"أهدي هذا النص الى روح ابنتي الراحلة الحاضرة ، الرسامة والإنسانة الملهمة سماء الأمير"
توقفت ساعة الحياة عن دغدغة جدار بيتي بتكتكات الوقت السعيد، حين رحلت ابنتي الوحيدة إلى حيث المرج السماوي. فقدت أصابعي ذاكرة إعداد الأطباق التي كانت تحبها، فخبت شعلة النار في الطباخ. لملمتُ لوحاتها وخزنتها في الدولاب خوفاً عليها من غبار الأيام الحالكة، بعد أن توقفت الفرشاة عن الرقص في باليت التلوين، مكتفية بالوقوف متسمرة في كوب بلا ماء.
أصبتُ بسرطان الغياب، ورحتُ أنام كثيراً، طمعاً في لقاءات الحلم حيث عيادة الشفاء السماوية. حتى في اليقظة كانت أعماقي تركض بإتجاهات اللامكان تبحث عن شق بين عالمينا، أطلّ به على ابنتي، كي أشفى. حادثتُ ومازحتُ ابنتي كثيراً عبر صورها، كما لو كانت موجودة. وفي الأسواق لم أكف عن النظر الى الفساتين التي تناسبها، حتى إنني ذات مرة توقفتُ للشراء، ناسية أنها رحلت!
كنتُ كل ليلة أقطر دمعاً كثيراً في أوعية الصمت. وحين تتكسر الأوعية في داخلي تُحدث شظاياها الدقيقة وصداها المخيف جروحاً عميقة في جدار روحي وزجاج صمتي، فيأتيني صوت ابنتي من أسطوانة موسيقا الأثير، كي أنام بهدوء، والمطر المالح يتساقط على فراش وجعي.
في الصباحات، وبينما كان ندى الحب يهبط على خدود الورد في أصص أحضرتها لابنتي في حياتها، وبقيت أرعاها بعد الرحيل، كان مطر الفراق يستمر في تبليل حديقة روحي، كما الليالي، وثمة شرنقة تتدلى في صمت من غصن شجرة فيها. تلك الشرنقة أعادت ذاكرتي الى إحدى لوحات ابنتي.. كانت عن دودة قز تدخل الى الشرنقة. ذات معرض، سأل أحد الزوار ابنتي.. أين الفراشة في لوحتك؟ قالت.. (بانتظار خروجها من الشرنقة).
ترمز الفراشة عند أغلب الناس للربيع والجمال والحرية، ويرون الشرنقة رحماً تخرج منه الدودة بهيأة أجمل، ولكن هناك من يعتقد بأنّ الشرنقة كفن، وانطلاق الفراشة منها يمثل العودة الى الحياة بعد الموت. وسواء أكانت الشرنقة رحماً أم كفناً، فإنها جعلتني أنثر أسئلة الحيرة على اللوحة التي رسمتها ابنتي، أكانت مصادفة أن ترسم دودة القز والشرنقة ولا ترسم الفراشة؟ أم إنها استحضرت الغد في ذلك الأمس وأرادت استكمالها بعد الموت؟! لا شيء يحدث مصادفة.
تأملي اللوحة جعل خيالي حصاناً جامحاً يهرول بي بلا سرج في ميدان فكرة فانتازية.. ماذا لو كان بإمكان الميت أن يخرج من مرقده كالفراشة من الشرنقة، بتأثير دموع الأم بالغة الصدق، ولوعاتها، ونبضات قلبها، وقبلاتها للخيال، ومناجاتها، واشتياقاتها، وأعمالها الطيبة من أجل روح فقيدها.. تلك الفكرة المحلقة خارج السرب، جذبت صوت ابنتي الى ذاكرتي، سألتني يوماً عن معنى التفكير خارج الصندوق، وبعد أن أوضحتُ لها المعنى، قهقهت قائلة:
ـ أنت، ياماما، لا تفكرين خارج الصندوق فقط، بل إنك تركلين الصندوق بقسوة متناهية، تجعله يتأوه كإنه من لحم ودم!
كل حوار خضناه، وكل كلام قالته ابنتي لم يكن ابن لحظته، أدركتُ بعد رحيلها، أنه يتصل باللاحق من الأيام التي سأكون فيها وحيدة.
أخذت أجمع دموعي، حتى تلك التي تسربت من أحلامي الليلية إلى يقظتي، في قوارير طبعتُ عليها آلاف القبلات، ووضعت على زجاجها ماعلق في ذاكرة شفتي من مذاق خدي ابنتي. وبقي الحصان يهرول في رأسي قاطعاً الكثير من مسافات الحزن.. حتى فتح أحد الصباحات عينيه في وجهي، والجدار يكركر من جراء دغدغات الساعة، ورائحة الأطباق المفضلة لابنتي تتصاعد من المائدة تداعب أنفي، كإنّ نار الطباخ شعلة نوروز. وجدتُ اللوحات تزين الجدار الضاحك، ورحتً أتأملُ لوحة الشرنقة. ما أثار دهشتي إنّ ابنتي كانت واقفة عند رأسي تبتسم، وعلى كتفيها جناحا فراشة، بدت ابنتي ملائكية أكثر منها بشرية، كانت ضوءاً يلمع، جعلني أؤمن بشعوري حين حملت ابنتي قبل سنوات بين يدي وهي بلا حراك، همس لي الشعور بأنّ الله أخذ ابنتي ذات السبعة عشر ربيعاً مني، ليعيدها لي بشكل آخر. بعد ذلك، وبتناسل الحزن حسرات وعبرات وانكسارات، أطلقتُ الحصان غير المروَّض إلى ميدان خيالي، كي يمتطيه أملي بلا تردد او خشية من السقوط على أحجار الوهم.
وأنا غارقة في تتبع خطوات الحصان، ومرور الفراشة على حقوله، جذبني ضوء ابنتي، وهي تضع يدها الناعمة على خدي، قائلة.. لن تمرضي او تبكي بعد الآن. سأعتني بك دائماً.
شعرتُ براحة لم أشعر مثلها قبلاً، فقد ذاب جليد شتائي في قطب روحي، وارتوى صيفي في صحرائها، انتبهتُ إلى أنّ القوارير كانت خالية من الدمع. حلت محله أصباغ الأكريلك، حين سمعتُ ابنتي تقول لي بصوتها العذب الذي لاتضاهيه عذوبة موسيقا الكون في داخلي:
ـ انظري إلى الفرشاة التي جفت في غيابي، ستعود لرقص الباليه على الباليت، سنرسم بها معاً لوحة الحياة الأبدية، ليس مهماً فيها أن تكون الشرنقة رحماً او كفناً، المهم إيماننا بأنّ فراشات الربيع تأتي دائماً. أتعرفين ياماما؟ على الناس أن يطلقوا أحصنة الأمل الجامحة خارج الصناديق، كي تعود فراشاتهم، كذلك.
توقفت ساعة الحياة عن دغدغة جدار بيتي بتكتكات الوقت السعيد، حين رحلت ابنتي الوحيدة إلى حيث المرج السماوي. فقدت أصابعي ذاكرة إعداد الأطباق التي كانت تحبها، فخبت شعلة النار في الطباخ. لملمتُ لوحاتها وخزنتها في الدولاب خوفاً عليها من غبار الأيام الحالكة، بعد أن توقفت الفرشاة عن الرقص في باليت التلوين، مكتفية بالوقوف متسمرة في كوب بلا ماء.
أصبتُ بسرطان الغياب، ورحتُ أنام كثيراً، طمعاً في لقاءات الحلم حيث عيادة الشفاء السماوية. حتى في اليقظة كانت أعماقي تركض بإتجاهات اللامكان تبحث عن شق بين عالمينا، أطلّ به على ابنتي، كي أشفى. حادثتُ ومازحتُ ابنتي كثيراً عبر صورها، كما لو كانت موجودة. وفي الأسواق لم أكف عن النظر الى الفساتين التي تناسبها، حتى إنني ذات مرة توقفتُ للشراء، ناسية أنها رحلت!
كنتُ كل ليلة أقطر دمعاً كثيراً في أوعية الصمت. وحين تتكسر الأوعية في داخلي تُحدث شظاياها الدقيقة وصداها المخيف جروحاً عميقة في جدار روحي وزجاج صمتي، فيأتيني صوت ابنتي من أسطوانة موسيقا الأثير، كي أنام بهدوء، والمطر المالح يتساقط على فراش وجعي.
في الصباحات، وبينما كان ندى الحب يهبط على خدود الورد في أصص أحضرتها لابنتي في حياتها، وبقيت أرعاها بعد الرحيل، كان مطر الفراق يستمر في تبليل حديقة روحي، كما الليالي، وثمة شرنقة تتدلى في صمت من غصن شجرة فيها. تلك الشرنقة أعادت ذاكرتي الى إحدى لوحات ابنتي.. كانت عن دودة قز تدخل الى الشرنقة. ذات معرض، سأل أحد الزوار ابنتي.. أين الفراشة في لوحتك؟ قالت.. (بانتظار خروجها من الشرنقة).
ترمز الفراشة عند أغلب الناس للربيع والجمال والحرية، ويرون الشرنقة رحماً تخرج منه الدودة بهيأة أجمل، ولكن هناك من يعتقد بأنّ الشرنقة كفن، وانطلاق الفراشة منها يمثل العودة الى الحياة بعد الموت. وسواء أكانت الشرنقة رحماً أم كفناً، فإنها جعلتني أنثر أسئلة الحيرة على اللوحة التي رسمتها ابنتي، أكانت مصادفة أن ترسم دودة القز والشرنقة ولا ترسم الفراشة؟ أم إنها استحضرت الغد في ذلك الأمس وأرادت استكمالها بعد الموت؟! لا شيء يحدث مصادفة.
تأملي اللوحة جعل خيالي حصاناً جامحاً يهرول بي بلا سرج في ميدان فكرة فانتازية.. ماذا لو كان بإمكان الميت أن يخرج من مرقده كالفراشة من الشرنقة، بتأثير دموع الأم بالغة الصدق، ولوعاتها، ونبضات قلبها، وقبلاتها للخيال، ومناجاتها، واشتياقاتها، وأعمالها الطيبة من أجل روح فقيدها.. تلك الفكرة المحلقة خارج السرب، جذبت صوت ابنتي الى ذاكرتي، سألتني يوماً عن معنى التفكير خارج الصندوق، وبعد أن أوضحتُ لها المعنى، قهقهت قائلة:
ـ أنت، ياماما، لا تفكرين خارج الصندوق فقط، بل إنك تركلين الصندوق بقسوة متناهية، تجعله يتأوه كإنه من لحم ودم!
كل حوار خضناه، وكل كلام قالته ابنتي لم يكن ابن لحظته، أدركتُ بعد رحيلها، أنه يتصل باللاحق من الأيام التي سأكون فيها وحيدة.
أخذت أجمع دموعي، حتى تلك التي تسربت من أحلامي الليلية إلى يقظتي، في قوارير طبعتُ عليها آلاف القبلات، ووضعت على زجاجها ماعلق في ذاكرة شفتي من مذاق خدي ابنتي. وبقي الحصان يهرول في رأسي قاطعاً الكثير من مسافات الحزن.. حتى فتح أحد الصباحات عينيه في وجهي، والجدار يكركر من جراء دغدغات الساعة، ورائحة الأطباق المفضلة لابنتي تتصاعد من المائدة تداعب أنفي، كإنّ نار الطباخ شعلة نوروز. وجدتُ اللوحات تزين الجدار الضاحك، ورحتً أتأملُ لوحة الشرنقة. ما أثار دهشتي إنّ ابنتي كانت واقفة عند رأسي تبتسم، وعلى كتفيها جناحا فراشة، بدت ابنتي ملائكية أكثر منها بشرية، كانت ضوءاً يلمع، جعلني أؤمن بشعوري حين حملت ابنتي قبل سنوات بين يدي وهي بلا حراك، همس لي الشعور بأنّ الله أخذ ابنتي ذات السبعة عشر ربيعاً مني، ليعيدها لي بشكل آخر. بعد ذلك، وبتناسل الحزن حسرات وعبرات وانكسارات، أطلقتُ الحصان غير المروَّض إلى ميدان خيالي، كي يمتطيه أملي بلا تردد او خشية من السقوط على أحجار الوهم.
وأنا غارقة في تتبع خطوات الحصان، ومرور الفراشة على حقوله، جذبني ضوء ابنتي، وهي تضع يدها الناعمة على خدي، قائلة.. لن تمرضي او تبكي بعد الآن. سأعتني بك دائماً.
شعرتُ براحة لم أشعر مثلها قبلاً، فقد ذاب جليد شتائي في قطب روحي، وارتوى صيفي في صحرائها، انتبهتُ إلى أنّ القوارير كانت خالية من الدمع. حلت محله أصباغ الأكريلك، حين سمعتُ ابنتي تقول لي بصوتها العذب الذي لاتضاهيه عذوبة موسيقا الكون في داخلي:
ـ انظري إلى الفرشاة التي جفت في غيابي، ستعود لرقص الباليه على الباليت، سنرسم بها معاً لوحة الحياة الأبدية، ليس مهماً فيها أن تكون الشرنقة رحماً او كفناً، المهم إيماننا بأنّ فراشات الربيع تأتي دائماً. أتعرفين ياماما؟ على الناس أن يطلقوا أحصنة الأمل الجامحة خارج الصناديق، كي تعود فراشاتهم، كذلك.