د. السيد إبراهيم أحمد - قراءة في ديوان الشاعرة روعة محسن الدندن..

تتنقل الشاعرة روعة محسن الدندن بين أزاهير بستان الأدب العرب كالفراشة التي يغريها التنوع والغزارة؛ فبعد أن أقامت مع القصائد المنثورة زمنًا ليس بالقصير، إذا بها تضيق بمساحة بوحها فتغادرها إلى الخاطرة التي كانت القنطرة التي عبرتها إلى مرفأ الحوار الذي استغلته في عرض مكنوناتها المضطرمة بين الواقع السياسي والواقع الأدبي فصبته في أسئلتها التي أطلقتها على من تحاورهم.

حطت الشاعرة رحالها، إلى حين، في أرض القصيدة العمودية ودلفت من بابها إلى علم العروض تتعرف أوزانه والتي أقبلت بنهم شديد على تعلمه ومحاولة إتقانه، وهو ما يتبدى من خلو قصائدها من الكسر، وما تعلنه من سبب لجوئها للقصيدة العمودية، فتقول في قصيدتها: "إلى من علمني الحرف":​

فجزاك الله خيراً والدي.... حيث أعطيت فمي حلوَ الغُنا

فنظمتُ القولَ شعراً صادحًا ... وتركتُ النثرَ إذ يلهو بنا​

وقد أرادت أن تخلد تجربتها في تعلم العروض بفرحة، فقالت في قصيدتها: "هذه أنا":

سأشكرُ والدي مادمتُ أحيا..... وذلك مثلهُ غدقٌ عميمُ

مدى شهرين علمني القوافي.... وأبحرها متى فُلكي تعومُ


كان لهذه المقدمة ضرورة لمن سيطالع قصائد هذا الديوان الذي سيلاحظ فيه تباين الأصوات الشعرية بتعدد نصوصها وكأنما يستطيع أن يسندها لأكثر من شاعر، ذلك أن الشاعرة قد دخلت في أجواء ديوان العرب من قديمه وحديثه ترتشف من كل ينابيعه، وتتشمم وردات روضاته على غير اتفاق وهو ما يتبدى في أنها لم تتخذ لنفسها أسلوبًا تقيم عليه في بعضها.

كما يتبدى حومانها وجولاتها التي لم تخرج منها بعد في استخدامها لكثير من المفردات التي توافق بيئتها في أوانها، وتستغربها أذن القارئ المعاصر ذلك أن بعضها لم يمر عليها يقينًا، ولا تسكن هذه المفردات إلا أبواب المعاجم التي سيزورها حتما للوقوف على معانيها، ومن استعمالها لتشبيهات بعيدة أشد البعد عن الحاضرة التي تعيش فيها الشاعرة مما يعني أنها انساقت وراءها بدعوى المحاكاة وربما التأثر بها، وتجمع قصيدة "هذه أنا" بعضًا منها، وهي:

"لبوةَ الأجماتِ"، "النابُ العزومُ". ومن قصيدة الطوفان: "مأبونِ".

تنسل القصائد في هذا الديوان من خلال بحور: (البسيط، الكامل، الوافر، الرمل، المتدارك)، وليس في هذا ما يعيبها ذلك أن ليس هناك ما يفرض على الشاعر أن يستخدم كافة بحور الخليل، والشواهد على ذلك كثيرة، ولعل أشهرها أن المتنبي شاعر العربية الأكبر لم يكتب في بحور: (المضارع، المقتضب، الخبب، المديد، والهزج)، ذلك (أن الشعر فيض تلقائي وأن اختيار الشاعر لهذا الوزن أو ذاك لا يمكن أن يخضع لقواعد مضطردة أو ضوابط محددة) كما يقول الدكتور أحمد علي الفلاحي في كتابه الاغتراب في الشعر العربي.

كما يشهد للشاعرة صدق تجربتها في رحلتها العروضية التي استوعبت تلك البحور دون غيرها ووافقت مدى ما يعتلج من أحاسيس في تجربتها الشعرية والتي حولت فيها عبر بعض القصائد أن تنسج على منوال المشهور منها لبعض الشعراء ومنهم: الحصري القيرواني، وابن زريق، ومن نظمها محاكاة للقيرواني في قصيدته "يا ليل الصب" من المتدارك، قولها:​

حولي للشعرِ روافدهُ.......ماكانَ الريحُ لتبعدهُ

بشغافِ القلبِ أواصرهُ.... وبكفّ الروحِ أهدهدهُ

أرجُ الجوريِّ فصاحتهُ......وصداهُ النبضُ يردد​

ثم تنسج الشاعرة على منوال قصيدة ابن زريق من بحر البسيط : "لا تعذليه فأنّ العذلَ يولِعَهُ"، ومنها تلك الأبيات:

طالَ الفراقُ ورقّتْ فيّ أدمعهُ ...... وأنحلَ القلبَ في البأسا تلوّعهُ

وأجّلَ الحُلمَ والأجفانُ تحفظهُ ... وفي الفؤادِ حبيبُ القلبِ مضجعهُ

هي الليالي زادت في تلوعنا ..... وظلمة الليلِ ليس البدرَ تُرجعهُ​

تعالج الشاعرة من خلال مواضيع ديوانها تلك الموضوعات التي لا يخلُ منها ديوان، ومنها: الموضوعات الوجدانيَّة، والسِّياسيَّة، والاجتماعيَّة، والوطنيَّة، وزاد عليها موضوع قل أن نجده الآن في أكثر الدواوين ألا وهو الفخر الذي لا يصل إلى حد العُجب بنفسها وإنما بما وصلت إليه والزهو بما حققته، وعانته في سبيل تحقيقه وهو ما يخفي وراء تلالها تجربة إنسانية أليمة عانتها وتجرعتها ولعقت جراحاتها وحدها، مثلما خاضتها تحديًا لذاتها ولذوات من حاولوا تعويقها أو تقزيمها، وقد انتظمت تلك المعاني أكثر من قصيدة، فتقول في قصيدة "هذه انا":​

وقالوا: روعةٌ تأتي بياناً.... ومافي مثلهِ ابتسمت رسومُ

وكيف بروعةٍ إذ لا تكونُ.... شهاباً تنجلي عنهُ الغيومُ

وموهبةٌ حبانيها إلهٌ.......... ونعمَ الجودُ ما ارتقتِ العلومُ

وصوت الضادِ لحنٌ من شغافي..... يدندنهُ هوىً وترٌ رخيمُ

متى ماالعقلُ في خُلُقٍ تسامى... تسامت في مناقبهِ الجسومُ

سيذكرني ندى التاريخِ فخراً....وحيث الفخرُ صاحبهُ عظيمُ​

ثم ترد في قصيدة "الجهول" على من حاول أن يتفلسف عليها في جدالً استهانت فيه بمن يروم خداعها وكانت هي المنتصرة ومقدمة الدافع الثاني وراء ارتيادها صهوة القصيدة العمودية، فتقول:

طفقتُ إلى القريضِ أرومُ مجداً... وأحسبني لهامِ المجدِ أرقى​

تحكي الشاعرة في قصيدتها "مقاطع ثائرة" ردود أفعال الذين يجهلون عليها:

لما جرى ليراعتي الموزونُ... حقاً أصاب الجاهلين جنونُ​

ثم تذكر ما عانته حتى وصلت إلى تلك المكانة، وما دفعته من جهود متواليات ولما أسفر القمر معلنًا بضوئه وصولها إلى سدة المجد وردود أفعالهم تجاهها فتقول في نفس القصيدة:

ما راقهم ما قد صنعنا....لم يعلموا كم إذ جهدْنا

سعياً إلى العليا حدونا.... وبسعينا حمداً وصلنا

لما بدا ضوء القمر.... ذاب السنا لنجومها​

تفيض قصائد الديوان في قسمها الوجداني بالمفردات الحانية، والعاطفة المتوقدة، والصور التي تتميز بالطرافة، واللغة التي تتزيا بالابتكار، وهي تعلنها متسلسلة متتالية منسابة بدون اللجوء إلى المباشرة السقيمة أو التراكيب التي يشوبها التصنع والحرفية، وتشهد بهذا قصائدها: "مهد الجفون" و"إليه" و"سواد ليلي" و"حب وحرب" و"لائمي" و"حبيبي" و " مُرٌ نواهُ" و"شبابيك غيابك" و"تكويني" و" لم انته من فلسفة الحب في ديوان يستوعبه القلب" و"أشدوه الحب"..

يتشكل أسلوب الشاعرة روعة محسن الدندن الذي يتبدى فيه ملامحها ويشير إليها وعليها حين تطالع القصائد التي تتعلق بالشام ومرابع الصبا وتجسدها تلك الأبيات من رائعتها "حنين" والتي تقطر صدقًا، والتي تنتظم كلوحة تشكيلية تسرق القارئ إلى عالمها دون مقاومة، وفيه من التراكيب المتقنة التي تعبر عن مرارات الرحيل، وصبابات الشوق، وتصوير متقن لكل تفصيلة في تفصيلات حياتها، ترشرش قطرات الأمل أمام الحالمين بالعودة وإن علقتها بالاحتمال، وأنهتها بمنتهى الآمال المعلق باليقين ولو دقائق لو بقين:​

ولربما يوماً أعود وتحتفي.. فِيّ الخمائلُ حيث أشعلُ شمعتي

وهناك جاراتي وعطر قصائدي.. ونشيدُ مدرستي وخمرة لذتي

يا ليتَ أيامي وعهد شبابنا... يوماً أراهُ ولو لآخرِ لحظةِ

لعل من أهم القصائد التي يتمازج فيها التقليد بالانعتاق منه نحو التكور في شرنقة أسلوبها الجديد تجسدها قصيدة "ابنتي"، وهي من القصائد التي إذا جمعتها مع القصائد الوطنية لصغتها كلها تحت عنوان "الإنسانية"، فمع وثاقة الصلة بين محلية التجربة وخصوصيتها إلا أنها تحمل معالم العمومية والاتساع في المشاعر التي تجمع نساء الأرض حول الغريزة المتجذرة في ثنيات الفؤاد وهي غريزة "الأمومة"، والتي لو قيلت لصارت دلالة على الحالات التي لا تجمع بين الأم وابنتها في ذات المكان لأي سبب كان في أي مجتمع يسكنه ناس، وفي أي جغرافية أرضية من تلك التي تحتويها الخرائط:​

يابنت روحي للزمانِ أراكِ... والورد يعبق من فتيقِ شذاكِ

لولا مسافاتٌ تباعد بيننا... كفيّ ماحملت ندىً إلّاكِ

ياإبنةً من رحمِ روحي أولدت... ودعاي للرحمنِ أن يرعاكِ

قلبٌ بأصدقِ نبضةٍ لمَا جرى..بينَ الضلوعِ الواهياتِ صداكِ

طيفٌ لروحك إذ يداعب مقلتي... وكأنني طيرٌ علا بسماكِ

لاتحزني يوماً ومثلكِ زهرةٌ... والخلقُ من عذبِ النقاءِ رواكِ​

إن القصائد التي يضمها هذا الديوان فيها من الثراء في الموضوعات إلى جانب الثراء في تنوع التجربة الشعورية التي قدمتها صاحبتها بلا فلسفة جوفاء، أو تقمص دور الشاعرة التي تصوغ الحكمة من قلب المواقف والتاريخ، بل هي إنسانة مجدولة بالعفوية أحيانا التي تصل إلى حد الطفولية في الإعلان عن مواقفها دون خوف من حساب، وجعلت من ديوانها مسرحًا لكي تصفي فيه الحساب مع أعداء الوطن، وأعداء نجاحها، والأعداء حتى على المستوى الاجتماعي والوجداني الذين أغضبوها، غير أنها استلهمت من مشوارها في الحياة تجارب إنسانية حية قدمتها من واقع المعاناة مشفوعة بالدليل على أنها إنسان يستحق الفوز بدرع التفوق عند صعود حلبة النصر، كما لم تنسَ أنها أنثى فعبرت في مفردات من الغزل الذي يذوب رقة ووجدًا وانصهارًا واشتياقا للحبيب بصور لم تستعرها إلا من ينابيع فؤادها الواله التياعا نحو لقائه المنتظر، وفي النهاية يأتي هذا الديوان باكورة في مشوار الشاعرة روعة الدندن في القصيدة الخليلية يضاف لديوان الشعر العربي يزيده ولا يأخذ منه، ويضيف إليه كما يضيف لصاحبته وللقارئ العربي.​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى