لا يقتصر فن تراجم الأشخاص على توفير معلومات أولية؛ كالمولد والنشأة والوفاة عن صورة الشخص المترجم له، لأن التراجم الحية الباقية هي التي تؤثر في العقول أولًا قبل الإلمام بمجموعة من الإفادات التي يسهل جمعها، تلك التراجم التي تعمل على إيجاد صور ملهمة لغيرها في شتى التخصصات، ولن يكون الأمر على ما وصفت إلا من خلال التوغل في قراءة الشخصيات تحليلًا وقراءة واعية، والتقييم لسلوك الأفراد وأفكارهم ودوافعهم ومشاعرهم.
ومما لا شك فيه أن هذه الحياة التي نحياها مليئة بنماذج مشهورة من الرجال والنساء لو أتيح لكاتب أن يسلط الضوء عليها لأفاد كثيراً في شتى الاتجاهات، وهذه التراجم في حقيقتها هي حلقة متواصلة بين الأجيال، ينقلها جيل عن جيل، وتعكس التأثرات النفسية والانطباعات الوجدانية التي بدورها ترجع إلى حيوات رجال مختلفين عن غيرهم في عصور متعددة.
حين كتبت ترجمة عن العالم الكبير "ربيع أحمد الرملاوي" هممت أن أكتب لولا طول المقال: "لستُ هنا في سبيل التعرض لمراحل أستاذنا "ربيع الرملاوي" الدراسية، ولا التحدث بالتفصيل عن مشايخه وتلاميذه وتقييداته على كتبه؛ لأني في حقيقة الأمر أجهل وقائعها، وكان أمامي طريقان إما أن أسكت عن هذا العالم الكبير، فينسى حاله على مر الأيام، وإما أن أراسل من يعرفه عن قرب ليزودني بمعلومات عن شيخنا تكون مع ما أكتبه زاداً لعارفيه، وبالفعل راسلت بعض عارفيه ممن هم قريبون منه؛ طالباً أن يزودوني بتفاصيل حياته، لكن كالعادة في هذا الباب لم يتفاعل معي أحدٌ، وأنا أحسن الظن بمن راسلتهم، فالتراجم أصبحت عزيزة والحصول على معلومات للمترجم له مما يصعب، ومهما وصفت للقارئ الجهد الذي يبذله كاتب مثل هذه التراجم فلن يصدقه أحدٌ، وإما أن أختار الخيار الأول فأسكت عمن عرفتهم أو قابلتهم في مراحل حياتي العلمية والعملية تحت ستار عدم وجود معلومات كافية عنهم، وهو ما أعده عدم وفاء لهؤلاء الرجال العظماء، فهناك شخصيات عظيمة لا ينبغي أن تضيع ولا تنسى من ذاكرة التلاميذ فحسب، وإنّما من ذاكرة التاريخ الحضاري للأمة". اهـــ
لقد اخترتُ أن أكتب ما لدي من مواقف أظهر فيها اسم من أترجم له، وبعض أوصافه بين الناس، ونبذاً من مواقفه الشخصية معي، وما لمسته من حياته العامة أو الخاصة؛ أملاً أن ينتشر خبره بين عارفيه، فينشط أحدهم للكتابة بالتفصيل عن هذه الشخصية، على أني أراجع دائماً كتب التراجم للمتقدمين والمتأخرين، فألحظ في بعضها عدم وجود معلومات كافية عن بعض الشخصيات ذات التأثير، فقد يكتفى بكتابة سطر أو سطرين وهو منتهى ما بلغه من علم عنها، وكنت أتعجب فيما سبق لهذا كثيراً، وحين مارست كتابة التراجم أبصرت أن حفظ أسماء العلماء من الضياع وكتابة معلومات -وإن كانت قليلة عنهم- هو من الأعمال الجليلة التي لا تظهر قيمتها إلا بعد سنوات.
وثمة شيء ما يدعو إلى التأمل، وهو أن كتابة الترجمة التي هي أشبه بالسيرة الذاتية المجردة عن التحليل، والتي يكتفى فيها بذكر المولد والنشأة والتخرج هو منهج سهل يستطيع أي شخص الولوج في هذا الميدان، لكن هناك شيء أعظم وهو ما وراء هذه التراجم من الانطباعات الشخصية والتركيز على بعض المواقف التي يرى الكاتب أنه يمكن توظيفها في الجانب التعليمي أو الأخلاقي أو الحضاري، وقد لا يفطن البعض إلى هذا النهج من الكتابات.
وأنا اخترت لنفسي جانب التحليل والانطباعات الشخصية على أنّي في غالب التراجم التي كتبتها لا أهمل ذكر الأمور المتفق عليه في أيّ ترجمة، وهذا الأمر ورثته عن أستاذي الأكبر محمد رجب البيومي من خلال كتبه الفريدة في بابها "النهضة الإسلامية" و "من أعلام العصر"، وهذا النوع من الكتب يولع كثيرون بقراءته لأنها تراجم تمثل نوافذ نطل بها على حيوات أفذاذ من العظماء بشيء من الاستفادة العملية، ويحول فيها المنهج النظري إلى مناهج تطبيقية يمكن أن يستفاد منها في جوانب متعددة، وعلمت فيما علمت أن في هذه الكتب النفع الكثير، لذا بات من السخف أن نجاري تلك الجمهرة من الناس التي تسارع لإطلاق لقب "المؤرخ" على كل من كتب مؤلفاً في تراجم الأشخاص عن طريق جمع المعلومات، مبتعدة أشد البعد عن المنهج التحليلي.
إنّ الهمة التي تتجه إلى جمع أسماء من رجال وأدباء ومفكري العصر ورصد سنوات الميلاد والوفاة والحديث عن الحياة العملية والوظائف وسرد كتبهم دون الكلام عن الجوانب النفسية ورصد المواقف الشخصية لهي في نظري همة قاصرة، رضيت أن تكتفي بالأمور الظاهرة، واكتفت في الغالب بالمدون على صفحات "الإنترنت" والكتب التي يسهل تناولها، ولكن الترجمة الباقية تلك التي تذكر المواقف المختلفة، ولا تغفل عن الانطباعات الشخصية، وتكشف عن الأفعال وإن كانت قليلة، وتفسر البعد الاجتماعي للأشخاص، وترصد الدوافع الذاتية لبعض الاختيارات، وفي الغالب أن كتّاب مثل هذه التراجم يتفوقون على غيرهم؛ لأنهم يذكرون وقائع السيرة الذاتية من حيث المولد والنشأة والوظيفة والمنجز العلمي والوفاة، ويزيدون عليهم في ذكر المواقف والدوافع المختلفة، ويسدون حاجة في طبائع جمهور القراء الذين يتجهون من خلال هذه التراجم إلى حياة روحية تقرّ بها أعينهم.
ولكتابة التراجم طريقان، الأول: الاتصال الشخصي بالمترجم له والأخذ والتلقي عنه مباشرة والاختلاط به في حياته العامة والخاصة، والآخر: القراءة الواعية لأعماله ومنجزه العلمي، وهذا عادة يكون لأشخاص بعيدين عن الكاتب، ليس بينه وبينهم اتصال مباشر، وقد يكونون في غير عصره لكن الحاجة تدعو إلى ترجمة لهم، ويبقى أن الطريق الأول أجلّ وأعظم، إذ ينفرد بمميزات عديدة، أهمها شرف الأخذ والاتصال، وتلك فضيلة كبري لا يدرك أهميتها وعظمتها إلا المتصلون اتصالًا مباشراً بكتب المعاجم والمشيخات والأثبات، إضافة إلى كونها طريقة أقرب إلى الصدق وذكر مواقف حية عاشها المترجم عن الشخص المترجم له، فليس بينهما أي واسطة في النقل.
ثم يأتي السؤال الأهم أيهما أعمق في الطرح كتابة الترجمة مجردة عن المواقف والتحليل، أم كتابة المواقف وتحليلها من خلال وجود الترجمة؟
وللإجابة عنه أسوق الحديث عن كتاب قرأته في فن التراجم مؤخراً نشرته -مشكورة- إحدى المجلات العربية العريقة، وهو وإن كانت فكرة موضوعه جديدة إلا أنني أرى أنه من السهولة تأليف مثل هذا النوع من المؤلفات، فهي فكرة تسهل من خلال جمع سني المولد والوفاة وذكر الحياة العلمية والعملية وبعض كتب الشخص المترجم له، وأنا هنا لا أقلل من شأن هذه الأعمال، إلا أنني أرى أنها قليلة الاستفادة منها من الناحية الأخلاقية والعلمية والتعليمية والحضارية مع مرور الوقت، وتبقى كتابات مثل فتحي رضوان في كتابه "عصر ورجال" ومحمد رجب البيومي في كتابيه "النهضة" و "من أعلام العصر" ووديع فلسطين في كتابه "وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره" وغيرهم، والتي هي قائمة على ذكر المواقف والتحليل النفسي للشخصيات والبعد الاجتماعي لبعض الأفعال هي الكتب التي حق أن نفتخر بها؛ لأنّها من كتابات الأمم الباقية، ويمكن الإجابة عن السؤال من خلال طرح سؤال آخر أعمق، وهو بماذا تفوق ابن خلدون على غيره من المؤرخين؟!
اخترت أن تكون كتابة تراجمي التي سطرتها في كتب أو مقالات بهذه الصورة، فهي الوسيلة إلى التعبير عن نماذج مجتمعية نيرة حقها أن ينتشر خبرها، وتجد في النفوس شوقاً إلى القراءة لهم، وقد ذكرت منهجي في كتابة التراجم في مقدمة كتابي "حديث الأموات" ص3: "قاعدتي في كلامي عن أساتـذتي الـذين تشرَّفتُ بمعرفــتهم أن أسُوقـه دون الالتزام بمذهبٍ معينٍ في كتابة الترجمة؛ وإنَّما هي مشاهدُ مرئية لحالهم ومشاعر فيَّـاضة يـُسجِّـلُها قلمي من حينٍ لآخر؛ فلا حرجَ إذا ما ألـحَّ عليَّ عبقُ الذكريات أن أشرِّق وأغرِّب في تراجمهم، وجُـلُّ مبتغاي أن أُجـدِّد الذكرى بمن عرفتُهم مِن العلماء ... ولا لوم عليَّ أن أذكر معهم بعض الشخصيَّات التي كانت لها آثار واضحـة في حياتنا المعرفية، ممن يرتبطون بأساتذتي ارتباطـًا وثيقـًا حتى امتدَّ أثرهم فوصل إلى غيرهم، وأنا منهم بطبيعة الحال".
وهذا الأسلوب المنهجي يوحي باتجاه واقعي في كتابة التاريخ المعاصر يصبو إلى إغناء الفن بجملة من المعارف، وهذا يشبه بكثير صنيع العلامة الكبير "أحمد تيمور باشا"، فلم يذكر منهجاً لتراجمه في كتابه "تراجم أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر"، بل لم يكتب للكتاب مقدمة، وإنما أجرى قلمه منتقلًا بين الرجال كما قرأهم، ولم يراع في كتابه أن تكون أسماؤهم مرتبة على حروف المعجم، أو يذكر ترتيبهم بحسب مواليدهم أو وفياتهم، وكذلك نهج الأستاذ محمد رجب البيومي في كتاباته، ولكن هناك أناساً لا تستهويهم هذه البنية الكتابية، ولا يطيقون صبراً على الكتاب الذي نهجها، بل ربما ثاروا عليه، ولا يكون لدى صاحبها شيء حينئذٍ سوى إخبارهم أن له سلفاً في هذا الأمر من علماء كبار.
على أنّ جلّ من أترجم لهم هم من طبقة أساتذتي الذين أخذت عنهم العلم أو لقيتهم أو اجتمعت بهم، وفي ذلك شرف عظيم يعرف قدره المطلع حقاً على كتب التراجم والأثبات والمشيخات، وقد يتصل بأساتذتي أناس من ذوي العلم والفضل كانت لهم آثار واضحة عليهم أراني مضطراً إلى تراجمهم؛ ليحصل الترابط والتواصل بين الأساتذة والتلاميذ من ناحية، ومن ناحية أخرى يظهر بيان التكامل المعرفي بين الأجيال المختلفة، فعلى سبيل المثال لا يمكنني الحديث عن صوفية وزهد ونقاء محمد رجب البيومي دون ذكر مشايخه الثلاثة الأعلام عبد الحليم محمود وصالح الجعفري ومحمد زكي إبراهيم والحديث عن بعض مواقفهم.
لقد وصفتُ بأنني أكتب "كتابة آمنة" بعيدة عن الدخول في أيّ معارك جانبية، ولا أظنني فعلت مثل هذا إرضاء لنفسي، كل ما عملته هو أنني أبرزت خصائص العظمة والإنسانية والإجلال عند من ترجمت لهم، هذه الخصائص التي اعتاد الكُتّاب أن يشيحوا بأبصارهم عنها، فإذا تقرر أن جلّ من أترجم لهم هم من طبقة أساتذتي ومشايخي الذين أخذت عنهم أو عرفتهم أو اجتمعت بهم -وتلك فضيلة كبرى لي- فإن الكلام عنهم سيكون حتماً في إظهار العظمة والنبوغ في شخصياتهم، لأني ارتضيتهم لي أساتذة، وقدمتهم إلى المجتمع على أنهم محل قدوة، أحببتهم وأردت أن أفيد غيري بحيواتهم، وصممت أن أنتزع منها كل ما أستطيعه من مشاهد جليلة، فالدخول معهم في معارك فكرية على صفحات كتاب أو مقالٍ سيفوت على القارئ وقتئذٍ فرصة الانتفاع بشخصياتهم.
إن للمعارك الفكرية مجالات أخرى، ربما أنشط لها فيما بعد، على أني في ثنايا بعض التراجم أخالفهم الرأي في بعض القضايا المعرفية كما يظهر واضحاً للقارئ البصير، وهذا المنهج الذي أشرت إليه اختاره من قبلي أستاذي الأكبر محمد رجب البيومي حين قال في مقدمة كتابه "من أعلام العصر": "ولن ينتظر مني القارئ نقداً صارماً، أو معارضة واخزة؛ لأن الحديث هنا عن أحباء اصطفيتهم لنفسي، وما وقع اختياري عليهم إلّا لمزايا رفيعة يتحلون بها".
لا يدخل هذا النوع من كتب التراجم في كتب الأدب المحض وحده، فهو يفوق الكتب الأدبية أو التاريخية المحضة؛ لأنه خليط من عدة مكونات معرفية، متداخلة بين عدة علوم، تتشابه فيما بينها؛ لتصل إلى تكامل معرفي لدى الشخص المترجِم، فهي نوع من النثر البليغ ليس كلاماً جافاً، وهي أيضاً مجموعة من الأفكار المتقاربة في فنون عديدة، لا يلتفت فيها إلى الألفاظ، وإنما يعتنى بالمعاني الكبرى قبل الألفاظ، والممارس لمثل هذا النوع من التأليف عادة ما يكون ملماً بكثير من أطراف المعرفة وخيوطها، فهو مشارك في تاريخ العلوم والتاريخ والفقه والتفسير والأصول وغيرها، أضف إلى ذلك مجموعة من القراءات المتعددة في الثقافة العامة، وقد يتطلب في كثير من الأحايين أن يكون ممارساً للانطباعات النفسية محللًا لها، ذا اطلاع تام بحركة الفرق والأحزاب والطوائف الحديثة، ومن هذه التشكيلة المتشابكة والمختلفة يستطيع أن يخرج لنا صوراً متعددة ترسم لنا بوضوح مواقف حية لكثير من الشخصيات المعاصرة؛، ومثل هذه الكتابات في التراجم السائرة على هذا النهج تساهم في توضيح القيمة التراثية والمعرفية، وتكشف عن حركة المدارس العلمية في مختلف البلدان، وتسد فراغاً في قيمة التواصل بين الأجيال المختلفة من خلال ربط الشخصيات بعضها مع بعض، وغير ذلك من الفوائد المتعددة.
إنّي أؤمن أنّ التاريخ لا يغفل عن جهود الحريصين مهما كانت ضعيفة في نظر البعض، إذ لا يزال الحريص المجد يعمل في العمل الضعيف شيئاً فشيئاً إلى أن يصير قوياً عظيماً، وحسبي كما قال أستاذي الأكبر محمد رجب البيومي "أن ألتزم الصدق فيما أسطر، وهو في هذا النطاق خير شفيع" لي.
د. علي زين العابدين الحسيني -
كاتب أزهريLog into Facebook
ومما لا شك فيه أن هذه الحياة التي نحياها مليئة بنماذج مشهورة من الرجال والنساء لو أتيح لكاتب أن يسلط الضوء عليها لأفاد كثيراً في شتى الاتجاهات، وهذه التراجم في حقيقتها هي حلقة متواصلة بين الأجيال، ينقلها جيل عن جيل، وتعكس التأثرات النفسية والانطباعات الوجدانية التي بدورها ترجع إلى حيوات رجال مختلفين عن غيرهم في عصور متعددة.
حين كتبت ترجمة عن العالم الكبير "ربيع أحمد الرملاوي" هممت أن أكتب لولا طول المقال: "لستُ هنا في سبيل التعرض لمراحل أستاذنا "ربيع الرملاوي" الدراسية، ولا التحدث بالتفصيل عن مشايخه وتلاميذه وتقييداته على كتبه؛ لأني في حقيقة الأمر أجهل وقائعها، وكان أمامي طريقان إما أن أسكت عن هذا العالم الكبير، فينسى حاله على مر الأيام، وإما أن أراسل من يعرفه عن قرب ليزودني بمعلومات عن شيخنا تكون مع ما أكتبه زاداً لعارفيه، وبالفعل راسلت بعض عارفيه ممن هم قريبون منه؛ طالباً أن يزودوني بتفاصيل حياته، لكن كالعادة في هذا الباب لم يتفاعل معي أحدٌ، وأنا أحسن الظن بمن راسلتهم، فالتراجم أصبحت عزيزة والحصول على معلومات للمترجم له مما يصعب، ومهما وصفت للقارئ الجهد الذي يبذله كاتب مثل هذه التراجم فلن يصدقه أحدٌ، وإما أن أختار الخيار الأول فأسكت عمن عرفتهم أو قابلتهم في مراحل حياتي العلمية والعملية تحت ستار عدم وجود معلومات كافية عنهم، وهو ما أعده عدم وفاء لهؤلاء الرجال العظماء، فهناك شخصيات عظيمة لا ينبغي أن تضيع ولا تنسى من ذاكرة التلاميذ فحسب، وإنّما من ذاكرة التاريخ الحضاري للأمة". اهـــ
لقد اخترتُ أن أكتب ما لدي من مواقف أظهر فيها اسم من أترجم له، وبعض أوصافه بين الناس، ونبذاً من مواقفه الشخصية معي، وما لمسته من حياته العامة أو الخاصة؛ أملاً أن ينتشر خبره بين عارفيه، فينشط أحدهم للكتابة بالتفصيل عن هذه الشخصية، على أني أراجع دائماً كتب التراجم للمتقدمين والمتأخرين، فألحظ في بعضها عدم وجود معلومات كافية عن بعض الشخصيات ذات التأثير، فقد يكتفى بكتابة سطر أو سطرين وهو منتهى ما بلغه من علم عنها، وكنت أتعجب فيما سبق لهذا كثيراً، وحين مارست كتابة التراجم أبصرت أن حفظ أسماء العلماء من الضياع وكتابة معلومات -وإن كانت قليلة عنهم- هو من الأعمال الجليلة التي لا تظهر قيمتها إلا بعد سنوات.
وثمة شيء ما يدعو إلى التأمل، وهو أن كتابة الترجمة التي هي أشبه بالسيرة الذاتية المجردة عن التحليل، والتي يكتفى فيها بذكر المولد والنشأة والتخرج هو منهج سهل يستطيع أي شخص الولوج في هذا الميدان، لكن هناك شيء أعظم وهو ما وراء هذه التراجم من الانطباعات الشخصية والتركيز على بعض المواقف التي يرى الكاتب أنه يمكن توظيفها في الجانب التعليمي أو الأخلاقي أو الحضاري، وقد لا يفطن البعض إلى هذا النهج من الكتابات.
وأنا اخترت لنفسي جانب التحليل والانطباعات الشخصية على أنّي في غالب التراجم التي كتبتها لا أهمل ذكر الأمور المتفق عليه في أيّ ترجمة، وهذا الأمر ورثته عن أستاذي الأكبر محمد رجب البيومي من خلال كتبه الفريدة في بابها "النهضة الإسلامية" و "من أعلام العصر"، وهذا النوع من الكتب يولع كثيرون بقراءته لأنها تراجم تمثل نوافذ نطل بها على حيوات أفذاذ من العظماء بشيء من الاستفادة العملية، ويحول فيها المنهج النظري إلى مناهج تطبيقية يمكن أن يستفاد منها في جوانب متعددة، وعلمت فيما علمت أن في هذه الكتب النفع الكثير، لذا بات من السخف أن نجاري تلك الجمهرة من الناس التي تسارع لإطلاق لقب "المؤرخ" على كل من كتب مؤلفاً في تراجم الأشخاص عن طريق جمع المعلومات، مبتعدة أشد البعد عن المنهج التحليلي.
إنّ الهمة التي تتجه إلى جمع أسماء من رجال وأدباء ومفكري العصر ورصد سنوات الميلاد والوفاة والحديث عن الحياة العملية والوظائف وسرد كتبهم دون الكلام عن الجوانب النفسية ورصد المواقف الشخصية لهي في نظري همة قاصرة، رضيت أن تكتفي بالأمور الظاهرة، واكتفت في الغالب بالمدون على صفحات "الإنترنت" والكتب التي يسهل تناولها، ولكن الترجمة الباقية تلك التي تذكر المواقف المختلفة، ولا تغفل عن الانطباعات الشخصية، وتكشف عن الأفعال وإن كانت قليلة، وتفسر البعد الاجتماعي للأشخاص، وترصد الدوافع الذاتية لبعض الاختيارات، وفي الغالب أن كتّاب مثل هذه التراجم يتفوقون على غيرهم؛ لأنهم يذكرون وقائع السيرة الذاتية من حيث المولد والنشأة والوظيفة والمنجز العلمي والوفاة، ويزيدون عليهم في ذكر المواقف والدوافع المختلفة، ويسدون حاجة في طبائع جمهور القراء الذين يتجهون من خلال هذه التراجم إلى حياة روحية تقرّ بها أعينهم.
ولكتابة التراجم طريقان، الأول: الاتصال الشخصي بالمترجم له والأخذ والتلقي عنه مباشرة والاختلاط به في حياته العامة والخاصة، والآخر: القراءة الواعية لأعماله ومنجزه العلمي، وهذا عادة يكون لأشخاص بعيدين عن الكاتب، ليس بينه وبينهم اتصال مباشر، وقد يكونون في غير عصره لكن الحاجة تدعو إلى ترجمة لهم، ويبقى أن الطريق الأول أجلّ وأعظم، إذ ينفرد بمميزات عديدة، أهمها شرف الأخذ والاتصال، وتلك فضيلة كبري لا يدرك أهميتها وعظمتها إلا المتصلون اتصالًا مباشراً بكتب المعاجم والمشيخات والأثبات، إضافة إلى كونها طريقة أقرب إلى الصدق وذكر مواقف حية عاشها المترجم عن الشخص المترجم له، فليس بينهما أي واسطة في النقل.
ثم يأتي السؤال الأهم أيهما أعمق في الطرح كتابة الترجمة مجردة عن المواقف والتحليل، أم كتابة المواقف وتحليلها من خلال وجود الترجمة؟
وللإجابة عنه أسوق الحديث عن كتاب قرأته في فن التراجم مؤخراً نشرته -مشكورة- إحدى المجلات العربية العريقة، وهو وإن كانت فكرة موضوعه جديدة إلا أنني أرى أنه من السهولة تأليف مثل هذا النوع من المؤلفات، فهي فكرة تسهل من خلال جمع سني المولد والوفاة وذكر الحياة العلمية والعملية وبعض كتب الشخص المترجم له، وأنا هنا لا أقلل من شأن هذه الأعمال، إلا أنني أرى أنها قليلة الاستفادة منها من الناحية الأخلاقية والعلمية والتعليمية والحضارية مع مرور الوقت، وتبقى كتابات مثل فتحي رضوان في كتابه "عصر ورجال" ومحمد رجب البيومي في كتابيه "النهضة" و "من أعلام العصر" ووديع فلسطين في كتابه "وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره" وغيرهم، والتي هي قائمة على ذكر المواقف والتحليل النفسي للشخصيات والبعد الاجتماعي لبعض الأفعال هي الكتب التي حق أن نفتخر بها؛ لأنّها من كتابات الأمم الباقية، ويمكن الإجابة عن السؤال من خلال طرح سؤال آخر أعمق، وهو بماذا تفوق ابن خلدون على غيره من المؤرخين؟!
اخترت أن تكون كتابة تراجمي التي سطرتها في كتب أو مقالات بهذه الصورة، فهي الوسيلة إلى التعبير عن نماذج مجتمعية نيرة حقها أن ينتشر خبرها، وتجد في النفوس شوقاً إلى القراءة لهم، وقد ذكرت منهجي في كتابة التراجم في مقدمة كتابي "حديث الأموات" ص3: "قاعدتي في كلامي عن أساتـذتي الـذين تشرَّفتُ بمعرفــتهم أن أسُوقـه دون الالتزام بمذهبٍ معينٍ في كتابة الترجمة؛ وإنَّما هي مشاهدُ مرئية لحالهم ومشاعر فيَّـاضة يـُسجِّـلُها قلمي من حينٍ لآخر؛ فلا حرجَ إذا ما ألـحَّ عليَّ عبقُ الذكريات أن أشرِّق وأغرِّب في تراجمهم، وجُـلُّ مبتغاي أن أُجـدِّد الذكرى بمن عرفتُهم مِن العلماء ... ولا لوم عليَّ أن أذكر معهم بعض الشخصيَّات التي كانت لها آثار واضحـة في حياتنا المعرفية، ممن يرتبطون بأساتذتي ارتباطـًا وثيقـًا حتى امتدَّ أثرهم فوصل إلى غيرهم، وأنا منهم بطبيعة الحال".
وهذا الأسلوب المنهجي يوحي باتجاه واقعي في كتابة التاريخ المعاصر يصبو إلى إغناء الفن بجملة من المعارف، وهذا يشبه بكثير صنيع العلامة الكبير "أحمد تيمور باشا"، فلم يذكر منهجاً لتراجمه في كتابه "تراجم أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر"، بل لم يكتب للكتاب مقدمة، وإنما أجرى قلمه منتقلًا بين الرجال كما قرأهم، ولم يراع في كتابه أن تكون أسماؤهم مرتبة على حروف المعجم، أو يذكر ترتيبهم بحسب مواليدهم أو وفياتهم، وكذلك نهج الأستاذ محمد رجب البيومي في كتاباته، ولكن هناك أناساً لا تستهويهم هذه البنية الكتابية، ولا يطيقون صبراً على الكتاب الذي نهجها، بل ربما ثاروا عليه، ولا يكون لدى صاحبها شيء حينئذٍ سوى إخبارهم أن له سلفاً في هذا الأمر من علماء كبار.
على أنّ جلّ من أترجم لهم هم من طبقة أساتذتي الذين أخذت عنهم العلم أو لقيتهم أو اجتمعت بهم، وفي ذلك شرف عظيم يعرف قدره المطلع حقاً على كتب التراجم والأثبات والمشيخات، وقد يتصل بأساتذتي أناس من ذوي العلم والفضل كانت لهم آثار واضحة عليهم أراني مضطراً إلى تراجمهم؛ ليحصل الترابط والتواصل بين الأساتذة والتلاميذ من ناحية، ومن ناحية أخرى يظهر بيان التكامل المعرفي بين الأجيال المختلفة، فعلى سبيل المثال لا يمكنني الحديث عن صوفية وزهد ونقاء محمد رجب البيومي دون ذكر مشايخه الثلاثة الأعلام عبد الحليم محمود وصالح الجعفري ومحمد زكي إبراهيم والحديث عن بعض مواقفهم.
لقد وصفتُ بأنني أكتب "كتابة آمنة" بعيدة عن الدخول في أيّ معارك جانبية، ولا أظنني فعلت مثل هذا إرضاء لنفسي، كل ما عملته هو أنني أبرزت خصائص العظمة والإنسانية والإجلال عند من ترجمت لهم، هذه الخصائص التي اعتاد الكُتّاب أن يشيحوا بأبصارهم عنها، فإذا تقرر أن جلّ من أترجم لهم هم من طبقة أساتذتي ومشايخي الذين أخذت عنهم أو عرفتهم أو اجتمعت بهم -وتلك فضيلة كبرى لي- فإن الكلام عنهم سيكون حتماً في إظهار العظمة والنبوغ في شخصياتهم، لأني ارتضيتهم لي أساتذة، وقدمتهم إلى المجتمع على أنهم محل قدوة، أحببتهم وأردت أن أفيد غيري بحيواتهم، وصممت أن أنتزع منها كل ما أستطيعه من مشاهد جليلة، فالدخول معهم في معارك فكرية على صفحات كتاب أو مقالٍ سيفوت على القارئ وقتئذٍ فرصة الانتفاع بشخصياتهم.
إن للمعارك الفكرية مجالات أخرى، ربما أنشط لها فيما بعد، على أني في ثنايا بعض التراجم أخالفهم الرأي في بعض القضايا المعرفية كما يظهر واضحاً للقارئ البصير، وهذا المنهج الذي أشرت إليه اختاره من قبلي أستاذي الأكبر محمد رجب البيومي حين قال في مقدمة كتابه "من أعلام العصر": "ولن ينتظر مني القارئ نقداً صارماً، أو معارضة واخزة؛ لأن الحديث هنا عن أحباء اصطفيتهم لنفسي، وما وقع اختياري عليهم إلّا لمزايا رفيعة يتحلون بها".
لا يدخل هذا النوع من كتب التراجم في كتب الأدب المحض وحده، فهو يفوق الكتب الأدبية أو التاريخية المحضة؛ لأنه خليط من عدة مكونات معرفية، متداخلة بين عدة علوم، تتشابه فيما بينها؛ لتصل إلى تكامل معرفي لدى الشخص المترجِم، فهي نوع من النثر البليغ ليس كلاماً جافاً، وهي أيضاً مجموعة من الأفكار المتقاربة في فنون عديدة، لا يلتفت فيها إلى الألفاظ، وإنما يعتنى بالمعاني الكبرى قبل الألفاظ، والممارس لمثل هذا النوع من التأليف عادة ما يكون ملماً بكثير من أطراف المعرفة وخيوطها، فهو مشارك في تاريخ العلوم والتاريخ والفقه والتفسير والأصول وغيرها، أضف إلى ذلك مجموعة من القراءات المتعددة في الثقافة العامة، وقد يتطلب في كثير من الأحايين أن يكون ممارساً للانطباعات النفسية محللًا لها، ذا اطلاع تام بحركة الفرق والأحزاب والطوائف الحديثة، ومن هذه التشكيلة المتشابكة والمختلفة يستطيع أن يخرج لنا صوراً متعددة ترسم لنا بوضوح مواقف حية لكثير من الشخصيات المعاصرة؛، ومثل هذه الكتابات في التراجم السائرة على هذا النهج تساهم في توضيح القيمة التراثية والمعرفية، وتكشف عن حركة المدارس العلمية في مختلف البلدان، وتسد فراغاً في قيمة التواصل بين الأجيال المختلفة من خلال ربط الشخصيات بعضها مع بعض، وغير ذلك من الفوائد المتعددة.
إنّي أؤمن أنّ التاريخ لا يغفل عن جهود الحريصين مهما كانت ضعيفة في نظر البعض، إذ لا يزال الحريص المجد يعمل في العمل الضعيف شيئاً فشيئاً إلى أن يصير قوياً عظيماً، وحسبي كما قال أستاذي الأكبر محمد رجب البيومي "أن ألتزم الصدق فيما أسطر، وهو في هذا النطاق خير شفيع" لي.
د. علي زين العابدين الحسيني -
كاتب أزهريLog into Facebook