أ. د. عادل الأسطة - يــــافا.. ملف [1.....12]

1- وجه يافا!..

مساء الجمعة تتابع برنامجاً تلفازياً عن يافا، تلغي مشاهداتك لبرامج أخرى تتابعها وتنحاز الى يافا، حين تحضر هذه يكون لها الأولوية، لماذا؟ أنت تدري ولا تدري. أهي قسوة الاغتراب، حتى حين يكون داخل الوطن؟ هل تشعر بالاغتراب داخله؟ تتذكر أبا حيان التوحيدي وما كتبه في اشاراته الالهية عن نوعي الغربة: غربة عن الوطن وغربة في الوطن. وتتذكر ما كتبه محمود درويش بعد تدمير قريته البروة ولجوئه الى قرية مجاورة ما زال اهله يقيمون فيها: لقد غدوت لاجئاً داخل وطني، أقيم في مكان لا يبعد كثيراً عن قريتي المدمرة. وتتذكر مسعوداً في قصة اميل حبيبي: حين سعد مسعود بابن عمه عاش في الناصرة لاجئاً بلا أبناء أعمام، لانهم عاشوا في مخيم في جنين. وتتذكر سؤال مسعود بعد حرب 1967: هل حين ينسحبون سأعود بلا ابناء أعمام؟
مساء الجمعة ترى يافا التي كانت، تشاهد ما تبقى منها، وتعرف عما دمر منها وما جرى فيها في العام .1948 تصغي الى شفيق الحوت وآل اندوراس و.. وتصغي الى آخرين، وتتذكر قصيدة راشد حسين فيها: كانت مدينة مهنتها تصدير برتقال، وغدت مدينة مهنتها تصدير لاجئين، ترى الساعة والبحر والبناية المطلة عليها، فتتذكر زياراتك لها. كأنك تعرفها جيداً. كأنك ولدت فيها. وحين تشاهد صور أهلها قبل العام 1948 يلفون البرتقال ويضعونه في الصناديق، حين تشاهد القوارب والسفن والاطفال في البحر تترحم على ابيك واعمامك والقصص التي قصوها على مسامعك عن طفولتهم فيها.
مساء الجمعة وأنت ترى الانكليز يدمرون المدينة، وانت ترى الاسرائيليين يقيمون مبانيهم على حدودها، ويهيئون انفسهم لطرد سكانها تسأل نفسك: كيف نغفر لهؤلاء وهؤلاء؟ كيف يغفر اللاجئون الفلسطينيون، هنا وفي مخيمات الاردن وسورية ولبنان لمن سبب نكبتهم ولمن طردهم من ديارهم وحولهم الى لاجئين؟ كيف؟
سيقص شفيق الحوت عن مدينة عاش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود حياة فيها قدر من التسامح كبير. وستقص امرأة من عائلة اندوراس عن مدينة كانت محافظة، وكان الشباب فيها، حين يريدون ان يرفهوا عن انفسهم، يذهبون الى تل ابيب. وستسمع كلاماً عن مدينة كانت فيها صحافة ونواد لا يميز فيها بين مسلم ومسيحي وستستمع الى كلام عن مدينة لم تولد فيها، ولكنك تنتمي اليها، وستفخر انك تنتمي اليها.
مساء الجمعة تتابع برنامجاً تلفازياً عن يافا، وتجد نفسك تردد عبارة محمود درويش أنا من هناك، وتجد نفسك تقرأ قصة أكرم هنية: دروب جميلة، فثمة صورة مشرقة فيها ليافا.
وأنا اتابع البرنامج تذكرت أيضاً مسلسل اسمهان. وهل زارت هذه يافا وهل سنلحظ زيارتها فيه؟ كان القاص أكرم هنية في قصته المذكورة أتى على زيارة فنانين مصريين للمدينة منهم محمد عبد الوهاب وأم كلثوم واسمهان أيضاً. من المؤكد ان أكرم هنية راجع معلوماته قبل كتابة قصته، فهي في جانب منها رد على الرواية الصهيونية التي روجت لفكرة ان فلسطين قبل مجيء الحركة الصهيونية واليهود الى البلاد، كانت اراضي صحراوية. لقد كانت القصة رداً على ادعاءات ادعاها مؤسسو دولة اسرائيل.
لم أعد أتذكر تماماً مسلسل أم كلثوم الذي عرض قبل ثلاث سنوات تقريباً. هل أتى على زيارتها يافا وعلى احيائها حفلات فيها؟ لم أعد أتذكر هذا، ولكني ما زلت أتذكر صورة لعمي الشيخ محمد مع عبد الوهاب الذي وصف عمي، لجمال صورته، حيث كان يغني، ببلبل فلسطين. ولا أدري ما ألم بالصورة ولا أدري ان كان عمي ما زال يحتفظ بها، فقد سألته مؤخراً عن كوشان بيت جدي، واخبرني انه تلف. (تبدو قصة عمي الشيخ محمد لافتة: تزوج من مصرية وأنجب منها ولداً، وفي حرب العام 1948 غادرت الى مصر مع ابنها، واقام عمي، بعد ان اصيب بلوثة عقلية، في مخيم عسكر، ومات في عمان. وأنا طفل كنت اخجل من قصته، والآن أذكرها على انها أثر من آثار النكبة، ولا أخجل اطلاقاً من سردها. ولقد حاول أخي، قبل سنوات، البحث عن ابن عمي في الاسكندرية، دون ان يتمكن من لقائه، وهكذا لنا ابن عم، مثل مسعود في قصة إميل حبيبي، ولكنه لم يسعد بلقائنا حتى اللحظة).
وأنا أتابع البرنامج: شارع فلسطين، عن يافا، واصغي الى المرأة تتحدث عن شباب المدينة وزيارتهم تل ابيب بحثاً عن متعة هناك، تذكرت ايضاً قصة "العابث" للقاص نجاتي صدقي. لا أدري ان كان كتّاب القصة الجدد قرأوا لهذا الشيخ القاص، ولا أدري لماذا لم تعد وزارة الثقافة نشر مجموعته: الاخوات الحزينات )1951( والشيوعي المليونير (1963).
في قصة "العابث" اشارة الى عبث شباب المدينة وانفتاحهم على اليهود القادمين من اوروبا، وعدم رؤية العرب لهم على انهم يشكلون خطراً، وهذا ما قاله شفيق الحوت ايضاً عن امه، فقد رأت في اليهود مساكين، ولم تتوقع ان يفعلوا ما فعلوه. لم تتوقع ان يقتلوا ابنها وان يشردوا اسرتها. بعد ان شاهدت الحلقة تساءلت: الا يخجل ابناء العمومة من ماضيهم، ومن ... حاضرهم ايضاً. وجه يافا، كما كتب ادونيس، طفل.

2008-09-21

***

2 - اغتيال مدينة... اغتيال يافا

"اغتيال المدن" حلقة بثتها قناة الجزيرة يوم الأربعاء 14/5/2014، في الخامسة وخمس دقائق مساء.
راق لي الموضوع فآثرت أن أشاهد البرنامج، وهكذا كان عليّ أن أعود للمنزل مبكراً، فثمة تقارير ومقابلات عن مدن فلسطين التي كانت تسمى فلسطين، وصارت، على رأي محمود درويش في إحدى قصائده، صارت تسمى فلسطين. فلسطين أم البدايات وأم النهايات.
تحدث في الحلقة كتّاب وأدباء وسكان عاديون أيضاً؛ أنطوان شلحت ود. رائف زريق، ود. نادرة شلهوب، وسعاد قرمان، ود. عادل مناع، وفخري جداي واسماعيل شحادة، ود. باسل غطاس.
وتابعت الموضوع، كما تابعت يوم الجمعة (9/5/2014) برنامجاً آخر عن يافا أصغيت فيه إلى أبو صبحي اليافاوي، ما دفعني في اليوم نفسه إلى كتابة أسطر عنه أدرجتها على صفحة الـ في سبوك الخاصة بي.
وثمة تشابه في البرنامجين ما بين شخصيتيْ إسماعيل شحادة وأبو صبحي، وربما اقترب منهما السيد فخري جداي.
تحدث هؤلاء الثلاثة عن مدينتهم التي عاشوا فيها قبل العام 1948، وظلوا يقيمون فيها ما بعد ذلك العام حتى اليوم.
تحدثوا حديث من يحن إلى المكان وهو في المكان، وهو ما فعله اميل حبيبي في روايته "اخطية" التي مهد لها قائلاً: إنها حنين إلى حيفا في حيفا. إنها ضرب من النوستولوجي، فقد أتى فيها على حياته في المدينة قبل العام 1948، وذكر بعض رفاقه الشيوعيين، مثل رضوان الحلو، كما ذكر أيضا من درس في حيفا من أبناء الريف الفلسطيني، وفي خرافيته خرافية سرايا بنت الغول، ذكر المرحوم العلامة د. إحسان عباس، إن لم تخني الذاكرة.
إسماعيل شحادة تحدث من الذاكرة التي ظلت تحفظ الأسماء، بل وأسماء الأغاني وأسماء الأفلام، وكرج عن ظهر قلب أغنية لصباح.
ذكر صالات عرض الأفلام صالة صالة، سينما سينما، ولم تختلف عنه ابنة حيفا الكاتبة سعاد قرمان التي أتت على مشاهداتها تلك الأفلام في حينه، حيفا التي كان اللبنانيون يأتون إليها لدخول السينما فيها، ثم العودة في صباح اليوم التالي إلى بيروت، فقد كانت المواصلات مؤمنة ومتوفرة.
أول ما قاله انطوان شلحت، في بداية البرنامج، هو أن الحركة الصهيونية أرادت تدمير المدينة الفلسطينية، فوجود هذه ـ أي المدينة ـ يبرهن على وجود شعب متحضر في فلسطين، وينقض، في الوقت نفسه، الرواية الصهيونية التي تزعم أن فلسطين أرض قفار لا حياة فيها، أنها مستنقعات تحتاج إلى تجفيف حتى تغدو صالحة للحياة، ولا كوليرا فيها.
سعاد قرمان أشارت إلى محاضرة أعدت لكاتب صهيوني ليتحدث فيها عن العلاقة مع الآخر الغريب، وقالت إنها اندهشت من العنوان، فها نحن أهل حيفا غدونا الآخر الغريب في هذه البلاد.
وعموماً فقد قال المتحدثون كلاماً موزوناً، كلاماً مهما وجوهرياً عن تدمير المدن الفلسطينية، ليس أقله أنها كانت مدناً متحضرة لها علاقات مع مدن العالم العربي، بل ولها صلات تجارية مع مدن العالم، فالبرتقال اليافي كان يصل إلى عواصم عالمية منها برلين، وعلى رأي د. عادل مناع، فقد كان برتقال يافا مشهوراً عالمياً. هل تحدث المتحدثون عن الحركة الأدبية والثقافية؟
لأول مرة سمعت عن شاعر اسمه اسماعيل الطوباسي، قال اسماعيل أبو شحادة إن هذا الشاعر كلما كتب قصيدة دخل السجن، وأما د. رائف زريق فقد تحدث عن المدينة كمركز إشعاع، إنها المركز الذي يشع على الأطراف وإليها.
وأشار انطوان شلحت إلى نجاتي صدقي ومحمود سيف الدين الإيراني كاتبي القصة القصيرة، لا الرواية.
إن غياب المدينة كان غياباً للقلب، فلا مشاريع قومية بلا مدن، وحين زالت المدن ـ أعني حين أهملت ـ اختفت الطبقة البرجوازية التي تشع، وهي الطبقة التي تستطيع أن تنتج أحلاماً.
وربما يتذكر من قرأ قصة أكرم هنية "دروب جميلة" (2007) ما أورده عن يافا قبل 1948، ماذا بقي من يافا؟ بقي قلة قليلة من سكانها، ماذا يمكن أن يفعلوا للمدينة بعد هجرة أهلها؟ وسيتذكر اسماعيل أبو شحادة مثلاً يردده أهل الريف هو: عشوة ليلة ما بتعين هزيل، ولم يبق في يافا شيء ذو بال، فلا مقهى ولا أي شيء، وعلى رأي فخري جداي: إن ما بقي من يافا لا يذكر، ما بقي من يافا سمّه ما شئت إلاّ يافا، يافا الآن مزبلة.
هل هذه هي صورة يافا في الأدبيات الفلسطينية؟ وهل ثمة كتابات عن المدينة بعد العام 1948؟ هل برز في يافا أديب لامع، بعد هجرة أدبائها وكتّابها؟ هل أبرز لها صورة ما في رواية أو في قصة قصيرة؟ لا شك أن ما كتب عن يافا من نصوص ليس أكثر من نصوص شعرية كتبها راشد حسين أو محمود درويش أو سميح القاسم، وما كتبه هؤلاء لا يظهر للمدينة صورة جميلة، بخلاف الصورة التي أبرزها لها شعراء المنفى، وقد كتب فيها رسائل ماجستير.
لكن الصورة كانت من الذاكرة، صورة متخيلة، صورة يافا قبل أن تتحول إلى بقايا مدينة، ولا أريد أن أقول ما قاله بعض المتحدثين: يافا الآن مزبلة.
عبثاً حاولت أن أتذكر نصاً روائياً لأديب فلسطيني يقيم في يافا، فلم يبق من سكان المدينة السبعين ألفا سوى خمسة آلاف حشروا في مكان واحد.
طبعاً ثمة تقارير كتبها شعراء مرموقون مثل سميح القاسم، ونشروها في الصحف والمجلات في 60 ق 20. مؤخراً كنت أقرأ السيرة الذاتية لسميح "إنها مجرد منفضة" (2011) وقد أورد فيها تقريراً كتبه في 30/12/1966، وكان نشره في صحافة الحزب الشيوعي الإسرائيلي (من ص288ـ299) وفيه يصور سميح مأساة العرب في المدينة، مأساتهم في السكن وفي التعليم وفي الحياة اليومية، وما ألم بمساجد المدينة، وبمقاهيها، وبمقبرتها، ويكتب كلاماً يدخل الحزن إلى القلوب.
ثمة مدرسة في يافا اسمها مدرسة حسن عرفة، والطلاب الذين يتعلمون فيها يتخرجون "زعران" يذهبون إلى الإصلاحية ـ دار إصلاح الأحداث ـ.
أين يافا بعد 1948، حتى 1966، من يافا قبل العام 1948، وربما تذكر المرء قصيدة راشد حسين الشهيرة "الحب... والغيتو":
"مداخن الحشيش في يافا توزع الخدر
والطرق العجاف حبلى.. بالذباب والضجر
وقلب يافا صامت... أغلقه حجر
وفي شوارع السما... جنازة القمر" (ص465).
وكما كتب، مقارناً ما كانت عليه، بما صارت عليه فهي "ـ لمن يجهلها ـ كانت مدينة/ مهنتها تصدير برتقال/ وذات يوم هدّمت.. وحولوا/ مهنتها تصدير لاجئين) (ص466).
زار راشد أيضاً يافا (تاريخ كتابة القصيدة 1963) فأخذ يلمّ عن جبهتها الجرذان ويرفع الأنقاض عن قتلى بلا رؤوس بلا ركب.
طبعاً سيكتب محمود درويش غير قصيدة يأتي فيها على يافا، ربما أبرزها قصيدته في رثاء أبي علي إياد "عائد إلى يافا".
هناك كاتب فلسطيني اسمه عيسى لوباني أصدر في العام 1994 كتاباً عنوانه "أم الخير.. و..." : إيقاعات على جدران ذاكرة ليست للنسيان" وفي الفصل الأول منه (ص5 ـ ص45) يأتي على يافا بعد العام 1948، فماذا كتب عن المدينة لما سيطر عليها الإسرائيليون؟
سكانها نعتوا أنفسهم بأنهم أصبحوا كالأيتام "أرأيت كنا كل شيء، وأصبحنا لا شيء!!) (ص6)، وهو ما ردده أبو صبحي في تقرير الجمعة 9/5/2014: "لقد صرنا كالأيتام على مأدبة اللئام".
سارد القصة أو أحد شخوصها يقارن بين يافا في زمنين، زمن الانتداب وزمن الدولة العبرية، ومما ينطق به:
"طفت حولها كثيراً وخصوصاً أيام الأعياد وما أكثرها!، والناس بثيابهم الملونة، طوفان من الفرح والمرح" "واستدارت ناحية شارع بطرس!!" وأضافت: "كان يسمى شارع الصاغة والذهب!! أما والآن، فقد تبخر الصاغة وتبخر الذهب وحل محلهما باعة الخردوات والأحذية العتيقة" (ص30). و... و... وكانت مدينة اسمها: يافا!!

د. عادل الأسطة
2014-05-18

***

3- "ويافا حقائب منسية في قطار"

في الأسبوعين الأخيرين، قرأت ديوان شعر الأسير أحمد العارضة «خلل طفيف في السفرجل» وسئلت من سامي أبو سالم - أستاذ من غزة - عن حضور يافا في أدبنا، وأصغيت إلى قصيدة الجواهري الشاعر العراقي في يافا بعد أن زارها قبل العام ١٩٤٨، وكنت كتبت عن رواية سعاد العامري «بدلة إنكليزية وبقرة يهودية» التي حضرت فيها يافا، حتى لتعد رواية مدينة بامتياز، وقبل أعوام، كتبت عن زياراتي للمدينة، مازجا بين ما رأيته منها وما بقي عالقا في ذاكرتي مما قرأته عنها في الشعر، وكنت قرأت عنها في أشعار راشد حسين ومحمود درويش وسيرة سميح القاسم الذاتية «إنها مجرد منفضة» وقصة أكرم هنية «دروب جميلة»، وروايات وفاء أبو شميس التي ولدت في بلاطة لأسرة لاجئة «من أجل عينيك الخضراوين»، ورشاد أبو شاور الذي روى ما سمعه من أبيه عن زيارته يافا قبل ١٩٤٨ «وداعا يا زكرين» وعاطف أبو سيف الذي عرف المدينة «الحاجة كريستينا» و»حياة معلقة» و»الجنة المقفلة»، وأنور حامد الذي زارها «يافا تعد قهوة الصباح»، والمتوكل طه الذي سمع حكايات المدينة من ابنها أبو صبحي (إسماعيل أبو شحادة) «وريث يافا»، ونوال حلاوة النابلسية التي عاشت طفولتها في يافا «الست زبيدة»، واللبناني إلياس خوري الذي قرأ عنها وتجول فيها عبر مشاهدة أشرطة فيديو «أولاد الغيتو: نجمة البحر» و «كأنها نائمة».
الأدباء الذين انحدروا من أسر يافاوية هم وفاء وسعاد وعاطف وأنا، وأما البقية فهم من ريف فلسطين أو من لبنان، وأما أحمد العارضة فجده من يازور التابعة ليافا، ولا أعرف عن علاقته بها إن كان قبل أن يسجن في العام ٢٠٠٤ زارها أو عمل فيها، ولكنها في الديوان تبدو مدينته المنظور إليها يتغنى بها كما لو أنه ولد فيها ونشأ بين أحضانها. إن حضور يافا في الديوان لافت، ولكننا بالتأكيد لا نعرف عنها قدر ما نعرفه بعد قراءة رواية العامري التي حين تصغي إليها تتكلم، وهي المولودة في المنفى، تصغي إلى لهجة أهل يافا الذين نشؤوا فيها وحملوا معهم لهجتها إلى الشتات.
عندما قرأت رواية أنور حامد لم أعثر فيها على يافا، بخلاف رواية سعاد، وعندما طلب مني إخوة الأسير باسم الخندقجي المولود في نابلس أن أقرأ مخطوطته «أنفاس امرأة مخذولة» أفصحت عن رأيي دون مجاملة: هذه رواية صلتها بيافا ضعيفة ولهجة شخوصها اليافاويين ليست يافاوية، ولم أقرأ الرواية بعد صدورها.
الأسئلة التي صارت تراودني هي: ماذا تعني يافا لكل من كتب عنها؟ لماذا تكاثرت الكتابة عنها في الأعوام الأخيرة؟ هل ثمة ما هو مشترك في الكتابة عنها بين الكتاب؟ ما الصورة التي بدت لها في النصوص متعددة الأجناس الأدبية؟
ولن يخفى على أحد أن الصورة التي في قصيدة راشد حسين «الحب والغيتو» ١٩٦٤، وفي التقرير الذي ألحقه القاسم بسيرته، وكان كتبه في ١٩٦٦، هي صورة صادمة حزينة تبعث الأسى في النفس، وهي مختلفة تماما عن الصورة التي تظهر في قصة هنية ورواية العامري، إذ الصورة هنا جميلة ومشرقة تبعث الفرح.
كتب راشد وسميح عن يافا بعد أن هجر أهلها وصارت مدينة أشباح، وكتب هنية والعامري عما كانت عليه المدينة قبل عام النكبة؛ أيام كانت مدينة مهنتها تصدير برتقال، لا مدينة توزع الحشيش، وهو ما صارت عليه بعد النكبة، والتعبير لراشد حسين في قصيدته، وأما وريث يافا الذي عاش حياته كلها في المدينة؛ قبل العام ١٩٤٨ وبعده، فقد حكى عن الصورتين، ولطالما أصغيت إليه يتكلم عبر أشرطة فيديو والحزن يقطر من كلامه ويكاد يبكي، ولن أنسى قوله: اشتمني واشتم أبي فقد أسامحك ولكني إن شتمت يافا فلن أسامحك.
تحضر يافا إذن في ديوان أحمد، فكيف حضرت؟
يتكرر حضورها في غير قصيدة أبرزها «حبيبتي» حيث يتكرر ست مرات يخاطب فيها المدينة ويبين مكانتها في قلبه «قبلة القلب الطري» التي كانت موطنه، ولأجلها يصعد إلى الأعالي في القصيدة ليرتجل شعرا جديدا «يرتقي لبكاء يافا».
في قصيدة «خلل طفيف في السفرجل» فإن ما قاد الشاعر للنزف دهرا هو أن يافا بدت في دائرتيها سفرجلة صغيرة. هنا لا يكتب عن يافا وحسب كمدينة تركت أثرا عليه وإنما عن رفات قراها المهجرة الشريدة ومصير أهلها المعلقين المقهورين. أهي صورة الشمس وهي تغرب وتسقط في بحر يافا أم بيارات برتقالها هو ما أوحى له بالشبه؟:
«خلل طفيف/ حين تختلط القرى فيه/ بشامات السفرجل/ ترتخي الأغصان مثقلة/ وتهصر ثم يلتحم المشبه بالشبيه».
كتب محمود درويش قصيدة «عائد إلى يافا» يرثي فيها «أبو علي إياد»، وفيها ورد «ويافا حقائب منسية في قطار» والسؤال هو:
هل استرجع الكتاب الفلسطينيون في نصوصهم تلك الحقائب؟

عادل الأسطة
2023-05-21

***

4 - يافا "أم الغريب"

سمعت ان يافا توصف ب " أم الغريب " وقرأت هذا أيضا في الروايات والقصص التي قرأتها عن يافا .
كانت يافا ثم القدس ثم حيفا لاحقا ، قبل العام ١٩٤٨ ، مراكز جذب للهجرة الفلسطينية الداخلية والخارجية ؛ الأولى كونها عاصمة اقتصادية بسبب البيارات والميناء ، والثانية بسبب الأهمية الدينية حيث الأقصى والكنائس ، والثالثة بعد تأسيس الميناء ومصفاة تكرير البترول . طبعا لا أنسى الناصرة بسبب المدارس الدينية فيها .
لم تحضر يافا إلا قليلا في الرواية الفلسطينية . لم تحضر في أعمال غسان كنفاني واميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا ، وعرفت أن ابنها أحمد عمر شاهين كتب عنها في إحدى رواياته .
ظلت يافا حتى نهاية القرن العشرين تحضر بالدرجة الأولى في الشعر ، ومع بدايات القرن الحادي والعشرين صارت تحضر في القصة والرواية ؛ في روايات ناضجة وفي روايات مجهضة .
وأنا أقرأ في رواية عاطف أبو سيف الأخيرة " الجنة المقفلة "(٢٠٢١) تذكرت أبي وأعمامي وشتات عائلتهم ؛ في غزة حيث هاجرت عمتي ، وفي الشام حيث أقام عمي ، وفي الأردن حيث أقام أبناء أعمامهم وفي لبنان حيث أقام قسم التقيت بهم في الشام في بيت عمي في العام ١٩٧٦ حيث هربوا من الحرب الأهلية .
لا أذكر أن أهلي حدثوني عن غرباء أجانب أقاموا في يافا . كنت أسمع من أبي يتحدث أن والدة زوجة أخيه أفغانية .
في رواية عاطف أبو سيف المذكورة قرأت عن يافاوية جدتها إسبانية . والد الجدة رسام إسباني زار مع ابنته فلسطين في القرن التاسع عشر وعلى شاطيء يافا حيث كان يرسم أحبت الشابة ابنة الرسام صيادا فلسطينيا ، فأسفر الحب عن زواج وأحفاد بملامح أوروبية .
لم يكترث الشاب اليافاوي لكلام أمه التي أرادت أن تزوجه من قريبته / ابنة خالته واتبع خطى قلبه .
أعتقد أن يافا وشتات عائلاتها لم يحضر في الرواية الفلسطينية كما يحضر في روايات عاطف ابوسيف .
مات أعمامي وأبي ولا أعرف ما ألم بأجداد عاطف وإلا لكنت سألت عنهم ، ففي حي النزهة شيد جدي بيته الجديد الذي لم يهنأ به ، فقد حلت النكبة وتفرقنا أيدي عرب .
صباح الخير
خربشات
١٦ / ١١ / ٢٠٢١ .

***

5- يافا 7 حزيران 2019: وأخيرا تزور يافا

منذ فترة طويلة وأنا أفكر في إنجاز كتاب عن المدن الفلسطينية التي لها حضور في ذاكرتي الشخصية والأدبية ، المدن التي زرتها قبل العام 1987 ثم انقطعت عن زيارتها ثلاثين عاما تقل قليلا أو تزيد قليلا : القدس وعكا وحيفا ويافا وغزة تحديدا .
تمكنت من زيارة القدس وعكا وحيفا ولم أفلح في زيارة يافا وغزة .
في العام 2000 عقد قسم اللغة العربية في
الجامعة الإسلامية في غزة مؤتمرا علميا أردت المشاركة فيه ولكن السلطات الإسرائيلية لم توافق على منحي تصريحا بحجة أنني " محروق " . هكذا جاء الرد .
سافر زملائي ولم أسافر ولم أر غزة التي زرتها مرات عديدة بعد هزيمة حزيران 1967 .
يافا المدينة التي ولد فيها أبي ، وهي مدينته ومدينة آبائه وأجداده ، ظلت زيارتها حلما يراودني ، وآخر مرة زرتها كانت في العام 1987.
منذ أيلول 1987 لم أر يافا ، وكلما فكرت في زيارتها أشكل الأمر وصعب حتى زرتها أخيرا في ثالث أيام عيد الفطر السعيد في السابع من حزيران 2019 .
اثنان وثلاثون عاما تنقضي ولا أرى مدينة الآباء والأجداد وهي على مرمى العصا . كما لو أنني ابن عاق ل " أم الغريب " التي طالما استقبلت قبل 1948 الغرباء واحتضنتهم ، حتى أنها كانت تبصر بدايات ولادة المشروع الصهيوني دون أن ترى فيه خطرا يهدد وجودها .
مرة كنت أشاهد لقاء بثته فضائية الجزيرة مع شفيق الحوت روى فيه أن أمه سخرت منه حين أخبرها عن الخطر القادم من اليهود ، ولم تصدق ما قاله لها إلا حين رأت جثة أحد أبنائها في 1948 مقتولا على أيدي العصابات الصهيونية .
وأخيرا زرت يافا !
في ثالث أيام العيد زرت القدس لأعيد على أختي .
بعد أن اجتزنا معبر قلندية أخذت أصغي إلى أصحاب الحافلات ينادون :
- يافا. البحر . يافا. البحر .
سألت السائق عن الأجرة وعن الأيام التي تتوفر فيها الباصات هنا على المعبر ، و عن مكان وقوفها في القدس .
لطالما كتبت عن يافا مستعينا بما أقرأ في النصوص الأدبية أو بما أشاهد من أفلام قصيرة أو لقاءات وحوارات عابرة مع أبنائها الباقين فيها يتحسرون على ماضيها ، ونادرا ما أفلحت في استحضارها مما بقي عالقا في ذاكرتي من زيارتي لها قبل العام 1987 .
الصورة التي تشكلت عن المدينة من خلال النصوص الأدبية لم تكن مشرقة دائما ، وقصيدة محمد مهدي الجواهري لم أتمثلها تمثلا جيدا . لقد رسخ ، في الذاكرة أكثر ، نصان كتبهما راشد حسين وسميح القاسم وأظهرا للمدينة صورة قاتمة تطابقت إلى حد ما وما شاهدته بعد 1967 ، وغالبا ما كتبت عن هذين النصين .
كان زوج أختي يقترح علي أن أزوره ليصطحبني إلى يافا ، وغالبا ما كنت أجيب بالإيجاب ولا أبادر .
في القدس في الرابعة عصرا سرنا إلى يافا وكنت أمعن النظر في جانبي الطريق ؛ الأحراش والقرى العربية ومكان استشهاد عبد القادر الحسيني /القسطل ومخلفات حرب 1948 من الآليات الحربية الإسرائيلية التي شاركت في المعارك . كانت هذه المخلفات في وسط الشارع الرئيس ثم ركنت ، بعد توسيعه ، إلى الجانبين .
عندما زرت يافا في 1967 أو 1968 لفتت عمارة شالوم النظر ، فقد كان عدد طوابقها يربو على السبعين ، والآن وأنت في تل أبيب ترى عشرات العمارات ذات الطوابق المرتفعة .
وأنت في يافا الآن ترى الساعة مازالت قائمة وترى فرن "أبو العافية "في مكانه .
وأنا قرب الشاطيء على الرصيف تفقدت الميناء .هل خانتني الذاكرة أم خانني النظر .لم أر الميناء ولم أر الحرش وكأنني افتقدت التلة المقابلة . أخيرا عثرت على التلة ولكنني لم أعثر على الميناء والحرش . كاد الأمر يلتبس علي بخصوص التلة ثم أدركت أن المباني الجديدة التي أقيمت هي ما جعل الصورة مشوشة .
حين كنت أزور يافا قبل 1987 لم يكن يدفعني إلى زيارتها الوعي بالمكان ؛ ما كان عليه وما صار إليه ، على الرغم من أن هذه الفكرة محورية في رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا " . ما كان يلح علي في حينه هو رؤية مدينة الآباء والأجداد التي طردوا منها وبسبب فقدانها صاروا لاجئين وولدت في مخيم لاجئا يعاني صحيا ونفسيا واجتماعيا وانسانيا .
في هذه السنوات أصبحت أزور مدننا محملا بأبعاد معرفية وبتجربة مرة وبنظرة شمولية ترى في فلسطين شقيها ؛ المنفى والاحتلال ، وتدرك ما معنى هذا القدر من الشقاء والمعاناة لسبعة ملايين لاجيء وستة ملايين محاصر ، وتنظر إلى الماضي بعين الحاضر والحاضر بعين الماضي ، وتردد عبارة " ما متع غني إلا بما جاع به فقير " على النحو الآتي :" ما متع يهودي إلا بما تعذب به فلسطيني " .
في أثناء تجوالي في المباني المحيطة بالساعة وشاطيء البحر رأيت مباني لم أقترب منها من قبل ، مع أنها كانت موجودة وقائمة من العهد العثماني . في هذه المباني كان يقيم القناصل الأوروبيون ويتحكمون في المدينة ويخططون لمستقبلها وما ستصير إليه . الآن هذه المباني غدت محلات لبيع بعض تحف أو أشبه بمطاعم ، وغدت ساحتها خضراء يأتي إليها العرسان لتبادل الخواتم أو غدت مكانا لعرض مسرحية أو لعزف قطعة موسيقية .
المقاعد متوفرة بكثرة ليجلس عليها السائحون أو أبناء المدينة لينظروا إلى البحر .
في ساحة هذه المباني العلوية نافورة ماء تسمى بركة الحظ . ما عليك إلا أن ترمي قطع النقود وتتمنى . هكذا تقول الأسطورة ، ولما كنت أملك شيكلا واحدا فائضا فقد آمنت بالأسطورة وألقيت به فيها وتمنيت ما تمناه الفلسطينيون منذ 1948 ، وتحديدا في فترات ارتكاب المجازر بحقهم ، ولم يتحقق . ضحيت بالشيكل وتمنيت مؤمنا بما تقوله الأسطورة التي عادة ما لا آؤمن بها .
وسألني ابن أختي عما تمنيت .
لن أكتب الأمنية بالحروف نفسها ولكني أقول : تمنيت أن يعيد الله إلى فلسطين سبعة ملايين لاجيء فلسطيني وأن يعيد معهم أبي وأعمامي وجدي وجدتي الأموات .
شاطيء يافا في حزيران ، حيث الحر والرطوبة ، مكتظ بالعرب واليهود ، والملابس غالبا ما تفصح عن هوية كل طرف . هنا يجتمع الشرق المحافظ والغرب المتحرر ، وكل يتصرف بما يؤمن به .
في السادسة مساء تقريبا كان ثمة سائق ينادي :
- بيت لحم . الخليل .بيت لحم. الخليل .
تركت الشاطيء وسرت باتجاه فرن "أبو العافية " وسألت عن أبناء ابنة عم أمي نجاح ؛ سألت عن أحمد وخميس ، فاسماهما عالقان في الذاكرة ، أما أمهما التي أعرفها جيدا فقد توفيت منذ ست سنوات كما أخبرني حفيدها المحاسب . قال لي إن أحمد وخميس مسافران ، وأصر على أن يضيفني بعد أن عرفته بنفسي .
واصلت السير في الشارع الذي كان يضم بنايات قديمة أقيمت فوقها مبان جديدة ، واستبد بي الفضول لمعرفة اسم الشارع ، وحين لم يجبنا بعض العرب ، لأنهم كانوا زوارا لا يعرفون ، فقد سألت شابا يهوديا بدا متدينا يقف على مدخل بناية أشبه بقاعة احتفالات .
- اسلخاه ، ما شم هرحوب هزي ؟
- رحوب يافو .
أجابني وواصلت سيري .
كان الشارع هادئا فحركة المواصلات ، مشاة وسيارات ، كانت خفيفة ضعيفة ويبدو أنها أسبتت واحتاجت إلى " كافر سبت " .
عندما كان أبي على قيد الحياة كنت أعرف منه عن حياته وبيتهم في المدينة . عرفت أنهم كانوا يقيمون في البلدة القديمة ، ثم بنوا بيتا جديدا في حي النزهة ، والغريب أنني لم أطلب منه قبل 1987 أن يصطحبني إليه .كان يزوره بحكم عمله سائقا في شركة باصات ( ايغد ) ويتحدث العبرية مع الذين أقاموا في البيت بعد 1948 ، وفي آخر زيارة له ، كما أخبرني ، لم يجد البيت .لقد رأى كازية بنزين ، والآن حين اسأل عن بيت جدي هناك أقول :
- في حي النزهة حيث توجد " طرمبة " بنزين . ولا أعرف ما ألم بكوشان البيت الذي ظل أصغر أعمامي يحتفظ به ، ولا أعرف ما ألم بمفتاح الدار .
من سنوات قرأت مقطعا شعريا يقول صاحبه :
-" عبثا نحتفظ بمفاتيح الدار ،
فقد غيروا الأبواب " .
وفيما يخص بيتنا فلم يغيروا الأبواب وحسب . لقد هدموا البيت كله ؛ البيت الذي بناه جداي من وراء فرش الكعك .
كانت جدتي تصحو فجرا وتعجن العجين وتصنع الكعك ليبيعه جدي على طلبة المدارس . ولا أدري إن كان جدي في يافا مسحرا ، ومؤخرا عرفت أنه أول مسحر في مخيم عسكر القديم .
كان المساء يحل وعبثا نجحت في الاهتداء إلى حي النزهة ، وكان زوج أختي على عجل لمغادرة المدينة حتى يتلافى أزمة مرور إن كانت هناك أزمة .
في يافا سألني ابن أختي :
- ماذا ستكنب ؟
فأجبته :
- لم أر المدينة بعد . الكتابة تتطلب أن أعود إلى يافا واتحسسها بيتا بيتا وشارعا شارعا ، وأن أجلس في مقاهيها وأصغي إلى أهلها .
هل زرت يافا أم أنني كنت عابرا في الوجوه العابرة ؟
منذ تلك الزيارة وعنوان قصيدة محمود درويش في رثاء "أبو علي إياد " يلح علي " عائد إلى يافا " ويلح علي أكثر سطر شعري له " ويافا حقائب منسية في قطار " .
عبثا احتفظ عمي بالكوشان ، فلقد هدموا البيت كله .
لا بد من زيارات أخرى .

الجمعة 14 حزيران 2019

***

6- يافا في روايات فلسطينية وعربية (١ من ٢)

ماذا لو تفحصنا الأدبيات الفلسطينية التي كتبت عن يافا من أبنائها أو من الفلسطينيين قبل وقوع النكبة؟
هل هناك روايات صور فيها أصحابها المدينة قبل تهجير أهلها؟
قبل سنوات أثرت السؤال نفسه وأنا أكتب عن عكا في ثلاث روايات صدرت في السنوات الأخيرة، وذهبت إلى أن الكتابة عن المكان في الأدب الفلسطيني قبل العام ١٩٤٨ كانت شبه منعدمة، وهناك أسباب عديدة منها ضعف الكتابة وندرتها، ومنها انشغال أبرز أدباء فلسطين بالأحداث التي شهدتها بلادهم، ومنها أنهم كانوا يقيمون في المكان ولم يكونوا يتوقعون أن يهجروا منه.
وذهبت إلى أن الكتابة عن المكان الفلسطيني قبل النكبة واستحضاره بدأ يزداد في أدبيات القرن الحادي والعشرين. صحيح أن الشعراء بعد ١٩٤٨صاروا وهم في المنافي يتغنون بيافا وحيفا وعكا، ولكن هذا ظل ضعيفا ويكاد يقتصر على الشعر، أما في القصة القصيرة والرواية فيكاد يكون ضئيلا ولم تكن السيرة الذاتية ازدهرت بعد.
روى اللاجئون حكايتهم ولكنهم لم يكتبوها، وبقي الأمر كذلك حتى ثلاثة عقود خلت.
وأنا أتأمل الكتابات التي أتت على يافا أخذت أنظر في زمن كتابتها والزمن المسترجع فيها ووجدت أنني أمام زمنين؛ الزمن الكتابي والزمن الروائي، وأخذت أيضا أنظر في السارد من يكون. أهو يسرد عن حياته أم يعيد رواية ما رواه أبوه وجده؟ هل عاش في المدينة أم سمع من الذين عاشوا فيها؟ وهل اعتمد في كتابته على قص الآخرين أم أنه قرأ في الكتب عن المدينة؟
أحمد عمر شاهين ولد في يافا وغادرها وهو شاب يافع، وأما غيره من الكتاب فلم يقيموا فيها. زارها سميح القاسم يوما فكتب تقريره عنها، وزارها راشد حسين فكتب عنها، وكان الزمن الكتابي لديهما يتطابق مع الزمن الشعري. لقد زاراها في ستينيات القرن العشرين وكتبا عما كانت عليه في تلك الفترة، ولم تكن كتابات كثيرين من الآخرين كذلك، فلقد استحضر هؤلاء ما كانت عليه المدينة قبل ١٩٤٨ ويمكن ملاحظة الفارق بين الزمن الكتابي والروائي/الشعري بوضوح، وهو فارق كبير جدا، ولا شك بأن هذا يترك أثرا على الصورة.
ماذا لو نظرنا في الزمن الروائي لروايات وفاء أبو شميس "من أجل عينيك الخضراوين" وسعاد العامري "بدلة إنكليزية وبقرة يهودية" وإلياس خوري "كأنها نائمة" و"أولاد الغيتو" وعاطف أبو سيف "حياة معلقة" و"الحاجة كريستينا" و"الجنة المقفلة" وإبراهيم السعافين "ظلال القطمون"؟
لقد كتبت الأعمال المذكورة في الـ ١٥ سنة الأخيرة، ولكنها كلها تستحضر يافا قبل العام ١٩٤٨.
وماذا لو قارنا صورة يافا في الأعمال نفسها بصورتها التي تبدو يافا عليها الآن؟
هناك تغيرات كبيرة جدا طرأت على المكان. أين هو حي المنشية وحي العجمي الذي صور في الروايات؟ كيف كان وكيف أصبح؟
بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ كان أبي يزور بيتهم في حي النزهة ويشرب القهوة مع سكانه اليهود وفي ثمانينيات القرن ٢٠ ذهب ليزوره فلم يجده ووجد مكانه محطة بنزين، وحدث مثل هذا الكثير، وقد لخص راشد حسين هذه التحولات (١٩٦٣) في قوله:
"كانت مدينة مهنتها تصدير... وحولوا مهنتها تصدير لاجئين".
وفاء أبو شميس التي تكتب عن انتصار اللاجئة ومخيمها في علاقته بنابلس، حتى لتبدو الرواية سيرة لانتصار ومخيمها، تستحضر يافا من خلال ما قصه الآباء والأجداد عنها، فتكتب ما لا يقل عن ٢٠ صفحة عن حلم العودة إلى "يافا عروس فلسطين وقلبها النابض". تكتب عن التعليم والمدارس وتورد أغنية فيروز وجوزيف نصري "أذكر يوما كنت بيافا" وتأتي على زيارة الشاعر العراقي للمدينة وقصيدته فيها وتوردها كاملة. زمن النشر لرواية وفاء هو ٢٠١٦ وزمنها الروائي يعود إلى ما بعد ١٩٤٨حتى ٧٠ ق ٢٠ وتستحضر صورة يافا قبل النكبة.
تبني سعاد العامري روايتها على مقابلات شخصية أجرتها سنة ٢٠١٨ مع "صبحي (٨٨ عاما) المقيم الآن في عمان، وشمس (٨٥ عاما) المقيمة في يافا" وفيها تقص عن يافا قبل النكبة بعام وتكتب تحت عناوين مثل بيارات يافا ويافا أم الغريب وستوديو صابونجيان ومقهى التيوس ومقهى المثقفين وفي الكرخانة وموسم النبي روبين وصباح الجمعة: احتفالات الكسوة من يافا إلى النبي روبين "مدينة هائجة مائجة" وبعد أن تصف المدينة قبل سقوطها تأتي على ما ألم بها تحت الاحتلال الإسرائيلي وكيف أصبحت غيتو. زمن السرد هو ٢٠١٨ وزمن الكتابة هو ٢٠٢٠ والزمن الروائي أكثره هو ما بين ١٩٤٧ و١٩٥١ ويمتد إلى الحاضر في قفزة زمنية كبيرة جدا/ فجوة من ١٩٥١ إلى ١٩٨٨.
هل اختلف الزمن في روايتي خوري وفي روايات أبو سيف وفي رواية السعافين؟
لعل هذا يحتاج إلى مقاربة خاصة!

عادل الأسطة
2023-05-28

***

7- يافا في روايات فلسطينية وعربية (2 من 2)

وأنا أكتب عن الفلسطيني في الرواية العربية توقفت أمام رواية إلياس خوري «كأنها نائمة» ٢٠٠٧ وكتبت تحت عنوان «مرايا يافا»، فقد أتت الرواية العائد زمنها الروائي إلى ما قبل ١٩٤٨وبعده بقليل على المدينة.
يكتب إلياس عن يافا في لحظة غروبها، فالمرأة البيروتية التي جاءت لتعيش في يافا رأت فيها غير ما رأته في بيروت «رائحة زهر الليمون ومشهد المنازل الفسيحة والخوف». ويافا مدينة العطر كما سماها الناس نمت على كتفها مدينة جديدة تسعى إلى ابتلاعها تدعى تل أبيب، يافا مدينة نساؤها قويات متسلطات يحب أهلها الحياة ولهذا ينفقون في كل عام شهرا في خيام روبين حيث يستعدون لاستقبال الخريف. «يا روبني يا طلقني» تخاطب المرأة زوجها.
عاد إلياس ليكتب عن يافا في الجزء الثاني من ثلاثيته «أولاد الغيتو» «نجمة البحر». أقام آدم في فترة من حياته «بتل أبيب - يافو (هكذا صار اسم فيحاء فلسطين بعد طرد سكانها منها وإلحاقها ببلدية تل أبيب)». وعندما يمارس آدم الحب في يافا مع صديقته دالية يمارسه على قمة الصخرة المدببة، ويشعر أنه يقف في المكان «الذي قيل إنه يحمل آثار قدمي آدم بعد هبوطه من الجنة.
«انظري إلى آثار الأقدمين. هبط آدم من الجنة العلوية فوجد نفسه في يافا». هكذا يؤسطر إلياس المدينة.
إن موسم روبين الذي أشار إليه تتكرر الكتابة عنه في روايات عديدة: في رواية وفاء أبو شميس ونوال حلاوة «الست زبيدة» وأفاضت الثانية في الكتابة عن مسقط رأسها وحي النزهة فيها والمواسم الشعبية وطفولتها. إن لروايتها عموما قيمة توثيقية أكبر بكثير من قيمتها الأدبية.
يسترجع رشاد أبو شاور في «وداعا يا زكرين» ٢٠١٦ مشهد زيارة أبيه وأمه يافا قبل ١٩٤٨، يوم كان طفلا، لمعالجته هناك. يافا كانت مركزا يؤمه أهل الريف للعلاج وكانت أيضا مركزا للنشاط السياسي، ففيها يلتقي محمود والد رشاد برفاق الحزب الشيوعي، وفي يافا يتعرف على السينما ويشاهد الأفلام، وتروق المدينة لزوجته التي تدهشها بيوت الخليل قياسا لبيوت زكرين، فيعقب:
«- سترين بيوت يافا.. يافا عروس البحر... الله الله على يافا».
وتندهش زينب حين ترى نساء يافا وتفتحهن وتحررهن، وفي غرفة الفندق تقف على الشباك سارحة في منظر البحر، فتراه قطعة من الجنة، وتعرف سبب تردد محمود على يافا وتفضيله الحياة.
وتكتشف زينب بعد أن رأت يافا والناس الآتي:
«- محمود، إحنا مش عايشين».
عاطف أبو سيف الذي هجر أهله من يافا وولد في أحد مخيمات غزة عرف يافا من حكايات اللاجئين ولم يكتف بذلك، فقد زار أقاربه الباقين هناك وعاش بينهم فترة. كتب عاطف في غير رواية عن يافا؛ في «حياة معلقة» التي هي رواية مخيم بالدرجة الأولى، وكتب في «الحاجة كريستينا» وفي «الجنة المقفلة»، وقد أنجزها كلها بعد العام ٢٠١٥.
في صفحات عديدة من الأولى، نقرأ عن يافا المدينة التي صار أهلها يطلقون اسمها على مواليدهم من الإناث، وإحدى الشخصيات الرئيسة فيها اسمها يافا. تتمنى بعض شخصيات الرواية لو أنها عاشت في يافا ويظل اللاجئون يحلمون بالعودة إليها. برعت الجدة في سرد القصص عن «مدينة ناهضة تشهد تطورا وإعمارا وازدهارا وتجارة واعدة» وفجأة صار أهلها لاجئين.
تحضر يافا أكثر وأكثر في «الحاجة كريستينا» ففضة/ كريستينا ولدت في يافا في ١٩٣٦، وذهبت إلى لندن للعلاج ولما حدثت النكبة لم تعد. استقرت هناك حتى توفي صديق والدها الإنجليزي الذي تبناها، ولما مات تخلت أختاه عنها فعادت إلى غزة.
نقرأ في الرواية فصلا عنوانه «الحياة في يافا» وفيه استفاضة عن الحياة هناك؛ عن الصحف والمقاهي والشوارع وجمال الحياة. «في يافا تبدو الحياة أحلى وألذ مما يمكن وصفه»، ومع أن قسما من أهلها أقاموا في غزة على شاطئ البحر إلا أنهم ظلوا يقولون «هادا بحر وبحر يافا بحر».
في «الجنة المقفلة» تحت عنوان «الأب» يروي السارد عن علاقة الزوجين في يافا في فترة خطوبتهما: البيت في حي النزهة والتمشي في شوارع المدينة والذهاب إلى السينما والأفلام التي شاهداها. كانت الحياة مضيئة أما الآن في المخيم وبعد موت الزوج «لم يعد من تجلس معه لتتذكر تلك الأماسي في السينما في يافا ولا من تغني له أغنيات عبد الوهاب ولا ليلى مراد». يافا هي الجنة وفقدانها هو فقدان الفردوس.
تحضر يافا في رواية إبراهيم السعافين «ظلال القطمون» ٢٠٢٠، ولكنها تكتب عن يافا في زمن غروب مجدها واحتلالها وسقوط أحيائها وضياعها وتشرد أهلها. تأتي الرواية على زمن يافا العامر حيث الصحافة والمدارس والسينما والازدهار التجاري. إنها في ذلك لا تختلف عن مجمل الأعمال السابقة من قصة «دروب جميلة» ٢٠٠٧ حتى «بدلة إنكليزية وبقرة يهودية» ٢٠٢٠، واللافت أن هذه الأعمال معظمها لم تصف المدينة في ٥٠ و٦٠ و٧٠ و٨٠ القرن ٢٠، وهنا يأتي السؤال:
- ماذا لو هيئ ليافا كاتب روائي من أبنائها ممن بقي في النصف الثاني من القرن٢٠ مقيما فيها؟
من المؤكد أن صورتها في هذه السنوات ستكون مختلفة تماما عن صورتها قبل العام ١٩٤٨؛ الصورة التي ظهرت في الروايات التي أشرت إليها.
الموضوع ما زال بحاجة إلى مساءلة!!

عادل الأسطة
2023-06-04

***

8- أفكار وموتيفات في الأدب الفلسطيني والعربي )
يافا في روايات فلسطينية وعربية :
( المقال كاملا )

ماذا لو تفحصنا الأدبيات الفلسطينية التي كتبت عن يافا من أبنائها أو من الفلسطينيين قبل وقوع النكبة؟
هل هناك روايات صور فيها أصحابها المدينة قبل تهجير أهلها ؟
قبل سنوات أثرت السؤال نفسه وأنا أكتب عن عكا في ثلاث روايات صدرت في السنوات الأخيرة ، وذهبت إلى أن الكتابة عن المكان في الأدب الفلسطيني قبل العام ١٩٤٨ كانت شبه منعدمة ، وهناك أسباب عديدة منها ضعف الكتابة وندرتها ، ومنها انشغال أبرز أدباء فلسطين بالأحداث التي شهدتها بلادهم ، ومنها أنهم كانوا يقيمون في المكان ولم يكونوا يتوقعون أن يهجروا منه .
وذهبت إلى أن الكتابة عن المكان الفلسطيني قبل النكبة واستحضاره بدأت تزداد في أدبيات القرن الحادي والعشرين . صحيح أن الشعراء بعد ١٩٤٨ صاروا ، وهم في المنافي ، يتغنون بيافا وحيفا وعكا ، ولكن هذا ظل ضعيفا ويكاد يقتصر على الشعر ، أما في القصة القصيرة والرواية فيكاد يكون ضئيلا ولم تكن السيرة الذاتية ازدهرت بعد .
روى اللاجئون حكايتهم ولكنهم لم يكتبوها ، وبقي الأمر كذلك حتى ثلاثة عقود خلت ، فلم نقرأ الكثير عن حيفا ويافا وعكا فيما كتب ، وإن كنا نصغي إلى أهلنا يروون عن أيامهم في مدنهم ويصفون لنا أحياءها وشوارعها ومدارسها وجوامعها وميناءها ودور السينما فيها أيضا .
وأنا أتأمل الكتابات التي أتت على يافا أخذت أنظر في زمن كتابتها والزمن المسترحع فيها ووجدت أنني أمام زمنين ؛ الزمن الكتابي والزمن الروائي ، وأخذت أيضا أنظر في السارد من يكون . أهو يسرد عن حياته أم يعيد رواية ما رواه أبوه وجده ؟ هل عاش في المدينة أم سمع من الذين عاشوا فيها ؟ وهل اعتمد في كتابته على قص الآخرين أم أنه قرأ في الكتب عن المدينة ؟
أن ترى غير ما تسمع يقولون ، وفي السرد هناك السارد المشارك الذي يروي بمقدار ما يرى والسارد الذي يسمع فيعيد سرد ما سمع ، وثمة فارق بين الساردين .
أحمد عمر شاهين ولد في يافا وغادرها وهو شاب يافع ، وأما غيره من الكتاب فلم يقيموا فيها . زارها سميح القاسم في العام ١٩٦٦ فكتب تقريرا عنها لجريدة " الاتحاد " الحيفاوية ، وزارها راشد حسين فكتب عنها في العام ١٩٦٣ قصيدته " الحب والغيتو " ، وكان الزمن الكتابي لدى الشاعرين يتطابق مع الزمن النثري والشعري . لقد كتب الاثنان عما كانت عليه يافا في تلك الفترة ، ولم تكن كتابات كثيرين من الآخرين غيرهما كذلك ، فلقد صور الآخرون ما كانت عليه المدينة قبل العام ١٩٤٨ ويمكن ملاحظة الفارق بين الزمن الكتابي والروائي / الشعري بوضوح ، وهو فارق كبير جدا ، ولا شك بأن هذا يترك أثرا على الصورة . ( أنظر مقالي في جريدة الأيام الفلسطينية " يافا في ذكرى النكبة ، ٢١ / ٤ / ٢٠١٩ ومقالي عن قصة أكرم هنية " دروب جميلة " ٢٩ / ٤ / ٢٠٠٨ و ١٠ / ٤ / ٢٠٠٨ ) .
ماذا لو نظرنا في الزمن الروائي لروايات وفاء أبو شميس " من أجل عينيك الخضراوين " وسعاد العامري " بدلة إنكليزية وبقرة يهودية ( وكلتاهما ولدت بعد العام ١٩٤٨ لأسرة لاجئة هجرت من يافا ) وإلياس خوري " كأنها نائمة"و " أولاد الغيتو " ( وهو من مواليد بيروت في العام ١٩٤٨ ) وعاطف أبو سيف " حياة معلقة " و " الحاجة كريستينا " و " الجنة المقفلة " ( وهو من مواليد مخيم جباليا أحد مخيمات قطاع غزة في العام ١٩٧٣ ) وإبراهيم السعافين " ظلال القطمون " ( وهو من مواليد قرية الفالوجة في العام ١٩٤٢ ) ؟
لقد كتبت الأعمال المذكورة في ال ١٥ سنة الأخيرة ، ولكنها كلها تستحضر يافا قبل العام ١٩٤٨ .
وماذا لو قارنا صورة يافا في الأعمال نفسها بصورتها التي تبدو يافا عليها الآن ؟
هناك تغيرات كبيرة جدا طرأت على المكان . أحياء عديدة سويت بالأرض ومطاعم ومقاه ودور سينما وصيدليات وجوامع صارت أثرا بعد عين . أين هو حي المنشية وحي العجمي وحي النزهة الذين ذكروا في الروايات وكتب عن مقاهيها ومدارسها ومشافيها ومتاجرها ؟ كيف كانت وكيف أصبحت ؟
بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ كان أبي يزور بيتهم في حي النزهة ويشرب القهوة مع سكانه اليهود وفي ثمانينيات القرن ٢٠ ذهب ليزوره فلم يجده ووجد مكانه محطة بنزين ، وحدث مثل هذا الكثير ، وقد لخص راشد حسين هذه التحولات في قصيدته :
" كانت مدينة مهنتها تصدير برتقال ... وصارت مدينة مهنتها تصدير لاجئين " وصارت طرقها عجافا حبلى بالذباب والضجر و " قلبها صامت ... أغلقه حجر " . المدينة التي رضع من أثدائها حليب البرتقال تعطش " ذراعها شلت وظهرها انكسر وقد مسخت محششة توزع الخدر " . إنه يكتب عن يافا في زمنين .
وفاء أبو شميس التي تكتب عن انتصار اللاجئة ومخيمها في علاقته بنابلس ، حتى لتبدو الرواية سيرة لانتصار ومخيمها ، تستحضر يافا من خلال ما قصه الآباء والأجداد عنها ، فتكتب ما لا يقل عن ٢٠ صفحة عن حلم العودة إلى " يافا عروس فلسطين وقلبها النابض " . تكتب عن التعليم والمدارس وتورد أغنية فيروز وجوزيف نصري " أذكر يوما كنت بيافا " وتأتي على زيارة الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري للمدينة وقصيدته فيها وتوردها كاملة . زمن النشر لرواية وفاء هو ٢٠١٦ وزمنها الروائي يعود إلى ما بعد ١٩٤٨ حتى ٧٠ ق ٢٠ وتستحضر صورة يافا قبل النكبة .
تبني سعاد العامري روايتها على مقابلات شخصية أجرتها سنة ٢٠١٨ مع " صبحي ( ٨٨ عاما ) المقيم الآن في عمان ، وشمس ( ٨٥ عاما )المقيمة في يافا " وفيها تقص عن يافا قبل النكبة بعام وتكتب تحت عناوين مثل بيارات يافا ويافا أم الغريب وستوديو صابونجيان ومقهى التيوس ومقهى المثقفين وفي الكرخانة وموسم النبي روبين وصباح الجمعة : احتفالات الكسوة من يافا إلى النبي روبين " مدينة هائجة مائجة " وبعد أن تصف المدينة قبل سقوطها تأتي على ما ألم بها تحت الاحتلال الإسرائيلي وكيف أصبحت غيتو . زمن السرد هو ٢٠١٨ وزمن الكتابة هو ٢٠٢٠ والزمن الروائي أكثره هو ما بين ١٩٤٧ و ١٩٥١ ويمتد إلى الحاضر في قفزة زمنية كبيرة جدا / فجوة من ١٩٥١ إلى ١٩٨٨ .
هل اختلف الزمن في روايات خوري وأبو سيف و السعافين ؟
وأنا أكتب عن الفلسطيني في الرواية العربية توقفت أمام رواية إلياس خوري " كأنها نائمة " ٢٠٠٧ وكتبت تحت عنوان " مرايا يافا " ، فقد أتت الرواية العائد زمنها الروائي إلى ما قبل ١٩٤٨ وبعده بقليل على المدينة ( راجع كتابي من ص ١٩٤ إلى ٢٠٨ ) .
يكتب إلياس عن يافا في لحظة غروبها ، فالمرأة البيروتية التي جاءت لتعيش في يافا رأت فيها غير ما رأته في بيروت " رائحة زهر الليمون ومشهد المنازل الفسيحة والخوف " . ويافا مدينة العطر كما سماها الناس نمت على كتفها مدينة جديدة تسعى إلى ابتلاعها تدعى تل أبيب ، يافا مدينة نساؤها قويات متسلطات يحب أهلها الحياة ولهذا ينفقون في كل عام شهرا في خيام روبين حيث يستعدون لاستقبال الخريف . " يا روبني يا طلقني " تخاطب المرأة زوجها .
عاد إلياس ليكتب عن يافا في الجزء الثاني من ثلاثيته " أولاد الغيتو " " نجمة البحر " . أقام آدم في فترة من حياته " بتل أبيب - يافو ( هكذا صار اسم فيحاء فلسطين بعد طرد سكانها منها وإلحاقها ببلدية تل أبيب )" . وعندما يمارس آدم الحب في يافا مع صديقته دالية يمارسه على قمة الصخرة المدببة
ويشعر أنه يقف في المكان " الذي قيل إنه يحمل آثار قدمي آدم بعد هبوطه من الجنة .
" أنظري إلى آثار الأقدمين . هبط آدم من الجنة العلوية فوجد نفسه في يافا " . " هكذا يؤسطر إلياس المدينة .
إن موسم روبين الذي أشار إليه تتكرر الكتابة عنه في روايات عديدة : في رواية أبو شميس ونوال حلاوة " الست زبيدة " وأفاضت الثانية في الكتابة عن مسقط رأسها وحي النزهة فيها والمواسم الشعبية وطفولتها . إن لروايتها عموما قيمة توثيقية أكبر بكثير من قيمتها الأدبية .
يسترجع رشاد أبو شاور في " وداعا يا زكرين " ٢٠١٦ مشهد زيارة أبيه وأمه يافا قبل ١٩٤٨ ، يوم كان طفلا ، لمعالجته هناك . يافا كانت مركزا يؤمه أهل الريف للعلاج وكانت أيضا مركزا للنشاط السياسي ، ففيها يلتقي محمود والد رشاد برفاق الحزب الشيوعي ، وفي يافا يتعرف على السينما ويشاهد الأفلام ، وتروق المدينة لزوجته التي تدهشها بيوت الخليل قياسا لبيوت زكرين ، فيعقب
" - سترين بيوت يافا .. يافا عروس البحر ... الله الله على يافا " .
وتندهش زينب حين ترى نساء يافا وتفتحهن وتحررهن " تنحسر أثوابهن عن أرجلهن ، ولا أغطية على رؤوسهن ، وأعناقهن مكشوفة على الصدور ، وشعرهن يتطاير في الهواء " ، وفي غرفة الفندق تقف على الشباك سارحة في منظر البحر ، فتراه قطعة من الجنة ، وتعرف سبب تردد محمود على يافا وتفضيله الحياة فيها :
" - آخ ، يا زينب آخ ! ما أحلى الحياة في يافا ! كان نفسي أدخلك إلى السينما حتى تتفرجي على محمد عبد الوهاب وهو يغني ، والنساء يرقصن حواليه في سينما الحمرا ، ... " وتكتشف زينب بعد أن رأت يافا والناس الآتي :
" - محمود ، إحنا مش عايشين " .
عاطف ابوسيف الذي هجر أهله من يافا وولد في أحد مخيمات غزة عرف يافا من حكايات اللاجئين ولم يكتف بذلك ، فقد زار أقاربه الباقين هناك وعاش بينهم فترة . كتب عاطف في غير رواية عن يافا ؛ في " حياة معلقة " التي هي رواية مخيم بالدرجة الأولى ، وكتب في " الحاجة كريستينا " وفي " الجنة المقفلة " ، وقد أنجزها كلها بعد العام ٢٠١٥ .
في صفحات عديدة من الأولى نقرأ عن يافا المدينة التي صار أهلها يطلقون اسمها على مواليدهم من الإناث ، وإحدى الشخصيات الرئيسة فيها اسمها يافا . تتمنى بعض شخصيات الرواية لو أنها عاشت في يافا ويظل اللاجئون يحلمون بالعودة إليها ويتذكرون أيامهم فيها وأسماء شوارعها وأحيائها وقصص حبهم هناك ، بل والتحاقهم بالمقاومة وتهريب السلاح للثوار . برعت الجدة في سرد القصص عن " مدينة ناهضة تشهد تطورا وإعمارا وازدهارا وتجارة واعدة " وفجأة صار أهلها لاجئين .
تحضر يافا أكثر وأكثر في " الحاجة كريستينا " ففضة / كريستينا ولدت في يافا في ١٩٣٦ ، وذهبت إلى لندن للعلاج ولما حدثت النكبة لم تعد . استقرت هناك حتى توفي صديق والدها الإنجليزي الذي تبناها ، ولما مات تخلت أختاه عنها فعادت إلى غزة .
نقرأ في الرواية فصلا عنوانه " الحياة في يافا " ( من صفحة ٥٥ إلى ٨٩ ) وفيه استفاضة عن الحياة هناك ؛ عن الصحف والمقاهي والشوارع وجمال الحياة " في يافا تبدو الحياة أحلى وألذ مما يمكن وصفه " " كان شارع بسترس في يافا يعج بالحركة ... كانت يافا أم الغريب ، فلكل غريب مكان في يافا يسكن يتزوج يعمل يبني بيتا...الأطباء يأتون ليافا للعمل فيها... " ، ومع أن قسما من أهلها أقاموا في غزة على شاطيء البحر إلا أنهم ظلوا يقولون " هادا بحر وبحر يافا بحر " .
في " الجنة المقفلة " في الصفحات ( ١١٩ إلى ١٢٥ ) تحت عنوان " الأب " يروي السارد عن علاقة الزوجين في يافا في فترة خطوبتهما : البيت في حي النزهة والتمشي في شوارع المدينة والذهاب إلى السينما والأفلام التي شاهداها . كانت الحياة مضيئة أما الآن في المخيم وبعد موت الزوج " لم يعد من تجلس معه لتتذكر تلك الأماسي في السينما في يافا ولا من تغني له أغنيات عبد الوهاب ولا ليلى مراد " . يافا هي الجنة وفقدانها هو فقدان الفردوس .
في " وريث يافا " ٢٠١٨ يختار المتوكل شخصية رجل كبير مصاب بالزهايمر ، ويتذكر هذا أيام الطفولة التي قضاها في يافا ، فيصف يافا كما كانت عليه قبل ١٩٤٨ . إننا أمام زمنين ؛ زمن القص / التذكر والزمن المسترجع ، والمعروف عن المصابين بالزهايمر أنهم ينسون ما جرى معهن في الزمن القريب فيما يتذكرون الأحداث والأماكن التي مروا بها في طفولتهم بحذافيرها . هكذا يقص أبو صبحي عن يافا قبل ١٩٤٨ بعد خمسين عاما من الهجرة منها .
تحضر يافا في رواية إبراهيم السعافين " ظلال القطمون " ٢٠٢٠ ، ولكنها تكتب عن يافا في زمن غروب مجدها واحتلالها وسقوط أحيائها وضياعها وتشرد أهلها . تأتي الرواية على زمن يافا العامر حيث الصحافة والمدارس والسينما والازدهار التجاري ، فتذكر أسماء الشوارع والأحياء ودور السينما والصحف وتصف ما تعرضت له من هجمات في ١٩٤٨ . إنها في ذلك لا تختلف عن مجمل الأعمال السابقة من قصة " دروب جميلة " ٢٠٠٧ حتى " بدلة إنكليزية وبقرة يهودية " ٢٠٢٠ ، واللافت أن هذه الأعمال معظمها لم تصف المدينة في ٥٠ و٦٠ و ٧٠ و ٨٠ القرن ٢٠ ، وهنا يأتي السؤال :
- ماذا لو هييء ليافا كاتب روائي من أبنائها ممن بقي في النصف الثاني من القرن ٢٠ مقيما فيها ؟
من المؤكد أن صورتها في هذه السنوات ستكون مختلفة تماما عن صورتها قبل العام ١٩٤٨ ؛ الصورة التي ظهرت في الروايات التي أشرت إليها .
الموضوع ما زال بحاجة إلى مساءلة !!
( ملاحظات :
عرفت أن أيمن السكسك من يافا كتب باللغة العبرية رواية عن يافا في ٢٠١٠ ونقلت في مصر إلى العربية في ٢٠١٤ ولم أحصل عليها .
أصدر مؤخرا عبد القادر السطل المقيم في يافا رواية " عاشق البيارة " وصدرت عن الدار الأهلية في الأردن ولم أحصل عليها ، ولعبد القادر كتاب مصور عن يافا يعرف بها .
- لفت نظري الكاتب توفيق فياض Tawfik Fayad إلى رواية دعاء زعبي الخطيب " جوبلين بحري " إذ تجري بعض أحداثها في يافا . جزيل الشكر )
المصادر :
١ - أحمد العارضة ، خلل طفيف في السفرجل ، ٢٠٢٢ .
٢ - أحمد فضيض ، صباح الخير يا يافا . لم أحصل عليها .
٣ - أسماء ناصر أبو عياش ، يافا أم الغريب ، ٢٠١٩ .
٤ - أكرم هنية ، دروب جميلة ، ٢٠٠٧ .
٥ - أنور حامد ، يافا تعد قهوة الصباح ، ٢٠١٣ .
٦ - إبراهيم السعافين ، ظلال القطمون ، ٢٠٢٠ . د. إبراهيم السعافين
٧ - إلياس خوري ، أولاد الغيتو : نجمة البحر ٢٠١٨ و كأنها نائمة ٢٠٠٥ . Khoury Elias
٨ - أيمن السكسك ، إلى يافا ، ٢٠١٠ بالعبرية .
٩ - باسم الخندقجي ، أنفاس امرأة مخذولة ، ٢٠٢٠ .
١٠ - جميل السلحوت ، أميرة ، ٢٠١٥ ( تأتي بإيجاز على يافا وتقص عن القدس أكثر وعن ريف يافا - بيت دجن ) جميل السلحوت
١١ - راشد حسين ، الحب والغيتو ، ١٩٦٤ كمال حسين اغبارية
١٢ - رشاد ابوشاور ، وداعا يا زكرين ، ٢٠١٦ .
١٣ - سعاد العامري ، بدلة إنكليزية وبقرة يهودية ، ٢٠٢٠ والترجمة العربية ٢٠٢٢ .
١٤ - سميح القاسم ، إنها مجرد منفضة ، ٢٠١١ . نبيه القاسم
١٥ - سمير إسحق ، الجرح وطريق العودة والطريق إلى يافا . طبعت الأولى قبل ٨ سنوات والثانية قبل عام ولم أطلع عليهما . Samir Ishaq والكاتب من مواليد يافا وكتب عنها من مرويات أبوه عنها فهو يقيم في الأردن لا في يافا .
١٦ - عاطف ابوسيف ، حياة معلقة ، ٢٠١٥ والحاجة كريستينا ، ٢٠١٦ والجنة المقفلة ، ٢٠٢١ .
١٧ - عبد القادر السطل ، عاشق البيارة ، ٢٠٢٣ . Abed Elkader Satel
١٨ - غسان كنفاني ، عائد إلى حيفا ، ١٩٦٩ .
١٩ - المتوكل طه نزال ، وريث يافا ، ٢٠١٨ . Mutawakel Taha Nazzal
٢٠ - نوال حلاوة ، الست زبيدة ، ٢٠١٥ . Subhi Qahawish
٢١ - وفاء أبو شميس ، من أجل عينيك الخضراوين ، ٢٠١٦ .
Wafa Abushmais
٢٢ - يحيى يخلف ، راكب الريح ، ٢٠١٦ .
٢١ و ٢٢ و ٢٣ و ٢٤ و ٢٥ و ٢٦ / ٥ / ٢٠٢٣ .
من الأحد حتى الجمعة

***

9- "ما تبقى لنا" من يافا: سعاد العامري و"بدلة إنكليزية وبقرة يهودية"

بعد نشر مقالي: "بلبل فلسطين في بيت جدي: النكبة والجنون وزياد خداش" (١٦ / ١٠ / ٢٠٢٢) أخذت أسأل عن صورة عمي للتأكد من أنه كان فيها بصحبة محمد عبد الوهاب أم لا . لم أعثر على الصورة ، فقلت لم يتبق لنا من يافا شيء ، فحتى بيت جدي في حي النزهة ، كما أعلمني أبي الذي زاره بعد ١٩٦٧ مرارا ، وكما أبلغني مواطن نابلسي استأجر غرفة جانبية منه ، جرف وأقيمت على أنقاضه محطة محروقات ، وتذكرت نهاية رواية سعاد العامري " بدلة إنكليزية وبقرة يهودية " المكتوبة في ٢٠٢٠ والصادرة ترجمتها العربية في ٢٠٢٢ . ( وأنا أراجع أرشيف كتاباتي لاحظت أنني كتبت في ملحق الأيام " اليوم الثامن " في ١٢ تموز ٢٠٠١ تحت عنوان " كوشان بيت جدي " ) .
تنتهي الرواية بزيارة سعاد لصبحي الذي صار في العام ٢٠١٨ في ال ٨٨ من عمره ، في غرفته المتواضعة في جبل المريخ في عمان ، وتسأله عن البدلة وعن محبوبته شمس التي صارت في ال ٨٥ وتزوجت من أخيه أمير الذي بقي في يافا ، فيجيبها ، بعد أن أخرج خرقة رمادية مخططة بالأحمر :
- " هاد كل اللي بقيلي من فلسطين "
- " وشو بالنسبة إلى شمس ؟ "
- " صحيح إني ما رجعت شفت شمس بحياتي ، لكن هادا ما بيعني إني ما كنت أفكر فيها طول هاي السنين ..... كل اللي بقدر أقوله إني سعيد إنها ضلت في العيلة ... كل واحد ونصيبه في هالدنيا " .
وقصة صبحي وبدلته ، وكذلك قصته مع شمس ، قصة . فمن هو ؟ وما هي قصته التي بنيت عليها الرواية ؟
على الغلاف نقرأ " رواية مقتبسة عن قصة حقيقية " وقد كتبت باللغة الإنجليزية وترجمتها الكاتبة مع الكاتبة هلا شروف إلى العربية ، وأهدتها سعاد " إلى أبي ، وإلى اللاجئين جميعهم الذين قضوا في الشتات منتظرين العودة إلى الوطن " ، وبعد صفحة الإهداء أوردت الكاتبة الملاحظة الآتية :
" هذه الرواية مبنية على مقابلات شخصية ، أجريتها سنة ٢٠١٨ مع صبحي ( ٨٨عاما ) المقيم الآن في عمان ، وشمس ( ٨٥عاما ) المقيمة في يافا " .
وتبدأ تقص قصة صبحي ابن الخامسة عشرة الذي عمل في كاراج مصطفى الميكانيكي ابتداء من تموز ١٩٤٧ وتنهي قصها بلقائها مع شمس في يافا في كانون الثاني ٢٠١٨ ، ويتركز القص على فترات زمنية محددة وتكون هناك فجوة زمنية طويلة جدا ما بين العامين المذكورين لا نعرف فيها الكثير عن حياة صبحي في المنفى وشمس في يافا ، وتمتد هذه الفجوة الزمنية منذ ٥٠ القرن ٢٠ إلى العام ٢٠١٨ ، فلا نقرأ عن ستين عاما تقريبا من حياة كل منهما إلا أقل القليل ، قياسا لما نقرؤه عن حياتهما في العام ١٩٤٧ وعام النكبة ١٩٤٨ والأعوام القليلة التي تليه .
صبحي يختار أن يكون ميكانيكيا في كاراج مصطفى ، لا مزارعا كأبيه اسماعيل ولا صيادا كجده .
في موسم النبي روبين اليافاوي المشهور يحب صبحي شمس ابنة خليل السقا المزارع التي تصغره بثلاثة أعوام ، وهي من سلمة ، ويتخذ قراره بالزواج منها ، ولكن الأحداث تتسارع وتحدث النكبة وتتشتت العائلات الفلسطينية ولا يتزوجان ، فهو يهاجر وهي تقودها الظروف إلى البقاء في يافا ، فتتزوج من أخيه أمير الذي قدرت له الأحداث أن يظل في يافا .
ما هي قصة البدلة الانكليزية والبقرة اليهودية ؟
عندما كان صبحي ميكانيكيا في الكاراج انتدبه معلمه مصطفى ليذهب مع الخواجا العصامي ميخائيل إلى بيارته ليصلح له ماطور ضخ المياه ، ويعده ميخائيل بأنه إن نجح في إصلاح المضخة أن يكرمه ببدلة انكليزية يكون ثمنها ٨ جنيهات فلسطينية يوم كانت أجرة صبحي في اليوم ٣٠ قرشا ، ويصلح صبحي المضخة فينقذ موسم البرتقال لميخائيل ويحصل على البدلة التي يلبسها متباهيا بها ، مقررا أن تكون بدلة عرسه يوم يتزوج شمس ، ويظل تفكيره منحصرا في البدلة ذات الصوف الإنجليزي الفاخر وفي محبوبته شمس ، وينتهي حلمه بالإخفاق فلا يتحقق .
وأما قصة البقرة اليهودية التي اقترن دالها في العنوان بدال البدلة فقصتها قصة قررت مستقبل شمس وأخواتها .
في خضم أحداث النكبة وما نجم عنها من تشرد وشتات وجوع يسرق بعض الفلسطينيين ، ومنهم خليل السقا والد شمس ، بقرة من مستوطنة ويذبحونها ويطعمون الناس الجياع ، وتكون النتيجة اعتقال اليهود من ذبحها ، وهكذا تجد شمس نفسها وأختيها بلا أب وبلا أم أيضا ليرعاهما الشيوعيان عبد المصري ورفقة اليهودية حتى خروج خليل من السجن وبحثه عن بناته ولقائه بهما وتزويج شمس من أمير شقيق صبحي ، وتستقر شمس في يافا وتعمر وتعيش مع أحفادها .
من خلال الرواية التي تروى بأسلوب الحكاية المشوق نتعرف إلى يافا وحياة سكانها قبل العام ١٩٤٨ ، ويافا هي مدينة والد سعاد المربي محمد أديب العامري ، ويبدو أن إلمامها بتفاصيل حياة المدينة إلماما يقترب من إلمام من عاش فيها يتكيء بالدرجة الأولى على أحاديث والدها وذكرياته في يافا التي أقام فيها وهجر منها وزارها بعد هزيمة ١٩٦٧ ، وعندما زار بيته لم تأذن له المرأة اليهودية بدخوله وأغلقت الباب في وجهه وهددته باستدعاء الشرطة إن ألح وكرر الطلب .
تأسرك سعاد بأسلوبها في القص وتزودك ببعد معرفي عن يافا وأهلها وموسم النبي روبين فيها ، وهي بذلك تواصل مشروعها الكتابي الذي بدأ بكتابها " شارون وحماتي " و" مراد مراد " ف " دمشقي " وإذا كانت الأخيرة عن دمشق مدينة أمها فإن " بدلة إنكليزية.. " عن مدينة أبيها التي جاورتها مدينة تل أبيب ، وما تزودنا به من كتابة عن المدينة الفلسطينية قبل ١٩٤٨ هو ما افتقدته الرواية الفلسطينية التي كتبها الرواد ونشروها قبل ١٩٤٨ .
كانت يافا مدينة مزدهرة فيها المقاهي ودور السينما ولم يكن أهلها منغلقين ، بل إن قسما منهم كان منفتحا على الجيران اليهود وهو ما قرأناه في قصة نجاتي صدقي " العابث " وما كان أبي يرويه لي .
المساحة محدودة والكتابة تطول ولعلني أقارب العلاقات الأسرية في الرواية في مقالات لاحقة . لعلني !
الاثنين
١٦ / ١٠ / ٢٠٢٢ .

***

10- يافا في عيون روائييها: عبد القادر سطل "عاشق البيارة"

هل ثمة روائيون يافاويون كتبوا عن مدينتهم من داخلها بعد نكبة ١٩٤٨؟
كل من ألم بما حدث سيجيب بالنفي، فالمدينة التي بلغ عدد سكانها ٧٥ ألفا غدت في عام النكبة فارغة إلا من بضعة آلاف جمعوا في حي واحد هو العجمي/ «غيتو يافا»، وقد صور الحياة في المدينة ما بين العامين ١٩٤٨ و١٩٦٦ ثلاثة فلسطينيين زاروها وكتبوا عنها؛ راشد حسين في قصيدته «الحب والغيتو»، وسميح القاسم في تقريره في جريدة «الاتحاد» في ١٩٦٦ «ريبورتاج من أقبية الحشيش وبار «المسجد»! المعذبون في يافا»، وعيسى لوباني في نص نثري في كتاب «أم الخير... و...» ١٩٩٤، ويختصر عنوان تقرير القاسم وأسطر راشد حسين الآتية الوضع في تلك الأيام:
«يافا - لمن يجهلها - كانت مدينة
مهنتها تصدير برتقال
وذات يوم هدمت.. وحولوا مهنتها.. تصدير لاجئين».
ولسوء حظنا وحظ المدينة، أو لحسنه، أنه حتى ٢٠١٢ تقريبا لم يكتب عن يافا روائي من أبنائها ممن بقي فيها.
كتب عن يافا روائيون عديدون ولكن علاقتهم بها كانت عابرة لم تتجاوز القراءة في الكتب أو السماع ممن عاش فيها أو الزيارة العابرة، وهو ما رصدته في مقالين في هذه الزاوية في حزيران. وقياسا إلى القدس وحيفا وعكا، بل والناصرة، ظل حضور يافا روائيا، بعد النكبة، حضورا باهتا، وحين صارت تحضر في العقدين الأخيرين حضرت صورتها قبل العام ١٩٤٨، وهي صورة جميلة مشرقة.
أول روائي من يافا بعد النكبة هو أيمن السكسك، وقد كتب روايته الأولى بالعبرية، وعرفت أن قسم اللغة العبرية في جامعة مصرية نقلها إلى العربية، وللأسف فإنني حتى اللحظة لم أتمكن من الحصول عليها.
وثاني روائي هو عبد القادر سطل الذي أصدر كتابه «يافا: رسائل في ظلال النكبة» ٢٠١٨، ثم أصدر روايته الأولى «عاشق البيارة» في ٢٠٢٣.
عبد القادر هو من مواليد١٩٦٠ وما زال يقيم في حي العجمي هناك، وهو ابن بياري حفيد بياري، واتفق أنه ولد في العام الذي قتل فيه عمه يحيى الذي استبد به الحنين لزيارة أخته اللاجئة في قطاع غزة، فتسلل إلى القطاع وحين عاد أيضا متسللا أطلق الإسرائيليون النار عليه.
لم يكتب عبد القادر عن يافا بعد النكبة وإنما كتب عنها في ثلاثينيات القرن ٢٠ وأربعينياته حتى أيار ١٩٤٨، شهر القتل والتهجير وإفراغ المدينة من سكانها، وهكذا انتهت الرواية نهاية مأساوية. خسر اليافاوي توفيق الحبيبة والبيارة والوطن وصار لاجئا في لبنان. كأنما تفصل الرواية أسطر محمود درويش في العام ١٩٧٣:
«هذا هو العرس الفلسطيني لا يصل الحبيب إلى الحبيب إلا شهيدا أو شريد».
ومع أن الرواية كتبت في٢٠٢٣ ومع أن كاتبها من مواليد ١٩٦٠، إلا أنه لم يقارب المدينة تحت الاحتلال، ويبدو أنه اكتفى بالكتابة عن هذه الفترة بما كتبه في كتابه الأول الذي صدرت هذا العام طبعته الثانية.
من هو عاشق البيارة؟ أهو صاحبها أبو توفيق أم المعتني بها أبو أحمد أم توفيق؟
الأولان «كانا يعشقان البيارة وكل له أسبابه...، أما توفيق فكان عشقه للبيارة أضعافا مضاعفة كثيرة. كيف لا وهي التي ستحول الطالب الجامعي... من شاب رياضي إلى مناضل حول البيارة من مشروع اقتصادي إلى معسكر تدريب له ولأصدقائه..».
كان توفيق طالبا في الجامعة الأميركية في بيروت ولكنه قطع دراسته ليعود إلى يافا في فترة اشتداد الغزوة الاستيطانية لعله يقدم إلى وطنه خدمة تحميه من الضياع. في البيارة يحب ابنة البياري أبو أحمد، فيعشقها كما عشق وطنه وبيارته ويصبح العشق ثلاثي الأبعاد؛ الوطن والبيارة وعبير التي سيحاول رجال العصابات الصهيونية اغتصابها فتموت قبل أن يتمكنوا من ذلك.
الشخصية الرئيسة هي شخصية توفيق. إنه شاب متعلم ذكي يسخر حياته كلها لخدمة وطنه، فحين كان في بيروت لم ينفق أيامه في الملاهي، بل في النشاط السياسي والسفر إلى دول عربية ليتدرب على السلاح من أجل العودة والدفاع عن الوطن، وهو ما فعله. «لقد اختار أن يلتزم الصمت، ويعمل بسرية تامة دون أن يشكل خطرا على أي من أفراد أسرته أو العاملين في البيارة، بل العكس فذكاؤه جعله يحول من يقطفون الحمضيات نهارا، فدائيين ليلا... «، وعندما أقام علاقة مع الفتاة اليهودية اليمنية شوشانا التي أحبته وطمحت في الزواج منه أقام العلاقة لتخدم أهدافه.
وتوفيق فوق ذلك ذو دم حار، فهو لم يحتمل رؤية الجندي الإنجليزي يقتل مواطنا فلسطينيا ولذلك أشهر مسدسه المخبأ وقتل الجندي.
عالم البيارة ومدينة يافا قبل النكبة هو محور الرواية التي كتبها الكاتب مدفوعا بعشقه للمكان الذي نشأ فيه ورأى التحولات التي ألمت به، وكما ذكرت فإن الزمن الروائي ينتهي عند ١٩٤٨- أي قبل ١٢ عاما من ولادة الكاتب. إن الرواية هذه، على الرغم من اختلاف موقع كاتبها عن مواقع كل من كتب عن يافا، تتقاطع مع الروايات السابقة لها في أنها صورت المدينة في زمن ازدهارها، فكتبت عن معالمها الثقافية وصورت أماكنها وذكرت أسماءها وأتت على أوضاعها الاقتصادية المزدهرة، وإن اختلفت في جانب فهو التفصيل في الكتابة عن يافا وعالم البيارة، علما بأننا نقرأ جانبا منه في رواية سعاد العامري «بدلة إنكليزية وبقرة يهودية».
الكتابة تطول والمساحة محدودة.

عادل الأسطة
2023-08-13

***

11- وأخيراً تزور يافا..

منذ فترة طويلة وأنا أفكر في إنجاز كتاب عن المدن الفلسطينية التي لها حضور في ذاكرتي الشخصية والأدبية، المدن التي زرتها قبل العام 1987 ثم انقطعت عن زيارتها ثلاثين عاماً تقل قليلاً أو تزيد قليلاً: القدس وعكا وحيفا ويافا وغزة تحديداً.
تمكنت من زيارة القدس وعكا وحيفا ولم أفلح في زيارة يافا وغزة.
في العام 2000 عقد قسم اللغة العربية في الجامعة الإسلامية في غزة مؤتمراً علمياً أردت المشاركة فيه ولكن السلطات الإسرائيلية لم توافق على منحي تصريحاً بحجة أنني "محروق". هكذا جاء الرد.
سافر زملائي ولم أسافر ولم أر غزة التي زرتها مرات عديدة بعد هزيمة حزيران 1967.
يافا المدينة التي ولد فيها أبي، وهي مدينته ومدينة آبائه وأجداده، ظلت زيارتها حلما يراودني، وآخر مرة زرتها كانت في العام 1987.
منذ أيلول 1987 لم أر يافا، وكلما فكرت في زيارتها أشكل الأمر وصعب حتى زرتها أخيراً في ثالث أيام عيد الفطر السعيد في السابع من حزيران 2019.
اثنان وثلاثون عاما تنقضي ولا أرى مدينة الآباء والأجداد وهي على مرمى العصا. كما لو أنني ابن عاق لـ "أم الغريب" التي طالما استقبلت قبل 1948 الغرباء واحتضنتهم، حتى أنها كانت تبصر بدايات ولادة المشروع الصهيوني دون أن ترى فيه خطراً يهدد وجودها.
مرة كنت أشاهد لقاء بثته فضائية الجزيرة مع شفيق الحوت روى فيه أن أمه سخرت منه حين أخبرها عن الخطر القادم من اليهود، ولم تصدق ما قاله لها إلا حين رأت جثة أحد أبنائها في 1948 مقتولاً على أيدي العصابات الصهيونية.
وأخيراً زرت يافا!
في ثالث أيام العيد زرت القدس لأعيد على أختي.
بعد أن اجتزنا معبر قلندية أخذت أصغي إلى أصحاب الحافلات ينادون:
- يافا. البحر. يافا. البحر.
سألت السائق عن الأجرة وعن الأيام التي تتوفر فيها الباصات هنا على المعبر، وعن مكان وقوفها في القدس.
لطالما كتبت عن يافا مستعيناً بما أقرأ في النصوص الأدبية أو بما أشاهد من أفلام قصيرة أو لقاءات وحوارات عابرة مع أبنائها الباقين فيها يتحسرون على ماضيها، ونادراً ما أفلحت في استحضارها مما بقي عالقاً في ذاكرتي من زيارتي لها قبل العام 1987.
الصورة التي تشكلت عن المدينة من خلال النصوص الأدبية لم تكن مشرقة دائماً، وقصيدة محمد مهدي الجواهري لم أتمثلها تمثلاً جيداً.
لقد رسخ، في الذاكرة أكثر، نصان كتبهما راشد حسين وسميح القاسم وأظهرا للمدينة صورة قاتمة تطابقت إلى حد ما وما شاهدته بعد 1967، وغالباً ما كتبت عن هذين النصين.
كان زوج أختي يقترح علي أن أزوره ليصطحبني إلى يافا، وغالباً ما كنت أجيب بالإيجاب ولا أبادر.
في القدس في الرابعة عصراً سرنا إلى يافا وكنت أمعن النظر في جانبي الطريق؛ الأحراش والقرى العربية ومكان استشهاد عبد القادر الحسيني/القسطل ومخلفات حرب 1948 من الآليات الحربية الإسرائيلية التي شاركت في المعارك. كانت هذه المخلفات في وسط الشارع الرئيس ثم ركنت، بعد توسيعه، إلى الجانبين.
عندما زرت يافا في 1967 أو 1968 لفتت عمارة شالوم النظر، فقد كان عدد طوابقها يربو على السبعين، والآن وأنت في تل أبيب ترى عشرات العمارات ذات الطوابق المرتفعة.
وأنت في يافا الآن ترى الساعة مازالت قائمة وترى فرن "أبو العافية "في مكانه.
وأنا قرب الشاطئ على الرصيف تفقدت الميناء. هل خانتني الذاكرة أم خانني النظر. لم أر الميناء ولم أر الحرش وكأنني افتقدت التلة المقابلة.
أخيراً عثرت على التلة ولكنني لم أعثر على الميناء والحرش. كاد الأمر يلتبس علي بخصوص التلة ثم أدركت أن المباني الجديدة التي أقيمت هي ما جعل الصورة مشوشة.
حين كنت أزور يافا قبل 1987 لم يكن يدفعني إلى زيارتها الوعي بالمكان؛ ما كان عليه وما صار إليه، على الرغم من أن هذه الفكرة محورية في رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا".
ما كان يلح علي في حينه هو رؤية مدينة الآباء والأجداد التي طردوا منها وبسبب فقدانها صاروا لاجئين وولدت في مخيم لاجئاً يعاني صحياً ونفسياً واجتماعياً وإنسانياً.
في هذه السنوات أصبحت أزور مدننا محملاً بأبعاد معرفية وبتجربة مرة وبنظرة شمولية ترى في فلسطين شقيها؛ المنفى والاحتلال، وتدرك ما معنى هذا القدر من الشقاء والمعاناة لسبعة ملايين لاجئ وستة ملايين محاصر، وتنظر إلى الماضي بعين الحاضر والحاضر بعين الماضي، وتردد عبارة "ما متع غني إلا بما جاع به فقير" على النحو الآتي: "ما متع يهودي إلا بما تعذب به فلسطيني".
في أثناء تجوالي في المباني المحيطة بالساعة وشاطئ البحر رأيت مباني لم أقترب منها من قبل، مع أنها كانت موجودة وقائمة من العهد العثماني. في هذه المباني كان يقيم القناصل الأوروبيون ويتحكمون في المدينة ويخططون لمستقبلها وما ستصير إليه.
الآن هذه المباني غدت محلات لبيع بعض تحف أو أشبه بمطاعم، وغدت ساحتها خضراء يأتي إليها العرسان لتبادل الخواتم أو غدت مكاناً لعرض مسرحية أو لعزف قطعة موسيقية. المقاعد متوفرة بكثرة ليجلس عليها السائحون أو أبناء المدينة لينظروا إلى البحر.
في ساحة هذه المباني العلوية نافورة ماء تسمى بركة الحظ. ما عليك إلا أن ترمي قطع النقود وتتمنى.
هكذا تقول الأسطورة، ولما كنت أملك شيكلاً واحداً فائضاً فقد آمنت بالأسطورة وألقيت به فيها وتمنيت ما تمناه الفلسطينيون منذ 1948، وتحديداً في فترات ارتكاب المجازر بحقهم، ولم يتحقق.
ضحيت بالشيكل وتمنيت مؤمناً بما تقوله الأسطورة التي عادة ما لا أومن بها.
وسألني ابن أختي عما تمنيت.
لن أكتب الأمنية بالحروف نفسها ولكني أقول: تمنيت أن يعيد الله إلى فلسطين سبعة ملايين لاجئ فلسطيني وأن يعيد معهم أبي وأعمامي وجدي وجدتي الأموات.
شاطئ يافا في حزيران، حيث الحر والرطوبة، مكتظ بالعرب واليهود، والملابس غالباً ما تفصح عن هوية كل طرف.
هنا يجتمع الشرق المحافظ والغرب المتحرر، وكل يتصرف بما يؤمن به.
في السادسة مساء تقريباً كان ثمة سائق ينادي:
- بيت لحم. الخليل. بيت لحم. الخليل.
تركت الشاطئ وسرت باتجاه فرن "أبو العافية" وسألت عن أبناء ابنة عم أمي نجاح؛ سألت عن أحمد وخميس، فاسماهما عالقان في الذاكرة، أما أمهما التي أعرفها جيداً فقد توفيت منذ ست سنوات كما أخبرني حفيدها المحاسب. قال لي إن أحمد وخميس مسافران، وأصر على أن يضيفني بعد أن عرفته بنفسي.
واصلت السير في الشارع الذي كان يضم بنايات قديمة أقيمت فوقها مبانٍ جديدة، واستبد بي الفضول لمعرفة اسم الشارع، وحين لم يجبنا بعض العرب، لأنهم كانوا زواراً لا يعرفون، فقد سألت شاباً يهودياً بدا متديناً يقف على مدخل بناية أشبه بقاعة احتفالات.
- اسلخاه، ما شم هرحوب هزي؟
- رحوب يافو.
أجابني وواصلت سيري.
كان الشارع هادئاً فحركة المواصلات، مشاة وسيارات، كانت خفيفة ضعيفة ويبدو أنها أسبتت واحتاجت إلى "كافر سبت".
عندما كان أبي على قيد الحياة كنت أعرف منه عن حياته وبيتهم في المدينة.
عرفت أنهم كانوا يقيمون في البلدة القديمة، ثم بنوا بيتاً جديداً في حي النزهة، والغريب أنني لم أطلب منه قبل 1987 أن يصطحبني إليه. كان يزوره بحكم عمله سائقاً في شركة باصات (ايغد) ويتحدث العبرية مع الذين أقاموا في البيت بعد 1948، وفي آخر زيارة له، كما أخبرني، لم يجد البيت. لقد رأى كازية بنزين، والآن حين اسأل عن بيت جدي هناك أقول:
- في حي النزهة حيث توجد "طرمبة" بنزين. ولا أعرف ما ألم بكوشان البيت الذي ظل أصغر أعمامي يحتفظ به، ولا أعرف ما ألم بمفتاح الدار.
من سنوات قرأت مقطعاً شعرياً يقول صاحبه:
-" عبثاً نحتفظ بمفاتيح الدار،
فقد غيروا الأبواب".
وفيما يخص بيتنا فلم يغيروا الأبواب وحسب. لقد هدموا البيت كله؛ البيت الذي بناه جداي من وراء فرش الكعك.
كانت جدتي تصحو فجراً وتعجن العجين وتصنع الكعك ليبيعه جدي على طلبة المدارس. ولا أدري إن كان جدي في يافا مسحراً، ومؤخراً عرفت أنه أول مسحر في مخيم عسكر القديم.
كان المساء يحل وعبثاً نجحت في الاهتداء إلى حي النزهة، وكان زوج أختي على عجل لمغادرة المدينة حتى يتلافى أزمة مرور إن كانت هناك أزمة.
في يافا سألني ابن أختي:
- ماذا ستكتب؟
فأجبته:
- لم أر المدينة بعد. الكتابة تتطلب أن أعود إلى يافا وأتحسسها بيتاً بيتاً وشارعاً شارعاً، وأن أجلس في مقاهيها وأصغي إلى أهلها.
هل زرت يافا أم أنني كنت عابراً في الوجوه العابرة ؟
منذ تلك الزيارة وعنوان قصيدة محمود درويش في رثاء "أبو علي إياد" يلح علي "عائد إلى يافا" ويلح علي أكثر سطر شعري له "ويافا حقائب منسية في قطار".
عبثاً احتفظ عمي بالكوشان، فلقد هدموا البيت كله.
لا بد من زيارات أخرى.

***

12- عائد إلى يافا

"عائد إلى يافا" هو عنوان قصيدة لشاعرنا محمود درويش، كتبها في بداية السبعينيات من القرن العشرين، إثر استشهاد القائد الفلسطيني أبو علي إياد. ومما يفهم منها أن أبا علي إياد عاد، ميتاً، شهيداً، إلى يافا، لأنه يرفض حياة اللجوء، فالأرض هي اللاجئة، وهي لاجئة في جراحه، وهكذا رحل إلى يافا ليسكن فيها. رحل عنا.
لم يكن درويش يقلد كنفاني حين اختار العنوان، وإن كان، بالتأكيد، قرأ روايته >عائد إلى حيفا<. ثمة تناص في العنوان، وكثيراً ما يحدث هذا، وآخر تناص مع رواية كنفاني في العنوان، حسب ما أعرف، كان يكمن في رواية الفلسطيني المنفي: عيسى بلاطة، ابن القدس الرسام والناقد والقاص والروائي، فقد أصدر رواية وحيدة، عرفت عنها مؤخراً وقرأتها للتو، هي: >عائد إلى القدس<.
تذكرت عودة سعيد. س بطل رواية كنفاني، وعودة أبي علي إياد المروي عنه، في قصيدة درويش، وعودة الأستاذ فؤاد سرحان أحد أبطال رواية بلاطة، وهي عودة منوية لمّا تتم، حتى اللحظة. لماذا؟
كنت في بداية تموز 2007 كتبت مقالاً تحت عنوان >تموزيات< وأتيت، في جانب منه على مقابلة أجريت مع الكاتب الإسرائيلي (سامي ميخائيل) اليهودي العراقي سابقاً، الإسرائيلي حالياً، وطلبت منه، هو الذي تحدث باسمه وباسم اليهود، ولا اعتراض على ذلك، طلبت منه، حين تحدث باسم اللاجئين الفلسطينيين، ألا يفعل ذلك، لأنه لا يجوز له. فأنا اللاجئ الفلسطيني لا يحق لي أن أتحدث باسم اللاجئين كلهم، حتى لو فوضني تسعون بالمائة منهم بذلك. لماذا؟ لأنني أرى أن حق اللجوء حق فردي. كل لاجئ فلسطيني عليه أن يُخيَّر، ويختار، من ثم، ما يريد: العودة إلى فلسطين أو البقاء في المنافي. وهكذا يجب أن تحل قضية اللاجئين. الذي يختار العودة يعود، والذي يختار البقاء في المنافي يبقى. ولا حل، فيما أرى، وقد أكون مخطئاً، غير هذا: حرية الاختيار.
سأسأل أشخاصاً عديدين بعد كتابة المقال عن خيارهم، ولن أسأل وحدي، فبعض من قرأوا المقال رددوا السؤال على بعض الشخوص من اللاجئين أمامي، ليعرفوا رأيهم في الأمر. الأربعاء المنصرم كنت أجلس على رصيف. وكان أخي، وحضر رجل غزي وجلس، ثم جاء شاب لاجئ، أهله من يافا، وجلس على الرصيف. وسأل الأول الثاني: إن خيّرت بين البقاء في نابلس وبين العودة إلى يافا، فماذا تختار؟ وكان جواب الشاب: البقاء في نابلس.
لا يقيم هذا الشاب، الآن، في مخيم. إنه يقيم في حي معقول من أحياء المدينة. وإذا لم أكن مخطئاً فلم يولد، مثلي، في المخيم ولم يقم فيه إطلاقاً، لأن عمره الآن لا يزيد على ثلاثة وعشرين عاماً، وأبوه أقام في الحي الذي ولد فيه ابنه منذ العام .1978 وهكذا لا يعرف هذا الشاب شيئاً عن حياة المخيمات، وربما بحكم وعيه البسيط، لا يعرف الكثير عن مأساة أهلها، منذ عام الخروج من الجنة، العام .1948 ولم أستغرب ما قاله. لم أستغرب قراره. لماذا؟ ببساطة لأنه لا يعرف بالضبط معنى كلمة لاجئ، وما عاناه اللاجئون.
ربما يكون هذا الشاب وأمثاله أيضاً ممن راهن عليهم (سامي ميخائيل) وتراهن عليهم دولة إسرائيل. هذه الدولة التي تتوقع حل مشكلة اللاجئين في العام 2020 )0202( حيث يكون جيل الآباء، ممن أقاموا في فلسطين أو ولدوا فيها قبل العام 8491، قد انقرض، وبالتالي تكون الصلة بين الفلسطينيين ومدنهم وقراهم قد انقطعت تماماً.
أنا شخصياً لي رأي مغاير في الأمر، فما دام هناك مخيمات فإن الصلة بين عرب فلسطين وفلسطين ستظل قائمة، وسيظل حلم العودة يراود اللاجئين. إذ ماذا سيخسر هؤلاء حين يتركون مخيماتهم ويعودون إلى مدنهم وقراهم؟ بالتأكيد لن يخسروا شيئاً. سيخسرون فقط الذل والإهانة التي ألحقتها بهم كلمة >لاجئ<، أو كلمة >فلسطيني<، كما كتبت سميرة عزام. وسيخسرون أيضاً الغرف الإسمنتية المنفرة والشوارع الضيقة والاكتظاظ السكاني العجيب، وسيخسرون بطاقة التموين التي حولتهم إلى >شحاذين< - مع الاعتذار -.
في العام 1980 كتب محمود درويش الذي كان يقيم في بيروت قصيدة >بيروت< وفيها عبّر عن مأساة اللجوء، وعما سيخسره الناس إن قاتلوا وثاروا من أجل حقهم الإنساني في الحياة، ومما ورد في القصيدة:
>ماذا نودّع غير هذا السجن؟/ ماذا يخسر السجناء؟ .........
بوركت الحياة/ وبورك الأحياء/ فوق الأرض/ لا تحت الطغاة/ تحيا الحياة/ تحيا الحياة.<
حقاً ماذا سيخسر اللاجئون حين يسيرون نحو أغنية بعيدة، نحو فلسطين؟.

عادل الأسطة
2007-07-29


***

---------------------------
1- وجه يافا!..
2 - اغتيال مدينة... اغتيال يافا
3- "ويافا حقائب منسية في قطار"
4 - يافا "أم الغريب"
5- يافا 7 حزيران 2019: وأخيرا تزور يافا
6- يافا في روايات فلسطينية وعربية (١ من ٢)
7- يافا في روايات فلسطينية وعربية (2 من 2)
8- يافا في روايات فلسطينية وعربية: (المقال كاملا)
9- "ما تبقى لنا" من يافا: سعاد العامري و"بدلة إنكليزية وبقرة يهودية"
10- يافا في عيون روائييها: عبد القادر سطل "عاشق البيارة"
11- وأخيراً تزور يافا..
12- عائد إلى يافا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى