يَروي التَوحيديُّ عن أبي مُحلّم "أنَّ أعرابيًا ولِّيَ على الماءِ، فإذا اختصمَ إليه اثنان، وأشكلَ عليه القضاءُ؛ حبسهما حتى يصطلحا ويقول: دواء اللبس الحبس".
هل تُذكِّر هذه المقولة بما نعيشه الآن؟.
أستطيعُ أن أقولَ: إنَّ هذا دواءٌ يَتَطوّر مع الزمن، ويُعرَف اللبس بحسبِ الظرفِ الزماني والمكاني. فلنا أن نتخيلَ الواقعَ الاجتماعي/النفسي، والسياسي، والاقتصادي، والثقافي العام، لنُنتجَ صورًا حديثة للمقولة؛ إذ كُلُّ عَربيّ سيقرأ مقولةَ الأعرابيِّ، ستنفرطُ سبحةُ أفكارِه عن نماذج مُتَعددة، تُعَبّر عن حَبْسٍ، كانَ مُجَردَ دواءٍ لمجرد لَبس. وقد قلتُ (عربيًا) للإشارةِ لما تُريد أن تقول بعضَه هذه المقالة، أعني: الإشارة إلى مصدر لبسٍ (عالٍ)، وهو اللغة. وسأترك مصادر أخرى، لأوقاتٍ أخرى. وضعتُ لفظةَ عالٍ بين قوسين لأني سأعود إليها.
مِن المعروف أنَّ متَّى بن يونس تَرجمَ كتابَ (فَنّ الشِعر) لأرسطو، ولكن يَهُمّنا ما وَقعَ له من (لَبس) جعله (يحبس) المعنى الحقيقي، إذ تَرجَمَ لفظةَ (تراجيديا) إلى مديح، وترجم لفظة (كوميديا) إلى هجاء؛ فاختلَّ المعنى اليوناني، ومن ثَمّ لم يُنْقَل الشعرُ اليوناني على حقيقتِه للعرب آنذاك. فهل أَشْبَه حالُ متّى بن يونس، حالَ القاضي الأعرابي؟ إذ أشكلَ عليه حالُ الشِعرِ اليوناني فحَبَسَ المعنى الحقيقي، وجَعَلَ العربَ يَصطلحون على المعنى المناسب لشعريتهم.
لنلحظ أنَّ في رواية الأعرابي (يصطلحا) من الصُلح، وهنا يصطلحون من الاصطلاح الذي سيعود إلى الصلح بعد شِجار على معنى اختلفوا فيه.
سأخَاطِر وأقول: إنَّ التوحيديَّ حين ذكرَ مقولةَ الأعرابي استحضر متى بن يونس في ذهنه. ألم يكن يكرهه؟. لنتأمل هذا النصّ الذي قاله التوحيديُّ في الإمتاع والمؤانسة: "فإنَّ مَتّى كان يُملي ورقة بدرهم مقتدري وهو سكران لا يعقل، ويتهكم، وعنده أنه في ربح وهو من الأخسرين أعمالا، الأسفلين أحوالا".
هذا الحبس من قِبَل مَتّى بن يونس، جعلَ عبد الرحمن بدوي ينفجر من قيوده صارخًا: "يُخيَّل إلينا أنه لو قُدِّرَ لكتابِ فنِّ الشعر لأرسطو، أن يُفهَم على حقيقتِه...، لعُنِيَ الأدب العربي بإدخالِ الفنونِ الشعريّةِ العليا فيه، وهي المأساة والملهاة منذ عهد ازدهاره في القرن الثالث الهجري، ولتغير وجهُ الأدبِ العربي كله".
أعود هنا للفظة (عالٍ) التي ذكرتُها آنفًا، في قولي (مصدر لبس عالٍ)؛ لأسأل: لِمَ ذَمَّ عبد الرحمن بدوي الشعريةَ العربية، إذ في قوله (الشعرية العليا)، مديح واضِح لشعريةِ اليونان، وقد يستلزم هذا ضدها وهو الذم. فهل يُمكِن أن نَتأمّل مَدحَه للشعريةِ اليونانية، من خلال أن متَّى بن يونس فَسَّر التراجيديا بالمديح. فهل مديح عبد الرحمن بدوي هو جزءٌ مما أنتجه الحبسُ الذي حُبِسَ العربُ فيه؟ هذه مفارقة-إن صحَّ لنا المقال-إذ لم يخرج بدوي عن معنى المديح والهجاء حتى وهو يعيد لنا المأساة والملهاة الإغريقية.
