رياض بوبسيط - النزعة السياسية في شعر "من مذكرات حاكم عربي في طريق التوبة" لصلاح الدين باوية، بين تداولية السخرية والتهكم واستدعاء الرموز التاريخية

تسيدت النزعة السياسية مشهد التوجهات الفكرية والأدبية التي توجه إليها شعرنا العربي المعاصر، حيث عكست في مضمون بعض قصائد المعاصرين من أمثال محمود درويش، ونزار قباني، ومظفر النواب، ومحمد الصالح باوية...، إهتمام هؤلاء الشعراء وإحاطتهم بالأوضاع السياسية التي تعيشها أوطانهم بصفة خاصة، والأمة العربية بصفة عامة. فكتبوا قصائدهم في هذا السياق الذي كان يتسع ويتنوع، بين من يكتب شعرا تحرريا، وبين من يكتب عن سياسة الدولة والأوطان، وبين من يهاجم حكام العرب وقادة الأمة، وبين هذا وذاك، عرف أدبنا المعاصر ثورة شعرية منقطعة النظير لتحرير الوعي العربي سياسياً، ووضعه أمام الأمر الواقع. النزعة السياسة لم تتوقف عند هؤلاء بل استمرت واتسعت إلى أكبر عدد ممكن من الشعراء، وفي الجزائر تحديداً يمكن التمثيل لذلك بصلاح الدين باوية، الذي عرف ديوانه من مذكرات حاكم عربي في طريق التوبة، نزعة سياسية من نوع آخر، لتتميز قصائده عن غيرها من القصائد ذات التوجه السياسي. فمن أي منظور تناول صلاح الدين باوية، المشهد السياسي للأمة العربية؟

معالجة المشهد السياسي للأمة العربية في ديوان مذكرات حاكم عربي، عرفت نوعاً من التجديد والتحديث من جهة، وخروجا عن عرف القصائد السياسية العربية التي كانت تهجو الحكام وتذم تقاعسهم بطريقة مباشرة من جهة أخرى. ذلك أن هذه المجموعة الشعرية هي الأخرى ركزت على ما آل إليه حال الحكام العرب ودورهم الكبير في آلام الأمة ومواجعها، ولكنها لم تخاطبهم بطريقة مباشرة كما كان يفعل نزار قباني وغيره الكثير من شعراءنا المعاصرين، بل إنها اعتمدت على تقنية أخرى، وهي المتمثلة في التعبير عن ذات الحاكم العربي، كنوع من التعبير عن الأنا، حيث كانت كل القصائد تتحدث عن الحاكم العربي بضمير المتكلم أنا، وهو أسلوب تداولي يهدف إلى مخاطبة العقل العربي بالإعتماد على متضمنات القول، حتى يفهم المتلقي أكثر مما يقال، فالمتلقي وهو يقرأ هذه القصائد طبعاً سيفهم أموراً كثيرة يقصدها الشاعر ويريد الإحالة إليها بعيداً عن المباشرة وإنما بالإعتماد على التداولية، لإضفاء الجماليات الفنية والرمزية لمعنى القصائد.

1/ تداولية السخرية والتهكم:
النص السياسي في هذه المجموعة الشعرية، ينطق بضمير المتكلم الذي يعود على الحاكم العربي، هذا الحديث كان صريحاً واعترافا بسياسة الحاكم العربي ومعه البقية في تسيير الأوطان ومعالجة قضايا الأمة والشعب، هذا التعبير أيضاً لم يكن تقريريا مباشراً خالياً من الجماليات، بل كان في منتهى شعريته وأسسه الجمالية والبلاغية، والدلالية بصفة خاصة، إذ أن هذه النصوص اعتمدت في معظمها على تقنية التضمين التداولي، الذي يقوم على قول كلام مضمر هو المراد وهو المقصود من كل ذلك، فهذه القصائد لما نستنطقها تداوليا نجد أنها تهاجم قادة الأمة العربية بلسان أحد قادتها، وهو نوع من السخرية التداولية والتهكم الأدبي المباح، والذي وظف في هذه النصوص بأسلوب مميز، منع النص الشعري من التوغل في الخطابات السياسية شديدة اللهجة.
إن نصوص هذا الديوان، لم تأتي لتصور لنا الحاكم العربي وتفتخر بإنجازاته التي لاتوجد، وإنما جاءت ساخرة منه، متهكمة من سياسته الظالمة، وهذا ما أراده الشاعر من جهة، وما تؤكده العديد من المقاطع الشعرية من جهة أخرى.
يقول الشاعر:

فمن صِغَرِي
وَرثتُ الحُكمَ
من جدِّ إلى جدِّ
ويَبقى الحكمُ
مِن قَبلِي
إلى ابنِي دُونمَا كدَّ
ومن بَعدِي
وبعدَ البَعدِ
من بَعدِي
إلى أرقى سلالاتي
بِلا جُهدِ
يتضمن هذا المقطع في باطن قوله، تهكما على الحاكم العربي الذي لا يهتم لأمر شعبه، فشغله الشاغل الخلود في منصبه إلى أن يورثه لأبنائه وسلالاته، وهذه هي مقاصد النص التي يريدها صاحبها، وفهمها القارئ. وقد تكررت هذه المقاصد في مقاطع كثيرة كانت في مجملها ذات بعد تداولي جميل، منها:
أنا الأقوى
ولَا أحدٌ يُماثِلُني
يُشَاركني لِمَا أهوى
فكُّ الشعب يسألني
ويَرجُونِي
طعامًا كان امْ حَلْوَى
شرابا كان أَم مأْوى
أدامَ اللَّهُ مملكتي
وسلطنتي
أدام سَعَادتِي القُصوى

يقول أيضاً في بداية المقطع السادس عشر:

سياستُنا منَ الأمسِ
بأن أَبقى على الكُرسي
يلذُّ إليَّ يا نفسي
بأن أبقى على الكُرسِي
مدَى عُمرِي
على الكُرسِي
ولا اهتمُ بالدُّنيَا... بمن يُبحِرُ .... أو يُرسِي

تستمر هذه المجموعة الشعرية في فضح الحاكم العربي مستعملة ضمير المتكلم أنا، كما تستمر أيضاً في السخرية من غاياته وأطماعه، فتحدثت عن الصلة الوطيدة بين الحكم العربي والنفط، وهي بذلك تقصد اهتمامهم بمداخيل النفط، ونهبهم لعائداته دون التفكير في الشعوب العربية المغلوبة على أمرها، يقول:

عَبدتُ النَّفطَ أعوامًا وأعواما
أُكرِّرُهُ...
وأصنعُ منهُ أحلامًا وأحلامًا
أُصَدِّرُهُ..
هيَ الصَّفقاتُ مُربحةٌ.
لاجلِ النَّفطِ..
قد صلّيتُ أيامًا وأيامَا
فلولا النفط ما كان لنا شأنٌ
ولولا النفط لم نَرفَع هُنَا هامَا
وكنَّا آهِ أقزَامَا
ولولاه هُنَا الْإِنسَانُ
مَا أَصْبَحَ إنسانا

إن القارئ لهذا المقطع يفهم في معانيه الخفية أنه سخرية من الواقع الاقتصادي للأمة العربية الذي ظل في الحضيض، وذلك لما يتعرض له من سرقة وانتهاك رغم وجود ثروة طاقوية كالنفط.

يتسع السياق السياسي ويتنوع مرة أخرى ليشمل هذه المرة طباع الحكام وسلوكاتهم الذميمة، وهي التي وصفتها هذه النصوص وصفا دقيقاً، قاصدة السخرية من هذه الطباع التي لا يمتلكها إلا حاكم عربي، وفي ذلك يقول الشاعر:

خِطَابَاتي مِنَ الكذبِ
وأفعالي مِنَ الكَذِبِ
فكَمْ اسرفتُ في التنميق
والتزويرِ في خُطبِي
أقولُ فداؤُكُمْ رُوحِي
ومَالِي فديَةَ العَرََبِ
سأجعَلُكُم سلاطيناً
وفِي الأسمى مِنَ الرُّتَبِ
سأجعل كلَّ هذا الشَّعبِ
في النعماء..
في عَيشٍ من العَجَبِ


لقد أبدعت هنا هذه المقاطع في توظيف السخرية كنوع من التنبيه، تنبيه بأن الشعب العربي أصبح يعي ما يدور في قصور السلطة، وما يحاول الحاكم العربي فعله دوما اتجاه الشعب، وفي هذا المقطع الذي سيلي، تهكم على الحكومات التي تنفي شبابها وتسجن الواعي والفنان والمثقف...، يقول الشاعر:

أُحاوِلُ جاهدًا دومًا
لهذا الشَّعبِ..
أنْ أُنسيه ما يَذكُرْ
أجرُّ جميعَ من قرؤُوا
ومن درسوا
ومن عَلمُوا.. ومن فَهمُوا
إلى المَخْفَر
إلى الزنزانة الأكبَرْ
وأُرهِبُهم بحدِّ السِّيف والخِنجَر
فإنِّي شَرَّ ما أخشاه مِن شعبي
إذا فكَّر
ويقول في مقطع آخر:

قَتَلَتُ قَتَلَتُ آلافاً..
وآلافًا من البَشَر
فكم طفلاً قتلتُ أنا
وكم أُنثى ذبحت أنا
وكَم شيخاً بلا بَصَر
وأختارُ ...
أنا القتلى على مَهلٍ
بلا عَجَلٍ
بذوقٍ مُلفتِ النظرْ



وفي مقاطع أخرى كان التهكم مقتصرا على تفاخر حكام العرب بما يملكون من مال وجاه، وما منحته إياهم المناصب من امتيازات، وذلك تحديداً في المقطع السابع، حين يقول صلاح الدين باوية:

أنا القَيصرْ
ولي قَصرٌ...
منَ الياقوتِ والمَرمَرْ
وآلافٌ من العَسكَر
ولي ما شَئتُ في الدُّنيا
من الأشياءِ.. لا أدكُرْ
فلي الجنَّاتُ من ذهَبٍ
ومن جَوهَرْ
ولي النِّسوانُ.. والغلمانُ
والخُمرُ الذي يُعصَرْ

إن الإعتماد على السخرية والتهكم كبعد تداولي يفهم من خلاله قصدية النصوص ومراميها، زاد من جمالية النصوص دلاليا وتداوليا من جهة، لأن الدلالة هنا تعتمد على حدسية المتلقي وتدواليته لمعنى تلك السخرية، وزاد من جهة أخرى الصدق الفني لها لأنها كانت صادقة في تصوير الحكام العرب. وفي مقابل ذلك فإن السخرية لم تقتصر على الحاكم العربي فقط، بل شملت أيضًا الشعب العربي المتكاسل والمتغافل، فكانت القصائد أيضاً تهكما من حاله، وسخرية على تأييده الدائم لحكام أخدوا حقه، وبطشوا به، ومن ذلك مقاطع كثيرة، كان المتحدث فيها دوما الحاكم العربي:

فَلَمْ أصنَع لَهُم فَضلَا
ولَم أَسمَع لَهُم قَولَا
هُمْ يدعونَ لي
بالنَصرِ والتأييدِ للدَّولة
ومنذُ حَكمتُهُم طِفلاَ
فلا أحدٌ يُجيبُب: لا
إذا قرَّرتُ أو كَلاَّ

ويقول أيضاً:

يروي عَنْ بُطولاتِي
ويَغفرُ كلَّ أخطائِي
ويستُرُ كلَّ عوراتِي
يُصَّفِقُ دائمًا.. أبدا
وتلعنهُ... خِطاباتي
وما ينفكُّ
يعْبُدُني
يُسبِّحُ لي
ولا يعصي قراراتي

هذه المقاطع هي الأخرى تتضمن معنى التهكم والسخرية ، إذ يتضح جلياً أنها تسخر من الشعوب العربية التي تعرف بركوب الأمواج والتصفيق لحكامها، وطاعتهم والولاء لهم رغم بطشهم وسوءهم، وحمل ذلك على لسان الحاكم العربي كان له دلالة خاصة.


2/ استدعاء الرموز التاريخية:

حتى تبلغ القصدية ذروتها الدلالية والبلاغية، وحتى تكون النصوص أكثر عمقا وايحاء، عمد الشاعر في أغلب نصوصه إلى استدعاء مجموعة من الرموز التاريخية التي لها علاقة بالحكم السياسي في تاريخ العرب والمسلمين، خاصة أولئك الذين عرفوا بالعدل والتضحية والجهاد في سبيل الشعوب العربية والإسلامية، هذا الاستدعاء لم يكن من باب التناص أو التقليد، بل كان من باب دعم دلالة السخرية والتهكم في كل المقاطع، فعندما يتحدث الحاكم العربي الذي يعتبر المتحدث الرئيس في هذه النصوص عن شخصية تاريخية معروفة، فهو إنما يسخر من نفسه لأنه لم يكن مثل تلك الشخصية الرمز، ولا يستطيع أن يكون، وهذا ما أعطى للنصوص أبعادا بلاغية أخرى تجاوزت السطور الشعرية إلى معانيها الضمنية.
يقول:
جماهيري تُسمينِي
فتَى التمثيلِ
وتَدعُونِي:
أنا المَهدِيُ للعربِ
وأشعُرُ دائِمًا أنِّي
مُسيلمةَ أنا أدعَى
وعنترةٌ منَ الخشبِ

سخرية الحاكم العربي من ذاته كانت لها أبعاد تاريخية عندما شبه نفسه بمسيلمة الكذاب حينما يكذب على شعبه، وبالمهدي المنتظر بالنسبة لشعبه الذي لا يجيد سوى التصفيق، وبعنترة الخشبي لأنه لا يملك ما يملكه عنترة من شجاعة، وهو ما أعطى للسخرية في هذا المقطع بعدا تداوليا وقصدية يفهم من خلالها القارئ أن المتكلم في هذا النص يعترف بأنه أسوء حاكم مر عبر تاريخ الأمة العربية والإسلامية، وأنه رمز للكذب والنفاق، وذلك ما لخصه رمز مسيلمة.
يقول في المقطع الثالث والعشرين:

أضَعنَاها فِلسطِينَا
أَضعنَاهَا أضَعنَا اللَّه.. والإيمانَ.. والدِّينَا
سَعَينَا كي نُحرِّرَها
فلم تَفلَحْ مَسَاعينَا
وكم خابَتْ أَمانِينَا
صلاح الدَّينِ خُنَّاهُ
ودُسنَا عن مبادِينَا
ولم نقرأ من التاريخ
ولم نَحفَل بماضينا

صلاح الدين رمز تاريخي دائم الوجود في القصيدة العربية، واستدعاءه هنا في هذا المقطع تحديداً تقزيم لجميع الحكام العرب، وتهكم عليهم من خيانته وعدم الحفاظ على أمانته (فلسطين)، فهذا الرمز خدم دلالة ضمنية يريدها النص، وهي تنكر حكام العرب اليوم، لماضيهم وجهلهم بتاريخهم الكبير.

يقول في مقطع آخر، موظفا نفس الرمز:

لقد بالُوا على القُدسِ
لقد بالُوا على القُدسِ
وسَامُوا حُرمة الإسلَامِ
والإيمانِ..
بالرَّجسِ
وداسوا يا صلاح الدِّينِ
فوق جلالة الرمسِ
وقالوا:
نحنُ قد عدنا
لنبني دولَةَ الامْسِ

يسخر المقطع هنا مرة أخرى من الحكام العرب الذين باعوا القدس، لكنهم يدعون بناء دولة الأمس، ويقصد بدولة الأمس، دولة صلاح الدين الأيوبي.

في النص أيضاً رموز من التاريخ الديني، والتي استدعاها النص لرؤاه الدلالية ووالبلاغية التي يبتغيها، فيقول:
هو الحبُّ
هو الحبُّ
كما أَوصَى به عِيسَى
كَمَا أوصَى به مُوسَى
كَمَا أوصى به الرَّب

هذا المقطع كان اعترافا بتأنيب الضمير ورغبة الحاكم العربي في التوبة وحب شعبه، ولكن ذلك لا يمكن له أن يكون، لأنه قال أيضا:

محالٌ أن أَتُوبَ أنا
عَنِ التَّنكيلِ بالشَّعبِ
عنِ التجويع...
والتعذِيبِ
والتَّرهِيبِ
والرُّعبِ
محالٌ أن أكونَ أنا
صديقُ الحب والشَّعبِ

تستطيع القول أن هذه المجموعة الشعرية المتحدثة بلسان الحاكم العربي، قد وضعت النقاط على الحروف فيما يخص واقع الحكم وطبيعة النظام الذي يحكم الأمة العربية، فقامت بتصوير ذلك ووصفه، موفقة في ذلك، فكانت الصورة السياسية هنا من منظور جديد ومغاير لما عهدناه، منظور غلبت عليه ثنائية السخرية والتهكم من ذات المخاطب (الحاكم العربي)،والمخاطب (الشعب) على حد سواء، مستدعية رموزا تاريخية وفق رؤية شعرية تداولية جميلة، يتداولها القارئ على أن هذا الديوان يسخر من النظام العربي بصفة عامة على لسانات أحد الحكام ، وهذا ما جعل الشعر السياسي عند صلاح الدين باوية، شعرا حقق لنفسه علامة فارقة، في الشعر السياسي العربي المعاصر.




رياض.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى