(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
ذكر شعر الحارث بن خالد وشعر عمر عند ابن أبي عتيق في مجلس رجل ففضل الرجل شعر الحارث. فقال ابن أبي عتيق: بعض قولك يا ابن أخي! لشعر عمر نوطة في القلب، وعلوق بالنفس، ودرك للحاجة ليست لشعر. وما عصى الله بشعر أكثر مما عصى بشعر عمر أشعر قريش، من دق معناه، ولطف مدخله وسهل مخرجه، ومتنحشوه، وتلطفت حواشيه، وأنارت معانيه، وأعرب عن حاجته. وذكر الرجل المفضل أبياتا للحارث ينعت بها الطلل:
إني وما سخروا غداة مني ... عند الجمار يؤودها العقل
لو بدلت أعلى مساكنها ... سفلاً، وأصبح سفلها يعلو
فيكاد يعرفها الخبير بها ... فيرده الأقواء والمحل
لعرفت مغناها بما احتملت ... مني الضلوع لأهلها قبل
فقال له ابن أبي عتيق: (استر على نفسك واكتم على صاحبك، ولا تشاهد المحافل بمثل هذا! أما تطير الحارث عليها حين قلب ربعها فجعل عاليه سافله. ما بقي إلا أن يسأل الله تبارك وتعالى لها حجارة من سجيل) فتأمل ما ألطف هذا المأخذ، وصاحب هذه الأبيات - في الحقيقة - قد سار إلى غاية شريفة من معناه. ولكن المبالغة أفسدت عليه غايته؛ وإن معرفة الدار وإظهاره الشوق لأهل الدار لا يحتاجان إلى قلب العالي أسفل والسافل أعلى؛ وإن في هذا نذيراً أدنى إلى الشؤم منه إلى إظهار الشوق. ولعن الله شوقاً لا يثبت نفسه إلا على الركام والخراب!
ولقد كان يقحم شعر عمر بنقده - على رغم الصداقة - ويضربه في الصميم. ألم يسمع عمر يقول:
بينما ينعتني أبصرنني ... دون قيد الرمح يعدو بي الأغ قالت الكبرى أتعرفن الفتى ... قالت الوسطى: نعم هذا عمر
قالت الصغرى تيمتها: ... قد عرفناه! وهل يخفى القمر؟
وعمر في هذه البيات قد شغل الثلاثة به ودلههن بحبه.
فقال له ابن أبي عتيق: أنت لم تتشبب بها، وإنما تشببت بنفسك، وإنما كان ينبغي أن تقول: قلت لها فقالت لي فوضعت خدي فوطئت عليه.
وأنشد نصيب الأسود قوله:
وكدت، ولم أخلق من الطير إن بدا ... لها بارق نحو الحجاز أطير
فسمعه ابنأبي عتيق فقال له: يا أبن أُم: قل (غاق) فانك تطير، وأراد بذلك أنه لا يكون إلا غراباً أسود، ولا يكون الغراب إلا نذيراً بالويل. وهكذا تنبه الناقد بعقله إلى شيء لم يتنبه إليه الشاعر بفنه.
وأنشد ابن جندب قول العرجى لأبن أبي عتيق في جاريته:
وما أنس م الأشياء لا أنس قولها ... لخادمها، قولي اسألي لي عن الوتر
فقالت: يقول الناس في ست عشرة ... فلا تعجلي منه فانك في أجر
فما ليلة عندي وإن قيل جمعة ... ولا ليلة الأضحى ولا ليلة الفطر
بعادلة الاثنين عندي، وبالحرى ... يكون سواء منهما ليلة القدر
فقال ابن أبي عتيق - وقد راعه هذا التكلف - أُشهدكم أنها حرة من مالي إن جاز ذلك أهلها. هذه والله أفقه من ابن شهاب! وليتنا نعلم شيئاً عن ابن شهاب الذي حشره الناقد حيث لا يحشر!
وقد يتأمل ابن أبي عتيق في مواقع الألفاظ ويتبين مواضعها، فيقول مثلاً عندما يسمع قول قيس بن الحطيم:
بين شكول النساء خلفتها ... حذواً، فلا جبلةٌ ولا قضف
لولا أن أبا يزيد قال (حذواً) ما درى الناس كيف يحشون هذا الموضع.
ويسمع عتيق ابن قيس يقول: (سواء عليها ليلها ونهارها) فيقول له: كانت هذه يا ابن أُمِّ فيما أرى عمياء، فما يستوي الليل والنهار إلا على عمياء. فقال ابن قيس: إنما عنيتُ التعب.
قال: فبيتك هذا يحتاج إلى ترجمان يترجم عنه، وما عسى يكون قدر البيت إذا كان لا يُفسر إلا بترجمان!
وأنشد كثير ابن أبي قوله:
ولست براضٍ من خليل بنائل ... قليل ولا أرضى له بقليل
فقال ابن أبي عتيق: هذا كلام مكافئ ليس بعاشق، القرشيان أقنع وأصدق منك: عمر حيث يقول:
ليت حظي كلحظة العين منها ... وكثير منها القليل المهنا
وحيث يقول:
فَعِدِى نائلاً وإن لم تنيلي ... إنه يقنع المحب الرجاء
وابن قيس الرقيات حيث يقول:
رُقيَّ! بعيشكم لا تهجرينا ... ومنينا المنى ثم امطلينا
عدينا في غد ما شئت إنا ... نحب - وإن مطلت الواعدينا
فأما تنجزي عدتي وإما ... نعيش بما نؤمل عنك حينا
وهكذا أفسد على كثير فكرته بنظرة نفسية عميقة لأن المحب الحقيقي الذي يتلهب ويتقلب على جمر من حبه لا يقول لمحبوبته إذا عرضت له: إليك عني فأني لا أرضى بالقليل، وإنما يتمنى قول عمر: (ليت حظي كلحظة العين منها) ويخلق الله بعد هذه اللحظة لحظات.
قال كثير لأحدهم - وكان مديوناً - اذهب بنا إلى ابن أبي عتيق نتحدث عنه فذهب إليه معه، فاستنشده ابن أبي عتيق قوله:
أبائنة سعدى؟ نعم ستبين
حتى بلغ قوله:
وأخلفن ميعادي وخُن أمانتي ... وليس لمن خان الأمانة دين
فقال ابن أبي عتيق: ويلك هذا أملح لهن وادعى للقلوب إليهن. سيدك ابن قيس الرقيات كان اعلم منك وأوضع للصواب موضعه فيهن. ألم تسمع قوله:
حبذاك الدل والغنج ... والتي في عينها دعج
والتي إن حدثت كذبت ... والتي في وعدها خلج وترى في البيت صورتها ... مثلما في البيعة السرج
خبروني هل على رجل ... عاشق في قبلة حرج؟
وهكذا أدرك ابن أبي عتيق من نفس المرأة ما لم يدركه كثير، وأدرك أن مثل حب كثير العذري لا يستطيع أن يدخل إلى أعماق نفوس النساء لأنه حب مقتول بالإعجاب لا يرى حيث حل إلا نفسه! ومثل عمر وابن قيس وأمثالهما ممن يقعون كل يوم على امرأة يدركون ما يعجب المرأة وما تزدريه، ويفهمون تقلبها وقيمة وعودها، ولكن عتيقاً أهمل هذه المرة النظر إلى البيت الأخير في هذه القطعة حيث أخذ الشاعر يستفتي الناس في قبلة، وقد علم أن مثل هذه الفتوى باردة وأبرد منها هذا الاستفتاء الذي هو أدنى إلى الفضيحة والتهتك منه إلى العفة والتستر. وما على صاحبه إلا أن يردده في أحد المساجد ويناقش فيه أصحاب الفتاوى
وأنشد أبو أذينة مرثيته لأخيه بكر:
سرى همي وهم المرء يسرى ... وغار النجم إلا قيد شبر
أراقب في المجرة كل نجم ... تعرض في المجرة كيف يجري
بحزن ما أزال له مديما ... كأن القلب أسعر حر جمر
على بكر أخي ولى حميداً ... وأي العيش يحسن بعد بكر
فضحك ابن أبي عتيق وقال: كل العيش يحسن حتى الخبز والزيت. فآلم تهكمه أبا أُذينة وحلف لا يكلمه أبداً. وهذا هو الموقف الوحيد الذي خرج فيه شاعر متأذيا من ابن أبي عتيق.
وهناك مواقف متعددة تبدى لنا عطفه على رجال الفن؛ فلقد كان يمتزج بهم ويحس إحساسهم.
سمع عمر يقول:
كان ذا في مسيرنا إذ حججنا ... علم الله فيه ما قد نوينا
فقال له ابن أبي عتيق: إن ظاهر أمرك ليدل على باطنه فأورد التفسير، ولئن مت لأموتن معك. أف الدنيا بعدك يا ابن الخطاب! فقال عمر: بل عليها بعدك العفاء يا أبا محمد!
ولقد كان فيه حدب خاص على المحبين. وإن له مواقف كثيرة كان يقوم فيها بوصل المنقطع من حبال المودة كما فعل مع عمر، وكان رسوله إلى الثريا. وكما فعل مع نصيب، وقد توسط بينه وبين سعدى محبوبته: ولعل هذا الموقف يبدي لك غيرة ابن أبي عتيق على رجال الشعر والغناء والعمل على نصرهم. وهذا الموقف يبديه لنا رجلاً قوياً حاد الطبع قوي الشكيمة مفتول العضل. رأى ابن أبي عتيق حلق ابن عائشة مخدشاً فقال: من فعل بك هذا؟ قال فلان. فمضى فنزع ثيابه وجلس للرجل على بابه، فلما خرج اخذ بتلبيبه وجعل يضربه ضرباً شديداً والرجل يقول له: مالك تضربني؟ أي شيء صنعت؟ وهو لا يجيبه حتى بلغ منه ثم خلاه وأقبل على من حضر فقال: هذا أراد أن يكسر مزامير داود! شد على ابن عائشة فخنقه وخدش حلقه.
والآن أرجو أنني وفقت في الكشف عن شخصية جديدة في تأريخ النقد العربي، وأرجو زملائي كتاب (الرسالة) أن يعملوا على جمع شوارد هذا الرجل، وأرجو أن تتولى (الرسالة) نشر ما يأتيها عنه وما تقع عليه. فربما استطعنا أن نؤلف من هذه الشوارد حياة الرجل وحياة الناقد، لأن لنقده تأثيرا أكبر مما ذكرنا في توجيه أدب عصره. وإنما أدبنا لا يزال فقيراً إلى رجلين: المؤرخ والأديب. فليعمل المؤرخ عمله يعمل الأديب عمله أيضاً
(دير الزور)
خليل هنداوي
* المصدر: مجلة الرسالة - العدد 178
بتاريخ: 30 - 11 - 1936
ذكر شعر الحارث بن خالد وشعر عمر عند ابن أبي عتيق في مجلس رجل ففضل الرجل شعر الحارث. فقال ابن أبي عتيق: بعض قولك يا ابن أخي! لشعر عمر نوطة في القلب، وعلوق بالنفس، ودرك للحاجة ليست لشعر. وما عصى الله بشعر أكثر مما عصى بشعر عمر أشعر قريش، من دق معناه، ولطف مدخله وسهل مخرجه، ومتنحشوه، وتلطفت حواشيه، وأنارت معانيه، وأعرب عن حاجته. وذكر الرجل المفضل أبياتا للحارث ينعت بها الطلل:
إني وما سخروا غداة مني ... عند الجمار يؤودها العقل
لو بدلت أعلى مساكنها ... سفلاً، وأصبح سفلها يعلو
فيكاد يعرفها الخبير بها ... فيرده الأقواء والمحل
لعرفت مغناها بما احتملت ... مني الضلوع لأهلها قبل
فقال له ابن أبي عتيق: (استر على نفسك واكتم على صاحبك، ولا تشاهد المحافل بمثل هذا! أما تطير الحارث عليها حين قلب ربعها فجعل عاليه سافله. ما بقي إلا أن يسأل الله تبارك وتعالى لها حجارة من سجيل) فتأمل ما ألطف هذا المأخذ، وصاحب هذه الأبيات - في الحقيقة - قد سار إلى غاية شريفة من معناه. ولكن المبالغة أفسدت عليه غايته؛ وإن معرفة الدار وإظهاره الشوق لأهل الدار لا يحتاجان إلى قلب العالي أسفل والسافل أعلى؛ وإن في هذا نذيراً أدنى إلى الشؤم منه إلى إظهار الشوق. ولعن الله شوقاً لا يثبت نفسه إلا على الركام والخراب!
ولقد كان يقحم شعر عمر بنقده - على رغم الصداقة - ويضربه في الصميم. ألم يسمع عمر يقول:
بينما ينعتني أبصرنني ... دون قيد الرمح يعدو بي الأغ قالت الكبرى أتعرفن الفتى ... قالت الوسطى: نعم هذا عمر
قالت الصغرى تيمتها: ... قد عرفناه! وهل يخفى القمر؟
وعمر في هذه البيات قد شغل الثلاثة به ودلههن بحبه.
فقال له ابن أبي عتيق: أنت لم تتشبب بها، وإنما تشببت بنفسك، وإنما كان ينبغي أن تقول: قلت لها فقالت لي فوضعت خدي فوطئت عليه.
وأنشد نصيب الأسود قوله:
وكدت، ولم أخلق من الطير إن بدا ... لها بارق نحو الحجاز أطير
فسمعه ابنأبي عتيق فقال له: يا أبن أُم: قل (غاق) فانك تطير، وأراد بذلك أنه لا يكون إلا غراباً أسود، ولا يكون الغراب إلا نذيراً بالويل. وهكذا تنبه الناقد بعقله إلى شيء لم يتنبه إليه الشاعر بفنه.
وأنشد ابن جندب قول العرجى لأبن أبي عتيق في جاريته:
وما أنس م الأشياء لا أنس قولها ... لخادمها، قولي اسألي لي عن الوتر
فقالت: يقول الناس في ست عشرة ... فلا تعجلي منه فانك في أجر
فما ليلة عندي وإن قيل جمعة ... ولا ليلة الأضحى ولا ليلة الفطر
بعادلة الاثنين عندي، وبالحرى ... يكون سواء منهما ليلة القدر
فقال ابن أبي عتيق - وقد راعه هذا التكلف - أُشهدكم أنها حرة من مالي إن جاز ذلك أهلها. هذه والله أفقه من ابن شهاب! وليتنا نعلم شيئاً عن ابن شهاب الذي حشره الناقد حيث لا يحشر!
وقد يتأمل ابن أبي عتيق في مواقع الألفاظ ويتبين مواضعها، فيقول مثلاً عندما يسمع قول قيس بن الحطيم:
بين شكول النساء خلفتها ... حذواً، فلا جبلةٌ ولا قضف
لولا أن أبا يزيد قال (حذواً) ما درى الناس كيف يحشون هذا الموضع.
ويسمع عتيق ابن قيس يقول: (سواء عليها ليلها ونهارها) فيقول له: كانت هذه يا ابن أُمِّ فيما أرى عمياء، فما يستوي الليل والنهار إلا على عمياء. فقال ابن قيس: إنما عنيتُ التعب.
قال: فبيتك هذا يحتاج إلى ترجمان يترجم عنه، وما عسى يكون قدر البيت إذا كان لا يُفسر إلا بترجمان!
وأنشد كثير ابن أبي قوله:
ولست براضٍ من خليل بنائل ... قليل ولا أرضى له بقليل
فقال ابن أبي عتيق: هذا كلام مكافئ ليس بعاشق، القرشيان أقنع وأصدق منك: عمر حيث يقول:
ليت حظي كلحظة العين منها ... وكثير منها القليل المهنا
وحيث يقول:
فَعِدِى نائلاً وإن لم تنيلي ... إنه يقنع المحب الرجاء
وابن قيس الرقيات حيث يقول:
رُقيَّ! بعيشكم لا تهجرينا ... ومنينا المنى ثم امطلينا
عدينا في غد ما شئت إنا ... نحب - وإن مطلت الواعدينا
فأما تنجزي عدتي وإما ... نعيش بما نؤمل عنك حينا
وهكذا أفسد على كثير فكرته بنظرة نفسية عميقة لأن المحب الحقيقي الذي يتلهب ويتقلب على جمر من حبه لا يقول لمحبوبته إذا عرضت له: إليك عني فأني لا أرضى بالقليل، وإنما يتمنى قول عمر: (ليت حظي كلحظة العين منها) ويخلق الله بعد هذه اللحظة لحظات.
قال كثير لأحدهم - وكان مديوناً - اذهب بنا إلى ابن أبي عتيق نتحدث عنه فذهب إليه معه، فاستنشده ابن أبي عتيق قوله:
أبائنة سعدى؟ نعم ستبين
حتى بلغ قوله:
وأخلفن ميعادي وخُن أمانتي ... وليس لمن خان الأمانة دين
فقال ابن أبي عتيق: ويلك هذا أملح لهن وادعى للقلوب إليهن. سيدك ابن قيس الرقيات كان اعلم منك وأوضع للصواب موضعه فيهن. ألم تسمع قوله:
حبذاك الدل والغنج ... والتي في عينها دعج
والتي إن حدثت كذبت ... والتي في وعدها خلج وترى في البيت صورتها ... مثلما في البيعة السرج
خبروني هل على رجل ... عاشق في قبلة حرج؟
وهكذا أدرك ابن أبي عتيق من نفس المرأة ما لم يدركه كثير، وأدرك أن مثل حب كثير العذري لا يستطيع أن يدخل إلى أعماق نفوس النساء لأنه حب مقتول بالإعجاب لا يرى حيث حل إلا نفسه! ومثل عمر وابن قيس وأمثالهما ممن يقعون كل يوم على امرأة يدركون ما يعجب المرأة وما تزدريه، ويفهمون تقلبها وقيمة وعودها، ولكن عتيقاً أهمل هذه المرة النظر إلى البيت الأخير في هذه القطعة حيث أخذ الشاعر يستفتي الناس في قبلة، وقد علم أن مثل هذه الفتوى باردة وأبرد منها هذا الاستفتاء الذي هو أدنى إلى الفضيحة والتهتك منه إلى العفة والتستر. وما على صاحبه إلا أن يردده في أحد المساجد ويناقش فيه أصحاب الفتاوى
وأنشد أبو أذينة مرثيته لأخيه بكر:
سرى همي وهم المرء يسرى ... وغار النجم إلا قيد شبر
أراقب في المجرة كل نجم ... تعرض في المجرة كيف يجري
بحزن ما أزال له مديما ... كأن القلب أسعر حر جمر
على بكر أخي ولى حميداً ... وأي العيش يحسن بعد بكر
فضحك ابن أبي عتيق وقال: كل العيش يحسن حتى الخبز والزيت. فآلم تهكمه أبا أُذينة وحلف لا يكلمه أبداً. وهذا هو الموقف الوحيد الذي خرج فيه شاعر متأذيا من ابن أبي عتيق.
وهناك مواقف متعددة تبدى لنا عطفه على رجال الفن؛ فلقد كان يمتزج بهم ويحس إحساسهم.
سمع عمر يقول:
كان ذا في مسيرنا إذ حججنا ... علم الله فيه ما قد نوينا
فقال له ابن أبي عتيق: إن ظاهر أمرك ليدل على باطنه فأورد التفسير، ولئن مت لأموتن معك. أف الدنيا بعدك يا ابن الخطاب! فقال عمر: بل عليها بعدك العفاء يا أبا محمد!
ولقد كان فيه حدب خاص على المحبين. وإن له مواقف كثيرة كان يقوم فيها بوصل المنقطع من حبال المودة كما فعل مع عمر، وكان رسوله إلى الثريا. وكما فعل مع نصيب، وقد توسط بينه وبين سعدى محبوبته: ولعل هذا الموقف يبدي لك غيرة ابن أبي عتيق على رجال الشعر والغناء والعمل على نصرهم. وهذا الموقف يبديه لنا رجلاً قوياً حاد الطبع قوي الشكيمة مفتول العضل. رأى ابن أبي عتيق حلق ابن عائشة مخدشاً فقال: من فعل بك هذا؟ قال فلان. فمضى فنزع ثيابه وجلس للرجل على بابه، فلما خرج اخذ بتلبيبه وجعل يضربه ضرباً شديداً والرجل يقول له: مالك تضربني؟ أي شيء صنعت؟ وهو لا يجيبه حتى بلغ منه ثم خلاه وأقبل على من حضر فقال: هذا أراد أن يكسر مزامير داود! شد على ابن عائشة فخنقه وخدش حلقه.
والآن أرجو أنني وفقت في الكشف عن شخصية جديدة في تأريخ النقد العربي، وأرجو زملائي كتاب (الرسالة) أن يعملوا على جمع شوارد هذا الرجل، وأرجو أن تتولى (الرسالة) نشر ما يأتيها عنه وما تقع عليه. فربما استطعنا أن نؤلف من هذه الشوارد حياة الرجل وحياة الناقد، لأن لنقده تأثيرا أكبر مما ذكرنا في توجيه أدب عصره. وإنما أدبنا لا يزال فقيراً إلى رجلين: المؤرخ والأديب. فليعمل المؤرخ عمله يعمل الأديب عمله أيضاً
(دير الزور)
خليل هنداوي
* المصدر: مجلة الرسالة - العدد 178
بتاريخ: 30 - 11 - 1936