يستوجب على الباحث الأكاديميّ في كثير من الجامعات الغربية أن يراجع رسالته العلمية أحد اللغويين المتمكنين، ولا يمكن أن تسلم رسالته لإدارة الجامعة من أجل إجازتها إلّا بعد إقراره بأنها خالية من الأخطاء، وهذا الأمر في اللغتين العربية والإنجليزية على حدٍ سواء، حتى لو عرف عن كاتبها تمكنه في علوم اللغة العربية؛ لأنه أمر إداريّ تعارفت عليه كبرى الجامعات العالمية، قد يؤيده البعض منا، وقد ينفر منه آخرون، إلّا أنّه في الأخير أمر واقعيّ عرفته عن قربٍ، وفي دنيا الكتابة قد يظن مَن لا معرفة له بما يجري في الصحف والمجلات أنّ ما يصل إليه من مقالات هي في صورتها الأولى التي كتبها مؤلفوها، فلم تجر عليها تصحيحات القلم، وهذا غير صحيح، فكثير من الصحف والمجلات تمتلك قسماً خاصاً للتصحيح اللغوي، ولا يمكن لأيّ مقال أن ينشر إلا بعد مراجعته مراجعة دقيقة، وهو شيء مألوفٌ في كبرى المجلات الأدبية، فلم يكن أمر التصحيح قاصراً على مجلة عريقة؛ كالرسالة فحسب، بل تعداها إلى غيرها من المجلات والدويات الثقافية والصحف.
أعود لتلك الحقبة الزمنية لمجلة "الرسالة" شيئاً قليلاً، فمن الشخصيات المشهورة آنذاك الأستاذ عباس خضر، وهو أديب طلعة ذو نشر واسع وجهد معرفي، ومِن الأسماء التي كان لها صدى ثقافيّ في هذا الوقت، ولا بدّ من الاعتراف أولاً أن تلك الشخصية لم يكن لها راحة أو قبول عند بعض أساتذتي؛ كالأستاذ وديع فلسطين، فقد صرّح في غير موضع أنّ الأستاذ أحمد حسن الزيات كان يترك أبواب مجلته لهذا الشاب يجول فيها ويصول، ويتعرض لكبار الكُتّاب والأدباء والمفكرين في مقالاته، حتى الزيات نفسه لم يسلم من بعض النقد الموجه له في كتابته.
والملمون بحياة الأستاذ أحمد الزيات يعرفون أن من عادته جلوسه تحت ظلال شجرة مورقة بالمنصورة، يكتب عندها مقالاته، ويعقد بعض مجالسه الأدبية، ويتفرغ أيضاً لقراءة بريد "الرسالة" على شاطئ النيل، فإذ ما وجد رسالة نافعة حبسها، وإذا وجد رسالة تافهة رمى بها في شاطئ النيل، إلا أنّ هذا لم يُرض عباس خضر، فتهكم عليه بقوله: "إذا كان نهر دجلة بالعراق قد أغرق مكتبة بغداد حين قذف التتار بمجلداتها إلى النهر، فإن نهر النيل قد شارك أخاه حين رمى الزيات بمئات القصائد والبحوث في موجه المتدافع"، وتعقبه أستاذنا محمد رجب البيومي في كتابه: "من أعلام العصر" بقوله إنّ: "الزيات لم يكن يرمي غير الركيك التافه".
وأما فيما يتعلق بتصحيح مقالات كبار الكُتّاب والأدباء في القرن الماضي فحفظ لنا الأستاذ عباس خضر تاريخاً مهماً بشأن هذا الأمر في كتابه "هؤلاء عرفتهم"، وهو يسرد وقائع اتصاله بالرسالة وصاحبها، حيث كانت وظيفته المحددة من الزيات تصحيح مقالات الكُتّاب، وتصويب ما بها من أخطاء لغوية ونحوية، ومسألة التصحيح هذه -باعتراف عباس خضر- مسألةٌ عريقةٌ كانت تجري على جميع مقالات الكُتّاب ما عدا بعض الأسماء الكبيرة؛ كالرافعي، والعقاد، والمازني، وزكي مبارك، وغيرهم من المعروفين بتمكنهم في اللغة.
ومن شدة حرص الزيات على التصحيح وخروج المقالات إلى القارئ دون وجود أخطاء أنه لم يكن يكتفي بتصحيح عباس خضر، بل يطلب "بروفة نظيفة" ويجري قلمه أيضاً بالتصحيح، ويطلب من عباس خضر أن يطلع عليها ويستفيد منها، فتصحح جميع المقالات عن طريق عباس خضر والزيات، وهذا يدلّ على حرصه الكامل على أن تصل النصوص إلى القرّاء سليمة خالية من التصحيف والأخطاء.
لكنّ السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان، ما السر وراء حرص الزيات على هذا الأمر؟
وهنا أستعير كلام عباس خضر عن حكمة ذلك في قوله: "إن أفلت خطأ برز له في "بريد الرسالة" مَن يأخذ بخناق الكاتب من أجله"، فلو فات الخطأ عليهما وَصلَه تصويبه والكلام عنه في "بريد الرسالة" من فئة القراء والمثقفين، وهذا يجرنا إلى الحديث عن وجود فئةٍ مستترة ٍكانت تتلقى هذه المقالات بالقراءة والاطلاع ونقد ما فيها، وكم وصلت رسائل كثيرة إلى الزيات من جمهور القراء في نقد أو تصحيح بعض المعلومات، وهذا يبين لنا الحالة الراهنة لجمهور القراء من التشبع بالثقافة، وامتلاك أدوات التقييم، وإبداء الرأي، مما جعل الكُتّاب يخجلون من وقوع أخطاء في كتاباتهم؛ لأنّ النقاد والقراء لن يرحموهم حين وقوع أيّ خطأ، ولو كان سهواً.
امتدت فكرة التصحيح إلى عصرنا الحاضر، لكنّ الفروق بينهما شاسعة، فالتصحيح فيما مضى كان للأخطاء من أجل تقويمها، وفي عصرنا تعدى الأمر إلى استبدال أساليب بأساليب أخرى، وقد تمتد اليد الآثمة لاستبدال فصول بفصول أخرى، مما يجعلنا في بعض الأحايين حيارى غير متأكدين هل هذه الكتابة من صنيع كاتبها، أم من إضافات مستأجر؟!
ليت الأمر اقتصر على تصحيح بعض الأخطاء دون إضافة صفحات كثيرة، أو تغيير أسلوب بأسلوب آخر، فقد يطلب بعض المتظاهرين بالكتابة من غيرهم أن يكتبوا لهم كتباً كاملة مقابل مبالغ مالية، وثمة فرق آخر لا يُنتبه إليه أنّ الماضين حينما كانت تقع منهم بعض الأخطاء كانوا يشعرون بحالة من الخجل العامة، تلك الحالة تدفعهم إلى التزود من المعرفة، والدراسة الجادة، وكثرة الاطلاع من أجل تصحيح مسارات الكتابة، والخجل كما يقول عباس خضر "يدل على الشعور بالنقص، والشعور بالنقص أولّ الكمال، فليت القوم الآن يخجلون!".
أنا بدوري أنادي بهذه الدعوة العباسية القديمة: "ليت القوم يخجلون"، فليت مَن ديدنه الاعتماد على تصحيح الآخرين لكتبه وجميع أعماله يعقلون، ليتهم يجتهدون لتكون لغتهم سليمة قوية، ليتهم يتعلمون حتى نكون مطمئنين في نسبة هذه الأعمال إليهم، وعلى ثقة من كتابتهم!
ومن التنبيهات اللطيفة التي تتعلق بهذا الموضوع -وهو غايتي من المقال- أن يَلتفت أحد الباحثين الجادين لهؤلاء الأشخاص الذين يعملون في مجال التصحيح اللغوي، خصوصاً في القرن الماضي من مصححي المجلات الأدبية والصحف الكبيرة، فيجمع أسماءهم، ويذكر جهودهم، ويترجم لهم تراجم موسعة في مؤلف مستقل، وفي خبايا بعض الكتب والمجلات الأدبية شذرات عن حيواتهم.
د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري
أعود لتلك الحقبة الزمنية لمجلة "الرسالة" شيئاً قليلاً، فمن الشخصيات المشهورة آنذاك الأستاذ عباس خضر، وهو أديب طلعة ذو نشر واسع وجهد معرفي، ومِن الأسماء التي كان لها صدى ثقافيّ في هذا الوقت، ولا بدّ من الاعتراف أولاً أن تلك الشخصية لم يكن لها راحة أو قبول عند بعض أساتذتي؛ كالأستاذ وديع فلسطين، فقد صرّح في غير موضع أنّ الأستاذ أحمد حسن الزيات كان يترك أبواب مجلته لهذا الشاب يجول فيها ويصول، ويتعرض لكبار الكُتّاب والأدباء والمفكرين في مقالاته، حتى الزيات نفسه لم يسلم من بعض النقد الموجه له في كتابته.
والملمون بحياة الأستاذ أحمد الزيات يعرفون أن من عادته جلوسه تحت ظلال شجرة مورقة بالمنصورة، يكتب عندها مقالاته، ويعقد بعض مجالسه الأدبية، ويتفرغ أيضاً لقراءة بريد "الرسالة" على شاطئ النيل، فإذ ما وجد رسالة نافعة حبسها، وإذا وجد رسالة تافهة رمى بها في شاطئ النيل، إلا أنّ هذا لم يُرض عباس خضر، فتهكم عليه بقوله: "إذا كان نهر دجلة بالعراق قد أغرق مكتبة بغداد حين قذف التتار بمجلداتها إلى النهر، فإن نهر النيل قد شارك أخاه حين رمى الزيات بمئات القصائد والبحوث في موجه المتدافع"، وتعقبه أستاذنا محمد رجب البيومي في كتابه: "من أعلام العصر" بقوله إنّ: "الزيات لم يكن يرمي غير الركيك التافه".
وأما فيما يتعلق بتصحيح مقالات كبار الكُتّاب والأدباء في القرن الماضي فحفظ لنا الأستاذ عباس خضر تاريخاً مهماً بشأن هذا الأمر في كتابه "هؤلاء عرفتهم"، وهو يسرد وقائع اتصاله بالرسالة وصاحبها، حيث كانت وظيفته المحددة من الزيات تصحيح مقالات الكُتّاب، وتصويب ما بها من أخطاء لغوية ونحوية، ومسألة التصحيح هذه -باعتراف عباس خضر- مسألةٌ عريقةٌ كانت تجري على جميع مقالات الكُتّاب ما عدا بعض الأسماء الكبيرة؛ كالرافعي، والعقاد، والمازني، وزكي مبارك، وغيرهم من المعروفين بتمكنهم في اللغة.
ومن شدة حرص الزيات على التصحيح وخروج المقالات إلى القارئ دون وجود أخطاء أنه لم يكن يكتفي بتصحيح عباس خضر، بل يطلب "بروفة نظيفة" ويجري قلمه أيضاً بالتصحيح، ويطلب من عباس خضر أن يطلع عليها ويستفيد منها، فتصحح جميع المقالات عن طريق عباس خضر والزيات، وهذا يدلّ على حرصه الكامل على أن تصل النصوص إلى القرّاء سليمة خالية من التصحيف والأخطاء.
لكنّ السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان، ما السر وراء حرص الزيات على هذا الأمر؟
وهنا أستعير كلام عباس خضر عن حكمة ذلك في قوله: "إن أفلت خطأ برز له في "بريد الرسالة" مَن يأخذ بخناق الكاتب من أجله"، فلو فات الخطأ عليهما وَصلَه تصويبه والكلام عنه في "بريد الرسالة" من فئة القراء والمثقفين، وهذا يجرنا إلى الحديث عن وجود فئةٍ مستترة ٍكانت تتلقى هذه المقالات بالقراءة والاطلاع ونقد ما فيها، وكم وصلت رسائل كثيرة إلى الزيات من جمهور القراء في نقد أو تصحيح بعض المعلومات، وهذا يبين لنا الحالة الراهنة لجمهور القراء من التشبع بالثقافة، وامتلاك أدوات التقييم، وإبداء الرأي، مما جعل الكُتّاب يخجلون من وقوع أخطاء في كتاباتهم؛ لأنّ النقاد والقراء لن يرحموهم حين وقوع أيّ خطأ، ولو كان سهواً.
امتدت فكرة التصحيح إلى عصرنا الحاضر، لكنّ الفروق بينهما شاسعة، فالتصحيح فيما مضى كان للأخطاء من أجل تقويمها، وفي عصرنا تعدى الأمر إلى استبدال أساليب بأساليب أخرى، وقد تمتد اليد الآثمة لاستبدال فصول بفصول أخرى، مما يجعلنا في بعض الأحايين حيارى غير متأكدين هل هذه الكتابة من صنيع كاتبها، أم من إضافات مستأجر؟!
ليت الأمر اقتصر على تصحيح بعض الأخطاء دون إضافة صفحات كثيرة، أو تغيير أسلوب بأسلوب آخر، فقد يطلب بعض المتظاهرين بالكتابة من غيرهم أن يكتبوا لهم كتباً كاملة مقابل مبالغ مالية، وثمة فرق آخر لا يُنتبه إليه أنّ الماضين حينما كانت تقع منهم بعض الأخطاء كانوا يشعرون بحالة من الخجل العامة، تلك الحالة تدفعهم إلى التزود من المعرفة، والدراسة الجادة، وكثرة الاطلاع من أجل تصحيح مسارات الكتابة، والخجل كما يقول عباس خضر "يدل على الشعور بالنقص، والشعور بالنقص أولّ الكمال، فليت القوم الآن يخجلون!".
أنا بدوري أنادي بهذه الدعوة العباسية القديمة: "ليت القوم يخجلون"، فليت مَن ديدنه الاعتماد على تصحيح الآخرين لكتبه وجميع أعماله يعقلون، ليتهم يجتهدون لتكون لغتهم سليمة قوية، ليتهم يتعلمون حتى نكون مطمئنين في نسبة هذه الأعمال إليهم، وعلى ثقة من كتابتهم!
ومن التنبيهات اللطيفة التي تتعلق بهذا الموضوع -وهو غايتي من المقال- أن يَلتفت أحد الباحثين الجادين لهؤلاء الأشخاص الذين يعملون في مجال التصحيح اللغوي، خصوصاً في القرن الماضي من مصححي المجلات الأدبية والصحف الكبيرة، فيجمع أسماءهم، ويذكر جهودهم، ويترجم لهم تراجم موسعة في مؤلف مستقل، وفي خبايا بعض الكتب والمجلات الأدبية شذرات عن حيواتهم.
د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري