكر "قارئ جبرا إبراهيم جبرا بعنوان روايته "صراخ في ليل طويل" (1956)، فهل كان العنوان ترك أثرا على أكرم هنية؟ مجرد تساؤل، مع أن ثمة فارقا بين ما ورد في النصين. الليل الطويل في نص جبرا هو ليل التخلف الاجتماعي، والليل الطويل في قصة هنية هو ليل الاحتلال الجاثم على القدس منذ 1967 حتى تاريخ كتابة القصة، وحتى اللحظة.
تحيل العبارة المتكررة المرء إلى عنوان نصي القصصي "ليل الضفة الطويل". هل كانت العبارة في لا وعيي حين جعلتها عنوانا للنص. كلا النصين يأتيان على واقع الناس تحت الاحتلال.
سئل (امبرتو ايكو) من بعض القراء، حين انتهى من كتابة روايته "اسم الوردة"، إن كان قرأ رواية ما فيها شبه بروايته. وكان جوابه: ربما أكون قرأتها، ولكنها لم تكن حاضرة في ذهني وأنا أكتب روايتي. ولا أنكر أنني قرأت قصة هنية وكتبت عنها كتابة عابرة، فهل تركت أثرا عليّ؟ وهل كان لها تأثير على نصي؟ ربما.
كلمة أخيرة:
يكتب أكرم هنية قصته عن فرح أهل القدس في عام 1985، ولكنه يكتب عن فرح لم يكتمل. عن فرح ناقص، فثمة غياب ما سببه الاحتلال، ورجل الضوء في القصة هو الفدائي، وهو الشهيد، وهو ابن هذه البلاد الذي زرعها، وقاوم غزاتها. إنه ليس ملاكا وليس شيطانا. ولعل هذه القصة مثل قصص كثيرة أبرزها بعض قصص مقهى الباشورة لخليل السواحري، وقصة "أبو جابر الخليلي" لتوفيق فياض، وقصة "في الطريق إلى البلدة القديمة" لمحمود شقير، لعل هذه القصة، مثل هذه القصص، ذات أهمية كبيرة لمن يريد أن يدرس مدينة القدس والحياة فيها في ظل الاحتلال. وهي قصص كتبها قاصون عرفوا المدينة وشارعها وأزقتها، والتقطوا تفاصيل الحياة فيها، وكانوا- أي القصاصون- يكتبون عما رأوا وعاشوا وشاهدوا، ولهذا كانت لقصصهم نكهة خاصة.
***
10- بعد الحصار... قبل الشمس بقليل
اختارت سلمى الخضراء الجيوسي في موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر هذه القصة لتمثل أكرم هنية.
ويلحظ من يتتبع المختارات القصصية التي صدرت أن قصص القاص التي اختيرت لتمثل نتاجه هي "القرار" و "مؤتمر فعاليات القرية يصدر قراراً هاماً"، وقد صدرتا في مختارات عنوانها " قصص قصيرة من الوطن المحتل (القدس، 1981 )، و"أبو القاسم يشارك في النهوض الجماهيري " وقد ظهرت في " انطولوجيا القصة القصيرة الفلسطينية " (عمان، 1991 ). ولم تخل المختارات التي أصدرها فخري صالح عام 1982، في بيروت، من اسم أكرم هنية، والشيء نفسه يمكن قوله عن كتاب خيري منصور " الكف والمخرز ".
أصدر أكرم هنية ثلاث مجموعات قصصية في ثلاث سنوات متتالية هي " السفينة الأخيرة... الميناء الاخير " (1979) و" هزيمة الشاطر حسن " (1980)، و" وقائع التغريبة الثانية للهلالي " (1981)، وقد صدرت هذه معا مع مجموعة رابعة تحت عنوان " طقوس ليوم آخر". وأصدر، فيما بعد، "أسرار الدوري" (2001) و "دروب جميلة" (2007)
وزمن كتابتها هو نهاية السبعينات، وفي هذه الفترة عاد أكرم هنية الذي غادر الضفة الغربية، عام 1971، ليدرس، في القاهرة، الأدب الانجليزي، عاد ليصيح محررا في جريدة " الشعب " المقدسية، وليغدو رئيس تحريرها، وانفق فترة طويلة في مدينة القدس التي كان لها، في قصصه اللاحقة، حضور بارز أيضا، وبخاصة في قصة "طقوس... في المرحلة السادسة " وقصته " طقوس ليوم أخر ".
وقد لفتت قصص هنية أنظار النقاد والدارسين، فكتبوا عنها عشرات المقالات التي ظهرت، في كتاب " الدخول الى حبر الروح "، كما درست في رسائل جامعية، في اثناء دراسة الحركة القصصية في الضفة الغربية وقطاع غزة ما بين 1967 و 1981 وأنجزت عنه، في جامعة النجاح الوطنية رسالة ما جستير، ويعد الكاتب في قصصه، في تلك المرحلة، من ابرز المجددين في القصة القصيرة، إذ جنح، في بناء قصصه، الى التجريب والمخيلة، وإذا كان التجريب ذا حضور، قبل إصداره مجموعاته، كما في قصص محمود شقير " الولد الفلسطيني" (1977) وقصص محمد علي طه " عائد الميعاري يبيع المناقيش في تل الزعتر" (1978)، فإن إعمال المخيلة، يكاد يكون ميزته الخاصة، هذا إلى جانب ميزة أخرى عرفت في القصة العربية، ولكنها لم تحضر في القصة في الضفة وقطاع غزة، وهي ميزة توظيف التراث الشعبي والتراث الأدبي العربي الرسمي في بناء قصصه، وهو ما نلحظه في قصة " هزيمة الشاطر حسن " وقصته " وقائع التغريبة الثانية للهلالي " وقصة " النابغة الذبياني يهجو النعمان بن المنذر"، وقد أتيت على هذه كله، بالتفصيل، في كتابي" القصة القصيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة " (1982(
وحين تدرس القصة القصيرة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وبخاصة في مناطق الاحتلال الثاني - أي الضفة الغربية والقطاع – فإن هنية يعد نموذجا جيدا للدراسة. حقا انه ليس الكاتب الوحيد، فقد أنجز قبله كل من خليل السواحري ومحمود شقير قصصا مميزة على صعيد الشكل والمضمون، وأنجز قبل عودته إلى الضفة في العام 1979 قصاصون آخرون قصصا لابأس بها، مثل غريب عسقلاني وزكي العيلة وآخرون، ولكنه، فيما رأى، الأبرز بين جيل السبعينات والثمانينات، وذلك لتنوع موضوعات قصصه/ ولثراء أشكالها، ولكتابته القصة الواقعية والقصة ذات البعد الرمزي والقصة التي تنزع نحو الحداثة، القصة التي يفيد في بنائها من معطيات عصره كالسينما والصحافة.
الواقع هو الخيالي الأكيد:
يتخذ أكرم هنية، وهو يكتب " بعد الحصار... قبل الشمس بقليل"، يتخذ من مدينة القدس مكانا لبناء قصته، وإذا كان الحصار يفرض على المدن غالبا، وهذا ما تذهب إليه المخيلة البشرية غالبا، فأنه يفرض أيضا على الأشخاص، وتعزز قراءة القصة ما تذهب إليه المخيلة، للوهلة الأولى، إذ القدس هي المحاصرة.
يصحو أهل المدينة ليجدوا الصخرة وقد اختفت، والأشخاص الأربعة الذين كانوا أول من انتبه إلى اختفاء الصخرة هم البائعة آمنة وموزع الجرائد أبو مازن وسليمان الخباز والحاج أبو فؤاد الذي تعود منذ أربعين عاما على أن يخرج، في الصباح، من بيته ليصلي في الحرم.
ويرصد السارد – تقص القصة من خلال الضمير الثالث – ردود أفعال هؤلاء وغيرهم إزاء الحدث: يتدفق الناس إلى الشوارع، وتبدو الحيرة في نظراتهم، ولا يصدقون ما جرى، ويشرع بعض الرجال والناس بالبكاء، وتختلط الأصوات التي يكون بعضها ساخراً من الرئيس أنور السادات الذي زار المدينة ليعقد صلحا مع دولة إسرائيل.
وإذا كان القاص أبرز ردود أفعال الناس، بشكل عام، فإنه يعود ليبرز أثر الحدث على الشخصيات الأربعة التي لاحظت، ابتداء، وقبل غيرها، ما حدث.
تجلس آمنة على الدرجات المؤدية لباب العامود ساهمة تحدق في لاشيء، وتتذكر علاقتها بالمدينة وزيارتها الأولى لها، كما تتذكر زيارتها الثانية، تتذكر أباها الذي اصطحبها وهي طفلة، وتتذكر زوجها الذي اصطحبها يوم غدت عروسا، وترى القدس الآن غير ما كانت عليه " أصبحت المدينة مرتبطة بذهنها بزوجها السجين وطفليها اللذين ينتظرانها في البيت، وفي مضايقة بعض الرجال ومساومات الزبائن " وتتساءل، وهي تنظر حولها،: "هل يحبون القدس مثل زوجي".
أما أبو فؤاد الذي انفق أربعين عاما وهو يزور الحرم فيحزن، وحين يتذكر أن صلاة الفجر فاتته بسبب اختفاء الصخرة يتمتم: " ولكن أشياء كثيرة ضاعت، وإن أضاف، بعد أن استرد شيئا من صلابته،: " الحمد لله" مازلنا نحن هنا".
وأما أبو مازن الذي اغرورقت عيناه بالدموع، دون أن يعرض شيئا من المجلات والجرائد والكتب، ودون أن يذهب لإحصاء كميته ويمارس الطقوس التي اعتاد ممارستها، فإنه يتساءل: " ولكن ألم تتغير الطقوس منذ سنوات؟ " ويتذكر ابنه الصغير الذي يرمي الجنود بالحجارة، وهنا يهمس: " آه.. هؤلاء الصغار... إنهم يحبون القدس أكثر منا؟".
ويظن سلمان الخباز أن لا رغبة لأحد بأن يأكل أي شيء صباح اختفاء الصخرة، ويشعر بأن جزءاً أساسيا من ماضيه قد اندثر، وهو منذ سنوات، يشعر بالغربة، وأن القدس هذه ليست القدس التي يعرفها، ويتوصل إلى أنه لم يكن ايجابيا بما فيه الكفاية.
تنتهي القصة بالأسطر التالية:
" عندما هبط الظلام... بدأ سكان المدينة القديمة يتحركون من أماكنهم... اتجه كثيرون للنوم في رحاب الحرم... وعاد الباقون وخاصة النساء والأطفال إلى بيوتهم... كان الجنود ما يزالون فوق الأسوار... ولكن كان يمكن مشاهدة النجوم بوضوح في السماء... وكانت أزقة المدينة القديمة ترجع وقع خطوات ثابتة واثقة ".
وكما يلحظ فان القاص بنى قصته على حدث متخيل هو اختفاء قبة الصخرة، ولكن هذا الحدث المتخيل له أساسه في الواقع. لقد احتلت القدس عام 1967، وأحرق الأقصى في عام 1968، وما تزال الحفريات حول الحرم جارية، ولا يدري المرء إلام ستؤول الأمور إذا ما واصل الإسرائيليون إصرارهم على أن القدس هي عاصمة دولة إسرائيل إلى الأبد. وهناك، على ارض الواقع، ما يعزز مقولة" الواقعي هو الخيالي الأكيد". تحاط القدس بالمباني الإسرائيلية، ويستولى على البيوت القديمة فيها، بالتهديد وبالترغيب وبالتزوير وبالادعاء، وكل من يزور القدس ويرى ما آلت إليه، ويقارن بين ما هي عليه الآن، وما كانت عليه قبل عام 1967، يقرأ الفاتحة على المدينة. ولا أعتقد أن فكرة اختفاء الصخرة، في القصة، جاءت من فراغ. إن ما هو خيالي له نصيبه من الواقع. ويمكن قول العكس أيضا.
على الرغم من أن القصة تحفل بما يبعث على التشاؤم، وعلى الرغم من أن ما يصدر من عبارات عن شخوصها الأربعة يعبر عن التشاؤم والتفاؤل معا، إذ يتحسر الشخوص على ما جرى ولكنهم في الوقت نفسه يعلنون عن حبهم للمدينة، وأنهم ما زالوا فيها، وأنهم لم يعملوا لها بما فيه الكفاية، إلا أن القاص ينهي قصته بما يبعث على التفاؤل "كان الجنود ما يزالون فوق الأسوار.. ولكن كان يمكن مشاهدة النجوم بوضوح السماء.. وكانت أزقة المدينة القديمة ترجع وقع خطوات ثابتة واثقة".
وغالبا ما كانت قصص أكرم هنية تحفل بنهايات كهذه، وإن كان بعضها يبدو مفتعلا، وإن كان الواقع، أحيانا، لا يبعث على مثل هذا التفاؤل. وعلينا، ونحن نلحظ ظاهرة النهايات هذه، ألا ننسى أن أكرم هنية كان يرمي، وهو يكتب قصصه، إلى بث روح التفاؤل بين الناس، حتى يصمدوا في أماكنهم، باعتبار الصمود الفضيلة الأولى، وهو ما كان يراه أيضا إميل حبيبي وغيره من كتاب الأرض المحتلة عام 1948. كان يرمي إلى ذلك، ويبدو أن نشاطه السياسي الذي أبعد عام 1986 بسببه كان وراء إنجاز قصص ذات نهايات متفائلة، إذ أن السياسي المتشائم لا يجد ربه أن يظل في موقع يقود فيه الآخرين.
***
11- شهادات واقعية حول موت المواطنة منى.ل
هذه قصة كان كاتبها نشرها في مجموعته القصصية الثانية "هزيمة الشاطر حسن" (1980)، ولم يكن يتجاوز الثامنة والعشرين عاما. كان هنية درس الأدب الإنجليزي في القاهرة، وعاد إلى عمان ليعمل في الصحافة هناك، وسرعان ما عاد إلى رام الله، ليعمل في جامعة بيرزيت، وجريدة "الشعب" المقدسية، محررا فرئيس تحرير. وقد تفاجأنا، نحن قراء القصة القصيرة وكتابها، يومها بصدور مجموعة "السفينة الأخيرة.. الميناء الأخير" (1979) التي احتوت قصصا كان للهم العربي، خارج فلسطين، حضور فيها. وما فاجأنا أيضا أنها كادت، مع مجموعة "الولد الفلسطيني" لمحمود شقير، وبعض قصص محمد علي طه، تكسر نمط الكتابة القصصي، فقد غلب على القصة القصيرة طابع القصة التقليدية ذات البداية والوسط والنهاية. ولم نعتد قراءة قصة تفيد من الصحافة والسينما في بنائها. وربما ما فاجأنا أيضا أن كاتبها أخذ يبنيها، في جانب منها، على قصص تراثية، فقد أفاد من التراث الشعبي "ألف ليلة وليلة" ومن التراث الرسمي "النابغة الذبياني" وواصل ذلك في مجموعته الثانية والثالثة، إذ أفاد من تغريبة بني هلال.
بين يدي القصة:
تدور القصة حول مواطنة مقدسية هي منى.ل، التي اعتقلت وسجنت، وبعد أن خرجت من سجون الاحتلال، كان من المستحيل أن تبقى في القدس، فآثرت السفر إلى مدينة عربية، لم يحددها الكاتب، وأخذ أهلها يزورونها بين فترة وأخرى.
في المدينة العربية لم تنقطع منى.ل الشاعرة والرسامة والسياسية عن مواصلة نضالها، وقد تعرفت إلى شاب اسمه سعيد، شكلا معا ثنائيا رائعا، وتعرضا للاستجواب من نظام المدينة العربية، وضيق عليهما حتى أنهما فصلا من عملهما، وحين أخذت تبحث عن عمل، كان أصحابه ينظرون إلى تقاطيع جسدها أكثر مما ينظرون إلى شهاداتها، ولم يختلف مثقفو المدينة عن أصحاب العمل، فقد حاول نصفهم أن يعلقها.
وستنتهي العلاقة بين سعيد، ومنى بالانفصال، فلقد أراد هو أن يتدخل في كل شأن من شؤون حياتها، أراد أن يتدخل حتى في اختيارها ملابسها وفي قصة شعرها. وفيما ذهب هو إلى دولة خليجية ليعمل فيها، وأصبحت حياته المادية فوق الريح، ما جعل أحد المحققين يقول: اطعم الفم تستح الأيديولوجيا، فيما ذهب سعيد إلى دولة خليجية ظلت منى.ل مقيمة في المدينة العربية، لأن نظامها رفض السماح لها بالسفر.
وكما يتضح من مذكرات منى في دفترها، فقد كانت تبدي استعدادا لتقديم تنازلات لسعيد من اجل أن تستمر العلاقة بينهما، ولكنه كان يريد المزيد والمزيد من التنازلات، وهذا ما لم تستطع أن تفعله. هل أراد القاص أن يقول لنا هنا إن الرجل العربي يريد امرأة خاضعة مطيعة يسيطر عليها وعلى سلوكها، ويتدخل في أدق تفاصيل حياتها، حتى لو كان هذا الرجل تقدميا في أفكاره؟
صمدت منى.ل وتحملت، ولم يصمد سعيد، فهاجر إلى دولة خليجية، وأصبح إنسانا آخر غير الذي كان، وربما كان حاله حال آلاف التقدميين العرب ممن بدأوا حياتهم ثواراً وانتهوا موظفين يبحثون عن لقمة عيشهم ومستقبل عائلاتهم الشخصي، ولا شك أن من كان قريبا من اليسار يعرف عشرات الأشخاص الذين يشبهون سعيدا. هل أقول أيضا إن هناك عشرات مثل منى.ل؟
في التذييل الذي كتبه القاص حول عدم ذكر الاسم الثاني لمنى، واكتفائه بالحرف الأول، ما يشير إلى أنه قد يوجد آلاف مثلها في العالم العربي، وأنها ليست حالة استثنائية. والقاص نفسه، أكرم هنيه، يتعاطف مع منى، ويبدو معجبا بها، وكان يتمنى لو تعرف إليها، قل موتها. وعموما فإن قصصه التي كتبها في هذه الفترة أبرزت نماذج شبيهة لمنى، مثل قصة "وردتان للزميلة ندى". ويبدو أن إقامة الكاتب في القاهرة، وتعرفه في الجامعة إلى طالبات مناضلات، كن زميلات له، وإعجابه بنشاطهن السياسي، هو ما دفعه لأن يكتب في التذييل:
"تعمدت عدم نشر الاسم الصريح الكامل للمواطنة منى.ل"، ربما لأن في بعض الشهادات شيئا من خصوصيتها، وربما لأن هناك آلافا مثل "منى.ل" ". وعموما فإن فلسطين عرفت في تلك المرحلة مناضلات قاومن الاحتلال وسجن وعذبن وصمدن، وواصلن مشوارهن بعد إبعادهن.
قراءة في العنوان:
يوحي لنا العنوان بأننا سنقرأ شهادات، لا قصة قصيرة، ويوحي لنا بأنها واقعية وليست من نسج الخيال، علما بأن قصص هنية السابقة واللاحقة كانت تعتمد في كثير منها على الخيال واللامعقول، مثل قصة "بعد الحصار.. قبل الشمس بقليل" وقصة "مؤتمر فعاليات القرية يصدر نداءً هاماً".
ويعزز العنوان موت منى.ل، لا انتحارها، علماً بأن القصة تورد مفردة الانتحار مراراً حتى لتطغى هذه على مفردة الموت. والذي عزز، في المتن، الانتحار، التقرير الذي كتبه الطبيب الشرعي حين شرحت الجثة.
ومنى.ل، من خلال العنوان، مواطنة. وربما رأى قارئ القصة أنها مواطنة عادية، وربما تساءل: وماذا يهمني في الأمر، فهناك عشرات المواطنات اللاتي يمتن يوميا. قد يمتن لأن أجلهن انتهى، وقد يمتن لأن مرضا ألم بهن، وقد يمتن بحادث سيارة. وحين يقرأ المرء القصة يكتشف أن منى.ل ليست مواطنة عادية، وأن سبب موتها ليس واحداً من الأسباب السابقة. إنها مواطنة مختلفة، وقد دفعها إلى الانتحار عوامل عديدة: البعد عن الوطن بسبب الاحتلال الإسرائيلي، وتخلي الأصدقاء عنها، والقمع الذي يسود المدينة العربية، والحصار الذي أخذت تعاني منه، وبقاؤها وحيدة بعد أن تخلى صديقها عنها، وترك صديقتها سامية الشقة التي كانت تقيم معها فيها وسفرها إلى الكويت، ومواصلة التحقيق مع منى ومنعها من العمل.... الخ.
ولن يقرأ المرء، كما سنرى، شهادات قيلت بعد موتها، شهادات قالها محبوها وكارهوها وحسب، وإنما سيقرأ أيضا نصوصا كتبتها من قبل موتها.
مكونات القصة:
يدرج أكرم هنية قصته هذه ضمن مجموعة قصصية، ما يعني أنها قصة قصيرة، لكن أكرم هنية المؤلف الضمني في القصة نفسها يذكر أنها في الأصل تحقيق صحفي حول موت المواطنة منى.ل كان أعده، ذات يوم، وهو يعمل في صحيفة يرأس تحريرها شخص آخر غيره. كان أكرم هنية الموظف في الجريدة، يتلقى التقارير والأخبار ويدققها ويعيد صياغة ما فيها من أخطاء، ولفت نظره، ذات ليلة، والعمل يسير روتينيا، تقرير أحد المندوبين، وكان فيه خبر يقول: "عثر الليلة الماضية على جثة لفتاة تدعى منى.ل، في شقتها في شارع... وتبلغ من العمر 27 سنة ويعتقد أنها أقدمت على الانتحار، وقد نقلت جثتها إلى الغرفة السوداء لتشريحها".
وسيتابع المحرر الخبر وسيسأل صاحب التقرير إن كان لديه المزيد من المعلومات، وسيتصل بمحرر الصفحة الأدبية إن كان لديه معلومات عنها، وسيعرف أنه التقى بها ذات نهار وأنها أهدته ديوانها "أوراق شتوية ملونة"، ديوانها الذي لم يقرأه في حينه.
وسيظل خيال منى.ل مسيطرا عليه، وسيتساءل: لماذا تقدم فتاة رقيقة كهذه في وقت مبكر على الانتحار؟ وهكذا يبدأ يتابع الموضوع، فيقرأ دفتر مذكراتها وديوان شعرها ومقالاتها التي نشرتها في الصحف، ومقالات أخرى نشرت عن لوحاتها، وسيقابل صديقتها سامية، وعامل المقهى الذي كانت تجلس عليه، وزميلاتها في المدرسة، وصاحبة الشقة التي كانت تسكن فيها، وبعض طالباتها، والمحقق والطبيب الذي شرح الجثة، وسيرسل رسائل إلى صديقها سعيد، وإلى صديق صديقها، وسيقابل بعض هؤلاء أيضا. وستتشكل القصة/ الشهادات من المقدمة التي كتبها هو: أكرم هنية، ومن اثنتين وأربعين شهادة ومقابلة ورسالة واقتباس من مذكرات منى وديوان شعرها.
هل نحن إذن أمام قصة؟
أشير ابتداءً إلى أن عنصر التجريب في القصة واضح جدا، وسمة التجريب سمة تميز نتاج أكرم هنية بخاصة، وقد سبقه إلى هذا، كما ذكرت، قاصان آخران: شقير ومحمد علي طه. لكن تجريب هنية سيبدو مميزا أكثر، وهنا نحن أمام قصة أفاد في بنائها من عمله صحفيا.
ستشكل مذكرات منى وديوانها الجزء الأكبر من القصة، فقد بلغت سبع عشرة قطعة من اثنتين وأربعين، وستشكل شهادات صديقتها سامية والمقابلات التي أجراها معها الكاتب الضمني: أكرم هنية، ست قطع، وهي الأكثر من بين شهادات الآخرين الذين قد نصغي إلى رأيهم مرة أو مرتين يبدون فيها آراءهم فيما حدث مع منى وفي منى نفسها، وقد لا يبدون، كما حدث مع صديقها سعيد الذي آثر، حين أرسل إليه المؤلف الضمني رسالة يطلب منه فيها معلومات عن علاقته بمنى الصمت، داعيا إلى ترك الأموات يستريحون في قبورهم.
يكتب المؤلف الضمني في المقدمة التي صدر بها الشهادات التي شكلت التحقيق الذي لم ينشره رئيس التحرير، على الرغم من أنه دفع المكافأة لصاحبه، يكتب أنه بعد سنوات من كتابة التحقيق قرأه من جديد وهو يقلب أوراقه القديمة، وهذه هواية محببة إلى قلبه. وينشر أكرم هنية هذه الأوراق ضمن مجموعة قصصية. فكيف كان ترتيب الأوراق وما هي مكونات القصة؟
أولا: تصدير أكرم هنية.
ثانيا: الشهادات وهي مكونة من اثنين وأربعين مقطعا على النحو التالي:
1- عامل في مقهى.. في حديث خاص مع الكاتب.
2- من تقرير سري رفعته مديرة المدرسة التي عملت فيها منى، وحصل عليه الكاتب عن طريق رشوة أحد الموظفين في دائرة التربية.
3- من رسالة بعثت بها منى إلى سامية قبل أسابيع قليلة من موتها.
4- من دفتر مذكرات وخواطر منى. (ويرد اقتباس من هذا الدفتر في المقاطع 15، 18، 19، 22، 24، 26، 32، 35، 39، 41).
5- طالبة ثانوية درستها منى في حديث مع الكاتب.
6- من مقال كتبته منى في إحدى المجلات الشهرية العربية في استطلاع حول دور المرأة الفلسطينية والعربية.
7- إحدى زميلات منى في التدريس.
8- زميلة أخرى لمنى في التدريس.
9- سامية في حديث مع الكاتب عندما قدمت من الكويت في إجازة. (نصغي إلى سامية ونقرأ بعض كتاباتها في المقاطع: 12، 17، 20، 28، 30، 36، 38، 42).
10- محقق استجوب منى في حديث عبر صديق مشترك له وللكاتب.
11- من تعليق كتبه أحد النقاد التشكيليين حول لوحات منى، ونشره في صحيفة يومية.
13- الطبيب الشرعي الذي قام بتشريح الجثة في حديث مع الكاتب.
14- سعيد.م- أبو ظبي. رد من سعيد م. على رسالة بعث بها الكاتب إليه يسأل فيها معلومات محددة عن منى.ل.
21- من تقرير الشرطة ليلة اكتشاف جثة منى.
23- أحد معارف سعيد.
25- من ديوان منى "أوراق شتوية ملونة"، تاريخ الصدور: صيف 75، مكان النشر غير مثبت.
27- الطبيب الشرعي في حديث ثان مع الكاتب بعد أن توطدت العلاقة بينهما.
31- من رسالة إلى سامية.
33- صاحبة الشقة التي كانت تسكن بها منى في حديث مع الكاتب.
37- طبيب عالج منى.
40- صاحبة الشقة التي كانت تسكن فيها.
تعدد الأصوات والأسلوب:
لم نقرأ، في أدبنا الفلسطيني، في الأرض المحتلة، إلا ما ندر، قصصا وروايات، اتبع كاتبوها فيها أسلوب وجهات النظر. لقد حاول ذلك مصطفى مرار في مجموعة قصصية له، ولكن لم يلتفت إليه يومها، لأنه لم يلتفت إلى أدباء كانوا قريبي الصلة من الأحزاب الإسرائيلية الحاكمة. أما في أدبنا بشكل عام فربما يتذكر المرء كنفاني في "ما تبقى لكم" (1966)، وجبرا في "السفينة" (1970) وفي "البحث عن وليد مسعود" (1978). والسؤال الذي أثيره هو: هل قصة "شهادات واقعية..." تدرج تحت هذا الأسلوب؟
أوردت مكونات القصة لأقول إن هناك تعدد أصوات فيها، وأنها كانت لأصدقاء منى ولأعدائها، وكنا أيضا نصغي إلى صوتها هي من خلال دفتر مذكراتها. وهذه الأصوات هي للعامل ولمديرة مدرسة منى، ولطالبة علمتها، ولزميلتين لها، ولمحقق، ولناقد تشكيلي، وللطبيب الشرعي، ولأحد معارف سعيد، ولسعيد نفسه، ولصاحبة الشقة التي كانت منى تسكن فيها، ولطبيب عالجها.
ولأن موت منى كان مفاجئا، ولأنها لم تكن مواطنة عادية، ولأن أكرم هنية الصحفي أراد معرفة الحقيقة، ولأن لمنى من يحبها ومن يكرهها، فقد كان هذا الأسلوب مناسبا جدا لبناء القصة. وأرى أن الكاتب كان موفقا في ذلك.
الموقع والموقف:
يتحدد موقف الآخرين من منى اعتماداً على موقعهم وثقافتهم أيضا. قاومت منى الاحتلال، وأن تقاوم فتاة عربية المحتل وتسجن، فهذا يعني الكثير لمجتمع محافظ، ولهذا لم يرتح أهلها، وفضلوا أن تقيم خارج القدس، في بلد عربي. وهناك لم تهدأ منى، لقد واصلت نضالها الاجتماعي، وهذا ما أرق النظام هناك ومن يسيرون في فلكه، ومن يرغبون في حياة هادئة مستقرة بلا مشاكل. ومن هنا لم يرتح لمنى كل من صاحبة الشقة التي تقيم فيها، ومديرة المدرسة التي تدرس فيها، وبعض الزميلات ممن ينشدون الراحة، والمحقق. وليس مثل هؤلاء عامل المقهى الذي كانت منى تتردد عليه، وإحدى الطالبات التي علمتها منى. وسنجد أن سعيدا لا يعلن أي موقف سوى الحياد وطي صفحة الماضي، وذلك يعود إلى موقعه الجديد، فقد غدا موظفا في دولة خليجية، وثريا جدا، وليس غريبا أن يكرر أحد الأصوات المثل التالي: اطعم الفم.. تستح الأيديولوجيا، واصفا ما آل إليه سعيد الذي كان ثوريا. وكل من كان يساريا في السبعينات من القرن العشرين يعرف نماذج أخرى تشبه سعيد، فإذا كان أكرم هنية لم يعلن اسم عائلة منى، مكتفيا بالحرف الأول، فإن قارئه يمكن أن يشير إلى عشرات مثل سعيد، ويشير إليهم بالبنان، ومن المؤكد أن عشرات القراء، في أماكن مختلفة، يعرفون آلاف الأشخاص الذين يشبهون سعيد.
إن تعدد الأصوات في القصة يعكس مرايا متنوعة لمنى، ويمكن قراءة رأيين اثنين، رأي زميلة لها في المدرسة، ورأي إحدى طالباتها:
الزميلة: "اذكروا محاسن موتاكم.. لو لم تكن تتدخل فيما لا يعنيها ولو لم تحمل السلم بالعرض لعاشت حياة سعيدة".
الطالبة: كانت تشعرنا أنها أختنا الكبيرة... لا أتذكر أنها أساءت إلى واحدة منا. كنا نحبها ونحمل لها الورود كل صباح.. حدثتنا كثيرا عن الوطن البعيد.. لقد بكت كل الفتيات عندما سمعنا عن موتها..."
وقد تبدي لها بعض الأصوات صورة سلبية، مثل صاحبة الشقة، ولكن الأخيرة مصابة بالفصام، فهي تتهم منى في أشياء تمارسها هي.
مرآة منى:
تبدو منى مناضلة على الصعيدين: الوطني والاجتماعي. إنها تسعى لتحرير وطنها من الاحتلال، وتسجن لنشاطها، وحين تقيم في المنفى تواصل النضال من أجل مجتمع حر تسوده العدالة والحرية، وتدفع ثمن ذلك. تفصل من وظيفتها في المدرسة، ولا يوظفها أصحاب الشركات، لأنهم يخافون من نشاطها، هؤلاء الذين ينظرون إلى جسدها أكثر من نظرتهم إلى شهاداتها وكفاءتها. وحتى صديقها سعيد الذي كان مبدئيا، حتى سعيد تخلى عن مبادئه وتنازل للنظام وترك المدينة ذاهبا إلى دولة خليجية أصبحت فيها فوق الريح.
هل كانت منى مثالية؟ كانت هي نفسها تسأل ذاتها إن كانت كذلك، وكانت، كما تدون في دفتر مذكراتها، على استعداد للتنازل من أجل أن تظل علاقتها بسعيد قائمة، لكنه كان يريد المزيد والمزيد من التنازلات، لدرجة أنه أخذ يتدخل في لباسها وقصة شعرها. كأنما يريدها تابعة وبلا شخصية. هذا ما تقوله هي، فلا نسمع نحن صوت سعيد. وهذا ما يقوله الكاتب أيضا، المؤلف الضمني.
ومنى مثقفة وشاعرة ورسامة وعلى قدر من الجمال. وكان يمكن أن تحقق حياة هادئة ومطمئنة وعلى قدر من الاستقرار، لو لم تتدخل في السياسة، وتشارك في النضال الاجتماعي.
والسؤال الذي يثيره القارئ: هل ثمة وجود في مجتمعنا العربي لفتاة مثل منى؟ كان المؤلف أجاب في بداية قصته عن هذا السؤال، مستخدما كلمة ربما، ربما يوجد آلاف مثلها. ومن ينظر في واقعنا الفلسطيني فإنه، لا شك، واجدٌ مثلها. وربما أشير هنا إلى عائشة عودة وكتابها "أحلام بالحرية"، وكتابتها عن تجربتها وتجربة نماذج نسوية فلسطينية مشابهة.
وعموما فإن أكرم هنية، في قصته هذه وفي قصص أخرى كتبها، أبرز صورة إيجابية للمرأة: المرأة التي تصمد في الأرض على الرغم من ترك زوجها لها، وسفره إلى أمريكا والشتات، والطالبة الجامعية ندى التي تشارك في المظاهرات في الجامعة، والمرأة التي تقاطع زوجها حين تعلم أنه كان سمسارا أو باع أرضه لليهود. ونادرا ما أبرز صورة سلبية لفتاة أو لزوجة. أو للمرأة عموما؟ لا شك في ذلك.
كلمة أخيرة:
ثانية، يثير المرء، وهو يقرأ القصة المختارة للدراسة، سؤال الجنس. هل هي قصة قصيرة أم إنها كولاج- أي خليط من أنواع كتابية مختلفة؟
في القصة كم لا بأس به من المذكرات، وفيها إشارة إلى اقتباسات من رسائل عديدة، وفيها مقطع شعري، وفيها مختارات من مقالات، وتبدو أقرب إلى التحقيق الصحفي. ولقد أفاد كاتبها من هذا كله.
ويبقى أن مؤلفها أدرجها ضمن مجموعة قصصية، موقعا بذلك عقداً مع القارئ أنه سيقرأ قصة قصيرة. ثمة في القصة قدر كبير من التجريب، وثمة إفادة من الصحافة، ولعلنا لم نلحظ في قصة قصيرة أنجزت في الأرض المحتلة كلها، هذا القدر الكبير من التجريب. وتلك هي خصيصة هنية الذي، لا شك، أضاف إلى قصتنا القصيرة الكثير الكثير، مثله في ذلك مثل محمود شقير، ولقد كان هاجس التجديد والتجريب والإضافة النوعية يغلب عليهما، ويميز كل نتاج جديد لهما.
***
==============
1- أكرم هنية في جديده.. دروب جميلة القاتلة
2- قراءة تحليلية لقصة "عندما أضيء ليل القدس"
3- العجائبي في القصة القصيرة الفلسطينية : أكرم هنية نموذجا
4- القدس ... الأدب والنبوءة
5- عن «شارع فرعي في رام الله» لأكرم هنية
6- «شارع فرعي في رام الله» و«اخطية»
7- يوم قتل المواطن إبراهيم الأقرع ... يوم استشهد المواطن إبراهيم النابلسي.
8- شيطنة رام الله... تسويق رام الله
9- قراءة تحليلية لقصة "عندما أضيء ليل القدس"
10- بعد الحصار... قبل الشمس بقليل
11- شهادات واقعية حول موت المواطنة منى.ل
بعد انقطاع ست سنوات عن نشر القصة القصيرة يصدر القاص أكرم هنية مجموعته القصصية "دروب جميلة" (2007)، وكانت آخر مجموعاته القصصية "أسرار الدوري" (2001). وكتب القاص قصصه الأخيرة الثمانية ما بين 2004 و2006، ما يعني أنه لم ينقطع عن الكتابة، وإنما انقطع عن النشر.
وربما قرأ المرء العنوان قراءتين، قبل أن يقرأ القصص، الأولى: دروبٌ جميلةٌ، والثانية دوربُ جميلة. وفي الأولى تكون جميلة صفة لدروب التي هي خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه قصص عنوانها دروبٌ جميلةٌ، او مبتدأ خبره محذوف، ويكون التقدير: دروبٌ جميلةٌ قصصٌ قصيرة كتبها أكرم هنية. وفي الثانية تكون جميلة مضاف إليه مجرور بالفتحة بدل الكسرة، لأنها ممنوعة من الصرف.
وحين يقرأ المرء القصص فإنه سيقصي الاحتمال الأول، ويعزز القراءة الثانية. فجميلة هي الفتاة التي أحبها عيسى اليافاوي، ولم يعد يعرف عنها، أثر حرب العام 1948، شيئا، وخمن أنها سارت في دروب ثلاثة هي: "أن تذهب مع عائلتها برا إلى القدس أو رام الله أو غزة، أو أن تذهب بحرا إلى لبنان أو غزة، كما فعل آلاف من أبناء المدينة، أو أن تبقى في يافا" (ص55). ونعرف أنها بقيت في يافا، وأنها استشهدت مع عائلتها هناك.
وستكون الدروب صعبة وقاسية في كثير من القصص، بخاصة التي قارب القاص فيها الموضوعات الوطنية: زمن حسان، وكان ذلك قبيل موتنا، ودروب جميلة. وربما تذكر المرء، وهو يقرأ هذه القصص وعنوان المجموعة، إن كان قارئا للأدب العالمي، قصة (جورج أمادو) "دروب الجوع"، وقصة (جنكيز ايتماتوف) "جميلة". ودروب الأولى دروب جوع وقسوة، وقصة جميلة لا تسر أيضا، إذ أجبرت على الزواج ممن لا تحب، وقضت حياتها في هم وغم.
تأتي قصة "زمن حسان" على حياة الفلسطينيين إبان انتفاضة الأقصى، وعلى معاناتهم على الحواجز، وهكذا تكون دروبهم دروبا صعبة وقاسية. وتأتي قصة "كان ذلك قبيل موتنا" على سجان وسجين فلسطينيين، سار الأول في ركاب اتفاقيات (أوسلو)، وسار الثاني في ركاب المعارضة، ولم يَنجُ هذا أو ذاك، فقد ماتا، إبان انتفاضة الأقصى، إثر قصف الطائرات الإسرائيلية لسجن نابلس المركزي، وتأتي الثالثة "دروب جميلة" على قصة عيسى اليافاوي الذي يقيم في المنفى، في الكويت، بعد نكبة العام 1948، وهناك يموت، بعيداً عن مدينته وحبيبته التي كانت ماتت في عام النكبة.
وسيلحظ المرء ضربا من استحضار الماضي في بعض القصص سواء التي تناول كاتبها فيها موضوعا وطنيا "دروب جميلة" أو تلك التي أتى فيها ساردها على تجربة شخصية مر بها "في البحث عن الزميلة ندى"، وفي هذه لا ينفصل الهم العام عن الهم الخاص، وفي "ترانزيت الأطياف الشاحبة"، فهذه من ألفها إلى يائها تدور حول علاقة عابرة بين رجل وامرأة، في روما، يظن الرجل أنه كان يعرف المرأة، وهكذا يتساءل، إن كانت هي التي عرفها. وهذا ما يكون، ففي نهاية القصة تناديه المرأة/ نادية باسمه: رمزي، ما يؤكد له أنها هي.
وسيلحظ المرء أيضا أن أحداث القصص لا تدور في مكان واحد. فبعضها يجري في فلسطين: زمن حسان وكان ذلك قبيل موتنا ودروب جميلة [فلسطين والكويت] وألوان هادئه ومونولوج نهاري، وستة مقاعد في مقهى صغير، وبعضها يجري في الكويت: دروب جميلة، وفي مصر: في البحث عن الزميلة ندى، وفي روما: ترانزيت الأطياف الشاحبة.
وإذا كان هناك تنوع في المكان، فإن الأسلوب السردي يكاد يتقارب، فالقصص كلها، إلا في مواطن في بعض القصص، تسرد عبر الضمير الأول. ويختلف السارد فهو في "زمن حسان" حسان الذي ولد على الحاجز، والسارد في "كان ذلك قبيل موتنا" فلسطيني ينتمي إلى حركة فتح غدا موظفا في السلطة الوطنية بعد إنشائها، والسارد في "دروب جميلة" هو طبيب الأسنان الذي يسرد ما حدث معه، ويسرد أيضا ما سرده عيسى اليافاوي عليه، فالقارئ لا يصغي إلى عيسى يقص عليه، وإنما يصغي إلى طبيب الأسنان يقص ما مر به وما قصه عيسى عليه. وربما بدا الاختلاف في السرد قليلا في قصة " في البحث عن الزميلة ندى"، إذ نصغي إلى نحن تقص، ثم إلى أنا من ضمن النحن تقص. مرة يقص الخمسة معا، ومرة يقص واحد منهم عن تجربته هو. وتشبه هذه القصة القصة الأخيرة "ستة مقاعد في مقهى صغير" ففيها نصغي إلى سبعة شخوص: أربعة رجال وامرأتين وصاحب المقهى، كل يقص ما يفكر به، وما يدور في خلده. وإذا كنا في "في البحث عن الزميلة ندى" نقرأ قصا بضمير الأنا. فالأفراد ليسوا أصدقاء عاشوا، فترة، متقاربين، وإنما هم لا يعرفون بعضهم، وما يجمعهم هو المكان الذي يجلسون فيه، كل على طاولة منفردة. المكان، لا العلاقات، هو ما يجمعهم.
وربما كانت بعض قصص هذه المجموعة غير منفصلة عن قصص سابقة للكاتب نفسه، بخاصة قصة "في البحث عن الزميلة ندى"، فقارئها سرعان ما يتذكر قصة "وردتان للزميلة ندى" التي برزت في مجموعة "هزيمة الشاطر حسن" (1980). السارد في الثانية "في البحث عن الزميلة ندى" يزور القاهرة للمشاركة في مؤتمر عن العولمة. وحين يشاهد صورة ندى في الصحيفة يتذكر علاقته معها قبل خمسة وعشرين عاما، ويحاول أن يتصل بها. ما الذي يربطه بها الآن، وقد غدت له عائلته وغدت لها عائلتها؟ هذا هو السؤال الذي يراود السارد، ثمّ عمّ سيتحدثان؟ ويتذكر الأيام الجميلة التي عاشها معها يوم كان طالبا جامعيا يدرس في القاهرة. يتذكر أيام المظاهرات والاجتماعات والحب وما شابه.
هل القصة السابقة هي القصة الوحيدة التي تذكر قارئ قصص هنية الجديدة بقصصه السابقة؟ لا أظن ذلك، فهناك قصص أخرى فيها من السمات المشتركة مع القصص السابقة ما فيها. كان أكرم هنية يلجأ أحيانا كثيرة في بناء قصصه إلى المخيلة واللامعقول، وهذا ما بدا في قصص مثل: "مؤتمر فعاليات القرية يصدر نداءً هاماً"، و"قبل الحصار" ...بعد الشمس بقليل... في الأولى ترفض الأجنة الخروج من أرحام الأمهات، لأن الآباء يقيمون في المنافي، ولا تريد الأجنة حياة بلا آباء، أو بآباء بعيدين عن الوطن، وفي الثانية يصحو أهل القدس، ذات صباح، ليجدوا الصخرة انسرقت. وفي زمن حسان، في المجموعة الجديدة "دروب جميلة" يولد حسان على الحاجز، وينمو، ويذهب إلى المدرسة، ويدخل إلى الجامعة، ويتزوج، وينجب، والحواجز التي أقيمت بعد 2002 بين مدن الضفة ما زالت موجودة. لا تخلو القصة من عنصر الخيال الذي برز في قصص الكاتب منذ بدأ يكتب. وليس عنصر الخيال هو العنصر الوحيد. في المجموعة الجديدة يعود هنية ليكتب قصصا ذات بناء، وهو ما يبدو في قصة "كان ذلك قبيل موتنا"، وهو بذلك يواصل ما بدا في قصص سابقة له مثل قصة "عندما أضيء، ليل القدس" (1986) وقبلها "يوم قتل إبراهيم الأقرع". ثمة لازمة تتكرر في القصة بين فقرة وفقرة، أو ثمة تواز في السرد، فتارة يسرد بضمير الهو وطورا بضمير الأنا، وسنلحظ هذا الأسلوب يبدو بارزاً مؤخرا في رواية الفلسطيني أنور حامد "حجارة الألم" (2005) المكتوبة بغير العربية أصلا، والمنقولة إليها، وفي رواية "شيكاغو" (2007) لعلاء الأسواني.
قصة زمن حسان نموذجاً:
في قصة "زمن حسان" نصغي إلى حسان يقص علينا قصته، وكما ذكرت، فقد ولد حسان على الحاجز. والحاجز بين مدن الضفة وقراها غدا أمرا قائما منذ اشتدت انتفاضة الأقصى واتخذت الأحداث فيها مجرى عنيفا، وتحديدا منذ التفجيرات التي قام بها الفلسطينيون في الحافلات الإسرائيلية والأسواق والمطاعم في المدن الإسرائيلية أيضا. كان الحاجز منذ العام 1967 طيارا في الغالب، يقام في مكان معين، لفترة معينة، ثم سرعان ما يزول. والمشكلة الأساس كانت في جسور العبور بين الضفتين الشرقية والغربية، فعلى هذه الجسور قاسى الفلسطينيون وعانوا، ومروا بحالات من الإذلال: الفحص الآلي، والانتظار والتحقيق والمنع من السفر، والاقتياد إلى السجن، وربط الحطة والعقال بالحذاء. وقد عبر الأدباء، شعراءَ وقصاصين، عن هذا كله في أشعارهم وقصصهم. وربما يتذكر قراء فدوى طوقان قصيدتها المشهورة عن حالة الذل التي مرت هي بها، مثل مئات الآلاف من الفلسطينيين.
وفي فترة انتفاضة الأقصى لم تخل كتابات كثيرة من الكتابة عن الحواجز وما يلم بالناس عليها. ثمة عشرات، بل مئات المقالات، وثمة قصص ربما كان أبرزها قصة عزمي بشارة "الحاجز" (2004) التي نعتها بأنها "شظايا رواية"، وفيها صور، بلوحات ساخرة، معاناة الفلسطينيين على الحواجز.
فكرة قصة زمن حسان، إذن هي فكرة مطروقة نوعا ما، فما الجديد الذي أتى به أكرم هنية؟ هذا هو السؤال الذي يثيره المرء حين يقرأها.
حين بدأ أكرم هنية يكتب القصة القصيرة وينشرها، هنا في فلسطين، كانت قصصه لافتة من نواح عديدة، فهو كان من أوائل الذين وظفوا التراث العربي الشعبي والفصيح، في قصصه، مثله مثل إميل حبيبي في فلسطين المحتلة في العام 1948، وهو كان أول من وظف اللامعقول في بناء قصصه أيضا. وربما أفاد في ذلك من دراسته الأدب الإنجليزي، وإقامته فترة طويلة في القاهرة، ما بين 1971 و 1976، وهو أيضا أول من بنى قصته على أحداث كانت تبدو خيالية، لكنها مع مرور الأيام غدت أمرا واقعا. إن بناء قصة يتخيل فيها الراوي سرقة الأقصى، في العام 1979، كان أمرا جديدا في قصتنا. الحدث متخيل فلم تسرق الصخرة، لكن أكرم هنية الذي بدأ يزور القدس يوميا، ليعمل في جريدة الشعب محرراً فرئيس تحرير، كان يشاهد المستوطنات تكبر على أطراف المدينة، وكان يصغي إلى أخبار تتحدث عن محاولات صهيونية عديدة لشراء بيوت في البلدة القديمة، وهكذا رأى أن القدس في طريقها إلى الضياع.
في قصة زمن حسان، يعيد الكاتب كتابة أحداث الواقع كتابة فيها قدر كبير من الخيال. فحسان الذي يولد على الحاجز، في انتفاضة الأقصى، أي بعد 28/9/2000، يكبر ويتعلم ويذهب إلى المدرسة ويدخل إلى الجامعة ويتخرج منها، ويغدو موظفا ثم يتزوج وينجب أيضا. والمدة ما بين ولادته وإنجابه لا تتجاوز السنوات الخمس أو الست على أكثر تقدير. وهنا يريد القاص أن يقول: لقد غدا الحاجز أمرا واقعا. لقد أقيمت قرية على الحاجز، بني فيها بيوت، وجاءها أغراب ليقطنوا فيها، وتشكل لها مجلس محلي، وما زال الحاجز حاجزا. ونمت بين أفراد حرس الحدود والجيش الإسرائيلي وبين حسان وأترابه علاقات، تبدو أحيانا صاخبة ملتهبة، حيث يرشق الناس الحجارة على الجنود، وتبدو أحيانا أخرى عادية، ولا أريد أن أقول: علاقات فيها قدر من الصداقة. فحسان حين يحادث الجندي الأرمني (أفنر)، في لحظات الهدوء، يحادثه بخجل، ذلك أن الجندي جندي احتلال، على الرغم من إنه صارح (حسان)، ذات مرة، بأنه أراد أن يترك السيارة التي كانت فيها أم حسان وقريباتها، ليلة ولادة حسان، تمر لتلد أم حسان ابنها في المشفى، لا على الحاجز، كما حدث، ولكنها الأوامر التي تلقاها (أفنر)، هي التي حالت بينه وبين السماح للسيارة بالمرور.
نحن إذن في القصة أمام قصة للخيال في بنائها نصيب كبير، علماً بأن كل ما يرد فيها يجري يوميا على الحواجز، وربما جرى عليها أكثر بكثير مما ورد في القصة، بل وأعنف بكثير منها، وربما يتذكر أهل مدينة نابلس قصة الفتاة النابلسية ميسون الحايك المتزوجة من شاب ريفي كان تعرف إليها في الجامعة فتزوج منها، وأنجب طفلة، لكنه قتل على الحاجز، وهو ينقل زوجته لكي تلد في المشفى، وأصيب أبوه بجراح خطيرة. وسيكون عيد ميلاد البنت، إن كان عيدا، مناسبة قتل والدها.
ينتزع أكرم هنية إذن أخبار قصته من الواقع، لكنه لا يكتب قصة واقعية مائة بالمائة، فللخيال، كما ذكرت نصيب فيها. وهي قصة تذكرنا برواية سليم بركات "فقهاء الظلام" (1985)، وأظن أن أكرم هنية قرأها، فلقد تسربت نسخ منها، في حينه، إلى القدس، بعد أن أصدرها محمود درويش عن سلسلة كتاب "الكرمل" الذي صدرت عنه أعمال أكرم هنية معا. وتقوم رواية "فقهاء الظلام" على حدث متخيل. إن سليم بركات يعيد كتابة ما يجري في قرية كردية بأسلوب خيالي، فبطل الرواية يولد ويكبر وينمو ويتزوج ويخلف، وكل هذا يجري في عام واحد. هكذا ينمو ويكبر فجأة، ويريد أن يتزوج مرة واحدة، ويحاول الأب أن يتهرب منه، لكن زوجته تقترح عليه أن يزوجه من ابنة أخيه "مهمد". وهكذا ينمو البطل في الساعة الواحدة ما يقارب ثلاثة أعوام. وحجة البطل في ذلك: "يوم واحد يكفي. أن تستمر في التذوق يعني ألا تعيش أكثر. المعرفة تكفي والإحساس بالطعم شواذ في القاعدة". (ص27)
وربما تذكر قارئ قصة هنية قصيدة محمود درويش "جندي يحلم بالزنابق البيضاء". فثمة حوار في القصة، في لحظات الاسترخاء على الحاجز، بين حسان وبين (أفنر) الذي لم يخدم هو فقط في الجيش الإسرائيلي، وإنما أرى حسانا صورة لابنائه الثلاثة، وهم يرتدون بدلة (تساهال). يجري الحوار التالي بينهما:
"أذكر أنني سألته، وأنا أتصبب عرقا في ظهيرة يوم حزيراني لافح: أفنر.. كم فلسطينيا قتلت في حياتك؟
لم يهزه السؤال، وإن تردد قبل أن تخرج الكلمات منه بطيئة: لا أعتقد أنني قتلت أحدا، ويضيف: ربما جرحت عديدين" (ص22).
وهذا الحوار نقرأ مثيلا له في قصيدة محمود درويش المذكورة التي عاد وكتب قصيدة قريبة منها، من جديد، في ديوانه: لماذا تركت الحصان وحيداً (1995) هي قصيدة "عندما يبتعد". في جندي يحلم بالزنابق البيضاء يجري بين الشاعر والجندي الحوار التالي:
- وكم قتلت؟
– يصعب أن أعدهم...
– لكني نلت وساما واحداً.
– سالته معذبا نفسي، إذن
صف لي قتيلا واحداً.
أصلح من جلسته وداعب الجريدة المطوية
وقال لي كأنه يسمعني أغنية:
كخيمة هوى على الحصى
وعانق الكواكب المحطمة
(ص216) من أ.ك.ط6/1987)
وعموما فإن قارئ دروب جميلة سيقرأ قصصا تقارب الهم الوطني، وأخرى تقارب الهم الذاتي الإنساني أيضا، وأهم ما يميزها أنها قصص لا تخلو من عنصر التشويق.
دروب جميلة القاتلة
***
2- قراءة تحليلية لقصة "عندما أضيء ليل القدس"
هذه القراءة التحليلية لقصة أكرم هنية "عندما أضيء ليل القدس" تنجز بمناسبة صدور أعماله القصصية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (2003) في بيروت.
ويعود السبب في اختيار هذه القصة دون غيرها، إلى أسباب منها أنني اخترت عنوانها، مع بعض التغيير، لكتابة مقالة عن أكرم هنية، يوم إبعاده، في العام 1986، وكان مقالا عابرا سببه مناسبة غير سارة، ومنها أن القصة لها في نفس مؤلفها وقع مميز، وهذا ما أخبرني به أحد طلبة الدراسات العليا الذي أنجز رسالة ماجستير في قصص أكرم هنية، ولكنه لم يدرس القصة إلا ضمن دراسته قصص الكاتب كلها، وهكذا لم يخصص لها مساحة كاملة، وهذا ما سأفعله هنا، وثمة ما هو متعلق بالسبب الأول، وهو عودتي المتأخرة لنصوص قديمة كتبت عنها مقالات أو أشرت إليها في دراسات، لأكتب عنها، من جديد، لاختبار مقولة نقدية من مقولات نظرية التلقي الألمانية، وهي أن قراءة نص واحد من قارئ واحد، في زمنين مختلفين تؤدي إلى قراءتين مختلفتين، وسبب ذلك الثقافة التي يكتسبها القارئ، وتطور آرائه ووعيه النقدي، واختلاف حالته في أثناء القراءة.
بين يدي النص:
كتب أكرم هنية هذه القصة ونشرها في مجموعة "طقوس ليوم آخر" (قبرص، 1986)، وضَمَّت هذه المجموعة مجموعات القاص الثلاثة الصادرة في (1979) (1980) (1981)، والقصة، بالإضافة إلى سبع قصص أخرى لم تظهر في المجموعات الثلاثة الأولى. هذا يعني أن أكرم هنية انقطع خمس سنوات عن إصدار أية مجموعة جديدة، وهذا يعني أيضا أنه ما عاد مكثرا في كتابة القصص، كما بدأ في سنوات كتابته الأولى. ويمكن قول الشيء نفسه عن مجموعة "أسرار الدوري" (2001) التي صدرت بعد خمسة عشر عاماً من صدور "طقوس ليوم آخر".
اعتمادا على تاريخ النشر يمكن الإشارة إلى زمن الكتابة، وهو، كما يفترض، 1986، وهذان الزمنان خارجيان، مثلهما مثل زمن القارئ. ولكن ماذا عن الزمن الداخلي؟ يستطيع المرء أن يحدد هذا الزمن اعتمادا على معطيات داخلية، وإن لم يذكر بالضبط. ثمة في النص إشارة إلى الاحتلال، احتلال اليهود المدينة، وتم هذا كما نعرف، بعد العام 1967. وثمة في النص أيضا إشارة إلى الحرب اللبنانية، الحرب الأهلية، وابتدأت هذه منذ 1975، واستمرت إلى فترة كتابة القصة. وإذا كان هذا هو الزمن القصصي المعيش من أكثر شخوص القصة، فإن رجل الضوء ذا الدلالة الرمزية يعود بنا إلى أول مزارع كنعاني زرع أشجارا في فلسطين، ويمر بنا مرورا عابراً في تاريخ الغزوات، فهو الجندي البسيط الذي حارب الغزاة، وهم كثر، وهو العامل الذي بنى سور القدس، وهو الفلاح الذي ألقى أول حجر على سفينة الغزاة عام 1882، وهو الرجل الذي ظهر على سور القدس زمن القصة وجريان أحداثها.
ويستطيع القريب من أكرم هنية، الذي عايش الأحداث زمن كتابتها، وزار القدس في حينه، يستطيع أن يحدد الزمن القصصي، وهو 1985 أو قبلها بقليل، ففي هذا العام استرخى أهل الضفة، وبدأوا يمارسون طقوسا أتى عليها المؤلف الضمني في الصفحتين الأولى والثانية من القصة، إنها أجواء ليالي رمضان في ذلك العام، أجواء الفرح والسهر التي لم يكن يعكر صفوها سوى دوريات الجيش الإسرائيلي.
السارد في القصة:
ليس هناك سارد واحد يسرد القصة من أولها إلى آخرها، هناك مؤلف وهناك أربع شخصيات نصغي إليها، كما نصغي إلى كلام المؤلف. والمؤلف غير محدد الملامح، ويستطيع المرء ان يطابق بينه وبين أكرم هنية الكاتب. وكان أكرم هنية، في حينه يعمل في جريدة "الشعب" المقدسية ويرأس تحريرها، وكان على قرب شديد من أجواء المدينة التي أتى المؤلف على وصفها. المؤلف، إذن، وهو المؤلف الضمني، لا يختلف عن الكاتب الحقيقي للقصة، عن أكرم هنية، ويتم السرد هنا بضمير الهو، الضمير الثالث. ولكن هذا الضمير يتغير فلا يسيطر على القصة كلها، إذ أن الشخصيات الأخرى: الطفل الفتاة، الرجل، رجل الضوء، تتكلم وتقص عن ذاتها وعما جرى معها من خلال الضمير الأول، ضمير الأنا. ويبدو السارد/ المؤلف كلي المعرفة، إذ يعرف الكثير عن المواطنين. ولغة السارد، مثل لغة شخوصه، هي العربية الفصيحة. لكأن أكرم هنية أدخل لغة شخوصه في مياه نهر (ليثي) كما يقول (ميخائيل باختين)، حيث انصهرت كلها في مستوى واحد، وبذلك تكون لغة القصة أقرب إلى لغة الشاعر الغنائي، هذه التي لا تعدد في المستوى اللغوي فيها. المؤلف يكتب بالفصيحة، والطفل يتكلم بالفصيحة، وكذلك الفتاة والرجل، بل أن رجل الضوء الذي تعود جذوره إلى بداية الحضور الكنعاني في فلسطين يتكلم العربية الفصيحة.
بنية النص:
يتكون النص من أحد عشر مقطعا على النحو التالي:
المؤلف [حوالي 96 سطرا].
الطفل [ثمانية أسطر].
الفتاة [سبعة عشر سطرا].
الرجل [خمسة وثلاثون سطرا].
رجل الضوء [أربعة أسطر].
المؤلف [أربعة أسطر].
الطفل [أربعة أسطر].
الفتاة [سبعة أسطر].
الرجل [خمسة أسطر].
10- رجل الضوء [ثمانية أسطر].
11- المؤلف [تسعة أسطر]. [طبعة الكرمل، 1986].
يفتتح المؤلف الضمني النص ويختتمه، وما بين الافتتاح والاختتام يظهر أيضا في الوسط، إنه يتكلم ثلاث مرات، فيما يتكلم الآخرون مرتين، وتبدو القصة، إذا استعرنا من الشعر مصطلحاته حول شكل القصيدة الحديثة، تبدو دائرية الشكل وحلزونيته في الوقت نفسه. المؤلف هو نقطة البدء، وهو نقطة الوسط، وهو نقطة النهاية. وثمة في المقطع الأول أيضا عبارة مركزية يعود إليها المؤلف كلما سرد فقرة لتكون نقطة انطلاق لمواصلة القص. إنها عبارة "صاح الطفل: انظروا"، وتتكرر هذه في المقطع الأول على النحو التالي:
صاح الطفل: انظروا.
صاح الطفل: انظروا.
انظروا "صاح الطفل.
صرخ الطفل: انظروا.
انظروا. انظروا. انظروا. أخذ الطفل يصرخ محتداً.
وثمة عبارات دالة أخرى في النص وهي:
ليل القدس الطويل.
.... يبحثن عن زبائن لليلهن الطويل.
أقص شعري.. أعرف أنه يحبه أسود طويلاً كالليل الذي اعتاد أن يسير فيه.
وانبعثت عندما كنتم تصنعون مهرجان الألوان في هذا الليل الطويل.
وهي أيضا:
حتى لعلع الرصاص [ينتهي بها المقطع 1 و2 و 3 و4].
عندما لعلع الرصاص [ينتهي بها المقطع 5].
قد أطلقوا النار بغزارة نحوه [ينتهي بها المقطع 6].
عندما سمعنا صوت الرصاص [ينتهي بها المقطع 7].
عندما لعلع الرصاص [ينتهي بها المقطع 8].
عندما انهال الرصاص عليه [ينتهي بها المقطع 9].
أطلقوا الرصاص [ينتهي بها المقطع 10].
وينتهي المقطع الحادي عشر، بصوت المؤلف:
"كانت القدس تستحم في بحر الضوء الرقيق الحالم الذي انبثق فيها، وفي بحر البشر المحتشدين في كل مكان. ونسمات منعشة تهب من جميع الاتجاهات. وكان العلم "يرفرف عالياً".
ثمة رجل هو رجل الضوء، يحل في رجل من أهل القدس، في ليلة من ليالي رمضان، ويرى فيه الناس شخصا عزيزاً عليهم، يلفت طفل الأنظار إليه بعبارة: انظروا، ويصعد الطفل إليه وكذلك الفتاة والرجل، ليلتقوا به، ولكن ما يفرق بين هؤلاء ورجل الضوء هو الرصاص، وهكذا يجرح رجل الضوء، ويختفي لكنه لا يموت، وهكذا تنتهي القصة بإعلاء العلم الفلسطيني الذي يرفرف فوق أسوار القدس عالياً.
إن ليل القدس طويل، لأن القدس تحت الاحتلال، والناس ينتظرون المخلص، الفادي، الثوري، وحين يظهر يتطلعون إليه، لكن رصاص الجنود يلعلع ولا يكتمل اللقاء.
لنعد إلى بناء النص:
يعقب كل عبارة في المقطع الأول عبارة أخرى، باستثناء العبارة الأولى، حين يكرر الطفل عبارة انظروا ثانية، يعقب المؤلف: لم يستمع إليه أحد. وحين يكررها الطفل ثالثة يعقب المؤلف: لكن أحدا لم ينتبه إليه وهو يشد ثوب أمه المنشغلة بالحديث مع...، وحين يكرر صراخه، يعقب المؤلف: لكن أحداً لم يستمع إليه وقد أخذتهم الرهبة، وفي المرة الخامسة يصرخ الطفل ويبكي ويشير بيديه وهنا: انتبه بعض لصرخته وإلحاحه ونبهوا غيرهم".
لكأن أكرم هنية يقول: خدوافالها من أطفالها، ولكأنه تنبأ بالانتفاضة التي اندلعت في نهاية العام 1987، وكان للأطفال دور بارز فيها. ولكأن أكرم هنية يقول: ولكن من يصغي إلى هؤلاء ويستمع إليهم.
نأتي إلى ردود الأفعال إزاء بروز رجل الضوء. يلجأ القاص، قبل أن يخصص حيزاً للطفل والفتاة والرجل، إلى تصوير ردود أفعال الناس إزاء ظهور رجل الضوء، وتبدو على النحو التالي:
"هتف رجل وهو يبكي: أنه ابني قتله اليهود.
"وصرخت امرأة كان يحيط بها أطفالها: إنه ابني الذي استشهد في لبنان".
" وهتف رجل مأخوذ بغرابة ما يجري: إنه المهدي المنتظر".
"وقالت امرأة عجوز: إنه ابني التائه في المنفى".
"وقال شاب بسرعة حاسمة: إنه شقيقي المعتقل في السجن".
"وقال آخر: "إنه ولي من أولياء الله في هذه الليلة المباركة".
"وتقدم طفل للأمام وسط الجموع: إنه أبي الغائب في السجن".
"وقالت امرأة وهي ترسم علامة الصليب: يا عذراء. إنه يسوع. يسوع يا مخلصي".
"وارتعش جسد فتاة لم تحاول مقاومة دموعها وهي تهمس: إنه حبيبي. اعرفه. إنه فارسي.. انتظرته طويلا. ها قد أتى".
وكما يقول المثل الشعبي "اللي على بال أم حسين بتحلم فيه بالليل"، وكل واحد من أبناء الشعب الفلسطيني يفتقد عزيزا، وهكذا يرى كل واحد من أهل القدس وزوارها في رجل الضوء العزيزَ الذي يفتقده.
ولا يخوض أكرم هنية في قصة كل واحد من هؤلاء، إنه يختار ما قاله الطفل، وما قالته الفتاة، ويضيف إلى هذين قصة رجل آخر لم نصغ إلى صوته بين الأصوات. وتسير القصص الفرعية على النحو التالي:
الطفل: كان أول من رأى رجل الضوء، وأول من صعد نحوه. يقول الطفل: "شعرت أنه يشبه أبي الغائب منذ سنوات، والذي تقول أمي إنه سافر". ويضيف" عندما رآني فتح ذراعيه، ورفعني عالياً وضمني إليه"، ولكن ما يفرق بينهما الرصاص.
هكذا يكون رجل الضوء الأب الغائب، ولكنه لا يتخلى عن أبنائه.
الفتاة: تنتظر حبيبها، مع أنهم قالوا لها إنه لن يأتي، إلا أنها واثقة من أنه لا يتأخر عن موعده، وتصعد إليه وتعانقه، ومدّ يده وربت على كتفي، مسح دمعة من عيني، وبدأنا نتحدث". ولكن ما يفرق بينهما الرصاص.
تعده أنها ستنتظره، ويتعهد بأنه لن يغيب طويلا. وهكذا يكون الحبيب الوفي.
الرجل: الرجل متزوج وله أبناء، وبدا رجل الضوء رفيق عمره وصديقه الذي لم يره منذ زمن طويل، لقد قاتلا معا في لبنان واختفت أخبار رجل الضوء، ودارت حوله الشائعات. هل استشهد؟ هل أسر؟ هل التجأ إلى الجنوب؟
ويصعد الرجل إلى السور لملاقاة صديقه رجل الضوء، ويتبادلان معا حديثا قصيرا، ولكن ما يفرق بينهما هو رصاص الاحتلال. يسأل رجل الضوء صديقه عن أمه وأبيه- أم رجل الضوء وأبيه ويعد أنه سيعود. إنه الوفي لصديقه ولأمه ولأبيه.
رجل الضوء: يظهر رجل الضوء عندما رأى الناس يبحثون، في ليل القدس الطويل، عن نسمة هواء وضحكة ولحظة فرح. ويقول: "كان لا بد أن أظهر".
ويخبرنا عن نفسه بالتالي:
"لست أنا تماماً من رأيتموه، ولكنني هو بصورة أو بأخرى. لست ملاكا ولست شيطاناً". و"أنا مزيج لقائكم". واللقاء لا يقتصر على أهل القدس. إنه يضم أهل القرى والمخيمات المجاورة.
وكما ذكرت فثمة دلالة رمزية لرجل الضوء تتضح من خلال الفقرة التالية:
"ولدت عندما رأيتموني أضيء القدس. ولكنها لم تكن حياتي الأولى. عشت قبلها حيوات كثيرة في عصور أخرى.
وكما أشرت، فإنه، لحظة ظهر، تقمص رجلا كان واقفاً على السور. وثمة امتداد أفقي وآخر عمودي له. له عائلة وله أطفال وله حبيبة وله أصدقاء، وقد اتضح هذا من خلال القصص الثلاث، كما لاحظنا. ولكنه أيضا ظهر في العصور الأخرى على النحو التالي:
المزارع الكنعاني الذي زرع أول شتلة هنا.
الجندي البسيط الذي حارب الغزاة في فلسطين.
العامل الذي بنى السور.
الفلاح الذي ألقى أول حجر على سفينة الغزاة عام 1882.
وكما له امتداد في المكان، في القدس، له امتداد في الزمان
إنه تموز الفلسطيني، ولد مرات عديدة ومات مرات عديدة. مات على يد الأعداء، ومات على يد الأصدقاء، وله قبور في عمان والشام وبيروت والجنوب. ويشعر أنه يعرف كل واحد من أهل القدس. وهو النور، وحين أطلق الإسرائيليون النار عليه أطلقوها لأنهم لم يتحملوا النور. وحين مات كان موته الجديد. "رحلت بعيداً. إن رجل الضوء، هنا، مثل احمد العربي في قصيدة محمود درويش. احمد الذي يقول:
كلما آخيت عاصمة
رمتني بالحقيبة،
فالتجأت إلى رصيف الحلم والأشعار،
كي أجدد قامتي
المستوى اللغوي في النص:
على الرغم من تعدد الشخوص في النص واختلاف ألسنتهم الاجتماعية: مؤلف، طفل، فتاة، رجل محارب، رجل الضوء الأسطوري الذي عاش في أزمنة متعددة، إلا أن المستوى اللغوي في القصة هو مستوى لغوي واحد. لقد أسلب القاص لغة شخوصه، وأدخلها في مياه نهر (ليثي)، على رأي (ميخائيل باختين). لقد فعل ما يفعله الشاعر الغنائي الذي يطغى على لغته مستوى لغوي واحد.
النص والنصوص الأخرى:
يستطيع المرء أن يبحث في نصوص أخرى للكاتب، ليعزز بعض مقولات النقد البنيوي، ومنها إن ثمة صلة ما يمكن العثور عليها في كتابات كاتب ما، بل وفي نصوص عصر ما، وحين يحاول الناقد أن يتأكد من صدق هذه المقولة في قصص أكرم هنية، فهل يعثر على ما يصل هذه النص بنصوص أخرى للكاتب. أرى شخصيا أن أقرب نصين لهذه القصة هما قصة "القرار" (1980) وقصة "شهادات واقعية حول موت المواطنة" منى. ل"" (1980). في القصة الأولى هناك إشاعة ما تنطلق من البلدة القديمة في نابلس، وهناك رصد لردود الفعل إزاءها، وفي الثانية هناك حادث موت/ انتحار منى. ل، وهناك أيضا رصد لآراء معارفها وأصدقائها وزميلاتها. ثمة في القصص الثلاث حدث بارز لافت، وثمة رصد لردود فعل الآخرين/ إزاءه. وأكرم هنية المهني الصحفي، منذ تخرجه، والسياسي منذ أيام الدراسة في الجامعة، مُنْغَمِس في الواقع، بسبب موقعه، وراصد جيد لآراء الآخرين، إزاء حدث لافت. ولعلني لا أبالغ حين أرغم إنه أبرز كاتب قصصي في فلسطين يدون في قصصه تفاصيل الواقع في الجانب السياسي. الأخبار كلها تأتي إليه وهو في موقعه في الجريدة، وهو بطريقة أكاد أقول مذهلة يرصدها في قصصه، وربما ما كان ليتمكن من ذلك، لولا عمله الصحفي الذي انعكس على قصصه فميزها، وجعل لصوته القصصي اختلافا واضحا.
تحيلنا الكتابة عن صلة النص بنصوصه الأخرى إلى الكتابة عن النص وصلته بنصوص أخرى سابقة ولاحقة. هل يستطيع المرء أن يزعم أن هذا النص متأثر بنصوص سابقة، وأنه ترك أثره في نصوص لاحقة.
تذكر عبارة ليل القدس الطويل المتكررة في القصة، تذكر "قارئ جبرا إبراهيم جبرا بعنوان روايته "صراخ في ليل طويل" (1956)، فهل كان العنوان ترك أثرا على أكرم هنية؟ مجرد تساؤل، مع أن ثمة فارقا بين ما ورد في النصين. الليل الطويل في نص جبرا هو ليل التخلف الاجتماعي، والليل الطويل في قصة هنية هو ليل الاحتلال الجاثم على القدس منذ 1967 حتى تاريخ كتابة القصة، وحتى اللحظة.
تحيل العبارة المتكررة المرء إلى عنوان نصي القصصي "ليل الضفة الطويل". هل كانت العبارة في لا وعيي حين جعلتها عنوانا للنص. كلا النصين يأتيان على واقع الناس تحت الاحتلال.
سئل (امبرتوايكو) من بعض القراء، حين انتهى من كتابة روايته "اسم الوردة"، إن كان قرأ رواية ما فيها شبه بروايته. وكان جوابه: ربما أكون قرأتها، ولكنها لم تكن حاضرة في ذهني وأنا أكتب روايتي. ولا أنكر أنني قرأت قصة هنية وكتبت عنها كتابة عابرة، فهل تركت أثرا عليّ؟ وهل كان لها تأثير على نصي؟ ربما.
كلمة أخيرة:
يكتب أكرم هنية قصته عن فرح أهل القدس في عام 1985، ولكنه يكتب عن فرح لم يكتمل. عن فرح ناقص، فثمة غياب ما سببه الاحتلال، ورجل الضوء في القصة هو الفدائي، وهو الشهيد، وهو ابن هذه البلاد الذي زرعها، وقاوم غزاتها. إنه ليس ملاكا وليس شيطانا. ولعل هذه القصة مثل قصص كثيرة أبرزها بعض قصص مقهى الباشورة لخليل السواحري، وقصة "أبو جابر الخليلي" لتوفيق فياض، وقصة "في الطريق إلى البلدة القديمة" لمحمود شقير، لعل هذه القصة، مثل هذه القصص، ذات أهمية كبيرة لمن يريد أن يدرس مدينة القدس والحياة فيها في ظل الاحتلال. وهي قصص كتبها قاصون عرفوا المدينة وشارعها وأزقتها، والتقطوا تفاصيل الحياة فيها، وكانوا- أي القصاصون- يكتبون عما رأوا وعاشوا وشاهدوا، ولهذا كانت لقصصهم نكهة خاصة.
***
3- العجائبي في القصة القصيرة الفلسطينية : أكرم هنية نموذجا
في كتابه " مدخل إلى الأدب العجائبي " يقتبس ( تزفتين تودوروف ) القول الآتي ل ( بيتر بنزولدت):
"بالنسبة لكثير من الكتاب لم يكن فوق - الطببعي سوى ذريعة لوصف أشياء ما كان لهم أبدا أن يجرؤوا على رسمها بكلمات واقعية " .
هذه المقولة أعادتني إلى الفترة التي عملت فيها محررا في جريدة " الشعب " المقدسية في نهاية سبعينيات القرن العشرين وبداية ثمانينياته .
في تلك الفترة توقف بعض الكتاب عن الكتابة ، لأن ما يكتبونه لا يجد طريقه إلى النشر ، فالرقيب العسكري الإسرائيلي الذي تعرض عليه كتاباتهم لإجازتها غالبا ما كان يعترض على نصوصهم التي يشتم فيها رائحة الدعوة إلى مقاومة الاحتلال ، وكان أكثر الكتاب يؤمنون بأن كتابتهم لا قيمة لها إذا بقيت حبيسة مكاتبهم ولا يقرؤها جمهور القراء ، فالكتاب في ذلك الوقت كانوا يؤمنون بفاعلية الكتابة ودورها وأهميتها في النضال ضد الاحتلال .
شخصيا وجدتني أقدم للكتاب اقتراحا عمليا ، لتجاوز الرقيب والاحتيال عليه ، يتمثل في اللجوء إلى الخيال ، متمثلا في التاريخ ، والكتابة عن فترات تاربخية مشابهة للفترة التاريخية التي نمر بها ، أو تمثل حالات مشابهة للحالة التي نعيشها ، فنكتب عن الفترات التاربخية البعيدة أو الحالات المشابهة ، ونعبر من خلالها عن وضعنا ، فلا نيأس ولا نستسلم ولا ننزوي في الظلال .
من المؤكد أن الفقرة المقتبسة من ( بيتر بنزولدت ) ليست السبب الوحيد لكتابة الأدب العجائبي ، فهناك أسباب أخرى لم تخف على ( تزيفتن تودوروف ) الذي رأى أن للأدب قيمتين ؛ أدبية واجتماعية . لقد ميز ( تودوروف ) بين وظيفة أدبية ووظيفة اجتماعية لفوق - الطبيعي " ، والوظيفة الأدبية غالبا ما تتمثل في الميل إلى التجديد وتحقيق المتعة والدهشة لدى قاريء الأدب . وهو ما تنجزه عموما نصوص أدبية عالمية قديمة وحديثة مثل " ألف ليلة وليلة " ورواية أمريكا الجنوبية التي أدرج كثير من نصوصها تحت مسمى " الواقعية السحرية " ، ولا أغفل هنا عن التذكير بأدب الخيال العلمي ، باعتباره أيضا جنسا أدبيا ... إلخ .
فوق ما سبق فإن المرء حين يفكر في أمر العلاقة بين الخيالي والواقعي - وقد شغل هذا الأدباء وغير الأدباء - يلحظ أن كثيرا مما كان واقعيا صار في باب الخيال ، وأن كثيرا مما عد خيالا صار واقعا ملموسا ، ولا ننسى أن المعتقدات الدينية والكتب السماوية تحفل بالأحداث الواقعية والخيالية جنبا إلى جنب .
لا أريد أن آتي بأمثلة تبرهن على ما سبق فهي كثيرة ، ويكفي الإشارة إلى قصة علي بابا والأربعين حرامي وعبارة " افتح يا سمسم " وقصة الملكين اللذين يعيشان مع الإنسان يحصيان عليه أفعاله . نحن الآن في طريقنا إلى تحقيق ذلك من خلال ااشريحة التي ستزرع في أجسادنا ، ولقد كتبت ، وأنا أكتب يوميات الكورونا ، إن ( بيل غيتس ) حل محل الذات الإلهية بفكرته الشيطانية وبتحقيقها إن نجح في ذلك ، سيحيي ويميت ويشفي ويقتل ويشل ويذل و ... و ... .
في " جدارية " محمود درويش نقرأ السطر الآتي :
" الواقعي هو الخيالي الأكيد "
وهو بناء على ما سبق سطر يمكن عكسه ، فالخيالي صار واقعيا .
لا أريد أن استطرد في التنظير ، فأنا أرغب في التحدث عن العجائبي في قصتنا القصيرة الفلسطينية من خلال نموذج محدد هو قصص القاص أكرم هنية .
ولد هنية في مدينة رام الله في العام ١٩٥٣ ودرس الأدب الانجليزي في جامعة مصرية ما بين ١٩٧١ و ١٩٧٥ وعاد إلى الأردن ، فعمل في صحافتها عامين تقريبا ثم استقر في رام الله ، فعمل في جامعة بير زيت ثم في صحيفة " الشعب " وأبعدته سلطات الاحتلال الإسرائيلي في العام ١٩٨٦ . خلال الأعوام ١٩٧٨ و ١٩٨٦ أصدر أربع مجموعات قصصية صدرت معا في ١٩٨٦ تحت عنوان واحد هو " طقوس ليوم آخر " ، وقد لجأ في بعض هذه القصص إلى كتابة الواقعي من خلال اللاواقعي " فوق - الطبيعي " / العجائبي .
هل يعود السبب فقط إلى التحايل على الرقيب العسكري أم أن ثمة أسبابا أخرى دفعته إلى ذلك ؛ أسباب أدبية ؟
لم ينشر هنية أيا من قصصه في الصحف ، وبالتالي لم يتعرض إلى مضايقات الرقيب الإسرائيلي ، عدا أنه كتب ، بأسلوب واقعي ومباشر ، قصصا كثيرة تقارب الواقع .
ما السبب إذن الذي حدا به إلى اللجوء إلى الغرائبي والعجائبي وفوق الطبيعي ؟ أهو رغبته في التجديد أم تأثره بالآداب العربية ؛ قديمها وحديثها ، وبالأدب العالمي الذي أشار في قصصه إلى بعض عناوينه وأسمائه ؟
هل رغب أيضا أن تعيش قصصه في ذهن قارئه لفترة طويلة ، فالغريب والعجيب ، لا العادي ولا المألوف ، هو ما يثبت في الذاكرة ؟
سوف أتوقف هنا أمام أربع قصص قصيرة من قصصه قارب فيها اليومي والمألوف بأسلوب يعتمد على العجائبي والغرائبي وفوق - الطبيعي ، والقصص هي :
- بعد الحصار ... قبل الشمس بقليل .
- تلك القرية ... ذلك الصباح .
- مؤتمر فعاليات القرية يصدر نداء هاما .
- عندما أضيء ليل القدس .
القصة الأولى : " بعد الحصار ... قبل الشمس بقليل " .
نشرت هذه القصة في المجموعة القصصية الأولى للقاص التي صدرت بعنوان " السفينة الأخيرة ... الميناء الأخير " في العام ١٩٧٩ .
في العام ١٩٧٩ كان مر على احتلال القدس اثنا عشر عاما تعرضت المدينة منذ اليوم الأول للاحتلال إلى التهويد ، فقد هدمت بيوت مثل بيوت حي المغاربة ، وعبدت مساحات مثل بوابة مندلباوم التي كتب عنها في قصص سميرة عزام واميل حبيبي ، وبديء بإنشاء أحياء يهودية في القدس المحتلة حديثا ، وتعرض المسجد الأقصى في العام ١٩٦٨ إلى إشعال النار فيه من مستوطن .
أكرم هنية الذي أخذ يعمل في الصحافة العربية في القدس شاهد الكثير من هذا بحكم ذهابه اليومي إلى المدينة ، ولعله توقع أن يأتي يوم ، أمام الممارسات المذكورة ، يصحو فيه أهل البلدة القديمة فلا يجدون الصخرة والأقصى .
توقعاته هذه ، وقد صاغها وعبر عنها عبر حدث متخيل ، تتحقق رويدا رويدا منذ عقود ، فالإسرائيليون يحفرون تحت الصخرة والأقصى بحثا عن هيكل مزعوم يقولون إنه يعود إليهم ، وهم عدا ذلك يريدون اقتسام المكان مع المسلمين المقادسة ، وإن استمرت محاولات الحفر فقد يأتي يوم ينهار فيه المكانان ويصحو أهل القدس فلا يجدانهما .
لم يعبر هنية عما جال بخاطره وتوقعه بأسلوب واقعي مباشر . لقد لجأ إلى الأسلوب الغرائبي ، وأعتقد أنه كان ذا تأثير أكثر على المتلقي . هل أزعم أن لجوءه إلى الخيالي للتعبير عن الواقعي هو ما جعل القصة تركن في ذهني طويلا أم أن أمر ديمومتها يعود إلى كثرة كتابتي عنها ؟
إن صحوة أهل مكان على مكانهم ، وقد اختفى ، فكرة تطرق إليها في الأدبيات المقدسة وغير المقدسة ، والقدس نفسها مدينة من المدن التي دمرت في التاريخ ثماني عشرة مرة ، ومثلها عاد و " إرم " ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وسد مأرب ، ومدن عالمية صحا أهلها وقد دمرها زلزال ما أو ( تسونامي ) ما .ولكن مثل هذا لم يحدث في القدس في سبعينيات القرن العشرين ، فالصخرة والأقصى لم يختفيا أصلا وما زالا قائمين .
ثالثة الثانية : قصة " تلك القرية ... ذلك الصباح "
أيضا ظهرت هذه القصة في مجموعة " السفينة الأخيرة .. الميناء الأخير " .
لم يقتصر الاستيطان اليهودي على مدينة القدس وحدها ، فقد أقيمت مستوطنات عديدة على أراضي فلسطينية أخرى في غزة والضفة الغربية ، وصادرت إسرائيل لإقامتها آلاف الدونمات . أقيمت هذه المستوطنات بالقرب من المدن الفلسطينية وعلى أراضي قريبة من عشرات ، إن لم يكن مئات ، القرى . وجرفت إسرائيل الأراضي وسوت أماكن عديدة بالأرض وسفلتت الطرق بعد شقها ، ما دفع الفلسطينيين إلى المقاومة بأشكال مختلفة . وقد عبر الشاعر راشد حسين عن إصرار الفلسطيني على المقاومة لدرجة شملت تمرد الشيخ والعكاز والححر :
" ولو قضيتم على الثوار كلهم
تمرد الشيخ والعكاز والححر " .
وذهب أكرم هنية إلى ما هو أكثر من ذلك ، فجعل الأموات تنهض من قبورها لتتمرد وترفض الاستيطان .
هل سينهض الأموات من قبورهم ليقاوموا الاستيطان ؟
مر على موت أبو محمود القاسمي عشرون عاما ، ولم يعكر عليه موته إلا أصوات جرافات الاحتلال تحفر في أرض المقبرة التي دفن فيها .
ينهض أبو محمود من قبره على أصوات الجرافات ويرى بشرا غريبي الملابس وجرافة تجرف القبور ، فيسأل عما يجري ، ويعرف أن اليهود يريدون إقامة مستوطنة ، ومن خلال الحوار ينصب له رجال المخابرات فخا ، فيسألونه عن ماضيه ومقاومته الانتداب وبندقيته ، ويعرفون أن ابنه كمال سار على خطاه فقاوم المحتلين ، وهنا يقرر الجنود إبعاده إلى الأردن ، فيرفض ويلقي بجسده في النهر .
يظهر لجوء القاص إلى الخيال واللامعقول / العجيب / الغريب / فوق الطبيعي في بناء قصته على شخصية متوفاة منذ عشرين عاما تصحو من موتها وتحاور الجنود وترفض الامتثال لأوامرهم . إن قصة قيام موتى وبعثهم قصة لها شبيهها في التراث ووردت في بعض الكتب المقدسة وكانت مثارا للإعجاز وبرهانا للإقناع بقدرة الخالق ، وهي قصة عرفتها الآداب العالمية . نام أهل الكهف ثلاثمائة عام ثم نهضوا من موتهم ، وبعث العازر من موته وبعض المؤمنين ينتظرون عودة المسيح والمهدي المنتظر و ... و ... .
وكما كتبت عن القصة الأولى ، فإن الحدث المتخيل هنا يعمر في الذاكرة لفترة أطول ، ويعزز فكرة المقاومة واتساعها لتشمل من ذكرهم راشد حسين في بيته .
القصة الثالثة :" مؤتمر فعاليات القرية يصدر نداء هاما "
هذه القصة ظهرت في مجموعة " هزيمة الشاطر حسن " الصادرة في العام ١٩٨٠ .
بعد حرب ١٩٧٣ شهدت الضفة الغربية وقطاع غزة موجة هجرة شباب كبيرة إلى دول الخليج وأمريكا بحثا عن فرص عمل . لقد هاجر شباب كثيرون تاركين زوجاتهم وأولادهم باحثين عن فرص عمل ، وقد يعودون وقد لا يعودون ، وقد ينسون أبناءهم في أثناء غربتهم ويتزوجون بنساء أخريات . لقد ترك هؤلاء أرضهم بورا ليصادرها الإسرائيليون ، ونساءهم بلا حرث وأولادهم بلا آباء .
يبني القاص قصته على حدث عجائبي ، والعجائبي ، كما يقول ( تودوروف ) نقلا عن ( كاستكس ) يتميز " بتدخل عنيف للسر الخفي في إطار الواقعية " وهو كما يكتب ( لويس فاكس ) يحب " ان يقدم لنا بشرا مثلنا ، فيما يقطنون العالم الذي توجد فيه ، إذا بهم فجأة يوضعون في حضرة المستغلق عن التفسير " / سر خفي / مستغلق عن التفسير / اللامقبول .
الحدث اللامعقول العصي على التفسير المستغلق في القصة هو تشبث الأجنة برحم الأمهات ورفض الخروج منها إلى الحياة إلا بعودة الحياة .
تخفق القابلتان أم اسماعيل وأم محمد في توليد أربع نسوة ، ويخفق أطباء المشفى في توليد اثنتين من النسوة الأربعة ، ولم يسبق أن حدث شيء مثل هذا ، فما هو السر وما الأمر المستغلق اللامقبول ؟ إن القابلتين والأطباء لم يعرفوا حالات مثل هذه ، وهنا يبدأ البحث عن السر لفك المستغلق .
يجتمع رجال القرية ويتدارسون الأمر وينظرون في الشأن الأسري للأجنة الأربعة ، ويكتشفون السر . الآباء في الغربة والأجنة لا يريدون القدوم إلى عالم بلا آباء .
القصة الرابعة :" عندما أضيء ليل القدس "
كتبت هذه القصة في منتصف ٨٠ ق ٢٠ وتأتي على مدينة القدس في شهر رمضان ، حيث أخذ المقدسيون يقضون ليالي رمضان خارج بيوتهم محتفلين بالحياة .
في أثناء فرحهم واحتفالهم بالحياة يظهر في المدينة " الرجل الضوء " فيلتفت إليه المواطنون ويرى فيه كل واحد منهم من يفتقده وما يفتقده . إنه الشخص الذي يبحثون عنه والأمل المنشود لكل مقدسي :
" وصرخت امرأة كان يحيط بها أطفالها : إنه ابني الذي استشهد في لبنان .
وهتف رجل مأخوذ بغرابة ما يجري : إنه المهدي المنتظر .
وقالت امرأة عجوز : إنه ابني التائه في المنفى.
وقال شاب بسرعة حاسمة : إنه شقيقي المعتقل في السجن .
وقال آخر : إنه ولي من أولياء الله في هذه الليلة المباركة.
وتقدم طفل للأمام وسط الجموع : إنه أبي الغائب في السجن .
وقالت امرأة وهي ترسم علامة الصليب : يا عذراء . إنه يسوع . يسوع يا مخلصي .
وارتعش جسد فتاة لم تحاول مقاومة دموعها وهي تهمس : إنه حبيبي . أعرفه . إنه فارسي .. انتظرته طويلا . ها قد أتى . ها قد أتى . " .
ولنلاحظ هتاف الرجل . لقد هتف مأخوذا بغرابة . ثم إن عيون المحتشدين كانت " مشدودة لما يحدث " ورجل الضوء الذي نصغي في القصة إلى صوته " لست ملاكا ولست شيطانا . أنا أنتم . وانبعثت عندما كنتم تصنعون مهرجان الألوان في هذا الليل الطويل . لذلك عرفني الجميع . أنا من ذكرتم ولكن ليس بالضبط . أنا مزيج لقائكم ، ولدت عندما رأيتموني أضيء القدس . لكنها لم تكن حياتي الأولى . عشت قبلها حيوات كثيرة في عصور أخرى . " .
و
" ولدت مرات عديدة ، ومت مرات عديدة ، وقتلت مرات عديدة على يد الأعداء والأشقاء . لي قبر يضمني في عمان ، وآخر في الشام ، وآخر في بيروت ، وقبر آخر في الجنوب و ... . " .
والرجل الضوء في النهاية هو الفلسطيني الكنعاني وهو الحلم الفلسطيني المنشود لأبناء الشعب الفلسطيني . إنه العلم الفلسطيني يرفرف عاليا فوق أسوار القدس فلا يروق للإسرائيليين فيطلقون النار عليه .
لقد وظف أكرم هنية في بناء قصته اللامعقول / الخيالي / الغرائبي / العجائبي / فوق الطبيعي ليقول من خلاله الواقعي .
والسؤال هو :
هل كان هنية استثناء في هذا الجانب ؟
في جانب القصة القصيرة كانت كتابته لافتة ، ولكن علينا ألا ننسى توظيف الغرائبي في رواية إميل حبيبي " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل " ١٩٧٤ ، ومن المؤكد أنه سيحضر لاحقا في أعمال أدبية كثيرة.
ا . د. عادل الاسطة
نابلس / فلسطين .
الثلاثاء
١ حزيران ٢٠٢١
* ( نص الورقة التي شارك بها أ. د. عادل الاسطة في العام ٢٠٢١ في مؤتمر الأدب العجائبي في معهد القاسمي / باقة ، وقد نشرت في كتاب المؤتمر )
***
4- القدس... الأدب والنبوءة
لا أدري إن كان قراء سميح القاسم يتذكرون قصيدته "ضوء جديد للقصر العتيق"، وآمل ألاّ تخونني ذاكرة العناوين، ولو لم يتخل الشاعر عنها، لعدت إلى أعماله الكاملة لأتأكد من عنوانها، ولكن ماذا أفعل وقد أهديت ديوان الحماسة بأجزائه الثلاثة إلى مكتبة جامعة النجاح الوطنية من ناحية، وغدوت كسولاً من ناحية ثانية؟
حرّض سميح القاسم، يوم كان شيوعياً، الفقراء، وطالبهم بأن يثوروا على واقعهم البائس، وكان مؤمناً أن الدولاب الأكبر، دولاب الإمبريالية على ما أعتقد، سينفتل.
كانت أشعار الشاعر، كما يقول عنوان قصيدته، تلقي الضوء الجديد على القصر العتيق. وكان ماركسياً، والماركسية على رأي مظفر النواب، أم العرافة، كما كتب في قصيدته التي أهداها إلى الضابط الشهيد ابن مصر العربية "لقد قبضوا كلهم/ وأحطهم من يدافع عن قبضة المال/ مدعياً أنها الماركسية أم العرافة".
قصيدة سميح القاسم تلك هي التي جعلتني، في بداياتي النقدية، أكتب مقالة عنوانها "مرحلة النبوءة في الحماسة"، وقد أدرجها الشاعر في أعماله الكاملة (مجلد 7/ في دائرة النقد)، وفي مقالتي، في حينه، كنت متأثراً بما كان شائعاً في حينه في الساحة النقدية العربية، وبالنقد اليساري وغير اليساري، وربما ترك كتاب صلاح عبد الصبور الشاعر المصري "حياتي في الشعر" أثره فيّ، وذلك حين ربط بين الفيلسوف والنبي والشاعر، وذهب إلى أن مهمة الثلاثة هي إصلاح العالم.
محمود درويش الذي كتب في مراحله المبكرة: "نحن أدرى بالشياطين التي تجعل من طفل نبياً" عاد في جداريته (2000) ليكتب: "لست النبي لأدعي وحيا/ وأعلن أن هاويتي صعود" متخلياً عن فكرة الربط بين الشاعر والنبي. لقد أدرك أنه لا يملك بمفاتيح هذا الكون، كأنه سارد عليم إله، أو شاعر عليم إله، إذا استعرنا من الرواية ونقدها مصطلح السارد الإله. ولقد أعلن أنه ليس نبياً ليعلن أن هاويته صعود. هل تذكرون مقطعه الشهير بعد هزيمة حزيران 1967؟
خسرت حلماً جميلاً/ خسرت لسع الزنابق
وكان ليلي طويلاً/ على سياج الحدائق
وما خسرت السبيلا
يومها لم ير في هاوية حزيران هاوية، فلم يخسر السبيل رغم خسارة الحلم. هل اختلف عنه توفيق زياد الذي كتب: "خطوة هذه/ وكم يحدث أن يكبو الهمام/ إنها للخلف خطوة/ من أجل عشر للأمام كان الشعراء الماركسيون في حينه "وعّاظاً ودعائيين وأنبياء المستقبل" والأوصاف السابقة هي لـ (رينيه ويليك) و(أوستن وارين) صاحبي كتاب "نظرية الأدب".
إنهم يملكون منظوراً مستقبلياً للعالم. هل الشعراء أصحاب النبوءة هؤلاء أصحاب نبوءة حقاً أم أن الواقع قال عكس ما يقولون؟
حذف سميح القاسم قصيدته من أعماله الكاملة، واختلفت أشعاره في آخر سنواته عن أشعاره التي كتبها وهو ماركسي، وقال درويش إنه ليس النبي ليدعي وحياً، فهل كان مظفر النواب مثلهما؟
"هذي الأمة لا بد لها أن تأخذ درساً في التخريب" هكذا قال مظفر في إحدى قصائده، فهل ما يحدث، الآن، في العالم العربي إلاّ تحقيق لهذا السطر. ها هي الأمة العربية تأخذ، حقاً، درساً في التخريب، وها هو الخراب يحل بالأمة "سيكون خراباً، سيكون خراباً، هذي الأمة لا بد لها أن تأخذ درساً في التخريب" وما زال صوت مظفر يرن، بحزنه، في أذني، وغالباً ما أتساءل، وأنا أتابع نشرات الأخبار، إن كان مظفر صاحب نبوءة.
ربما الآن، نتذكر أشعار مظفر عن القدس وفيها، وربما يكرر بعضنا: القدس عروس عروبتكم. بل ولطالما كررنا السطر، وهو سطر قال بعض الشعراء أبياتاً تشبهه في فترة احتلال القدس أيام الحروب الصليبية "تسعون عاماً والقدس تصرخ" ولكن كان الحكام صمّاً وعمياناً.
في العام 1979 أصدر القاص أكرم هنية مجموعته القصصية "السفينة الأخيرة.. الميناء الأخير" وكان من ضمنها قصة "بعد الحصار.. قبل الشمس بقليل"، فهل كان القاص يتنبأ بما يجري الآن؟
كان هنية يوم كتب قصته رئيساً لتحرير جريدة الشعب، وكان يذهب إلى القدس يومياً، وستكون هذه محور بعض قصصه في مجموعاته اللاحقة، وقد كان ينظر، فيما حوله، ويرى القدس تحاط بالمستوطنات، بل ويراها تحفل بالإسرائيليين، حتى أن المرء ليشعر وهو يتجول فيها بأنه سيكون، ذات يوم، غريباً فيها، لا قريباً منها كأنها مدينته. وهو عموماً ما أوحى إليّ في العام 1986 لكتابة قصة قصيرة عنوانها "تلك القدس.. ذلك السبت"، حيث زرتها يوم سبت وشعرت أنها ليست المدينة التي أعرف. وسيكتب تميم البرغوثي في العقد الأول من القرن الحالي قصيدته الشهيرة عن القدس، القصيدة التي يصغي المرء إليها في هذه الأيام في الحافلات العمومية.
في قصته "بعد الحصار... قبل الشمس بقليل" يتنبأ هنية بما يؤول إليه الأقصى الآن. هل كانت نبوءته إلاّ اعتماداً على ما يشاهده؟ صحيح أن فكرة القصة تشبه فكرة قصة ليوسف إدريس، فالأخير، كما سمعت، كتب قصة ملخصها أن أهل القاهرة أفاقوا من نومهم، ذات صباح، ولم يجدوا الأهرامات. الأهرامات اختفت. وأهل القدس يصحون ذات صباح فيلاحظون أن الصخرة انسرقت. وكانت المستوطنات في تلك الفترة بدأت تحيط بالمدينة، ولم يكن شراء المنازل في البلدة القديمة قد بدأ يستشري. وهذا ما حدث لاحقاً، وأتى عليه بعض كتابنا مثل أحمد رفيق عوض في روايته "مقامات العشاق والتجار" (1996).
يصحو أهل القدس ويذهبون إلى أعمالهم ويمارسون طقوسهم وشعائرهم، ويلاحظون أن مسجد الصخرة قد اختفى من مكانه. آمنة وأبو فؤاد وأبو مازن وسليمان الخباز أصيبوا بالصدمة، ومثلهم أهل المدينة الذين تعالت أصواتهم:
" ـ ربما يريدون إقامة مستوطنة جديدة مكانه. ـ أو بناء حي جديد. ـ ربما وجدوا مخربين فيه فأخذوه بمن فيه ـ ربما اختطفته طائرات عربية ونقلته إلى إحدى العواصم لتخليص العرب من الشعور بالحاجة لتحرير القدس والمقدسات ... ... ... هل سيغيرون اسم القدس؟ أين سيحتفلون بالإسراء والمعراج؟".
والناس بعضهم، الآن، يتساءلون أيضاً: ماذا سيفعل العرب؟ (والعرب في حال لا تسر أحداً، وهم في حروبهم الداخلية ماضون).
هل الأدب الفلسطيني وحده من تنبّأ بهذا؟ وهل خلا الأدب الصهيوني من نبوءة أيضاً؟
في العام 1902 أصدر (ثيودور هرتسل) روايته "أرض قديمة ـ جديدة"، وفيها يتخيل فلسطين بعد عشرين عاماً من سيطرة الحركة الصهيونية عليها. وسيكون للقدس نصيب من المخيلة، وسيكون أيضاً للهيكل نصيب آخر. ما تخيله (هرتسل) تنفذه إسرائيل الآن، ومن قبل، ولكن خياله كان ناقصاً وعاجزاً في نواحٍ أخرى. لقد تنبّأ بأن يرحب العرب من سكان البلاد بالحركة الصهيونية ومشروعها، ولم يكتب عن النزاعات والحروب التي سببها مشروعه الحضاري الذي دمر شعباً كاملاً. هل خلت رواية (هرتسل) من الإتيان على بناء الهيكل؟
في قصيدته "لاعب النرد" يكتب درويش "والوحي حظ المهارة إذ تجتهد"، ولكن كما كتب كنفاني في روايته "إن خطأ + خطأ لا يساويان صحاً".
عادل الأسطة
2014-11-02
***
5- عن «شارع فرعي في رام الله» لأكرم هنية
«شارع فرعي في رام الله» هو عنوان الإصدار الجديد للقاص أكرم هنية. كان القاص أصدر أولى مجموعاته القصصية في 1979 في رام الله تحت عنوان «السفينة الأخيرة… الميناء الأخير» وفيها كتب عن موضوعات تخص العالم العربي وأخرى تقارب الاحتلال، والعلاقة بين الشاعر والسلطة وزيارة أنور السادات الرئيس المصري للدولة العبرية وسخريته من الثوار وموقف هؤلاء من خطوته التي أقدم عليها. واستوحى الكاتب بعض قصص التراث مثل قصة الشاعر النابغة الذبياني وعلاقته بالنعمان بن المنذر ليقول من خلالها ما أراد قوله عن العلاقة الملتبسة مع الحاكم.
ووظّف في قصصه تلك عنصر الخيال واللامعقول الذي غدا سمة مميزة لقصص الكاتب، سمة ستبرز لاحقاً في مجموعاته القصصية كلها.
المجموعتان الثانية «هزيمة الشاطر حسن»، 1980، والثالثة «وقائع التغريبة الثانية للهلالي»، 1981، تقاربان تقريباً كثيراً من الموضوعات التي قاربها في مجموعته القصصية الأولى، ولكنهما تخوضان أكثر في واقع الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي وتغوصان في حياة أهل الضفة الغربية ومعاناتهم أكثر وأكثر، ولا عجب، فالقاص عاد من العالم العربي واستقر في رام الله وغدا نشيطاً في الحياة السياسية.
لم يتخلّ القاص عن التجريب وعنصر المخيلة واللامعقول، وإلى جانب هذا برز الحس التحريضي الدعائي في القصص التي كتبها. كما لو أن الأديب على رأي الماركسيين يحارب من خلال الكلمة.
البقاء في الأرض ومقاومة الاحتلال ومحاربة الشخصية الفلسطينية السلبية كسمسار الأرض وبائعيها وتمجيد المقاومة، هذه كلها هي موضوعات قصصه وأفكارها، وحتى النموذج النسوي الذي برز في قصصه كان نموذجاً إيجابياً مقاوماً.
سينقطع أكرم هنية عن الكتابة لمدة خمس سنوات وما عاد يصدر كل عام مجموعة قصصية. في العام 1986 ستصدر في قبرص مجموعاته القصصية الثلاث السابقة مع مجموعة جديدة عنوانها «عندما أضيء ليل القدس» ستصدر تحت عنوان هو «طقوس ليوم آخر» وستحضر القدس في قصصه بشكل لافت وكانت حضرت من قبل في قصة «بعد الحصار… قبل الشمس بقليل»، في المجموعة الأولى. كما لو أن القاص كان يتنبأ بما ستؤول إليه المدينة التي أخذ يتردد عليها يومياً منذ 1979 حتى تاريخ إبعاده في العام 1986، أستثني فترة الإقامة الجبرية التي فرضت عليه في رام الله في 1981 و 1982.
ستحتل القدس في قصصه مكانة لم تحتلها مدينة رام الله التي ستحضر بقوة وبشكل لافت في قصته الجديدة «شارع فرعي في رام الله»، 2017. نذ إبعاده عن فلسطين لم يكتب هنية القصص لمدة خمسة عشر عاماً، وفي 2001 سيصدر مجموعته القصصية الخامسة «أسرار الدوري» التي تأتي بعض قصصها على حياته في تونس -وإن بشكل باهت- ولكن القاص سيكتب عن مرحلة ما بعد أوسلو؛ مرحلة السلام وما ألمّ بالمجتمع الفلسطيني إثر عودة الفلسطينيين الجزئية إلى الضفة، وهي عودة أثارت إشكال
لم تستمر فترة الهدوء التي جلبها اتفاق أوسلو فسرعان ما اندلعت انتفاضة الأقصى وبدأت المواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وسيكون لهذه المواجهات آثارها وعواقبها وسيستشهد الفلسطينيون وسيموتون موتاً سريرياً. لا وقت للحب وسحره فالحواجز على الطرق والجنود الإسرائيليون مازالوا يقيمون الحواجز، ما يدفع الشباب الفلسطيني إلى مقاومتهم.
ستشغل انتفاضة الأقصى تفكير الكاتب وسيكون لها حضور في مجموعته القصصية السادسة «دروب جميلة» 2007، وسيذهب القاص إلى أماكن جديدة وأزمنة لم يكن شاهداً عليها. سيكتب في «دروب جميلة» عن يافا قبل العام 1948 ليدحض مقولات صهيونية تذهب إلى أن فلسطين أرض بلا شعب وأنها أرض قاحلة مجدبة خربة جاء اليهود الصهيونيون ليعمروها. لقد كتب هنية عن يافا وازدهار الحياة فيها وعن الثقافة والسينما والكتب.
شارع فرعي في رام الله:
منذ «دروب جميلة» لم ينشر القاص أية قصة قصيرة أو أي عمل أدبي إلا ما كتبه في 2008 عن الراحل محمود درويش. لقد عاش كرئيس تحرير جريدة الأيام في الظل، ونادراً ما أجريت معه مقابلة أدبية، بل ونادراً ما شارك في نشاط أدبي. لقد كان شبه منقطع عن الحياة الأدبية فلا مؤتمرات ولا ندوات ولا مقابلات ولا مراجعات لكتب يقرؤها. كما لو أنه اكتفى بعمله صحفياً.
هذا الشهر فاجأنا بصدور نصه الجديد «شارع فرعي في رام الله» الذي أدرجه تحت دال "قصة". هنا يثير المرء إشكالية التجنيس. هل أخذ القاص يجرب كتابة نص أدبي مبتعداً عن فن القصة القصيرة الذي أخلص له؟
«شارع فرعي في رام الله» تبدو قصصا» قصيرة منفصلة عن بعضها البعض. كما لو أنها أجزاء لا صلة بينها ولكن القارئ ما إن ينتهي من قراءتها حتى يلحظ وحدة السارد والمكان وصورة رام الله بين زمنين مختلفين فيها. كما لو أنها رواية. إنها تذكّر قارئ الأدب الفلسطيني بأعمال أدبية فلسطينية سابقة دُرست مرة على أنها قصص قصيرة وثانية على أنها رواية، مثل «سداسية الأيام الستة» لإميل حبيبي و«مقهى الباشورة» لخليل السواحري. أجواء حرب حزيران وما نجم عنها هي المشترك في قصص السداسية، ومقهى الباشورة والقدس وحرب حزيران هي المشترك في قصص «مقهى الباشورة».
هل كان ما سبق حاضراً في ذهن أكرم هنية؟
سيكتب أكرم هنية عن رام الله التي ولد فيها وعاش فيها لسنوات طويلة، ثم غادرها إلى الدراسة في القاهرة وعاد إليها وأُبعد عنها لسنوات عشر تقريباً ثم عاد ليستقر فيها منذ 1996 وما زال مقيماً فيها. ستشغل رام الله، لا القدس خلافا للسابق، تفكير الكاتب وسيخصها بكتابه الجديد.
رام الله في «شارع فرعي في رام الله» ستحضر لأول مره في عناوين مجموعات الكاتب، وستحضر في القصة كما لم تحضر في قصصه السابقة كلها، فحضورها في مجموعاته الست السابقة كان ضعيفاً وباهتاً أيضاً. ستحضر رام الله بقوة، ومنذ 1997 سيبدأ التركيز على هذه المدينة بشكل لافت حتى أننا أخذنا نكتب عن سرديات رام الله.
يكتب هنية عن رام الله في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ويكتب عنها في العقد الثاني من القرن الحالي، ويرصد التغيرات التي طرأت على البشر والحجر. ويختار الكاتب مهندساً معمارياً ولد في رام الله وعرفها حياً حياً وشارعاً شارعاً وسينما سينما، ويكتب عن جيلين، بل ثلاثة أجيال عاشت في رام الله وكانت نظرتها للمدينة وعلاقتها بها شبه مختلفة.
«شارع فرعي في رام الله» ستنضم إلى سرديات مريد البرغوثي «رأيت رام الله»، 1998، وفاروق وادي «منازل القلب»، 1998، ولكنها تختلف عنهما في أنها ترصد ما ألم بالمدينة في القرن الحادي والعشرين.
هنا يتذكر المرء قصيدة محمود درويش في المدينة وسطره "مدن تبنى على عجل" ولكنه -أي المرء- سيلحظ وجهة نظر أخرى، فالقاص الذي يختفي وراء المهندس ماجد -وفيه من ماجد الكثير، بل إن في ماجد من القاص الكثير- لا يرى في رام الله مدينة موحشة. إنه يرى فيها مدينة جميلة يمكن العيش فيها.
****
6- «شارع فرعي في رام الله» و«اخطية»
تحيل قصة أكرم هنية الجديدة "شارع فرعي في رام الله" قارئ الأدب الفلسطيني إلى نصوص أدباء فلسطينيين منهم إميل حبيبي في روايته "اخطية" 1985 - تماماً كما تحيل قارئ قصص أكرم هنية نفسه إلى قصصه السابقة.
هل يعد الربط بين قصة "شارع فرعي في رام الله" و"اخطية" نوعا من التزيّد والمبالغة والذهاب بعيداً في قراءة النص؟
لا أدري إن كان هذا خطر ببال المؤلف.
لم تعد المقولة النقدية القديمة "المعنى في بطن الشاعر" هي الأكثر شيوعاً كما كان الأمر في قرون وعقود خلت، فلقد شاعت أيضا مقولات نقدية جديدة تهمل المؤلف وتحل القارئ محله.
لقد غدت العلاقة بين النص والقارئ، فالنص مثير والقارئ يتلقاه ويستجيب له بناء على ثقافته، كما يقول (فولفجانج ايزر) أحد أقطاب نظرية التلقي الألمانية التي شاعت في أواخر 70 ق 20، وما زال لها حضور لافت.
باعتباري قارئاً لـ"شارع فرعي في رام الله" فإن العلاقة غدت بيني وبين النص، وعليه سأقدم اجتهاداً ما، قد يروق للمؤلف وقد لا يروق له، وقد يقول إن ما خطر ببالي لم يخطر بباله، وله ذلك.
وأنا أقرأ القصة تذكرت "اخطية" وأخذت أتساءل عن وجه الشبه والاختلاف بين العملين، وأمعنت النظر في هذا.
لم أعد قراءة "اخطية "من جديد فقد اتكأت على ما بقي منها في الذاكرة - وإن تصفحت بعض صفحاتها مجددا.
تقوم "اخطية "على فكرة الكتابة عن حيفا التي كان إميل حبيبي يقيم فيها يوم كتب الرواية ومقارنتها بحيفا في زمن مضى يعود إلى ما قبل العام 1948.
ما بين 1948 و1985 خمسة عقود تقريبا كان إميل شاهدا عليها.
لقد عرف المدينة في زمنين؛ زمن العرب وزمن الدولة العبرية، وأخذ وهو في المدينة زمن الإسرائيليين يحنّ إلى المدينة نفسها زمن العرب، وقد أشار إلى اختلاف الزمن في الرواية، وأشار في التصدير إلى أنه يحنّ إلى حيفا وهو في حيفا.
إنه يشير إلى مرور الزمن منذ الصفحات الأولى للرواية، ويعود ليكتب عن الطفولة المبكرة وحياته في زمن كون المدينة عربية قبل أن تهوّد.
يتحسّر حبيبي على زمن مضى؛ لأنه زمن البراءة والطفولة، ويرثي لزمن آخر جديد فقدت فيه البراءة واستبدلت غزلان المكان ببناجرة وديانات - نسبة إلى بن غوريون ودايان - ويستطيع المرء أن يقتبس فقرات كثيرة يبدو فيها الحنين أوضح ما يكون. (مثلاً ص 70 و71 من طبعة الكرمل 1985):
"كانت الدنيا حلالا، وكان العيش فيها حلالا. ولم نكن نعرف من الحرام ما نتجنبه سوى النميمة. وكنا نتجنبها مهما غلا الثمن........
كانت الجيرة حلالا والجار من أهل البيت، وكان الجار ينتسب إلى جاره. و...و...و...".
يحن إذن إميل إلى المكان وهو فيه، ولكن يجب ألا ننسى أن المكان غير أكثر سكانه وتغيرت أسماء شوارعه، كما حلت لغة أخرى محل العربية وإن ظل العرب الباقون يتكلمون لغتهم العربية التي اختلطت بها لغة أخرى.
كما لو أن إميل حبيبي غير قادر على استيعاب ما جرى وما آل هو وبقية العرب إليه.
الماضي هو الجميل وزمن الطفولة هو الزمن الذهب وأما الحاضر فهو بائس.
هل يختلف الأمر كثيراً في قصة أكرم هنية التي صدرت بعد 32 عاماً من صدور رواية إميل، وإن اختلف فأين تكمن مواطن الاختلاف؟
يكتب هنية قصته عن رام الله، ويرصد التغيرات التي طرأت عليها منذ 50 و 60 ق 20 حتى العام 2016 - التغيرات التي ألمت بالمدينة بعد مجيء السلطة الفلسطينية.
وكما عاش إميل في حيفا في زمنين، فإن هنية عاش في رام الله في زمنين، والكتابة عن المكان في زمنين هي ما يسم عمله من ألفه إلى يائه.
يرصد الكاتب التغيرات التي طرأت على البشر والحجر؛ على العادات والتقاليد واللباس وعلى المباني.
لقد بدت رام الله في العقدين الأخيرين، لمن يعرفها، مدينة مختلفة كليا.
المدينة التي كانت أقرب إلى قرية فيها خدمات مدينة غدت عاصمة وألم بها ما ألم بمدن شهدت تطورات مشابهة، مثل عمان ودبي.
التطورات التي حدثت استساغها قليلون ولم ينسجم معها كثيرون؛ من سكان المدينة نفسها وممن قدم إليها من الريف، والأخيرون يذكرون بالشعراء العرب الذين وفدوا على المدن الكبيرة من الريف، مثل أحمد عبد المعطي حجازي وبدر شاكر السياب. - هنا نتذكر رواية عباد يحيى "جريمة في رام الله" حيث غادر الريفي المدينة وعاد إلى قريته وإن كانت عودته لا تؤيدها المعطيات على أرض الواقع.
هل يحن أكرم هنية إلى رام الله في 50 و60 و70 ق 20، كما حن إميل حبيبي إلى حيفا زمن كون المدينة عربية؟
لا يكتب هنية قصة سيرية - تبدو اخطية في جزء كبير منها أشبه بسيرة ذاتية لإميل - إن الكاتب يختفي وراء المهندس ماجد ويترك له أن يقص عن حياته في رام الله في زمنين مختلفين، وأحيانا، ومن خلال حوارات عديدة، يترك لشخوص آخرين المجال ليعبروا عن وجهات نظرهم في المدينة وفي غيرها من المدن كالقدس عما يجري.
هل بدا هؤلاء كلهم مثل إميل؟
قسم من هؤلاء ينحاز للواقع الجديد ولرام الله الجديدة، بل إن الجيل الجديد الذي لم يعش في المدينة قبل مجيء السلطة يحب رام الله فيما هي عليه ولا يشعر بالغربة التي يشعر بها بعض كبار السن، ولا نجد حنيناً إلى الماضي يشعر بالأسى كما نجده لدى إميل حبيبي نفسه.
وليس أمام المرء إلا أن يثير أسئلة، ولعل أهمها هو: الآن رام الله، خلافا لحيفا، لم تتهوّد؟ ولأن سكانها كانوا عرباً وما زالوا عرباً.
طبعاً هناك مجال لمقاربات أخرى أهمها عنصر اللغة في الرواية والقصة، ولا أعني هنا لغة إميل التراثية ولغة هنية الأقرب إلى الفصيحة المبسطة، وإنما أعني اللغة الثانية التي تحضر في الرواية والقصة؛ العبرية في "اخطية" و"الانجليزية" في "شارع فرعي في رام الله".
عادل الأسطة
2017-07-23
***
7- يوم قتل المواطن إبراهيم الأقرع ... يوم استشهد المواطن إبراهيم النابلسي .
في أثناء الحرب الأخيرة على غزة في الخامس من آب ٢٠٢٢ دار جدل بين كتابنا على صفحات التواصل الاجتماعي تمحور حول ردود أفعال أهل الضفة على الحرب . هل يواصل فلسطينيو الضفة الغربية حياتهم كالمعتاد أم أن عليهم أن يوقفوا مظاهر الحياة متضامنين مع فلسطينيي غزة ؟
كتب الروائي عباد يحيى الآتي :
" إيقاف مظاهر الحياة بما فيها الفرح في ظل المواجهة غير حقيقي ولا عملي وسلبي وصعب ، ولكن بث فعل وطني في أي مظهر من مظاهر الحياة بما فيها الفرح شيء بالمتناول وسهل وحقيقي ... إلخ " .
ما كتبه الروائي لم يرق للناشط والمهندس والفنان التشكيلي الغزي مجدي عاشور فاقتبس ما نشره الروائي وعقب عليه بالآتي :
" اسمعوا بالله عليكم ما كتبه عباد يحيى محرر التراصوت في ظل تعليق بعض الفاعليات الثقافية في الضفة الغربية ، وكأن من واجب أهل غزة الحياة تحت القصف بينما يرقص أهلنا الدبكة وينفخون في الربابة والأرغول في الضفة الغربية . انظروا كيف تتم صياغة المماحكات " .
في ١٣ آب من الشهر نفسه استشهد في نابلس إبراهيم النابلسي واثنان آخران ، فأعلن الحداد العام تضامنا مع أهل الشهداء وحزنا على الشهداء . في اليوم نفسه مساء عرفت من قريبين مني أنهم وعائلاتهم سينفقون يوم غد في أحد الشاليهات في منطقة الأغوار ، وسمعت عن إعدادهم واستعدادهم لما تقتضيه الرحلة وما تتطلبه من طعام وشراب .
لم أبد شخصيا رأيا في الجدل الدائر أو في رحلة معارفي ، ولكني سرعان ما تذكرت قصة الصديق أكرم هنية " يوم قتل المواطن إبراهيم الأقرع " التي نشرها في مجموعته " طقوس ليوم آخر "( ١٩٨٦) ، وبدأت أفكر في نصوص أدبية فلسطينية وعربية أتت من قبل على أحداث شبيهة . تذكرت مثلا رواية الكاتب العربي السوري أديب نحوي " عرس فلسطيني " (١٩٧٠) وتذكرت قصيدة محمود درويش " ونحن نحب الحياة " من مجموعة " ورد أقل "(١٩٨٦) وتذكرت كتابه " ذاكرة للنسيان "(١٩٨٦) الذي كتب فيه عن الحياة في بيروت في أثناء حصارها في العام ١٩٨٢ .
في " عرس فلسطيني " ينتظر الأب عودة ابنه الفدائي سالما من فلسطين ليحتفل به عريسا في الموعد المحدد . في النهار يعد العدة للعرس ليلا ، وفي المساء حيث موعد العرس يأتي نبأ استشهاد ابنه ، فلا يعلنه الأب على الملأ ، ويقرر الاستمرار في مجريات العرس ، فابنه قد يتأخر قليلا في المجيء ويحتفل الحضور .
في حصار بيروت ١٩٨٢ كان أهلها في أثناء اشتداد المعارك يقبعون في الملاجيء ، وما إن يعرفوا عن هدنة حتى يخرجوا ليواصلوا حياتهم ، فيذهب إلى الشاطيء من يريد الاستجمام ويتزوج من كان قرر أن يتزوج ، ولعل هذا ما أوحى لدرويش بكتابة قصيدته " ونحن نحب الحياة " :
" ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا ونرقص بين شهيدين
نرفع مئذنة للبنفسج بينهما أو نخيلا " .
وهو ما نقرؤ شبيها له في " ذاكرة للنسيان " حين يكتب عن مشاهدته مباريات كأس العالم لكرة القدم في ١٩٨٢ وعن المظاهرات التي شهدها الشارع العربي في الجزائر ضد الحكم في حين لم يتظاهر الشارع العربي ضد محاصرة عاصمة عربية يتعرض مواطنوها للقتل والتجويع والعطش :
" ولكني لا أغضب ، كما غضب غيري ، من المظاهرات العربية الصاخبة التي خرجت تحتج على حكم منحاز في مباريات كرة القدم تلهب الحماسة أكثر من هذا الصمود الطويل في بيروت ... ونحن نحب كرة القدم . ونحن أيضا يحق لنا أن نحب كرة القدم ، ويحق لنا أن نرى المباراة . لم لا ؟ .. "( أنظر الصفحات ٥٣ إلى ٥٦ من مجلة " الكرمل " عدد ٢١و٢٢ عام ١٩٨٦ ) .
وأعود إلى قصة " يوم قتل المواطن إبراهيم الأقرع " ، فمن هو إبراهيم ؟ وماذا جرى يوم قتله ؟ وكيف كانت الحياة تسير؟ وماذا يرمي القاص من وراء ذلك؟
إبراهيم هو مواطن فلسطيني صودرت أرضه فدافع عنها وقتل في ٢ أيار ١٩٨٣ . هذا ما يقصه علينا رئيس تحرير جريدة يعرف بالخبر ويتابعه ويفكر في كتابة مقال افتتاحي يتمحور حول الحدث الطازج الساخن .
في اليوم الذي استشهد إبراهيم فيه كانت الحياة تسير في الضفة على طبيعتها . كان الناس مشغولين بهمومهم وهي كثيرة وليست متشابهة ، فمنهم من تشغله مصالحه الخاصة ومنهم من هو مهموم بالوطن . منهم من يبيع أشرطة فيديو ومنهم من يبدل العملات في محل الصرافة الخاص به ، ومنهم المعلم الذي يشارك في اجتماع نقابي ، ومنهم من يذهب لقضاء سهرة في نتانيا ... إلخ
وما يرمي إليه السارد ، ومن ورائه الكاتب ، هو أن الحياة لا تتوقف باستشهاد مواطن . الحياة نهر تجري مياهه ولا تتوقف شئنا أم أبينا ، حزنا أو اعتكفنا في بيوتنا حتى يعود الشهيد إلى الأرض .
وليست هذه القصة الوحيدة للقاص التي يصور فيها انعكاس حدث معين على الناس واختلاف ردود أفعالهم . هناك قصة ثانية في المجموعة نفسها عنوانها " عندما أضيء ليل القدس " ، فحين يظهر رجل الضوء يرى فيه كل مواطن من يفتقده ؛ الأب الشهيد أو الحبيب الغائب أو الابن السجين ... إلخ .
في العام ٢٠٠٦ عندما هاجمت إسرائيل لبنان وسوت الضاحية الجنوبية بالأرض كنا نتابع الأخبار ونشاهد أيضا مباريات كرة القدم ، واحتفل جيراننا يومها بنجاح ابنتهم أو خطبتها ، ومن وحي ذلك أظن أنني كتبت مقالا عنوانه " فرح في بيت الجيران " .
هل أتبنى وجهة نظر عباد يحيى أو وجهة نظر مجدي عاشور ؟ وماذا تقدم وجهة نظري أو تؤخر ؟ الحياة منذ الأزل قائمة على ثنائية الحياة والموت والفرح والحزن والربح والخسارة ، وربما ما نحتاج إليه في الأوقات الحرجة والصعبة والمرة هو أن نقنن من مشاعرنا في الفرح والبهجة . الحياة لا بد أن تستمر .
( مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية ١١ أيلول ٢٠٢٢ ) .
الثلاثاء ٦ أيلول ٢٠٢٢ .
***
8- شيطنة رام الله... تسويق رام الله
ما إن ينتهي المرء من قراءة قصة أكرم هنية الجديدة «شارع فرعي في رام الله» حتى يثير حولها أسئلة عديدة منها ما يخص علاقتها بالتجربة القصصية للقاص، التجربة التي تعود إلى العام 1979 حيث أصدر أولى مجموعاته القصصية «السفينة الأخيرة… الميناء الأخير»، ومنها ما يتعلق بالتجنيس الأدبي لها، أو بصلتها بسرديات رام الله؛ تشابهها معها واختلافها عنها، فهي لا تضاف إليها لأن اسم المدينة كان مكوناً من مكونات العنوان وحسب، وإنما لأنها تقدم تصوراً للمدينة مختلفاً من ناحية وصادراً عن كاتب ولد في رام الله وعاش فيها وما زال.
لم تحضر رام الله في الأدبيات الفلسطينية بشكل عام إلا بعد اتفاقيات ”أوسلو“، وما كتب عن المدينة قبل هذا التاريخ لم يشكل ظاهرة لافتة يمكن أن يشار إليها.
في سيرة فدوى طوقان «رحلة جبلية… رحلة صعبة»، 1986، يقرأ المرء عن حياة ثقافية في المدينة ولم يكن ما كتبته سحر خليفة في «عباد الشمس»، 1979/1980، مختلفاً ومميزاً.
إثر اتفاقيات ”أوسلو“ غدت رام الله شيئاً آخر مختلفاً، ولأنها غدت كذلك فقد أخذت الأقلام تكتب عنها وتلتفت إلى ما يطرأ عليها من تطورات متسارعة.
كتب عنها أحمد رفيق عوض في «مقامات العشاق والتجار»، 1996، وخصها مريد البرغوثي بكتاب كان اسم المدينة مكوناً من مكونات عنوانه «رأيت رام الله» وقارن فيه مؤلفه بين رام الله كما عرفها في الستينيات ورام الله كما رآها بعد ثلاثين عاماً من الغياب عنها، ومثله فعل فاروق وادي في «منازل القلب»، 1998، ولم تكن رام الله في حينه، يوم تأليف الكتابين، تطورت كما تطورت بعد صدور الكتابين.
بعد البرغوثي ووادي كتب محمود شقير نصاً نشره في مجلة «الكرمل» عنوانه «رام الله التي هناك» وأتى فيه على اختلاف المدينة في التسعينيات عنها في الستينيات. كانت رام الله تمدّن الريف ثم صار الريف يريّفها وهذا ما آلم شقير وأحزنه هو المثقف اليساري الذي يميل إلى حياة المدينة لا إلى حياة الريف الفقيرة المحافظة، حيث لا مسرح ولا سينما ولا أمسيات ثقافية ولا..ولا..
عرف البرغوثي ووادي وشقير رام الله في الستينيات وأقاموا فيها وكانوا ميالين إلى الفكر اليساري والعلماني الذي يؤثر الانفتاح ولم يختلف عنهم أكرم هنية.
لم يختلف محمود درويش في موقفه عن الأدباء السابقين بشكل عام وإن اختلفت علاقته برام الله فهو لم يقم فيها قبل 1996. ربما كان مر بها بعد هزيمة حزيران 1967 مروراً عابراً، وحين استقر فيها لم ترق له. لقد رآها مدينة تبنى على عجل ولا ماضي له فيها كما ورد في قصيدته التي أهداها لسليمان النجاب وظهرت في ديوانه «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»، 2009.
بعد أن غدت المدينة أشبه بعاصمة سياسية واقتصادية وثقافية عاش فيها فلسطينيون كثر وفدوا إليها وكان قسم من هؤلاء قدموا من مدن صغيرة أو من قرى الضفة الغربية ولم يألف أكثر هؤلاء حياة المدن الكبيرة المنفتحة والمتطورة بشكل متزايد ومتسارع، وهكذا بدأت تظهر كتابات جديدة لكتاب جدد أغلبهم أقام في رام الله. وكانت عناوين كتبهم تحفل باسم المدينة.
«لا ملائكة في رام الله»، 2010، رواية لكاتبة شابة درست في جامعة بير زيت هي إيناس عبدالله. وربما يكرر المرء وهو يقرأ العنوان المثل الشعبي "أقرأ المكتوب من عنوانه" وبالتالي يعرف، مقدماً، الصورة التي تظهر للمدينة في الرواية. بعد صدور هذه الرواية صدرت روايتان لعباد يحيى هما «رام الله الشقراء»، 2013 و«جريمة في رام الله»، 2017 وقد أثارتا جدلاً واسعاً وبدت صورة رام الله فيهما مختلفة عما قرأناه في النصوص المذكورة ابتداء. بدت صورة رام الله فيهما أشبه بصورة المدينة الكبيرة في الآداب العالمية. رصدت الروايتان التطورات التي ألمت برام الله بعد ”أوسلو“ فكانت المدينة مختلفة. لم تعد مدينة هادئة ووديعة وتحت احتلال أجنبي، غدت مدينة كبيرة يتغول فيها المال وتسودها علاقات اجتماعية عجيبة غريبة؛ انفتاح اجتماعي وسوق اقتصادي ومؤسسات أجنبية وبشر غرباء غدت المدينة بهم شقراء لا حنطية ولا سمراء وغدت مدينة لواط وشذوذ وموطناً للجريمة.
هل شيطن الكتاب الجدد رام الله؟
هذا ما تقوله نصوصهم وهذا ما تقوله أيضاً عناوين رواياتهم.
لم يعرف الكتاب الجدد رام الله قبل 1987 وما رأوه منها وفيها رأوه بعد العام 2007 تقريباً ولهذا لم يظهر للمدينة في كتاباتهم صورتان تنتميان إلى فترتين مختلفتين كلياً. هذا وجه اختلاف بين نصوصهم ونصوص البرغوثي ووادي وشقير، فأين تقع قصة أكرم هنية «شارع فرعي في رام الله»؟
أشرت إلى صلة هنية برام الله وهي صلة تختلف عن صلة الجيل الجديد بها أنه يعرف رام الله في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات ومنذ عاد من المنفى في التسعينيات استقر فيها وأخذ يتابع ما يطرأ عليها من تطورات. هل ننسى أنه واحد ممن ساروا في ركاب ”أوسلو“ وأسهموا في إنجازه؟
أعتقد أن السؤال الأخير هو ما يجب أن يدفع المؤيدين لـ ”أوسلو“ والرافضين لها إلى متابعة كتابات أكرم هنية في أثناء قراءة النصوص الأدبية قراءة سياسية واقتصادية واجتماعية، ذلك أنها صادرة عن كاتب أبعدته سلطات الاحتلال في 1986 لمقاومته الاحتلال ثم عاد إلى رام الله وهو مشارك في مشروع السلام. طبعاً لا أغفل المكانة الأدبية للقاص، فهو من أهم الأسماء القصصية في القصة القصيرة الفلسطينية حيث أصدر خلال 40 عاماً ست مجموعات احتُفل بها.
في قصته الجديدة «شارع فرعي في رام الله» تحضر المدينة من خلال العنوان وتحضر أيضاً في المتن. تحضر في العنوان لأول مرة وتحضر في المتن حضوراً لافتاً فهي لم تحضر في قصص القاص السابقة. في قصصه السابقة كان الحضور للقدس لا لرام الله، وستحضر القدس في القصة الجديدة ولكن بصورة سريعة فهي تخلي المجال لرام الله. ولا يعني هذا أن هنية وبطل قصته تخليا عن القدس.
ما يجب أن ألفت النظر إليه أن لرام الله في القصة غير صورة، وهذه الصور تصدر عن شخصيات عديدة تنتمي لأجيال مختلفة وعلاقة كل شخصية بالمدينة مختلفة تبعاً لمدة إقامته فيها ومتابعته تطوراتها. إن تفصيل هذه الصور وتلك العلاقات يحتاج إلى مساحة أوسع من المساحة التي خصصت للمقال
وإذا كان ثمة انطباع موجز يقول لنا خلاصة صورة رام الله في قصة أكرم هنية فإنه يمكن القول إن القاص لا يشيطن المدينة. إنه يسوقها ويجعل منها مدينة يمكن العيش فيها برغبة وحنين الكبار في السن إلى رام الله في الستينيات والسبعينيات، هو حنين لا يشغل حيزاً في ذهن الجيل الجديد الذي ولد في التسعينيات ورأى رام الله الحالية. لعل الكتابة عن هذا تتطلب وقفة مفصلة أمام العناوين الآتية في القصة «محاولة للتفسير» و «رجل من شارع النزهة» و«أفق متغير» و«نبض مختلف».
***
9- قراءة تحليلية لقصة "عندما أضيء ليل القدس"
هذه القراءة التحليلية لقصة أكرم هنية "عندما أضيء ليل القدس" تنجز بمناسبة صدور أعماله القصصية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (2003) في بيروت.
ويعود السبب في اختيار هذه القصة دون غيرها، إلى أسباب منها أنني اخترت عنوانها، مع بعض التغيير، لكتابة مقالة عن أكرم هنية، يوم إبعاده، في العام 1986، وكان مقالا عابرا سببه مناسبة غير سارة، ومنها أن القصة لها في نفس مؤلفها وقع مميز، وهذا ما أخبرني به أحد طلبة الدراسات العليا الذي أنجز رسالة ماجستير في قصص أكرم هنية، ولكنه لم يدرس القصة إلا ضمن دراسته قصص الكاتب كلها، وهكذا لم يخصص لها مساحة كاملة، وهذا ما سأفعله هنا، وثمة ما هو متعلق بالسبب الأول، وهو عودتي المتأخرة لنصوص قديمة كتبت عنها مقالات أو أشرت إليها في دراسات، لأكتب عنها، من جديد، لاختبار مقولة نقدية من مقولات نظرية التلقي الألمانية، وهي أن قراءة نص واحد من قارئ واحد، في زمنين مختلفين تؤدي إلى قراءتين مختلفتين، وسبب ذلك الثقافة التي يكتسبها القارئ، وتطور آرائه ووعيه النقدي، واختلاف حالته في أثناء القراءة.
بين يدي النص:
كتب أكرم هنية هذه القصة ونشرها في مجموعة "طقوس ليوم آخر" (قبرص، 1986)، وضَمَّت هذه المجموعة مجموعات القاص الثلاثة الصادرة في (1979) (1980) (1981)، والقصة، بالإضافة إلى سبع قصص أخرى لم تظهر في المجموعات الثلاثة الأولى. هذا يعني أن أكرم هنية انقطع خمس سنوات عن إصدار أية مجموعة جديدة، وهذا يعني أيضا أنه ما عاد مكثرا في كتابة القصص، كما بدأ في سنوات كتابته الأولى. ويمكن قول الشيء نفسه عن مجموعة "أسرار الدوري" (2001) التي صدرت بعد خمسة عشر عاماً من صدور "طقوس ليوم آخر".
اعتمادا على تاريخ النشر يمكن الإشارة إلى زمن الكتابة، وهو، كما يفترض، 1986، وهذان الزمنان خارجيان، مثلهما مثل زمن القارئ. ولكن ماذا عن الزمن الداخلي؟ يستطيع المرء أن يحدد هذا الزمن اعتمادا على معطيات داخلية، وإن لم يذكر بالضبط. ثمة في النص إشارة إلى الاحتلال، احتلال اليهود المدينة، وتم هذا كما نعرف، بعد العام 1967. وثمة في النص أيضا إشارة إلى الحرب اللبنانية، الحرب الأهلية، وابتدأت هذه منذ 1975، واستمرت إلى فترة كتابة القصة. وإذا كان هذا هو الزمن القصصي المعيش من أكثر شخوص القصة، فإن رجل الضوء ذا الدلالة الرمزية يعود بنا إلى أول مزارع كنعاني زرع أشجارا في فلسطين، ويمر بنا مرورا عابراً في تاريخ الغزوات، فهو الجندي البسيط الذي حارب الغزاة، وهم كثر، وهو العامل الذي بنى سور القدس، وهو الفلاح الذي ألقى أول حجر على سفينة الغزاة عام 1882، وهو الرجل الذي ظهر على سور القدس زمن القصة وجريان أحداثها.
ويستطيع القريب من أكرم هنية، الذي عايش الأحداث زمن كتابتها، وزار القدس في حينه، يستطيع أن يحدد الزمن القصصي، وهو 1985 أو قبلها بقليل، ففي هذا العام استرخى أهل الضفة، وبدأوا يمارسون طقوسا أتى عليها المؤلف الضمني في الصفحتين الأولى والثانية من القصة، إنها أجواء ليالي رمضان في ذلك العام، أجواء الفرح والسهر التي لم يكن يعكر صفوها سوى دوريات الجيش الإسرائيلي.
السارد في القصة:
ليس هناك سارد واحد يسرد القصة من أولها إلى آخرها، هناك مؤلف وهناك أربع شخصيات نصغي إليها، كما نصغي إلى كلام المؤلف. والمؤلف غير محدد الملامح، ويستطيع المرء ان يطابق بينه وبين أكرم هنية الكاتب. وكان أكرم هنية، في حينه يعمل في جريدة "الشعب" المقدسية ويرأس تحريرها، وكان على قرب شديد من أجواء المدينة التي أتى المؤلف على وصفها. المؤلف، إذن، وهو المؤلف الضمني، لا يختلف عن الكاتب الحقيقي للقصة، عن أكرم هنية، ويتم السرد هنا بضمير الهو، الضمير الثالث. ولكن هذا الضمير يتغير فلا يسيطر على القصة كلها، إذ أن الشخصيات الأخرى: الطفل الفتاة، الرجل، رجل الضوء، تتكلم وتقص عن ذاتها وعما جرى معها من خلال الضمير الأول، ضمير الأنا. ويبدو السارد/ المؤلف كلي المعرفة، إذ يعرف الكثير عن المواطنين. ولغة السارد، مثل لغة شخوصه، هي العربية الفصيحة. لكأن أكرم هنية أدخل لغة شخوصه في مياه نهر (ليثي) كما يقول (ميخائيل باختين)، حيث انصهرت كلها في مستوى واحد، وبذلك تكون لغة القصة أقرب إلى لغة الشاعر الغنائي، هذه التي لا تعدد في المستوى اللغوي فيها. المؤلف يكتب بالفصيحة، والطفل يتكلم بالفصيحة، وكذلك الفتاة والرجل، بل أن رجل الضوء الذي تعود جذوره إلى بداية الحضور الكنعاني في فلسطين يتكلم العربية الفصيحة.
بنية النص:
يتكون النص من أحد عشر مقطعا على النحو التالي:
المؤلف [حوالي 96 سطرا].
الطفل [ثمانية أسطر].
الفتاة [سبعة عشر سطرا].
الرجل [خمسة وثلاثون سطرا].
رجل الضوء [أربعة أسطر].
المؤلف [أربعة أسطر].
الطفل [أربعة أسطر].
الفتاة [سبعة أسطر].
الرجل [خمسة أسطر].
10- رجل الضوء [ثمانية أسطر].
11- المؤلف [تسعة أسطر]. [طبعة الكرمل، 1986].
يفتتح المؤلف الضمني النص ويختتمه، وما بين الافتتاح والاختتام يظهر أيضا في الوسط، إنه يتكلم ثلاث مرات، فيما يتكلم الآخرون مرتين، وتبدو القصة، إذا استعرنا من الشعر مصطلحاته حول شكل القصيدة الحديثة، تبدو دائرية الشكل وحلزونيته في الوقت نفسه. المؤلف هو نقطة البدء، وهو نقطة الوسط، وهو نقطة النهاية. وثمة في المقطع الأول أيضا عبارة مركزية يعود إليها المؤلف كلما سرد فقرة لتكون نقطة انطلاق لمواصلة القص. إنها عبارة "صاح الطفل: انظروا"، وتتكرر هذه في المقطع الأول على النحو التالي:
صاح الطفل: انظروا.
صاح الطفل: انظروا.
انظروا "صاح الطفل.
صرخ الطفل: انظروا.
انظروا. انظروا. انظروا. أخذ الطفل يصرخ محتداً.
وثمة عبارات دالة أخرى في النص وهي:
ليل القدس الطويل.
.... يبحثن عن زبائن لليلهن الطويل.
أقص شعري.. أعرف أنه يحبه أسود طويلاً كالليل الذي اعتاد أن يسير فيه.
وانبعثت عندما كنتم تصنعون مهرجان الألوان في هذا الليل الطويل.
وهي أيضا:
حتى لعلع الرصاص [ينتهي بها المقطع 1 و2 و 3 و4].
عندما لعلع الرصاص [ينتهي بها المقطع 5].
قد أطلقوا النار بغزارة نحوه [ينتهي بها المقطع 6].
عندما سمعنا صوت الرصاص [ينتهي بها المقطع 7].
عندما لعلع الرصاص [ينتهي بها المقطع 8].
عندما انهال الرصاص عليه [ينتهي بها المقطع 9].
أطلقوا الرصاص [ينتهي بها المقطع 10].
وينتهي المقطع الحادي عشر، بصوت المؤلف:
"كانت القدس تستحم في بحر الضوء الرقيق الحالم الذي انبثق فيها، وفي بحر البشر المحتشدين في كل مكان. ونسمات منعشة تهب من جميع الاتجاهات. وكان العلم "يرفرف عالياً".
ثمة رجل هو رجل الضوء، يحل في رجل من أهل القدس، في ليلة من ليالي رمضان، ويرى فيه الناس شخصا عزيزاً عليهم، يلفت طفل الأنظار إليه بعبارة: انظروا، ويصعد الطفل إليه وكذلك الفتاة والرجل، ليلتقوا به، ولكن ما يفرق بين هؤلاء ورجل الضوء هو الرصاص، وهكذا يجرح رجل الضوء، ويختفي لكنه لا يموت، وهكذا تنتهي القصة بإعلاء العلم الفلسطيني الذي يرفرف فوق أسوار القدس عالياً.
إن ليل القدس طويل، لأن القدس تحت الاحتلال، والناس ينتظرون المخلص، الفادي، الثوري، وحين يظهر يتطلعون إليه، لكن رصاص الجنود يلعلع ولا يكتمل اللقاء.
لنعد إلى بناء النص:
يعقب كل عبارة في المقطع الأول عبارة أخرى، باستثناء العبارة الأولى، حين يكرر الطفل عبارة انظروا ثانية، يعقب المؤلف: لم يستمع إليه أحد. وحين يكررها الطفل ثالثة يعقب المؤلف: لكن أحدا لم ينتبه إليه وهو يشد ثوب أمه المنشغلة بالحديث مع...، وحين يكرر صراخه، يعقب المؤلف: لكن أحداً لم يستمع إليه وقد أخذتهم الرهبة، وفي المرة الخامسة يصرخ الطفل ويبكي ويشير بيديه وهنا: انتبه بعض لصرخته وإلحاحه ونبهوا غيرهم".
لكأن أكرم هنية يقول: خدوا فالها من أطفالها، ولكأنه تنبأ بالانتفاضة التي اندلعت في نهاية العام 1987، وكان للأطفال دور بارز فيها. ولكأن أكرم هنية يقول: ولكن من يصغي إلى هؤلاء ويستمع إليهم.
نأتي إلى ردود الأفعال إزاء بروز رجل الضوء. يلجأ القاص، قبل أن يخصص حيزاً للطفل والفتاة والرجل، إلى تصوير ردود أفعال الناس إزاء ظهور رجل الضوء، وتبدو على النحو التالي:
"هتف رجل وهو يبكي: أنه ابني قتله اليهود.
"وصرخت امرأة كان يحيط بها أطفالها: إنه ابني الذي استشهد في لبنان".
" وهتف رجل مأخوذ بغرابة ما يجري: إنه المهدي المنتظر".
"وقالت امرأة عجوز: إنه ابني التائه في المنفى".
"وقال شاب بسرعة حاسمة: إنه شقيقي المعتقل في السجن".
"وقال آخر: "إنه ولي من أولياء الله في هذه الليلة المباركة".
"وتقدم طفل للأمام وسط الجموع: إنه أبي الغائب في السجن".
"وقالت امرأة وهي ترسم علامة الصليب: يا عذراء. إنه يسوع. يسوع يا مخلصي".
"وارتعش جسد فتاة لم تحاول مقاومة دموعها وهي تهمس: إنه حبيبي. اعرفه. إنه فارسي.. انتظرته طويلا. ها قد أتى".
وكما يقول المثل الشعبي "اللي على بال أم حسين بتحلم فيه بالليل"، وكل واحد من أبناء الشعب الفلسطيني يفتقد عزيزا، وهكذا يرى كل واحد من أهل القدس وزوارها في رجل الضوء العزيزَ الذي يفتقده.
ولا يخوض أكرم هنية في قصة كل واحد من هؤلاء، إنه يختار ما قاله الطفل، وما قالته الفتاة، ويضيف إلى هذين قصة رجل آخر لم نصغ إلى صوته بين الأصوات. وتسير القصص الفرعية على النحو التالي:
الطفل: كان أول من رأى رجل الضوء، وأول من صعد نحوه. يقول الطفل: "شعرت أنه يشبه أبي الغائب منذ سنوات، والذي تقول أمي إنه سافر". ويضيف" عندما رآني فتح ذراعيه، ورفعني عالياً وضمني إليه"، ولكن ما يفرق بينهما الرصاص.
هكذا يكون رجل الضوء الأب الغائب، ولكنه لا يتخلى عن أبنائه.
الفتاة: تنتظر حبيبها، مع أنهم قالوا لها إنه لن يأتي، إلا أنها واثقة من أنه لا يتأخر عن موعده، وتصعد إليه وتعانقه، ومدّ يده وربت على كتفي، مسح دمعة من عيني، وبدأنا نتحدث". ولكن ما يفرق بينهما الرصاص.
تعده أنها ستنتظره، ويتعهد بأنه لن يغيب طويلا. وهكذا يكون الحبيب الوفي.
الرجل: الرجل متزوج وله أبناء، وبدا رجل الضوء رفيق عمره وصديقه الذي لم يره منذ زمن طويل، لقد قاتلا معا في لبنان واختفت أخبار رجل الضوء، ودارت حوله الشائعات. هل استشهد؟ هل أسر؟ هل التجأ إلى الجنوب؟
ويصعد الرجل إلى السور لملاقاة صديقه رجل الضوء، ويتبادلان معا حديثا قصيرا، ولكن ما يفرق بينهما هو رصاص الاحتلال. يسأل رجل الضوء صديقه عن أمه وأبيه- أم رجل الضوء وأبيه ويعد أنه سيعود. إنه الوفي لصديقه ولأمه ولأبيه.
رجل الضوء: يظهر رجل الضوء عندما رأى الناس يبحثون، في ليل القدس الطويل، عن نسمة هواء وضحكة ولحظة فرح. ويقول: "كان لا بد أن أظهر".
ويخبرنا عن نفسه بالتالي:
"لست أنا تماماً من رأيتموه، ولكنني هو بصورة أو بأخرى. لست ملاكا ولست شيطاناً". و"أنا مزيج لقائكم". واللقاء لا يقتصر على أهل القدس. إنه يضم أهل القرى والمخيمات المجاورة.
وكما ذكرت فثمة دلالة رمزية لرجل الضوء تتضح من خلال الفقرة التالية:
"ولدت عندما رأيتموني أضيء القدس. ولكنها لم تكن حياتي الأولى. عشت قبلها حيوات كثيرة في عصور أخرى.
وكما أشرت، فإنه، لحظة ظهر، تقمص رجلا كان واقفاً على السور. وثمة امتداد أفقي وآخر عمودي له. له عائلة وله أطفال وله حبيبة وله أصدقاء، وقد اتضح هذا من خلال القصص الثلاث، كما لاحظنا. ولكنه أيضا ظهر في العصور الأخرى على النحو التالي:
المزارع الكنعاني الذي زرع أول شتلة هنا.
الجندي البسيط الذي حارب الغزاة في فلسطين.
العامل الذي بنى السور.
الفلاح الذي ألقى أول حجر على سفينة الغزاة عام 1882.
وكما له امتداد في المكان، في القدس، له امتداد في الزمان
إنه تموز الفلسطيني، ولد مرات عديدة ومات مرات عديدة. مات على يد الأعداء، ومات على يد الأصدقاء، وله قبور في عمان والشام وبيروت والجنوب. ويشعر أنه يعرف كل واحد من أهل القدس. وهو النور، وحين أطلق الإسرائيليون النار عليه أطلقوها لأنهم لم يتحملوا النور. وحين مات كان موته الجديد. "رحلت بعيداً. إن رجل الضوء، هنا، مثل احمد العربي في قصيدة محمود درويش. احمد الذي يقول:
كلما آخيت عاصمة
رمتني بالحقيبة،
فالتجأت إلى رصيف الحلم والأشعار،
كي أجدد قامتي
المستوى اللغوي في النص:
على الرغم من تعدد الشخوص في النص واختلاف ألسنتهم الاجتماعية: مؤلف، طفل، فتاة، رجل محارب، رجل الضوء الأسطوري الذي عاش في أزمنة متعددة، إلا أن المستوى اللغوي في القصة هو مستوى لغوي واحد. لقد أسلب القاص لغة شخوصه، وأدخلها في مياه نهر (ليثي)، على رأي (ميخائيل باختين). لقد فعل ما يفعله الشاعر الغنائي الذي يطغى على لغته مستوى لغوي واحد.
النص والنصوص الأخرى:
يستطيع المرء أن يبحث في نصوص أخرى للكاتب، ليعزز بعض مقولات النقد البنيوي، ومنها إن ثمة صلة ما يمكن العثور عليها في كتابات كاتب ما، بل وفي نصوص عصر ما، وحين يحاول الناقد أن يتأكد من صدق هذه المقولة في قصص أكرم هنية، فهل يعثر على ما يصل هذه النص بنصوص أخرى للكاتب. أرى شخصيا أن أقرب نصين لهذه القصة هما قصة "القرار" (1980) وقصة "شهادات واقعية حول موت المواطنة" منى. ل"" (1980). في القصة الأولى هناك إشاعة ما تنطلق من البلدة القديمة في نابلس، وهناك رصد لردود الفعل إزاءها، وفي الثانية هناك حادث موت/ انتحار منى. ل، وهناك أيضا رصد لآراء معارفها وأصدقائها وزميلاتها. ثمة في القصص الثلاث حدث بارز لافت، وثمة رصد لردود فعل الآخرين/ إزاءه. وأكرم هنية المهني الصحفي، منذ تخرجه، والسياسي منذ أيام الدراسة في الجامعة، مُنْغَمِس في الواقع، بسبب موقعه، وراصد جيد لآراء الآخرين، إزاء حدث لافت. ولعلني لا أبالغ حين أرغم إنه أبرز كاتب قصصي في فلسطين يدون في قصصه تفاصيل الواقع في الجانب السياسي. الأخبار كلها تأتي إليه وهو في موقعه في الجريدة، وهو بطريقة أكاد أقول مذهلة يرصدها في قصصه، وربما ما كان ليتمكن من ذلك، لولا عمله الصحفي الذي انعكس على قصصه فميزها، وجعل لصوته القصصي اختلافا واضحا.
تحيلنا الكتابة عن صلة النص بنصوصه الأخرى إلى الكتابة عن النص وصلته بنصوص أخرى سابقة ولاحقة. هل يستطيع المرء أن يزعم أن هذا النص متأثر بنصوص سابقة، وأنه ترك أثره في نصوص لاحقة.
تذكر عبارة ليل القدس الطويل المتكررة في القصة، تذكر "قارئ جبرا إبراهيم جبرا بعنوان روايته "صراخ في ليل طويل" (1956)، فهل كان العنوان ترك أثرا على أكرم هنية؟ مجرد تساؤل، مع أن ثمة فارقا بين ما ورد في النصين. الليل الطويل في نص جبرا هو ليل التخلف الاجتماعي، والليل الطويل في قصة هنية هو ليل الاحتلال الجاثم على القدس منذ 1967 حتى تاريخ كتابة القصة، وحتى اللحظة.
تحيل العبارة المتكررة المرء إلى عنوان نصي القصصي "ليل الضفة الطويل". هل كانت العبارة في لا وعيي حين جعلتها عنوانا للنص. كلا النصين يأتيان على واقع الناس تحت الاحتلال.
سئل (امبرتو ايكو) من بعض القراء، حين انتهى من كتابة روايته "اسم الوردة"، إن كان قرأ رواية ما فيها شبه بروايته. وكان جوابه: ربما أكون قرأتها، ولكنها لم تكن حاضرة في ذهني وأنا أكتب روايتي. ولا أنكر أنني قرأت قصة هنية وكتبت عنها كتابة عابرة، فهل تركت أثرا عليّ؟ وهل كان لها تأثير على نصي؟ ربما.
كلمة أخيرة:
يكتب أكرم هنية قصته عن فرح أهل القدس في عام 1985، ولكنه يكتب عن فرح لم يكتمل. عن فرح ناقص، فثمة غياب ما سببه الاحتلال، ورجل الضوء في القصة هو الفدائي، وهو الشهيد، وهو ابن هذه البلاد الذي زرعها، وقاوم غزاتها. إنه ليس ملاكا وليس شيطانا. ولعل هذه القصة مثل قصص كثيرة أبرزها بعض قصص مقهى الباشورة لخليل السواحري، وقصة "أبو جابر الخليلي" لتوفيق فياض، وقصة "في الطريق إلى البلدة القديمة" لمحمود شقير، لعل هذه القصة، مثل هذه القصص، ذات أهمية كبيرة لمن يريد أن يدرس مدينة القدس والحياة فيها في ظل الاحتلال. وهي قصص كتبها قاصون عرفوا المدينة وشارعها وأزقتها، والتقطوا تفاصيل الحياة فيها، وكانوا- أي القصاصون- يكتبون عما رأوا وعاشوا وشاهدوا، ولهذا كانت لقصصهم نكهة خاصة.
***
10- بعد الحصار... قبل الشمس بقليل
اختارت سلمى الخضراء الجيوسي في موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر هذه القصة لتمثل أكرم هنية.
ويلحظ من يتتبع المختارات القصصية التي صدرت أن قصص القاص التي اختيرت لتمثل نتاجه هي "القرار" و "مؤتمر فعاليات القرية يصدر قراراً هاماً"، وقد صدرتا في مختارات عنوانها " قصص قصيرة من الوطن المحتل (القدس، 1981 )، و"أبو القاسم يشارك في النهوض الجماهيري " وقد ظهرت في " انطولوجيا القصة القصيرة الفلسطينية " (عمان، 1991 ). ولم تخل المختارات التي أصدرها فخري صالح عام 1982، في بيروت، من اسم أكرم هنية، والشيء نفسه يمكن قوله عن كتاب خيري منصور " الكف والمخرز ".
أصدر أكرم هنية ثلاث مجموعات قصصية في ثلاث سنوات متتالية هي " السفينة الأخيرة... الميناء الاخير " (1979) و" هزيمة الشاطر حسن " (1980)، و" وقائع التغريبة الثانية للهلالي " (1981)، وقد صدرت هذه معا مع مجموعة رابعة تحت عنوان " طقوس ليوم آخر". وأصدر، فيما بعد، "أسرار الدوري" (2001) و "دروب جميلة" (2007)
وزمن كتابتها هو نهاية السبعينات، وفي هذه الفترة عاد أكرم هنية الذي غادر الضفة الغربية، عام 1971، ليدرس، في القاهرة، الأدب الانجليزي، عاد ليصيح محررا في جريدة " الشعب " المقدسية، وليغدو رئيس تحريرها، وانفق فترة طويلة في مدينة القدس التي كان لها، في قصصه اللاحقة، حضور بارز أيضا، وبخاصة في قصة "طقوس... في المرحلة السادسة " وقصته " طقوس ليوم أخر ".
وقد لفتت قصص هنية أنظار النقاد والدارسين، فكتبوا عنها عشرات المقالات التي ظهرت، في كتاب " الدخول الى حبر الروح "، كما درست في رسائل جامعية، في اثناء دراسة الحركة القصصية في الضفة الغربية وقطاع غزة ما بين 1967 و 1981 وأنجزت عنه، في جامعة النجاح الوطنية رسالة ما جستير، ويعد الكاتب في قصصه، في تلك المرحلة، من ابرز المجددين في القصة القصيرة، إذ جنح، في بناء قصصه، الى التجريب والمخيلة، وإذا كان التجريب ذا حضور، قبل إصداره مجموعاته، كما في قصص محمود شقير " الولد الفلسطيني" (1977) وقصص محمد علي طه " عائد الميعاري يبيع المناقيش في تل الزعتر" (1978)، فإن إعمال المخيلة، يكاد يكون ميزته الخاصة، هذا إلى جانب ميزة أخرى عرفت في القصة العربية، ولكنها لم تحضر في القصة في الضفة وقطاع غزة، وهي ميزة توظيف التراث الشعبي والتراث الأدبي العربي الرسمي في بناء قصصه، وهو ما نلحظه في قصة " هزيمة الشاطر حسن " وقصته " وقائع التغريبة الثانية للهلالي " وقصة " النابغة الذبياني يهجو النعمان بن المنذر"، وقد أتيت على هذه كله، بالتفصيل، في كتابي" القصة القصيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة " (1982(
وحين تدرس القصة القصيرة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وبخاصة في مناطق الاحتلال الثاني - أي الضفة الغربية والقطاع – فإن هنية يعد نموذجا جيدا للدراسة. حقا انه ليس الكاتب الوحيد، فقد أنجز قبله كل من خليل السواحري ومحمود شقير قصصا مميزة على صعيد الشكل والمضمون، وأنجز قبل عودته إلى الضفة في العام 1979 قصاصون آخرون قصصا لابأس بها، مثل غريب عسقلاني وزكي العيلة وآخرون، ولكنه، فيما رأى، الأبرز بين جيل السبعينات والثمانينات، وذلك لتنوع موضوعات قصصه/ ولثراء أشكالها، ولكتابته القصة الواقعية والقصة ذات البعد الرمزي والقصة التي تنزع نحو الحداثة، القصة التي يفيد في بنائها من معطيات عصره كالسينما والصحافة.
الواقع هو الخيالي الأكيد:
يتخذ أكرم هنية، وهو يكتب " بعد الحصار... قبل الشمس بقليل"، يتخذ من مدينة القدس مكانا لبناء قصته، وإذا كان الحصار يفرض على المدن غالبا، وهذا ما تذهب إليه المخيلة البشرية غالبا، فأنه يفرض أيضا على الأشخاص، وتعزز قراءة القصة ما تذهب إليه المخيلة، للوهلة الأولى، إذ القدس هي المحاصرة.
يصحو أهل المدينة ليجدوا الصخرة وقد اختفت، والأشخاص الأربعة الذين كانوا أول من انتبه إلى اختفاء الصخرة هم البائعة آمنة وموزع الجرائد أبو مازن وسليمان الخباز والحاج أبو فؤاد الذي تعود منذ أربعين عاما على أن يخرج، في الصباح، من بيته ليصلي في الحرم.
ويرصد السارد – تقص القصة من خلال الضمير الثالث – ردود أفعال هؤلاء وغيرهم إزاء الحدث: يتدفق الناس إلى الشوارع، وتبدو الحيرة في نظراتهم، ولا يصدقون ما جرى، ويشرع بعض الرجال والناس بالبكاء، وتختلط الأصوات التي يكون بعضها ساخراً من الرئيس أنور السادات الذي زار المدينة ليعقد صلحا مع دولة إسرائيل.
وإذا كان القاص أبرز ردود أفعال الناس، بشكل عام، فإنه يعود ليبرز أثر الحدث على الشخصيات الأربعة التي لاحظت، ابتداء، وقبل غيرها، ما حدث.
تجلس آمنة على الدرجات المؤدية لباب العامود ساهمة تحدق في لاشيء، وتتذكر علاقتها بالمدينة وزيارتها الأولى لها، كما تتذكر زيارتها الثانية، تتذكر أباها الذي اصطحبها وهي طفلة، وتتذكر زوجها الذي اصطحبها يوم غدت عروسا، وترى القدس الآن غير ما كانت عليه " أصبحت المدينة مرتبطة بذهنها بزوجها السجين وطفليها اللذين ينتظرانها في البيت، وفي مضايقة بعض الرجال ومساومات الزبائن " وتتساءل، وهي تنظر حولها،: "هل يحبون القدس مثل زوجي".
أما أبو فؤاد الذي انفق أربعين عاما وهو يزور الحرم فيحزن، وحين يتذكر أن صلاة الفجر فاتته بسبب اختفاء الصخرة يتمتم: " ولكن أشياء كثيرة ضاعت، وإن أضاف، بعد أن استرد شيئا من صلابته،: " الحمد لله" مازلنا نحن هنا".
وأما أبو مازن الذي اغرورقت عيناه بالدموع، دون أن يعرض شيئا من المجلات والجرائد والكتب، ودون أن يذهب لإحصاء كميته ويمارس الطقوس التي اعتاد ممارستها، فإنه يتساءل: " ولكن ألم تتغير الطقوس منذ سنوات؟ " ويتذكر ابنه الصغير الذي يرمي الجنود بالحجارة، وهنا يهمس: " آه.. هؤلاء الصغار... إنهم يحبون القدس أكثر منا؟".
ويظن سلمان الخباز أن لا رغبة لأحد بأن يأكل أي شيء صباح اختفاء الصخرة، ويشعر بأن جزءاً أساسيا من ماضيه قد اندثر، وهو منذ سنوات، يشعر بالغربة، وأن القدس هذه ليست القدس التي يعرفها، ويتوصل إلى أنه لم يكن ايجابيا بما فيه الكفاية.
تنتهي القصة بالأسطر التالية:
" عندما هبط الظلام... بدأ سكان المدينة القديمة يتحركون من أماكنهم... اتجه كثيرون للنوم في رحاب الحرم... وعاد الباقون وخاصة النساء والأطفال إلى بيوتهم... كان الجنود ما يزالون فوق الأسوار... ولكن كان يمكن مشاهدة النجوم بوضوح في السماء... وكانت أزقة المدينة القديمة ترجع وقع خطوات ثابتة واثقة ".
وكما يلحظ فان القاص بنى قصته على حدث متخيل هو اختفاء قبة الصخرة، ولكن هذا الحدث المتخيل له أساسه في الواقع. لقد احتلت القدس عام 1967، وأحرق الأقصى في عام 1968، وما تزال الحفريات حول الحرم جارية، ولا يدري المرء إلام ستؤول الأمور إذا ما واصل الإسرائيليون إصرارهم على أن القدس هي عاصمة دولة إسرائيل إلى الأبد. وهناك، على ارض الواقع، ما يعزز مقولة" الواقعي هو الخيالي الأكيد". تحاط القدس بالمباني الإسرائيلية، ويستولى على البيوت القديمة فيها، بالتهديد وبالترغيب وبالتزوير وبالادعاء، وكل من يزور القدس ويرى ما آلت إليه، ويقارن بين ما هي عليه الآن، وما كانت عليه قبل عام 1967، يقرأ الفاتحة على المدينة. ولا أعتقد أن فكرة اختفاء الصخرة، في القصة، جاءت من فراغ. إن ما هو خيالي له نصيبه من الواقع. ويمكن قول العكس أيضا.
على الرغم من أن القصة تحفل بما يبعث على التشاؤم، وعلى الرغم من أن ما يصدر من عبارات عن شخوصها الأربعة يعبر عن التشاؤم والتفاؤل معا، إذ يتحسر الشخوص على ما جرى ولكنهم في الوقت نفسه يعلنون عن حبهم للمدينة، وأنهم ما زالوا فيها، وأنهم لم يعملوا لها بما فيه الكفاية، إلا أن القاص ينهي قصته بما يبعث على التفاؤل "كان الجنود ما يزالون فوق الأسوار.. ولكن كان يمكن مشاهدة النجوم بوضوح السماء.. وكانت أزقة المدينة القديمة ترجع وقع خطوات ثابتة واثقة".
وغالبا ما كانت قصص أكرم هنية تحفل بنهايات كهذه، وإن كان بعضها يبدو مفتعلا، وإن كان الواقع، أحيانا، لا يبعث على مثل هذا التفاؤل. وعلينا، ونحن نلحظ ظاهرة النهايات هذه، ألا ننسى أن أكرم هنية كان يرمي، وهو يكتب قصصه، إلى بث روح التفاؤل بين الناس، حتى يصمدوا في أماكنهم، باعتبار الصمود الفضيلة الأولى، وهو ما كان يراه أيضا إميل حبيبي وغيره من كتاب الأرض المحتلة عام 1948. كان يرمي إلى ذلك، ويبدو أن نشاطه السياسي الذي أبعد عام 1986 بسببه كان وراء إنجاز قصص ذات نهايات متفائلة، إذ أن السياسي المتشائم لا يجد ربه أن يظل في موقع يقود فيه الآخرين.
***
11- شهادات واقعية حول موت المواطنة منى.ل
هذه قصة كان كاتبها نشرها في مجموعته القصصية الثانية "هزيمة الشاطر حسن" (1980)، ولم يكن يتجاوز الثامنة والعشرين عاما. كان هنية درس الأدب الإنجليزي في القاهرة، وعاد إلى عمان ليعمل في الصحافة هناك، وسرعان ما عاد إلى رام الله، ليعمل في جامعة بيرزيت، وجريدة "الشعب" المقدسية، محررا فرئيس تحرير. وقد تفاجأنا، نحن قراء القصة القصيرة وكتابها، يومها بصدور مجموعة "السفينة الأخيرة.. الميناء الأخير" (1979) التي احتوت قصصا كان للهم العربي، خارج فلسطين، حضور فيها. وما فاجأنا أيضا أنها كادت، مع مجموعة "الولد الفلسطيني" لمحمود شقير، وبعض قصص محمد علي طه، تكسر نمط الكتابة القصصي، فقد غلب على القصة القصيرة طابع القصة التقليدية ذات البداية والوسط والنهاية. ولم نعتد قراءة قصة تفيد من الصحافة والسينما في بنائها. وربما ما فاجأنا أيضا أن كاتبها أخذ يبنيها، في جانب منها، على قصص تراثية، فقد أفاد من التراث الشعبي "ألف ليلة وليلة" ومن التراث الرسمي "النابغة الذبياني" وواصل ذلك في مجموعته الثانية والثالثة، إذ أفاد من تغريبة بني هلال.
بين يدي القصة:
تدور القصة حول مواطنة مقدسية هي منى.ل، التي اعتقلت وسجنت، وبعد أن خرجت من سجون الاحتلال، كان من المستحيل أن تبقى في القدس، فآثرت السفر إلى مدينة عربية، لم يحددها الكاتب، وأخذ أهلها يزورونها بين فترة وأخرى.
في المدينة العربية لم تنقطع منى.ل الشاعرة والرسامة والسياسية عن مواصلة نضالها، وقد تعرفت إلى شاب اسمه سعيد، شكلا معا ثنائيا رائعا، وتعرضا للاستجواب من نظام المدينة العربية، وضيق عليهما حتى أنهما فصلا من عملهما، وحين أخذت تبحث عن عمل، كان أصحابه ينظرون إلى تقاطيع جسدها أكثر مما ينظرون إلى شهاداتها، ولم يختلف مثقفو المدينة عن أصحاب العمل، فقد حاول نصفهم أن يعلقها.
وستنتهي العلاقة بين سعيد، ومنى بالانفصال، فلقد أراد هو أن يتدخل في كل شأن من شؤون حياتها، أراد أن يتدخل حتى في اختيارها ملابسها وفي قصة شعرها. وفيما ذهب هو إلى دولة خليجية ليعمل فيها، وأصبحت حياته المادية فوق الريح، ما جعل أحد المحققين يقول: اطعم الفم تستح الأيديولوجيا، فيما ذهب سعيد إلى دولة خليجية ظلت منى.ل مقيمة في المدينة العربية، لأن نظامها رفض السماح لها بالسفر.
وكما يتضح من مذكرات منى في دفترها، فقد كانت تبدي استعدادا لتقديم تنازلات لسعيد من اجل أن تستمر العلاقة بينهما، ولكنه كان يريد المزيد والمزيد من التنازلات، وهذا ما لم تستطع أن تفعله. هل أراد القاص أن يقول لنا هنا إن الرجل العربي يريد امرأة خاضعة مطيعة يسيطر عليها وعلى سلوكها، ويتدخل في أدق تفاصيل حياتها، حتى لو كان هذا الرجل تقدميا في أفكاره؟
صمدت منى.ل وتحملت، ولم يصمد سعيد، فهاجر إلى دولة خليجية، وأصبح إنسانا آخر غير الذي كان، وربما كان حاله حال آلاف التقدميين العرب ممن بدأوا حياتهم ثواراً وانتهوا موظفين يبحثون عن لقمة عيشهم ومستقبل عائلاتهم الشخصي، ولا شك أن من كان قريبا من اليسار يعرف عشرات الأشخاص الذين يشبهون سعيدا. هل أقول أيضا إن هناك عشرات مثل منى.ل؟
في التذييل الذي كتبه القاص حول عدم ذكر الاسم الثاني لمنى، واكتفائه بالحرف الأول، ما يشير إلى أنه قد يوجد آلاف مثلها في العالم العربي، وأنها ليست حالة استثنائية. والقاص نفسه، أكرم هنيه، يتعاطف مع منى، ويبدو معجبا بها، وكان يتمنى لو تعرف إليها، قل موتها. وعموما فإن قصصه التي كتبها في هذه الفترة أبرزت نماذج شبيهة لمنى، مثل قصة "وردتان للزميلة ندى". ويبدو أن إقامة الكاتب في القاهرة، وتعرفه في الجامعة إلى طالبات مناضلات، كن زميلات له، وإعجابه بنشاطهن السياسي، هو ما دفعه لأن يكتب في التذييل:
"تعمدت عدم نشر الاسم الصريح الكامل للمواطنة منى.ل"، ربما لأن في بعض الشهادات شيئا من خصوصيتها، وربما لأن هناك آلافا مثل "منى.ل" ". وعموما فإن فلسطين عرفت في تلك المرحلة مناضلات قاومن الاحتلال وسجن وعذبن وصمدن، وواصلن مشوارهن بعد إبعادهن.
قراءة في العنوان:
يوحي لنا العنوان بأننا سنقرأ شهادات، لا قصة قصيرة، ويوحي لنا بأنها واقعية وليست من نسج الخيال، علما بأن قصص هنية السابقة واللاحقة كانت تعتمد في كثير منها على الخيال واللامعقول، مثل قصة "بعد الحصار.. قبل الشمس بقليل" وقصة "مؤتمر فعاليات القرية يصدر نداءً هاماً".
ويعزز العنوان موت منى.ل، لا انتحارها، علماً بأن القصة تورد مفردة الانتحار مراراً حتى لتطغى هذه على مفردة الموت. والذي عزز، في المتن، الانتحار، التقرير الذي كتبه الطبيب الشرعي حين شرحت الجثة.
ومنى.ل، من خلال العنوان، مواطنة. وربما رأى قارئ القصة أنها مواطنة عادية، وربما تساءل: وماذا يهمني في الأمر، فهناك عشرات المواطنات اللاتي يمتن يوميا. قد يمتن لأن أجلهن انتهى، وقد يمتن لأن مرضا ألم بهن، وقد يمتن بحادث سيارة. وحين يقرأ المرء القصة يكتشف أن منى.ل ليست مواطنة عادية، وأن سبب موتها ليس واحداً من الأسباب السابقة. إنها مواطنة مختلفة، وقد دفعها إلى الانتحار عوامل عديدة: البعد عن الوطن بسبب الاحتلال الإسرائيلي، وتخلي الأصدقاء عنها، والقمع الذي يسود المدينة العربية، والحصار الذي أخذت تعاني منه، وبقاؤها وحيدة بعد أن تخلى صديقها عنها، وترك صديقتها سامية الشقة التي كانت تقيم معها فيها وسفرها إلى الكويت، ومواصلة التحقيق مع منى ومنعها من العمل.... الخ.
ولن يقرأ المرء، كما سنرى، شهادات قيلت بعد موتها، شهادات قالها محبوها وكارهوها وحسب، وإنما سيقرأ أيضا نصوصا كتبتها من قبل موتها.
مكونات القصة:
يدرج أكرم هنية قصته هذه ضمن مجموعة قصصية، ما يعني أنها قصة قصيرة، لكن أكرم هنية المؤلف الضمني في القصة نفسها يذكر أنها في الأصل تحقيق صحفي حول موت المواطنة منى.ل كان أعده، ذات يوم، وهو يعمل في صحيفة يرأس تحريرها شخص آخر غيره. كان أكرم هنية الموظف في الجريدة، يتلقى التقارير والأخبار ويدققها ويعيد صياغة ما فيها من أخطاء، ولفت نظره، ذات ليلة، والعمل يسير روتينيا، تقرير أحد المندوبين، وكان فيه خبر يقول: "عثر الليلة الماضية على جثة لفتاة تدعى منى.ل، في شقتها في شارع... وتبلغ من العمر 27 سنة ويعتقد أنها أقدمت على الانتحار، وقد نقلت جثتها إلى الغرفة السوداء لتشريحها".
وسيتابع المحرر الخبر وسيسأل صاحب التقرير إن كان لديه المزيد من المعلومات، وسيتصل بمحرر الصفحة الأدبية إن كان لديه معلومات عنها، وسيعرف أنه التقى بها ذات نهار وأنها أهدته ديوانها "أوراق شتوية ملونة"، ديوانها الذي لم يقرأه في حينه.
وسيظل خيال منى.ل مسيطرا عليه، وسيتساءل: لماذا تقدم فتاة رقيقة كهذه في وقت مبكر على الانتحار؟ وهكذا يبدأ يتابع الموضوع، فيقرأ دفتر مذكراتها وديوان شعرها ومقالاتها التي نشرتها في الصحف، ومقالات أخرى نشرت عن لوحاتها، وسيقابل صديقتها سامية، وعامل المقهى الذي كانت تجلس عليه، وزميلاتها في المدرسة، وصاحبة الشقة التي كانت تسكن فيها، وبعض طالباتها، والمحقق والطبيب الذي شرح الجثة، وسيرسل رسائل إلى صديقها سعيد، وإلى صديق صديقها، وسيقابل بعض هؤلاء أيضا. وستتشكل القصة/ الشهادات من المقدمة التي كتبها هو: أكرم هنية، ومن اثنتين وأربعين شهادة ومقابلة ورسالة واقتباس من مذكرات منى وديوان شعرها.
هل نحن إذن أمام قصة؟
أشير ابتداءً إلى أن عنصر التجريب في القصة واضح جدا، وسمة التجريب سمة تميز نتاج أكرم هنية بخاصة، وقد سبقه إلى هذا، كما ذكرت، قاصان آخران: شقير ومحمد علي طه. لكن تجريب هنية سيبدو مميزا أكثر، وهنا نحن أمام قصة أفاد في بنائها من عمله صحفيا.
ستشكل مذكرات منى وديوانها الجزء الأكبر من القصة، فقد بلغت سبع عشرة قطعة من اثنتين وأربعين، وستشكل شهادات صديقتها سامية والمقابلات التي أجراها معها الكاتب الضمني: أكرم هنية، ست قطع، وهي الأكثر من بين شهادات الآخرين الذين قد نصغي إلى رأيهم مرة أو مرتين يبدون فيها آراءهم فيما حدث مع منى وفي منى نفسها، وقد لا يبدون، كما حدث مع صديقها سعيد الذي آثر، حين أرسل إليه المؤلف الضمني رسالة يطلب منه فيها معلومات عن علاقته بمنى الصمت، داعيا إلى ترك الأموات يستريحون في قبورهم.
يكتب المؤلف الضمني في المقدمة التي صدر بها الشهادات التي شكلت التحقيق الذي لم ينشره رئيس التحرير، على الرغم من أنه دفع المكافأة لصاحبه، يكتب أنه بعد سنوات من كتابة التحقيق قرأه من جديد وهو يقلب أوراقه القديمة، وهذه هواية محببة إلى قلبه. وينشر أكرم هنية هذه الأوراق ضمن مجموعة قصصية. فكيف كان ترتيب الأوراق وما هي مكونات القصة؟
أولا: تصدير أكرم هنية.
ثانيا: الشهادات وهي مكونة من اثنين وأربعين مقطعا على النحو التالي:
1- عامل في مقهى.. في حديث خاص مع الكاتب.
2- من تقرير سري رفعته مديرة المدرسة التي عملت فيها منى، وحصل عليه الكاتب عن طريق رشوة أحد الموظفين في دائرة التربية.
3- من رسالة بعثت بها منى إلى سامية قبل أسابيع قليلة من موتها.
4- من دفتر مذكرات وخواطر منى. (ويرد اقتباس من هذا الدفتر في المقاطع 15، 18، 19، 22، 24، 26، 32، 35، 39، 41).
5- طالبة ثانوية درستها منى في حديث مع الكاتب.
6- من مقال كتبته منى في إحدى المجلات الشهرية العربية في استطلاع حول دور المرأة الفلسطينية والعربية.
7- إحدى زميلات منى في التدريس.
8- زميلة أخرى لمنى في التدريس.
9- سامية في حديث مع الكاتب عندما قدمت من الكويت في إجازة. (نصغي إلى سامية ونقرأ بعض كتاباتها في المقاطع: 12، 17، 20، 28، 30، 36، 38، 42).
10- محقق استجوب منى في حديث عبر صديق مشترك له وللكاتب.
11- من تعليق كتبه أحد النقاد التشكيليين حول لوحات منى، ونشره في صحيفة يومية.
13- الطبيب الشرعي الذي قام بتشريح الجثة في حديث مع الكاتب.
14- سعيد.م- أبو ظبي. رد من سعيد م. على رسالة بعث بها الكاتب إليه يسأل فيها معلومات محددة عن منى.ل.
21- من تقرير الشرطة ليلة اكتشاف جثة منى.
23- أحد معارف سعيد.
25- من ديوان منى "أوراق شتوية ملونة"، تاريخ الصدور: صيف 75، مكان النشر غير مثبت.
27- الطبيب الشرعي في حديث ثان مع الكاتب بعد أن توطدت العلاقة بينهما.
31- من رسالة إلى سامية.
33- صاحبة الشقة التي كانت تسكن بها منى في حديث مع الكاتب.
37- طبيب عالج منى.
40- صاحبة الشقة التي كانت تسكن فيها.
تعدد الأصوات والأسلوب:
لم نقرأ، في أدبنا الفلسطيني، في الأرض المحتلة، إلا ما ندر، قصصا وروايات، اتبع كاتبوها فيها أسلوب وجهات النظر. لقد حاول ذلك مصطفى مرار في مجموعة قصصية له، ولكن لم يلتفت إليه يومها، لأنه لم يلتفت إلى أدباء كانوا قريبي الصلة من الأحزاب الإسرائيلية الحاكمة. أما في أدبنا بشكل عام فربما يتذكر المرء كنفاني في "ما تبقى لكم" (1966)، وجبرا في "السفينة" (1970) وفي "البحث عن وليد مسعود" (1978). والسؤال الذي أثيره هو: هل قصة "شهادات واقعية..." تدرج تحت هذا الأسلوب؟
أوردت مكونات القصة لأقول إن هناك تعدد أصوات فيها، وأنها كانت لأصدقاء منى ولأعدائها، وكنا أيضا نصغي إلى صوتها هي من خلال دفتر مذكراتها. وهذه الأصوات هي للعامل ولمديرة مدرسة منى، ولطالبة علمتها، ولزميلتين لها، ولمحقق، ولناقد تشكيلي، وللطبيب الشرعي، ولأحد معارف سعيد، ولسعيد نفسه، ولصاحبة الشقة التي كانت منى تسكن فيها، ولطبيب عالجها.
ولأن موت منى كان مفاجئا، ولأنها لم تكن مواطنة عادية، ولأن أكرم هنية الصحفي أراد معرفة الحقيقة، ولأن لمنى من يحبها ومن يكرهها، فقد كان هذا الأسلوب مناسبا جدا لبناء القصة. وأرى أن الكاتب كان موفقا في ذلك.
الموقع والموقف:
يتحدد موقف الآخرين من منى اعتماداً على موقعهم وثقافتهم أيضا. قاومت منى الاحتلال، وأن تقاوم فتاة عربية المحتل وتسجن، فهذا يعني الكثير لمجتمع محافظ، ولهذا لم يرتح أهلها، وفضلوا أن تقيم خارج القدس، في بلد عربي. وهناك لم تهدأ منى، لقد واصلت نضالها الاجتماعي، وهذا ما أرق النظام هناك ومن يسيرون في فلكه، ومن يرغبون في حياة هادئة مستقرة بلا مشاكل. ومن هنا لم يرتح لمنى كل من صاحبة الشقة التي تقيم فيها، ومديرة المدرسة التي تدرس فيها، وبعض الزميلات ممن ينشدون الراحة، والمحقق. وليس مثل هؤلاء عامل المقهى الذي كانت منى تتردد عليه، وإحدى الطالبات التي علمتها منى. وسنجد أن سعيدا لا يعلن أي موقف سوى الحياد وطي صفحة الماضي، وذلك يعود إلى موقعه الجديد، فقد غدا موظفا في دولة خليجية، وثريا جدا، وليس غريبا أن يكرر أحد الأصوات المثل التالي: اطعم الفم.. تستح الأيديولوجيا، واصفا ما آل إليه سعيد الذي كان ثوريا. وكل من كان يساريا في السبعينات من القرن العشرين يعرف نماذج أخرى تشبه سعيد، فإذا كان أكرم هنية لم يعلن اسم عائلة منى، مكتفيا بالحرف الأول، فإن قارئه يمكن أن يشير إلى عشرات مثل سعيد، ويشير إليهم بالبنان، ومن المؤكد أن عشرات القراء، في أماكن مختلفة، يعرفون آلاف الأشخاص الذين يشبهون سعيد.
إن تعدد الأصوات في القصة يعكس مرايا متنوعة لمنى، ويمكن قراءة رأيين اثنين، رأي زميلة لها في المدرسة، ورأي إحدى طالباتها:
الزميلة: "اذكروا محاسن موتاكم.. لو لم تكن تتدخل فيما لا يعنيها ولو لم تحمل السلم بالعرض لعاشت حياة سعيدة".
الطالبة: كانت تشعرنا أنها أختنا الكبيرة... لا أتذكر أنها أساءت إلى واحدة منا. كنا نحبها ونحمل لها الورود كل صباح.. حدثتنا كثيرا عن الوطن البعيد.. لقد بكت كل الفتيات عندما سمعنا عن موتها..."
وقد تبدي لها بعض الأصوات صورة سلبية، مثل صاحبة الشقة، ولكن الأخيرة مصابة بالفصام، فهي تتهم منى في أشياء تمارسها هي.
مرآة منى:
تبدو منى مناضلة على الصعيدين: الوطني والاجتماعي. إنها تسعى لتحرير وطنها من الاحتلال، وتسجن لنشاطها، وحين تقيم في المنفى تواصل النضال من أجل مجتمع حر تسوده العدالة والحرية، وتدفع ثمن ذلك. تفصل من وظيفتها في المدرسة، ولا يوظفها أصحاب الشركات، لأنهم يخافون من نشاطها، هؤلاء الذين ينظرون إلى جسدها أكثر من نظرتهم إلى شهاداتها وكفاءتها. وحتى صديقها سعيد الذي كان مبدئيا، حتى سعيد تخلى عن مبادئه وتنازل للنظام وترك المدينة ذاهبا إلى دولة خليجية أصبحت فيها فوق الريح.
هل كانت منى مثالية؟ كانت هي نفسها تسأل ذاتها إن كانت كذلك، وكانت، كما تدون في دفتر مذكراتها، على استعداد للتنازل من أجل أن تظل علاقتها بسعيد قائمة، لكنه كان يريد المزيد والمزيد من التنازلات، لدرجة أنه أخذ يتدخل في لباسها وقصة شعرها. كأنما يريدها تابعة وبلا شخصية. هذا ما تقوله هي، فلا نسمع نحن صوت سعيد. وهذا ما يقوله الكاتب أيضا، المؤلف الضمني.
ومنى مثقفة وشاعرة ورسامة وعلى قدر من الجمال. وكان يمكن أن تحقق حياة هادئة ومطمئنة وعلى قدر من الاستقرار، لو لم تتدخل في السياسة، وتشارك في النضال الاجتماعي.
والسؤال الذي يثيره القارئ: هل ثمة وجود في مجتمعنا العربي لفتاة مثل منى؟ كان المؤلف أجاب في بداية قصته عن هذا السؤال، مستخدما كلمة ربما، ربما يوجد آلاف مثلها. ومن ينظر في واقعنا الفلسطيني فإنه، لا شك، واجدٌ مثلها. وربما أشير هنا إلى عائشة عودة وكتابها "أحلام بالحرية"، وكتابتها عن تجربتها وتجربة نماذج نسوية فلسطينية مشابهة.
وعموما فإن أكرم هنية، في قصته هذه وفي قصص أخرى كتبها، أبرز صورة إيجابية للمرأة: المرأة التي تصمد في الأرض على الرغم من ترك زوجها لها، وسفره إلى أمريكا والشتات، والطالبة الجامعية ندى التي تشارك في المظاهرات في الجامعة، والمرأة التي تقاطع زوجها حين تعلم أنه كان سمسارا أو باع أرضه لليهود. ونادرا ما أبرز صورة سلبية لفتاة أو لزوجة. أو للمرأة عموما؟ لا شك في ذلك.
كلمة أخيرة:
ثانية، يثير المرء، وهو يقرأ القصة المختارة للدراسة، سؤال الجنس. هل هي قصة قصيرة أم إنها كولاج- أي خليط من أنواع كتابية مختلفة؟
في القصة كم لا بأس به من المذكرات، وفيها إشارة إلى اقتباسات من رسائل عديدة، وفيها مقطع شعري، وفيها مختارات من مقالات، وتبدو أقرب إلى التحقيق الصحفي. ولقد أفاد كاتبها من هذا كله.
ويبقى أن مؤلفها أدرجها ضمن مجموعة قصصية، موقعا بذلك عقداً مع القارئ أنه سيقرأ قصة قصيرة. ثمة في القصة قدر كبير من التجريب، وثمة إفادة من الصحافة، ولعلنا لم نلحظ في قصة قصيرة أنجزت في الأرض المحتلة كلها، هذا القدر الكبير من التجريب. وتلك هي خصيصة هنية الذي، لا شك، أضاف إلى قصتنا القصيرة الكثير الكثير، مثله في ذلك مثل محمود شقير، ولقد كان هاجس التجديد والتجريب والإضافة النوعية يغلب عليهما، ويميز كل نتاج جديد لهما.
***
==============
1- أكرم هنية في جديده.. دروب جميلة القاتلة
2- قراءة تحليلية لقصة "عندما أضيء ليل القدس"
3- العجائبي في القصة القصيرة الفلسطينية : أكرم هنية نموذجا
4- القدس ... الأدب والنبوءة
5- عن «شارع فرعي في رام الله» لأكرم هنية
6- «شارع فرعي في رام الله» و«اخطية»
7- يوم قتل المواطن إبراهيم الأقرع ... يوم استشهد المواطن إبراهيم النابلسي.
8- شيطنة رام الله... تسويق رام الله
9- قراءة تحليلية لقصة "عندما أضيء ليل القدس"
10- بعد الحصار... قبل الشمس بقليل
11- شهادات واقعية حول موت المواطنة منى.ل