وقد أخاطر مرة أخرى وأقول: إنَّ لطميات المُفسّرين والمترجمين-بهذا الخصوص-هي تعبير عن مأساةٍ واقعيةٍ وملهاة. يمكن استثمارها في معنى التمسرح العربي، تراجيديّا وكوميديًا. فليس تخيل أدب عالٍ وأدب خفيض، إلا فرعًا عن تخيل الأجيد والأسوأ، وهذا بدوره فرع عن تصور اللحظة الآنية لما صار عليه تاريخ أوروبا. ولعل أغلبها مأساة في التصور، وكوميديا في النتائج.
يُحيْلني كلامي-هنا-إلى الشاعرِ الإيطالي بيترارك، الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي، أي في فترة حرجة من تاريخ أوروبا، حيث كانوا على عتباتِ ما سُمِي بالنهضة، فصورةُ العربِ-آنذاك في الذهنية الغربيَّة-كانت عالية، لنتأمل العلو هنا أيضًا، الذي سينحدر في العقلية نفسها، لنكون أمام تراجيديا وكوميديا من التاريخ الواقعي.
كان بيترارك يكره العرب، إذ لديه رسائل لأحد أصدقائِه يقول في واحدةٍ منها: "أرجو منك في كل ما يتعلق بي، أن لا تقيم أي اعتبار لـ(عربك) وأن تتصرف كما لو كانوا غير موجودين، إنني أكره هذه السلالة بكاملها" ثم سَعى في الرسالةِ ذاتها إلى مقارنة وجدانية بين اليونان والعرب، ليُفَضّل اليونان، ومستنكرا على كثير من الأوربيين القائلين: "بعد العرب لايجوز أن يكتب أحد". أيُّ لبسٍ وردَ في ذهنِ بعض الأوربيين-آنذاك-ليجعلهم يحبسون المعاني المختلفة، بتفضيلهم العَرب على كل الأمم، أيشبهون في هذا واقع بعض العرب اليوم، الذين يرون الاستثنائية الأوروبية؟! ربما. لكن الأكيد أنهم أغضبوا بيترارك، الذي بدوره لم يجد دواءً لما أصابه من لبسٍ إلا استعادةَ النموذجَ العالي وهو اليونان حين قال "وقد نتفوق على اليونان، ومن ثم على كل الأمم ماعدا العرب كما تدَّعون، فياللجنون، وياللضلال، ويا لعبقريةِ إيطاليا الغافية".
وهو بهذا الغضب أيضًا يعود إلى اليونان، وهي العودة الدائمة لكُلِّ لبْسٍ يَحْصل. هل نتذكَّر هيجل-هنا-واعتسافه للتاريخ؟ أم نستحضر مقولةَ: (أرسطو المُعَلِّم الأول) لنكتشفَ مَصدرًا من مصادر اللبس، ومن ثَمَّ الحبس؟. لفظة المُعَلِّم جَذرها (علم) الدالّ على أثرٍ بالشّيءِ يَتَميَّز به عن غيره، فماذا يعني أن يكونَ أرسطو هو المُعلم الأول؟ هل نتذكر فلسفته في المُحرك الأول ونعقد الصلة بها؟ إذا عَقدنا الصلةَ بين أرسطو اليوناني-بوصفه معلمًا أولًا-مع كونِ لفظِ المُعلّم-تاريخيا-ارتبطَ بشارحِ التوراة-مما جعل دلالته شبه ثابتة في الأذهان-فسنكون أمام (مَعْلَمٍ) يُشار إليه بالبنان عندما تتسع مساحة اللبس، ويكثر المحابيس..! ومن هنا قال أهل الديانات: "إنَّ العقول تقصر فلا بد من مُعَلّم". إنهم يختصروها بـ (عقل اليونان، ودين التوراة) فياللجنون وياللضلال...بلغةِ بيترارك!.
التفاتة:
مَن يُحَدد كتبًا يرى أنها أصل المعنى والتاريخ، ويرى غيرها هوامش لا تُقرأ؛ لأنها تدور في فلك الأصل. فهذا فرع عن ذاك. أي أنه يُفَكِّر بالتفكيرِ ذاتِه، الذي اختصرَ التاريخ باليونان والتوراة.
التفاتة عن الالتفاتة:
أن يُقال: عاش أبو حيان التوحيدي في القرن العاشر الميلادي. فهذا مضحك ومقزز وربما ضلال. أما عبد الرحمن بدوي فمن المُضحِك فحسب، أن يُقال عاشَ في القرن الرابع عشر الهجري.
هل تُذكِّر هذه المقولة بما نعيشه الآن؟.
أستطيعُ أن أقولَ: إنَّ هذا دواءٌ يَتَطوّر مع الزمن، ويُعرَف اللبس بحسبِ الظرفِ الزماني والمكاني. فلنا أن نتخيلَ الواقعَ الاجتماعي/النفسي، والسياسي، والاقتصادي، والثقافي العام، لنُنتجَ صورًا حديثة للمقولة؛ إذ كُلُّ عَربيّ سيقرأ مقولةَ الأعرابيِّ، ستنفرطُ سبحةُ أفكارِه عن نماذج مُتَعددة، تُعَبّر عن حَبْسٍ، كانَ مُجَردَ دواءٍ لمجرد لَبس. وقد قلتُ (عربيًا) للإشارةِ لما تُريد أن تقول بعضَه هذه المقالة، أعني: الإشارة إلى مصدر لبسٍ (عالٍ)، وهو اللغة. وسأترك مصادر أخرى، لأوقاتٍ أخرى. وضعتُ لفظةَ عالٍ بين قوسين لأني سأعود إليها.
مِن المعروف أنَّ متَّى بن يونس تَرجمَ كتابَ (فَنّ الشِعر) لأرسطو، ولكن يَهُمّنا ما وَقعَ له من (لَبس) جعله (يحبس) المعنى الحقيقي، إذ تَرجَمَ لفظةَ (تراجيديا) إلى مديح، وترجم لفظة (كوميديا) إلى هجاء؛ فاختلَّ المعنى اليوناني، ومن ثَمّ لم يُنْقَل الشعرُ اليوناني على حقيقتِه للعرب آنذاك. فهل أَشْبَه حالُ متّى بن يونس، حالَ القاضي الأعرابي؟ إذ أشكلَ عليه حالُ الشِعرِ اليوناني فحَبَسَ المعنى الحقيقي، وجَعَلَ العربَ يَصطلحون على المعنى المناسب لشعريتهم.
لنلحظ أنَّ في رواية الأعرابي (يصطلحا) من الصُلح، وهنا يصطلحون من الاصطلاح الذي سيعود إلى الصلح بعد شِجار على معنى اختلفوا فيه.
سأخَاطِر وأقول: إنَّ التوحيديَّ حين ذكرَ مقولةَ الأعرابي استحضر متى بن يونس في ذهنه. ألم يكن يكرهه؟. لنتأمل هذا النصّ الذي قاله التوحيديُّ في الإمتاع والمؤانسة: "فإنَّ مَتّى كان يُملي ورقة بدرهم مقتدري وهو سكران لا يعقل، ويتهكم، وعنده أنه في ربح وهو من الأخسرين أعمالا، الأسفلين أحوالا".
هذا الحبس من قِبَل مَتّى بن يونس، جعلَ عبد الرحمن بدوي ينفجر من قيوده صارخًا: "يُخيَّل إلينا أنه لو قُدِّرَ لكتابِ فنِّ الشعر لأرسطو، أن يُفهَم على حقيقتِه...، لعُنِيَ الأدب العربي بإدخالِ الفنونِ الشعريّةِ العليا فيه، وهي المأساة والملهاة منذ عهد ازدهاره في القرن الثالث الهجري، ولتغير وجهُ الأدبِ العربي كله".
أعود هنا للفظة (عالٍ) التي ذكرتُها آنفًا، في قولي (مصدر لبس عالٍ)؛ لأسأل: لِمَ ذَمَّ عبد الرحمن بدوي الشعريةَ العربية، إذ في قوله (الشعرية العليا)، مديح واضِح لشعريةِ اليونان، وقد يستلزم هذا ضدها وهو الذم. فهل يُمكِن أن نَتأمّل مَدحَه للشعريةِ اليونانية، من خلال أن متَّى بن يونس فَسَّر التراجيديا بالمديح. فهل مديح عبد الرحمن بدوي هو جزءٌ مما أنتجه الحبسُ الذي حُبِسَ العربُ فيه؟ هذه مفارقة-إن صحَّ لنا المقال-إذ لم يخرج بدوي عن معنى المديح والهجاء حتى وهو يعيد لنا المأساة والملهاة الإغريقية.
وقد أخاطر مرة أخرى وأقول: إنَّ لطميات المُفسّرين والمترجمين-بهذا الخصوص-هي تعبير عن مأساةٍ واقعيةٍ وملهاة. يمكن استثمارها في معنى التمسرح العربي، تراجيديّا وكوميديًا. فليس تخيل أدب عالٍ وأدب خفيض، إلا فرعًا عن تخيل الأجيد والأسوأ، وهذا بدوره فرع عن تصور اللحظة الآنية لما صار عليه تاريخ أوروبا. ولعل أغلبها مأساة في التصور، وكوميديا في النتائج.
يُحيْلني كلامي-هنا-إلى الشاعرِ الإيطالي بيترارك، الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي، أي في فترة حرجة من تاريخ أوروبا، حيث كانوا على عتباتِ ما سُمِي بالنهضة، فصورةُ العربِ-آنذاك في الذهنية الغربيَّة-كانت عالية، لنتأمل العلو هنا أيضًا، الذي سينحدر في العقلية نفسها، لنكون أمام تراجيديا وكوميديا من التاريخ الواقعي.
كان بيترارك يكره العرب، إذ لديه رسائل لأحد أصدقائِه يقول في واحدةٍ منها: "أرجو منك في كل ما يتعلق بي، أن لا تقيم أي اعتبار لـ(عربك) وأن تتصرف كما لو كانوا غير موجودين، إنني أكره هذه السلالة بكاملها" ثم سَعى في الرسالةِ ذاتها إلى مقارنة وجدانية بين اليونان والعرب، ليُفَضّل اليونان، ومستنكرا على كثير من الأوربيين القائلين: "بعد العرب لايجوز أن يكتب أحد". أيُّ لبسٍ وردَ في ذهنِ بعض الأوربيين-آنذاك-ليجعلهم يحبسون المعاني المختلفة، بتفضيلهم العَرب على كل الأمم، أيشبهون في هذا واقع بعض العرب اليوم، الذين يرون الاستثنائية الأوروبية؟! ربما. لكن الأكيد أنهم أغضبوا بيترارك، الذي بدوره لم يجد دواءً لما أصابه من لبسٍ إلا استعادةَ النموذجَ العالي وهو اليونان حين قال "وقد نتفوق على اليونان، ومن ثم على كل الأمم ماعدا العرب كما تدَّعون، فياللجنون، وياللضلال، ويا لعبقريةِ إيطاليا الغافية".
وهو بهذا الغضب أيضًا يعود إلى اليونان، وهي العودة الدائمة لكُلِّ لبْسٍ يَحْصل. هل نتذكَّر هيجل-هنا-واعتسافه للتاريخ؟ أم نستحضر مقولةَ: (أرسطو المُعَلِّم الأول) لنكتشفَ مَصدرًا من مصادر اللبس، ومن ثَمَّ الحبس؟. لفظة المُعَلِّم جَذرها (علم) الدالّ على أثرٍ بالشّيءِ يَتَميَّز به عن غيره، فماذا يعني أن يكونَ أرسطو هو المُعلم الأول؟ هل نتذكر فلسفته في المُحرك الأول ونعقد الصلة بها؟ إذا عَقدنا الصلةَ بين أرسطو اليوناني-بوصفه معلمًا أولًا-مع كونِ لفظِ المُعلّم-تاريخيا-ارتبطَ بشارحِ التوراة-مما جعل دلالته شبه ثابتة في الأذهان-فسنكون أمام (مَعْلَمٍ) يُشار إليه بالبنان عندما تتسع مساحة اللبس، ويكثر المحابيس..! ومن هنا قال أهل الديانات: "إنَّ العقول تقصر فلا بد من مُعَلّم". إنهم يختصروها بـ (عقل اليونان، ودين التوراة) فياللجنون وياللضلال...بلغةِ بيترارك!.
التفاتة:
مَن يُحَدد كتبًا يرى أنها أصل المعنى والتاريخ، ويرى غيرها هوامش لا تُقرأ؛ لأنها تدور في فلك الأصل. فهذا فرع عن ذاك. أي أنه يُفَكِّر بالتفكيرِ ذاتِه، الذي اختصرَ التاريخ باليونان والتوراة.
التفاتة عن الالتفاتة:
أن يُقال: عاش أبو حيان التوحيدي في القرن العاشر الميلادي. فهذا مضحك ومقزز وربما ضلال. أما عبد الرحمن بدوي فمن المُضحِك فحسب، أن يُقال عاشَ في القرن الرابع عشر الهجري.