د. السيد إبراهيم أحمد - مقاربة نقدية في المجموعة المسرحية: "ممكن يكون" للكاتب خالد الجمال...


تضم المجموعة المسرحية "يمكن يكون" للكاتب خالد الجمال التي صدرت عن المسك للنشر والتوزيع عام 2022م، أربع مسرحيات من ذات الفصل الواحد تفاوتت في تاريخ إبداعها؛ فجاءت مسرحية "السوق" عام 2002م، بينما مسرحية "إلحق نفسك" عام 2009م، تلتها بعام مسرحية "الوليد" 2010م، ثم مسرحية "يمكن يكون"، التي تَسمَّت بعنوانها المجموعة عام 2018م.

كان من الأهمية بمكان أن نشير إلى أن الكاتب خالد الجمال من الذين اعتنوا بالمسرح المدرسي منذ تسعينيات القرن الماضي وإلى الآن، وهو من المكثرين فيه تأليفا وإخراجا بالإضافة إلى كونه شاعرا، وهو يلتقي مع عديد من الأسماء العالمية والعربية والمصرية التي جمعت بين العديد من الفنون، ومنهم: بيتر بروك، وبرتولد بريخت، وساشا جيتر وغيرهم، وهذا ما يشير لاهتمام الجمَّال بهيمنة النصوص الشعرية على نصوص المجموعة في خطابه المسرحي، أو تشعير بعض العبارات في ميلها إلى السرد الملحمي على ألسنة الشخوص في بعض مسرحياته، مع اهتمامه باستمداد القيم التربوية والأخلاقية لتشكل محورا ومضمونا في الحبكة الدرامية.

كما يعني اختيار الكاتب لقالب الفصل الواحد؛ لتميزه بالتكثيف والتركيز، والاقتصار على معالجة قضية واحدة رئيسة وما ينبثق عنها من قضايا فرعية تدور في فلكها، ولهذا فهي لا تعطي للكاتب الحرية في التمهيد للأحداث، بل يجب أن يعرض فيها الحدث مباشرة مع دفع الصراع فيها دون تمهيد يؤدي لبطء الإيقاع فيها، ولا تحتاج لشخصيات كثيرة، ولذا يرى الدكتور على خليفة في كتابه: "مسرحية الفصل الواحد: شغف الإبحار ولذة الغوص"، أنها المسرحية الأنسب لما نراه في الوقت الراهن من رغبة في التجديد والتجريب في كتابة المسرحية. وبهذا ندفع اتهام القارئ لمسرحيات المجموعة في سرعة الحدث سواء في البداية أو الانتهاء في بعضها.

ولابد من تقديم عرضا موجزا لكل مسرحية، عسى أن تفيد في إلمام القارئ عند تناولي لها:

ـ مسرحية "السوق" وتقع في أربعة مشاهد، وملخصها:

تدور المسرحية في إطار رمزي، يناقش من خلالها الكاتب قضايا: العولمة، والهيمنة، واستلاب الهوية من خلال فرض الهيمنة الغربية على "السوق" الذي يأتي نيابة عن مصر والدول العربية أو المستهدفة بسهم العولمة لاختراق نظامها الاقتصادي، واستعرض الكاتب محاولة الغرب الذي يأتي ممثلا في شخصية "المبعوث"، ذلك الذي يريد فرض وتنفيذ سياسة الأمر الواقع على السوق بالقوة، وامتلاكه لترويج بضاعته، لكن يتصدى له "محسن" رئيس السوق، وبعض قوى الشعب وأهمهم: المرأة التي تمثلها الجامعية "سلمى" ولها اطلاع على أغراض الغرب، و"حسناء" المواطنة البسيطة، و"راغب" الطفل القارئ لتاريخ السوق، كما يتناول قضايا فرعية: الوحدة الوطنية، والعودة للتراث، والصناعة المحلية، والإشارة إلى ثقافة القراءة منذ الطفولة.

ـ مسرحية "الوليد" وتقع في خمسة مشاهد، وملخصها:

تدور المسرحية في إطار رمزي أيضا، يتناول فيها الكاتب دينامية تواصل الأجيال في الدفاع عن الوطن، وتشير أسماء الشخصيات إلى وصفها ودورها؛ فالأم الكبيرة هي أم البطل الشهيد "صابرة"، وأم أيضا لـ "نضال" وهي الفتاة التي تواجه المحتل وألاعيبه وأغراضه ومؤمراته الممثلة في شخصية "شومان" الذي يحاول الاقتران بها أو امتلاكها عنوة، وهو الذي قتل "حسام" ابن "صابرة"، ذلك الشهيد الذي ترك خلفه زوجته "جهاد"، وابنهما "الوليد"، كما استحوذ "شومان على عقل وَلدَي "صابرة": "فتحي" و "حسين. ويدور الصراع بين "شومان" و"صابرة" و"نضال" التي تحاول استنهاض همم أخويها وضمهما من جديد للدفاع عن الوطن دون جدوى، بعدما نجح "شومان" في إغراقهما في الملذات وإلهائهما عن قضايا وطنهما، ليكونا رمزين لبعض الشباب العربي الذي أُستُلبِتْ هويته وذاب في هوية العدو، وهو ما ينجح فيه "الوليد" ابن حسام، الذي يمثل الجيل الصاعد ممن سيستكملون مسيرة الفداء؛ فيحرر "نضال"، و"نعمان" الذي يرمز للجماهير من القفص، بل ينجح الوليد أيضا في إعادة عمَّاه "حسين" و"فتحي" لرشدهما، ليقف الجميع صفا واحدا ضد "شومان" الذي أصابه الذهول بعد أن تخلى عنه أعوانه فجأة!

ـ مسرحية "إلحق نفسك" وتقع في أربعة مشاهد، وتدور في خمسة مشاهد:

تتميز هذه المسرحية بقلة شخوصها؛ إذ تتكون من "صافي" رجل الأعمال الوطني الذي يرشح نفسه للانتخابات، وزوجته الغيور "نبيلة"، وشقيقها "هادي"، وسكرتيرته "ضحى"، وفريق الاستعراض والعامة من الناس. وتدور أحداث المسرحية في أجواء انتشار مرض انفلونزا الخنازير، وكيفية مقاومته، وتبيين أعراضه، ليستعرض الكاتب قضايا اقتران المال بالسلطة من أجل حماية المال، وإبراز دور بعض رجال الأعمال الوطنيين من الذين أنفقوا من مالهم من أجل استيراد الأمصال الواقية، مثلما فعل "صافي" حين رجَّح كفة الوطن وأراد الانسحاب من الانتخابات لكنه نسي أن يسحب استمارة الترشيح، وانهمك في مقاومة المرض مع الناس، وكان جزاؤه أن ينتخبه الناس دون أن يبذل مجهودا في ذلك كمكافأة من الشعب لدوره البطولي.

ـ مسرحية "يمكن يكون" وتقع في أربعة مشاهد، وتدور في أربعة مشاهد:

تدور هذه المسرحية في إطار "فانتازي" من لقاء "التاريخ" مع "الواقع"، ومحاولة التاريخ إنقاذ الواقع من حاضره باستمداد أحداث الماضي واستشراف المستقبل مع إعراض الواقع عن هذه المحاولة التي لا تعنيه؛ فيحتكمان لما دوناه في صفحاتهم لمن يطالعونها ويرضون بحكمهم. تبدأ صفحة الماضي في بيت ريفي يملكه والد ووالدة "نادر" وهما يحتضنان "ماتيلدا" التي مات أبواها في حادث، والتي عاشت معهم قرابة الخمس سنوات حتى بلغت العشرين من عمرها وهي طالبة في كلية الألسن، بينما "نادر" يدرس في كلية الطب، ولهما مساهمتهما في مساعدة الأسرة في الزراعة، كما أن والد نادر من المتصدقين بجزء من المحصول للفقراء في خفية، ثم ينقلنا الكاتب إلى الحاضر وصفحته التي تدور أحداثها في منزل محامي ومهندسة وابنتهما الطالبة "رنا" الحائرة بينهما؛ إذ يقضي والدها معظم وقته في عمله كمحامي بجانب عمل إضافي، بينما تنشغل أمها المهندسة عنها في مطالعة صفحات التواصل الاجتماعي، ولا تساعد ابنتها في حل مسألة رياضية وتحيلها إلى والدها عند عودته. ثم يلتقي التاريخ والواقع، ليختار التاريخ فتاتان وشاب من الجماهير للتعليق على صفحة الحاضر، فيقترح الشاب والفتاة الجادة خريطة لإصلاح التعليم، بينما كانت الفتاة اللعوب تعمل على إشاعة اليأس فيهما، غير أنهما يضعان خطة يأملان تنفيذها وإن لم تتحقق اليوم، فستتحقق في الغد، ولما لا؟، فمن الممكن أن يكون.

لجأ الكاتب إلى الرمز في مسرحيتيه: "السوق" و "الوليد"، ليس لغرض إضفاء قدر من الغموض، ولكن باعتبار الترميز خاصیة فنیة جمالیة تضفي على العمل حيوية وتنشيط لذهن المتلقي، خاصة حين يتعلق الترميز بالشخصيات، وهو ما تم توضيحه في عرض الموجز للمسرحيتين، وقد نجح الكاتب فيهما ليقي نَصيه شر المباشرة والتقريرية، على الرغم من استعمال الرمز في المسرح السياسي عادة وعند افتقاد أجواء من حرية التعبير للمبدع، وهو ما يخالف الواقع المعيش، كما أن القضايا المثارة من قبل الكاتب قضايا تتصل بالوطن والمواطن.

ويعد الرمز من أهم الخصائص الفنية التي تميز النص الدرامي عامة والمسرحي خاصة، لما يتيحه المز من دلالات وأبعاد غير محدودة تبقى مفتوحة على قراءات ذات مستويات عديدة، يمكن أن تدخل المتلقي في جدلية مع العمل الدرامي ... فالرمز يحاول أن يخترق عالم الروح بكل ما يحمله من رؤى ومعان، تتسم بالتركيز والتكثيف وذلك وصولا إلى أعلى درجة من التعقيد الدرامي الذي يُكسِب العمل الفني مزيدا من الشاعرية. [د. منى مصيلحي "تقنية الرمز في مسرحية الفصل الواحد].

يدرك الكاتب والشاعر خالد الجمال أن الشعر هو لغة المسرح الأولي، وأن العلاقة بينهما تاريخية، وهو يدرك كيف سيعانق شعره الدراما لتتشكل منهما عملية متوازنة في القراءة أو في الفرجة، كما يدرك أن الشعر هو القادر والفاعل في تثوير وتحريك انفعالات القارئ، ولهذا جاء الشعر مصاحبا لكل نصوص المجموعة سواء في المفتتح أو في الختام تمهيدًا أو تعليقًا، أو يقوم ـ في بعض الأحيان ـ مقام الحوار الذي اتصل اتصالا مباشرا وسليما بأجواء القضاية المتضمنة للنص المسرحي، وإن كان من الأفضل أن تكون بعض القصائد أقصر؛ لكي لا تحدث قطيعة ذهنية وقتية بين القارئ والنص أو بين المتفرج والعرض، وليس هذا في صالح العمل.

خالف الكاتب خالد الجمال قواعد الحوار المسرحي وخاصة وهو يكتب المسرحية ذات الفصل الواحد التي تختلف عن الحوار في المسرحيات الطويلة، وذلك في مسرحية "الوليد" التي غلب عليها تكرار بعض الكلمات أو العبارات منذ بداية المشهد الأول من المسرحية على لسان "صابرة"، دون ضرورة فنية تقتضي ذلك؛ فمن جماليات المسرحية ذات الفصل الواحد: كثافة الحوار، وعدم الاستطراد، والإيجاز في الشكل والمضمون، ومراعاة الانتقاء والاقتصاد، والتركيز. وهو الأمر الذي انتبه له الكاتب في بقية نصوص المجموعة التي أتت محققة للهدف، نابعة من الأحداث، معبرة عنها في لغة مسرحية بعيدة عن الغموض، والتقعر، والسطحية والسوقية:

محسن: لازم الدايرة تكتمل .. مفيش حد يقدر يعيش لوحده.

سلمى: نعيش معاهم ويعيشوا معانا .. التعايش هو سر الحياة.

محسن: (مؤكدًا) التعايش شيئ جميل .. بس لازم الأيادي تتشابك.

سلمى: والاختلاف في الثقافة؟

محسن: يدوب في الانتماء. في الأصل . الأصل واحد يا سلمى.[السوق، ص83]

والملاحظ أن الكاتب الجمَّال ترك الحرية لتفاعل الشخصيات بحسب الموقف، التي تتقمصه وتتلبس ذاته، حتى ليكاد القارئ يستشف أنه هو من يقف وراء بعض شخصياته، التي تأتي متمسكة بمبادئها وقيمها، وتحديها للأزمات، وبذلها التضحيات ولو بنفسها من أجل المجموع، بطريقة سلسة وهادئة بحسب مجريات الأحداث في النص المسرحي الذي تنساب أمواجها في اتجاه واحد منبعه الخير ومصبه النفع العام، وانتصار قوى الخير في النهاية لأنها الحق، وهو ما يحيلنا إلى شخصية الكاتب المقترنة بمهمته كمعلم، وباهتمامه وارتباطه بالمسرح المدرسي وما يتضمنه من قضايا تساهم مساهمة مباشرة وغير مباشرة في التكوين الثقافي والوطني والأخلاقي للأجيال القادمة، وهو ما يبدو من استعراض القضايا التي ساقها الكاتب خلال مجموعته.

تخالف النصوص المسرحية ذات الحبكات المعقدة خاتمتها كل التوقعات التي يثيرها سياق الأحداث فيها الذي يدخل في منحنيات وتعقيدات تغير من اتجاهه على غير المتوقع عند المتلقي أو المتفرج. ويرى البعض أن الحبكة المعقدة هي الأكثر إقناعا لعقلية المتلقي، لكونها تعتمد علي الحتمية المنطقية التي ما تخفى ـ غالبا ـ عن نظر وعقل وفكر المتفرج، كما تعتمد أيضا علي المفاجآت التي تخيب المتوقع عند من يتابعها بالقراءة أو الفرجة.

وهو ما ابتعد عنه الكاتب "الجمَّال"، في بعض نصوصه، مؤثرًا الحبكة البسيطة التي تنهض علي تطور مباشر للأحداث من نقطة بداية محدودة إلي خاتمة يسهل التنبؤ بها، ونادراً ما تخيب التوقعات وتنحرف بعيداً عن الاحتمالات الأساسية... فقدرة الحبكة علي إثارة إحساس المشاهد بالإدهاش وهي ناتجة عن الحتمية تكون أعظم من تلك الحبكات القائمة علي الصدفة أو تلك التي تتولد من تلقاء نفسها بلا منطق، كما يرى محسن النصار في "الحبكة في المسرحية أكثر فلسفة كونها تعبر عن الحقيقة الكلية والعامة".

تشكل الخاتمة في النص المسرحي أهمية خاصة بل يرى الدكتور علي خليفة أنها أهم جزء فيه، ولو أن تقسيم المسرحية لعرض وأحداث متصاعدة وخاتمة أصبح مفهوما كلاسيكيا عند كثير من المهتمين بالمسرح في الوقت الحالي وحتى مع تطور أشكال المسرح وظهور العبثيين والتجربيين تبقى الخاتمة جزءا مهما في بناء المسرحية، وصياغتها غالبا ما تحمل رؤية كل مبدع وتكشف جزءا كبيرا من أسرار مواهبه المسرحية.

وقد جاءت خواتيم النصوص المسرحية بالمجموعة مسايرة لخطوط الأحداث ومنتهية معها بغير افتقاد للمنطقية، إلا أن خاتمة مسرحية "الوليد" افتقدت للمنطقية، حين جعلت كل الحلول بيد "الوليد" الذي حرر السجناء، وأعاد المارقين إلى الصف، وانتصر على "شومان" الذي انفض الجمع من حوله، دون تقديم أدلة منطقية يستسيغها عقل القارئ، ولا تجافي وقائع المسرحية في نسقها الزمني والواقعي، وجاء الختام بأغنية دون أن يتلقى "شومان" عقابه الذي يجد فيه المتفرج أو القارئ تنفيسا عن سخطه وغضبه من تلك الشخصية، حتى ولو قلنا أنها نهاية مفتوحة للنص، مع كونه اتسم بتلك الخاتمة "السعيدة" ربما لرغبة الكاتب في ذلك بعد أحداثها الحزينة.

لقد جاء عنوان المجموعة المسرحية" يمكن يكون" الذي يحمل عنوان أحد نصوصها، غير أنه من الممكن أن تتسمى بذات العنوان النصوص المسرحية الثلاثة كذلك؛ فمن الممكن أن يكون هناك وليد قادم يحرر الأرض من دنس الاحتلال، ويحرر أيضا سجناء الرأي والعمليات الاستشهادية، ويطرد الغاصب، ويعيد بعض شباب الأمة المفتون أو المُغيْب إلى حضن الوطن، مثلما يمكن أن يكون هناك رجل أعمال وطني يبذل ماله من أجل الوطن، ويتفاني في خدمة مواطنيه بالفعل قبل القول، كما يمكن أن يكون هناك رجال من بني جلدتنا يحافظون على الوطن أرضا وشعبا، ولا يفكرون في بيعه لأعداء الوطن من أجل جني مكاسب رخيصة وقتية.

وهو ما يعني أن المجموعة المسرحية بنصوصها يمكن أن تكون صالحة للأجيال القادمة، ووديعة في حساب الأيام، يأتي وقت استحقاقها عند قراءتها واستيعابها، وجني أرباحها بتنفيذ ما فيها من خطط مستقبلية لإصلاح التعليم، وليس للكاتب إلا أن يقول كلمته ويمضي، وهو ما أجاد فعله الكاتب المتنوع خالد الجمال حين كتب هذه النصوص التي جاءت تعبيرًا عن حبه لوطنه، وأهله، وأن يرى هذا الوطن حرًا، غنيًا، مستقلا، كريمًا، وقد صاغها برؤيته الملتزمة بقضايا الأمة، ونهضة الإنسان في غير مثالية أو فانتازيا بل واقعًا يراه رؤيا العين، ومن الممكن أن يكون.​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى