لا أذكر بالضبط، متى بدأتْ عادة ارتيادي لشارع المتنبي، كلّ يوم جمعة من أيام الأسبوع. كما لا أذكر أيضاً، متى صار صوت الكتبيّ نعيم (أبوربيع) الشطري، طقساً من طقوس هذا المكان الصغير بالمقاييس الفيزيقية، والهائل بالمقاييس العقلية والمعرفية. فكم احتضنتْ أرضه من كتب الغابرين والمعاصرين، في شتّى صنوف المعرفة، من كتب الفلسفة الى كتب الطبخ، ومن كتب الموسيقى والفنون التشكيلية الى كتب الفنون الرياضية. لمْ أرَ ولمْ أسمعْ، أنّ ماركس قد قبض على رقبة آدم سميث بقصد إزهاقه، ولا الفراهيدي قد طارد محمد الماغوط بقصد إحراق ما ينثره من الشعر، ولا متصوفاً بادر الى تهديد التجربيين الأنجليز. ذلك كان يجرى هناك خارج هذا المكان، بين الأتباع! وما أدراك ما خطورة وشراسة الأتباع!!!. كل تلك العقول والقلوب تنبسط على جانبي الشارع، تتجاور وتتحاور تحت أقدام القرّاء!
للقارئ أن يتخيل مدى الهدوء والرتابة التي تلفّ المكان، لكنّ الأمر لم يكن كذلك، فمنذ بدء ازدحام الشارع وحتى تشتت روّاده، كان الصوت الهادر والصدّاح للكتبي ّ(أبي ربيع) يقطع السكون ويبعث الحيوية فيه. لقد اعتاد الرجل أن يملأ المكان بصوته، بمقتبسات وأقوال مأثورة عن الثقافة والقراءة، ومن لزومياته الفارقة كان إنشاده لبيت المتنبي الشهير: (أعزّ مكان في الدنى سرج سابح...وخير جليس في الزمان كتاب) بين ساعة وأخرى.
ما أكثر ما يصادف المرء في هذا الشارع من كلّ غريب ومريب! ومن ذلك ما حدث معي يوماً، حين نكزني رجل وأنا أرنو الى الأرض، متمعنّاً في أكوام الكتب التي تتكدس عليه، ظننته سائلاً أو مستفسراً. لمْ يكن كذلك، بادرني بحزم وأمر: قلْ لهذا الرجل القصير البدين، أنْ يستبدل بيت الشعر الذي ينشده الى: (أعزّ مكان في الدنى سرج (فانتوم)... وخير جليس في الزمان (حاسوب)!). استفهمت منه عمن يكون، فنظر إليَّ بغضب وقال: (أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي...وأسمعتُ كلماتي من به صممُ). بالطبع لمْ أعِرْ قوله إهتماماً، فلطالما حفل مكان العجائب والغرائب هذا بالمدّعين والمنتحلين، وكأنّه قرأ ما جال في ذهني من خفّة وعدم مبالاة، فرمقني بنظرة حارقة، واسترسل بالحديث: أنزلُ عصركم لثلاثة أيام فأستوعب مستجدّاته ومتغيّراته، كما تحبون التشدّق بألفاظكم المستحدثة، ولكنني أرى حالكم فأشفق على عقولكم، ما تزالون تردّدون كالببغاوات أبيات قصائدي وهي قد قيلت قبل أكثر من ألف عام! قيلت في عصر آخر وزمان مختلف. ما زلتم تردّدون ببلاهة! (أغاية الدين أن تحفّوا شواربكم...يا أمة ضحكت من جهلها الأمم)، تدّعون أنّكم في طريق النهضة والصحوة، ولكنكم غارقون في الكسل والتقهقر، فلا تنشدوا عنّي بعد اليوم:( أغاية الدين أن تحفّوا شواربكم.....يا أمة ضحكت من جهلها الأمم) بل انشدوا:(أغاية الدين أن تشّلوا مواهبكم...يا أمة غرقت في نفطها الهمم!).
أشاح بوجهه عني غاضباً ومضى، وصوت الكُتِبيّ (أبي ربيع) يصدح من جديد: (أعزّ مكان في الدنى سرج سابح...وخير جليس في الزمان كتاب)... والكتب تتزايد على الأرض، والقرّاء يتناقصون، إلاّ طائفة من ذوي الشعور البيض! الذين أحب أن أسمّيهم ب(المنقرضين) أو هم في طور الأنقراض. قبل شهور رحل الشطري وانضمّ الى ركب المنقرضين! وغاب صوته عن فضاء شارع المتنبي، وما عاد أحد يسمع بعد بيت شعر المتنبي الشهير. جلست الى حاسوبي، أنقر لوحة المفاتيح منتظرا من يغلق نوافذ شاشتي، ويطفئ حاسوبي!!!
_______________
نعيم (أبوربيع) الشطري، توفي في 24/6/2012 . وفي ثمانينيات القرن الماضي استقر في مكتبة صغيرة في شارع المتنبي، وابتكر أول مزاد فريد من نوعه لبيع الكتب. وأشتهر بترديد القصائد بصوته الجهوري المحبب. وينقل الأستاذ علي الخاقاني عنه:
"بدأت علاقتي بشارع المتنبي منذ اواخر عام 1963، حين كنت اجيء اليه لشراء الكتب وارسالها الى مدينة الشطرة والمحافظات، وأذكر اننا كنا نحملها في عربات من ذوات العجلات الثلاث وندفعها الى حيث مرآب السيارات لننقلها، وقد اخترت هذه المهنة، لأن هوايتي منذ الصغر القراءة التي ابتلاني الله بها، وصار الكتاب كل شيء بالنسبة لي، وبعدها أسست أول مكتبة في (الشطرة) في شهر ايلول عام 1958، ثم سجنت لمدة سنتين، وبعد خروجي من السجن جئت الى بغداد لأبدأ من هذا الشارع".
وعن مزاد الكتب الذي أحياه وكان أحد مظاهر الشارع، قال : "أود ان أقول أولا أنني أول من أوجد بيع الكتب على الرصيف بما يسم (البسطية) وكنت أنثر الكتب في (عربانة) وأقف على الرصيف ولم يكن هذا معروفا من قبل، ولاقت هذه الظاهرة حضورا كبيرا، أما المزاد فكان قبل عشرين عاما، أي في أواخر الثمانينيات بعد أن حصلت على موافقة من الأمن العامة بعد أن أخذت وقتا طويلا، وقد شجعني على إقامة المزاد العلامة المرحوم حسين علي محفوظ والشهيد عزيز السيد جاسم وثامر عبد الحسن العامري والصحفي عادل العرداوي، فهم ساعدوني في الحصول على الإجازة، وجاءت فكرة المزاد من كتاب عنوانه (تأريخ أداب اللغة العربية) لـ (جرجي زيدان) أنه كان يستعين بالأب انستاس الكرملي في معرفة المكتبات الشخصية في بغداد والمحافظات، ويقول في الجزء الرابع منه أن هناك في مدينة النجف في مرحلة الاربعينيات يقام كل يوم خميس وجمعة مزاد للكتب القديمة والمخطوطات، وفي هذا المزاد كان الكتاب الجيد يباع بأبخس الاثمان كي يشتريه اصحاب المزاد بينما يباع الكتاب العادي بأغلى الاثمان كي يربحوا من بيعه، من هنا.. جاءتني الفكرة لإقامة المزاد في كل يوم جمعة، وبعد أن حصلت على الإجازة، ولي الشرف أن يكون أول مزاد للكتب في شارع المتنبي باسمي، وحينها أتيت بأولاد أخي وفرشت لهم الكتب على الأرض ورحت أنادي لبيعها، ومنها انتشرت ظاهرة بيع الكتب على شكل (بسطيات) فيما كنت الوحيد أقوم بالمزاد"
وعندما تخفت الحركة في السوق ويقل البيع يردد الشطري دارميته الشهيرة :
كلمن يگلك زين گلّه انت چذابْ
الشطري صار أسبوع ما بايع كتابْ
للقارئ أن يتخيل مدى الهدوء والرتابة التي تلفّ المكان، لكنّ الأمر لم يكن كذلك، فمنذ بدء ازدحام الشارع وحتى تشتت روّاده، كان الصوت الهادر والصدّاح للكتبي ّ(أبي ربيع) يقطع السكون ويبعث الحيوية فيه. لقد اعتاد الرجل أن يملأ المكان بصوته، بمقتبسات وأقوال مأثورة عن الثقافة والقراءة، ومن لزومياته الفارقة كان إنشاده لبيت المتنبي الشهير: (أعزّ مكان في الدنى سرج سابح...وخير جليس في الزمان كتاب) بين ساعة وأخرى.
ما أكثر ما يصادف المرء في هذا الشارع من كلّ غريب ومريب! ومن ذلك ما حدث معي يوماً، حين نكزني رجل وأنا أرنو الى الأرض، متمعنّاً في أكوام الكتب التي تتكدس عليه، ظننته سائلاً أو مستفسراً. لمْ يكن كذلك، بادرني بحزم وأمر: قلْ لهذا الرجل القصير البدين، أنْ يستبدل بيت الشعر الذي ينشده الى: (أعزّ مكان في الدنى سرج (فانتوم)... وخير جليس في الزمان (حاسوب)!). استفهمت منه عمن يكون، فنظر إليَّ بغضب وقال: (أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي...وأسمعتُ كلماتي من به صممُ). بالطبع لمْ أعِرْ قوله إهتماماً، فلطالما حفل مكان العجائب والغرائب هذا بالمدّعين والمنتحلين، وكأنّه قرأ ما جال في ذهني من خفّة وعدم مبالاة، فرمقني بنظرة حارقة، واسترسل بالحديث: أنزلُ عصركم لثلاثة أيام فأستوعب مستجدّاته ومتغيّراته، كما تحبون التشدّق بألفاظكم المستحدثة، ولكنني أرى حالكم فأشفق على عقولكم، ما تزالون تردّدون كالببغاوات أبيات قصائدي وهي قد قيلت قبل أكثر من ألف عام! قيلت في عصر آخر وزمان مختلف. ما زلتم تردّدون ببلاهة! (أغاية الدين أن تحفّوا شواربكم...يا أمة ضحكت من جهلها الأمم)، تدّعون أنّكم في طريق النهضة والصحوة، ولكنكم غارقون في الكسل والتقهقر، فلا تنشدوا عنّي بعد اليوم:( أغاية الدين أن تحفّوا شواربكم.....يا أمة ضحكت من جهلها الأمم) بل انشدوا:(أغاية الدين أن تشّلوا مواهبكم...يا أمة غرقت في نفطها الهمم!).
أشاح بوجهه عني غاضباً ومضى، وصوت الكُتِبيّ (أبي ربيع) يصدح من جديد: (أعزّ مكان في الدنى سرج سابح...وخير جليس في الزمان كتاب)... والكتب تتزايد على الأرض، والقرّاء يتناقصون، إلاّ طائفة من ذوي الشعور البيض! الذين أحب أن أسمّيهم ب(المنقرضين) أو هم في طور الأنقراض. قبل شهور رحل الشطري وانضمّ الى ركب المنقرضين! وغاب صوته عن فضاء شارع المتنبي، وما عاد أحد يسمع بعد بيت شعر المتنبي الشهير. جلست الى حاسوبي، أنقر لوحة المفاتيح منتظرا من يغلق نوافذ شاشتي، ويطفئ حاسوبي!!!
_______________
نعيم (أبوربيع) الشطري، توفي في 24/6/2012 . وفي ثمانينيات القرن الماضي استقر في مكتبة صغيرة في شارع المتنبي، وابتكر أول مزاد فريد من نوعه لبيع الكتب. وأشتهر بترديد القصائد بصوته الجهوري المحبب. وينقل الأستاذ علي الخاقاني عنه:
"بدأت علاقتي بشارع المتنبي منذ اواخر عام 1963، حين كنت اجيء اليه لشراء الكتب وارسالها الى مدينة الشطرة والمحافظات، وأذكر اننا كنا نحملها في عربات من ذوات العجلات الثلاث وندفعها الى حيث مرآب السيارات لننقلها، وقد اخترت هذه المهنة، لأن هوايتي منذ الصغر القراءة التي ابتلاني الله بها، وصار الكتاب كل شيء بالنسبة لي، وبعدها أسست أول مكتبة في (الشطرة) في شهر ايلول عام 1958، ثم سجنت لمدة سنتين، وبعد خروجي من السجن جئت الى بغداد لأبدأ من هذا الشارع".
وعن مزاد الكتب الذي أحياه وكان أحد مظاهر الشارع، قال : "أود ان أقول أولا أنني أول من أوجد بيع الكتب على الرصيف بما يسم (البسطية) وكنت أنثر الكتب في (عربانة) وأقف على الرصيف ولم يكن هذا معروفا من قبل، ولاقت هذه الظاهرة حضورا كبيرا، أما المزاد فكان قبل عشرين عاما، أي في أواخر الثمانينيات بعد أن حصلت على موافقة من الأمن العامة بعد أن أخذت وقتا طويلا، وقد شجعني على إقامة المزاد العلامة المرحوم حسين علي محفوظ والشهيد عزيز السيد جاسم وثامر عبد الحسن العامري والصحفي عادل العرداوي، فهم ساعدوني في الحصول على الإجازة، وجاءت فكرة المزاد من كتاب عنوانه (تأريخ أداب اللغة العربية) لـ (جرجي زيدان) أنه كان يستعين بالأب انستاس الكرملي في معرفة المكتبات الشخصية في بغداد والمحافظات، ويقول في الجزء الرابع منه أن هناك في مدينة النجف في مرحلة الاربعينيات يقام كل يوم خميس وجمعة مزاد للكتب القديمة والمخطوطات، وفي هذا المزاد كان الكتاب الجيد يباع بأبخس الاثمان كي يشتريه اصحاب المزاد بينما يباع الكتاب العادي بأغلى الاثمان كي يربحوا من بيعه، من هنا.. جاءتني الفكرة لإقامة المزاد في كل يوم جمعة، وبعد أن حصلت على الإجازة، ولي الشرف أن يكون أول مزاد للكتب في شارع المتنبي باسمي، وحينها أتيت بأولاد أخي وفرشت لهم الكتب على الأرض ورحت أنادي لبيعها، ومنها انتشرت ظاهرة بيع الكتب على شكل (بسطيات) فيما كنت الوحيد أقوم بالمزاد"
وعندما تخفت الحركة في السوق ويقل البيع يردد الشطري دارميته الشهيرة :
كلمن يگلك زين گلّه انت چذابْ
الشطري صار أسبوع ما بايع كتابْ