طرقات مرصوفة بالأنغام

روح الإنسان تحمل بداخلها عوالماً كثيرة، لا تكشفها الأجهزة الطبية ولا التقنيات الحديثة، فكيف لأحدنا أن يعتقد بسذاجة فهمه للحياة وهو يستمر في اكتشاف نفسه حتى أنفاسه الأخيرة، وكيف لنظرياتٍ محدودة أن تفهم ما هو أبعد من الجسد، وأرق من النسيم، وأخف من الريشة، وأسرع من لمح البصر، كيف لها أن تسمع نبض الكلمات الغافية في صدورنا داخل صندوقٍٍ مغلقٍ بإحكام يتوارى خلف طبقات ٍ من الجلد والعظم ويخفق في صمتٍ شديد، كيف للناس أن تعرف معنى العلم دون أن تموت مشاعرها غرقاً في بحرٍ مادي؟ وكيف للعاشق أن يحتضن عقله الذي تناساه بشكل ٍ كلي؟ كيف له أن ينسى الماضي وهو لا زال يعيشه ؟ أو كيف له أن يحلم بغدٍ مع أنه قد لا يريده؟ كيف يشتهي طبقاً آخر وطبقه لا زال ممتلئاً ؟ كيف يحب شخصاً بعيداً وهو في أحضان حبيبه الذي اختاره؟ وكيف يضحك في حضرة الموت بينما يبكي في ذروة الفرح؟

كنت أفك رموزي بنفسي، فلم أشعر يوماً بالإنتماء للأماكن المرفهة والقصور الفخمة ولم أتمناها أبداً، بل كنت خائفاً من تملكها لي بينما أتوهم أنني أملكها، فعشت عمري باحثاً عن الحب والوطن والحقيقة والحرية البعيدة تماماً عن الشعارات والنظريات والعبارات المستهلكة، والأفكار الجاهزة التي لا تختلف عن المعلبات والوجبات السريعة المطبوخة مسبقاً ولا تحتاج سوى التسخين، وتعلمت الكثير من الطرقات وفي الطرقات وعلى الطرقات وأزعم أن أحاسيسي مثل ثروتي مبعثرة فيها، تنام تحت سيارةٍ أو جسر، تختبأ في منزل ٍ مهجور، تتلفت نحو أصوات الباعة الجائلين والقطط الكسولة وشجارات سائقي الحافلات، تستمع إلى نشرات الأخبار الكئيبة المتقطعة والأغاني الرديئة التي تضج بها الإذاعات، تمسح زخات العرق عن جبينها وتحتمي من أشعة الشمس الحارقة بالمشي في الظل، فترى الأطفال بين اللعب والتسول، وتلحظ النساء الواقفات على شرفات بيوتهن بضجر ينتظرن عودة رجلٍ ما، مع أنهن يعرفن بأن رجوعهم لن يغير من وحدتهن شيئاً، وتلمح رجالاً كثيرين يحدقون في اللاشيء ويتحدثون مع أنفسهم، ويشعلون سجائرهم بينما يطفئون شغفهم نحو الحياة، فلا تعنيهم هزةٌ أرضية أو أغنيةٌ جديدة أو نكتةٌ سخيفة قدر ما يعنيهم ارتفاع أسعار الخضروات وأقساط المدارس والفواتير المتراكمة منذ أشهر..

هذه الطرقات التي شعرت فيها بكل شيء، وأحببتها وكرهتها وبكيت فيها ووجدت أفكاري على جنباتها، ودفعتني لأحاسيس متناقضة بين الألفة والوحشة، واليأس والأمل، والحميمية والغربة برغم أنني أعرف أنها تعرفني لكن لا إثبات يؤكد ذلك هي ما وطد علاقتي بذاتي وحديثي مع نفسي، ومكنني من فهم تلاقي عدة أرواحٍ داخل جسدي، وعزز تحرري من كل القوالب، وجمع بين الماضي والحاضر، وبين القريب والبعيد، ومزج الأوطان فصهرها في أعماقي وانتميت إلى الصادق منها، وحفظت رائحتها وموسيقاها وأدركت أن للطرقات معزوفتها ونوتتها، وأنها مرصوفة بالأنغام والذكريات والدموع والأحلام، وأنها وفيةٌ لمن يحبها بتجرد، بثباتٍ دون تردد ولا يخجل من لحظات الشجن والحنين في أحضانها لأي سببٍ كان، ويعرف أنها وحدها من رآه عارياً فقبلته كما هو، بينما اشترط البشر الأقنعة لقبوله..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى