صالح رحيم - محنة التعليم وأزمة الدرس الفلسفي

لا يخفى على عاقلٍ، ما وصل إليه التعليمُ من تردٍّ في عموم جامعات العراق ومدارسه، وهذا ما يبرزه العددُ الهائلُ من آلاف الخريجين الذين لا يفقهون شيئاً لا من حياتهم، ولا من ذواتهم ودورها في بناءِ المستقبل والنظر بجدية إلى الحاضر. وإذا ما رأيتَ مبدعاً، في تخصصٍ ما، فإنه بجهدٍ شخصيٍّ لا محالة. فإنه يستحيل على نظامِ تعليمٍ مثل نظامنا، أن يصنعَ مبدعاً. إنه آلةُ نسفٍ وتقويضٍ لا آلة بناء.
يذهبُ في كتابه “تعليمُ المقهورين” بول فريري، إلى نقدِ نظامِ التعليم القائم على ثنائيةٍ متنافرة الأقطاب، إذ يقسِّمُ التعليمَ إلى قسمين، التعليم الحواري، والتعليم المصرفي “البنگي”، التعليم الحواري قائمٌ على أساس الحوار والحب، والثقة بين الطالبِ والأستاذ، بل إن الطالبَ بتعبيره، لا يتعلمُ عند الأستاذ، بل معه، أي لا وجود للفوارق، لأنهما يتعلمانِ معاً، أحدهما ينهل من الآخر، ويجمعها قاسمٌ مشترك واحد، ألا وهو همُّ المعرفة.
في حين أنَّ التعليمَ المصرفي، قائم على ثنائية السيد والعبد، التابع والمتبوع، العلوي والسفلي. إنكَ في التعليم المصرفي، لا ترى سوى مودِّع بيانات، يقوم بدوره الأستاذ بكل حرفية واتقان، ومستلم لتلك البيانات، يقوم بدوره الطالب، بنفس الحرفية والتفاني في استلام المعلومة.
لا حرية في التعليم المصرفي، ولا حوار، ثمة فجوةٌ لا سبيل إلى ردمها تفصل بين الأستاذ والطالب، وإذا ما حاول أستاذٌ ردمها، فإنه سيكون نشازاً وعبئاً على المؤسسة كلها. ولا يخفى على أحدٍ، أيضاً، أن التعليمَ في جامعاتنا، ما هو إلا تمثلٌ لفكرةِ فريري، وتجسيد لها. إذ إنَّه لا يقدم لنا مبدعين، بل كسالى، وعاطلون عن الحياة، ذلك هو نظامُ التلقين، وإيداع البيانات، الذي يحطم ملكة الإبداع، ويرهق الروح. ويجعل من الطالب أداة تنفعُ السلطة وتكرسُه لها.
لا فرقَ بينَ من لا يملك شهادةً أكاديمية وبينَ من حازها، التعليم المصرفي جاءَ لنا بهذه المعادلة، بل إنك تجدُ كثيراً ممن لم يرتادوا الدراسة يملكون وعياً بالمسؤولية، وتفانياً في ما يتقنونه من مِهَنٍ وحِرَفْ. لقد أفرزَ لنا، نظامُ تعليمِنا، كائنات مشوهة، قلقة، ومضطربة، بذواتٍ فارغةٍ، وبآفاقٍ ضيقة. إن نفعت في شيء، فإنها أرقامٌ جاهزة للحرب، إذ أن العسكرَ، هو العمل الوحيد، الذي هيأتهم له المؤسسة، بمهارة عالية، مشكورةً. ما العملُ إذن؟ وما الخلاص؟
يحيلني الوضعُ، إلى بويثيوس، الفيلسوف الروماني، الذي اتهم بالخيانة من قبل الملك ثيودوريك، فكتبَ «عزاء الفلسفة» وهو قابع في السجن ينتظر حكم الاعدام، فيقول فيه:
«ميزت مرضعتي الفلسفة، التي أمضيتُ في حجراتها عمري، من مطلع شبابي، وسألتها لأي سبب هبطت يا سيدة الفضائل كلها، من علياء السماء لزيارة منفاي الموحش هذا، أيكون ذلك لأنكِ مثلي تماما يمكن أن تستباحي ضحية اتهامات باطلة؟
فأجابت: أينبغي أن أخذلك يا رضيعي، أينبغي ألا أشارك وأتحمل حصتي من عبء الضغينة الذي أُلقي على كاهلك نكاية بي؟ من المؤكد أن الفلسفة لن تبيح لنفسها ترك الأبرياء يمضون رحلتهم من غير صحبة»
وكلما قالت الفلسفة أينبغي أن أخذلك يا رضيعي؟ أجابَ التعليمُ المصرفي: نعم، بكل صلافة، والخذلان هنا مزدوج، خذلانٌ لمريديها، وخذلانٌ للفلسفة، التي تستباح باستباحة الطالب والأستاذ.
فالأزمةُ الجوهريةُ، أنَّ طالبَ الفلسفةِ لا يعي موقعه، ولا يعرفُ السبيل إلى نجاته، لأنه قُذِفَ قذفاً في هذا القسم، جاءَ به نظامُ القبول، جاءت به الحاسبة، فترى معاناة الأساتذةِ من عدمِ تفاعلِ الغالبية العظمى من الطلبة مع دروسهم، بل إنَّ الطالبَ لا يريدُ، من مسعاه الأكاديمي، إلا خلاصاً من الورطة، ورطةِ المفاهيم التي يرطنُ بها الأستاذ على مسامعه طيلة سنوات دراسته. لا ذنبَ لهذا الطالب المسكين، الذي عملت على تشويه روحه المؤسسة بكل وحشية، نمَّطت له صورةَ التعليمِ، فجعلتُ منه لاهثاً وراء الخبز لا وراء المعرفة. الصورةُ المأساويةُ الأخرى، أنَّ الخبزَ والفلسفةَ لا يجتمعان، فتراه يائساً، متململاً من كل ساعةٍ تنتهي برتابة داخل الدرس، إنه ينتظرُ مستقبلاً لا صورةَ له، عبرَ حاضرٍ لا صورةَ له، من ماضٍ لا صورةَ له هو الآخر.
أظنُّ أنَّ الخلاصَ، خلاص الدرسِ الفلسفي، وخلاص طالب الفلسفة، يكمنُ في آليةِ القبول، فإما إن تُلغى أقسامُ الفلسفة في عموم جامعات العراق، وإما أن يتمَّ القبول على أساس اختبارٍ في أبجديات التعليم الفلسفي، ينبغي على الأقل، أن يكون لدى الطالب معرفةٌ بأبسط الأمور، ولو في إطارها العام. وإما تبقى دراسة الفلسفة لطلاب المسائية حصراً، فأغلبُ هؤلاء، إن لم يكونوا كلهم، جاءوا برغبةٍ وشغفٍ لا يجاريه إلا الأستاذ نفسه. فإن لم يكن لا هذا ولا ذاك، فعلى المرضعة وعلى عيالها السلام. _


صالح رحيم

الصباح-الخميس- 2023/04/27

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى