د. السيد إبراهيم أحمد - جدلية الشك واليقين.. قراءة في ديوان: "شيراز"..

اختار الشاعر حمدي عطية ـ عن يقين ـ أن يُعبِّر عن الشك الذي يدور في فضاءات تفكيره وحده، وصولا إلى اليقين الكامن في ذاته أيضا، بعيدًا عن تلك التهويمات المتمردة في صبيانية مقيتة، أو حُبا في إثبات التفرد والخروج عن المجموع، شغفا بالظهور، لكنه مبدع يمارس حقه في التفكير والتعبير والإعلان بارتياح عبر مفردات وصور ديوانه الذي عَنونه "شيراز"، الصادر عن مؤسسة يسطرون لطباعة وتوزيع الكتب بالقاهرة، والذي ضم واحدًا وأربعين قصيدة.​

إيحاءات العنوان:

إن العنوان بوجه عام في الإبداع له أهمية تنشأ عن ترابط علاقته بالنص؛ إذ إن العنوان لا يشكل أي أهمية إذا كان معزولا عن نصـه، ذلك أن العنوان والنص يقعان في علاقة تشابكية، ارتباطية، باعتبار العنوان بنية مرجعية تنطلق منها أغلب دلالات النص، ولهذا اهتم الشعراء باختيار عنوانا جاذبا للقارئ والدارس معا، من حيث تأمله واستنطاقه، للكشف عن بنيته التركيبية، ومنطوقاته الدلالية، ومقاصده التداولية. غير أن الشاعر حمدي عطية أتى معنى "شِيرازُ" ومعناه بالمعاجم: اللَّبَنُ الرائبُ المُسْتَخْرَجُ ماؤُه، وشيراز عاصمة فارس وسادس أكبر مدينة في إيران بعد طهران، وهو اسم لأحد أنواع القطط. وأصل الاسم فارسي. وقد استعمل اللفظ، الشاعر ابن الرومي في قصيدتين له، الأولى بعنوان: "راعَ فؤادي منك ما راعه"، والثانية بعنوان: "زَلِقَتْ في سُلاحها"، واستعمله السري الرفاء في قصيدته: "نطقت بفضل أبي شجاع آية"، وعلي بن محمد التهامي في إحدى قصائد ديوانه، وابن نُباتةَ المصري في قصيدته، "أخا العلمِ إنَّ الشمس بادٍ ضياؤها".

وإذا كانت الغاية من اختيار عنوان الديوان عند الشاعر حمدي عطية هو الغموض، الذي يستعرض فيه الأديب أو الشاعر قدراته الإبداعية، إلا أن السير "وليام إمبسون" قد حدد سبعة أنواع للغموض في كتابه "سبعة أنواع من الإبهام"، ينطبق النوع الثالث على حالتنا هذه، وهو يقع عندما يتكون النص من مفردات وتراكيب لها معان مترادفة، أو أن يكون معنيين غير مرتبطين ظاهريا، وهو ما يحمله العنوان من معان مترادفة لكنها غير مرتبطة لا ظاهرا ولا باطنا بالنص، وحين بَيْنَ الشاعر معنى العنوان في الديوان لم يجعل العنوان الرئيسي للقصيدة "شيراز" مردوفا بالعنوان الفرعي "اللبنة البيضاء" الذي يمثل جانبا واحدا من معانيها، وأصبحت كلمتا "اللبنة البيضاء" منفصلة عن العنوان تماما لكونها جاءت لترجمة اختارها الشاعر دون غيرها، وهو ما أوقع الدارس والقارئ معا في غيابات من التفسيرات الخاطئة الناتجة عن انفصام العلاقة الارتباطية بين العنوان والنص، وتعدد مفرداتها، وغياب تحقيق المعنى بدقة في النص كذلك.

ارتاح الشاعر للنثر قالبًا يحمل رؤاه وتصوراته وتساؤلاته في حرية؛ فقصيدة النثر ـ أولا وأخيرا ـ هي مسألة ذاتية، فردانية، بهواجسها وتعابيرها، وبقدر ما تنتمي لنفسها، تتمرد عليها بهذه الذاتية التي تأبى التعميم أو التقنين ... إنها شعرًا يتحرك في فضاءٍ واسعٍ من الحرية الفردية، بلا حواجز، وأي تنظيرات تواكب منجزها الإبداعي تظل أطرا، تحتاج من يتجاوزها كما ينعتها "بول شاؤول" في مقدمته في قصيدة النثر العربية. لذا فهو حر، متمرد، يجهل عن علم، أو يرفض أن يعلم علم المجموع:​

إنِّي أتنفسُ

صيفا

في صمتٍ ولهفة

من نار الشتاء

لا أعرفُ معانيَ للأسماءْ

كلها حروف. (المحاكاة، ص36).

ولهذا فقد جاءت قصائد الديوان النثرية تحترم وتلتزم شروط ومعايير تلك القصيدة من الوحدة العضوية، والكثافة، والمجانية كما حددتها "سوزان برنار" في كتابها "قصيدة النثر من شارل بودلير وحتى الآن"، فكان لكل نص البناء الخاص به، مستفيدًا من الخاصية الشعرية في تكثيفه اللغوي، متعاليا عن أن يكون مباشرا أو تقريريا، متلافيا التفاصيل، ومجانبا التفسير والشرح والتوضيح والاستطراد، مفتوح الأفق، مشرقا، متوهجا، مستقلا في ألفاظه لا يرتبط بتاريخية الزمن، متغيرا حسب الدلالة، له إيقاعه المتجدد المتعدد، لا يخضع للأوزان العربية المعروفة، وإن لم يخلُ منها عن غير عمد.

إن حمدي عطية شاعرٌ جاء في ظرفية تاريخية، وجغرافية غير مستقرة، ضجرة بالثبات، ولا تعرف الخصوبة أو الموات على الإطلاق، تنتظر الإشراق خلف العتمات والغيمات، تؤمن بقدومه، وتتشكك في حدوثه، تبشر به، ولا تستيقن وقوعه، تقاوم التشاؤم، ولا تطمئن تماما للتفاؤل، فنبتت على الألسنة الأسئلة، لتبدأ رحلة البحث عن الأجوبة، التي تتولد فيها وعنها ـ قطعا ـ أسئلة، وهو ما ميز قصائد الديوان التي اخترقت خاصرتها الأسئلة، مثلما توسدت نهاياتها، وهذا شأن النصوص المطلقة التي تنتثر عبر الديوان متعددة يجمعها إطار فني متكامل ومتماسك، ومن هذه الأسئلة التي يصعب على سامعها أو متلقيها الإجابة، لكونها واقعة في المنطقة المتأرجحة بين الشك واليقين في جدلية تستشري عبر جملة من المقاطع والألفاظ، ومنها:

"مَنْ مِنَّا يَحكمُ الأحلامَ ليعطرها بعطر فضائيِ يخلو من المجرات؟" (ارتقاء التزاحم، ص14)، "تُرى هل الجسدُ يفكر بدون تلك الكرة الراسية؟"، "تُرى متى تنتهي المسافات لبيع طاولة الراقصات؟" (انطلاق، ص23)، "كيف يكفُّ الحديثُ عن خيالٍ مجهولٍ؟" (ص51)، "أين أنت؟ أغدًا أنت؟ أاليوم أنت؟ أالأمسَ أنت؟" (فواصل، ص54)، "على خطى ليلٍ يصرخُ .. أين ذهب الضوء؟!" (توغلتُ، ص56)، "هل هناكَ من ضوءٍ يتنسَّمُ الخُوَاءَ شمسًا؟" (همسات، ص66)، "كيف تنمو استكانةُ الصمتِ، وكيف.....؟"، "ماذا رأيتَ أيها الفراغُ؟" (سكوت، ص72)، "اللبنة البيضاءُ .. كيف تعيش على أرضٍ خاوية؟!" (شيراز، ص97).

تتأكد جدلية الشك واليقين في ذات الشاعر حمدي عطية وفي مفرداته، وفي صوره الشعرية الباذخة، العميقة، المتفردة؛ لكونها نابعة من تجربته المعيشة ومن معجمه الشعري؛ فكمية الألفاظ التي في متناول الشاعر لا تحدد منزلته بين الشعراء، وإنما الذي يحدد مكانته الطريقة التي يستخدم بها هذه الألفاظ، وإحساسه بطاقتها، وإمكانية تعديلها، ووضعها في مكانها المناسب كما يرى "آيفور آرمسترونج ريتشاردز في كتابه "العلم والشعر"، وهو ما نجح فيه كثيرا عطية، مثلما نجح عندما أعلن:

"فالقادم شك.. وليس يقينا" (ارتقاء التزاحم، ص15)، و "أتجول.. أتحول.. أتسول يقيني.. لستُ أنا كـ أنا" (أتجول، ص27، 28). وإذا كانت الأسئلة قد شكلت جانبا هاما في إعلان تأرجح الشاعر بين الشك واليقين، فقد جاء الحوار، الذي تسيد عددا من القصائد، ليوهم القارئ بكونه بين الشاعر وبين الآخر، أو بين الشاعر وذاته، وهو ما يشكل عددا من الحوارات، ومنها: الحوار الداخلي، والحوار الخارجي، وهو الذي يتمثل في حوار حقيقي، وهو ما يعد أحد أهم ما يميز قصيدة النثر في اعتمادها على البوليفونية أي تعدد الأصوات داخل النص بديلا عن الصوت الواحد، وذلك مرده لخسران الشاعر مكانته في الراهنية الزمنية؛ فلم يعد هو المحرك للجماهير الغاضبة، ولا داعيا للثورة على الأنظمة، ولا يمتلك الحقيقة المطلقة القائمة على اليقين، غير أنه قد يكون صاحب لحظة استشراف الآتي الذي يستعصي برؤيته على الآخرين، وهو ما يدعوه للخطاب والكلام، كما فعل الشاعر حمدي عطية حين استعان بعدد من الخصائص الأسلوبية المميزة، أهمها:

الإنشاء الطلبي الذي يفيد الأمر: انتظر، سل نفسك، تذكر، التقطها، أريدكِ أن تتركيني، فكوني، وَدَّعي الإشفاقَ، كن صادقا، كن روحا، انطلق، هيا أيتها السحب انشدي سيمفونية الفراق، قف، غردي، ابتكر، اصرخ، كوني مدى، كوني صدى. وكذلك الأمر بالنداء: يا صوت، يا ليل، أيها السكير، أيها القادم، أيها الوقت، أيها السادة، أيها السائل. والمضارع المقرون بلام الأمر: ليذهب أسيرا، لتسألني.

الإنشاء الطلبي الذي يفيد النهي: لا ترسل، لا تقل أنا، لا تغضب، لا تنزعج، فلا تحدث الربيع بسرك، لا تستمتع، لا تناجي الليل، لا تجعل، لا تسمع، لا تخضع.

الإنشاء الطلبي الذي يفيد الاستفهام: وقد تقدم ذكر الأسئلة.

على الرغم من أن وظيفة الشاعر لم تعد هي الإجابة على الأسئلة، ذلك أن الشعر عنده قد أصبح سؤالا ملحا لا ينقطع، لأنه لا يقبل العالم على ما هو عليه، ولا يرى أن هناك يقينا يرتفع فوق الشك، فالشيء اليقيني الوحيد لديه هو الشك نفسه، لأنه لا ينسج من شعره قناعا يضعه على وجه الحقيقة، بل يمزق كل الأقنعة، ويقلب كل القيم والموازين، ويجعل شعره نفسه حقيقة ومعرفة، تؤذن بزلزلة اجتماعية، كما قال الدكتور عبد الغفار مكاوي في "البلد البعيد". إلا أن الشاعر حمدي عطية لم يأمر أو ينهي أو ينصح أو يسأل إلا ومعه مسوغ من تعليل.

لا تنبع لا يقينية عطية من داخله بل جاءت انعكاسا من خيبات وانكسارات وهزائم بعد صولات حياتية، وجولات إنسانية، صادرة من نفس شفيفة مشفقة، لا من ذات متعالية، تحمل ـ من خلال الأمر والنهي ـ التحذير، والنصح بديلا عن المحاولات التكرارية في التجربة والنهاية، فيقدم بعدهما ـ أي بعد الأمر والنهي ـ التبرير والتعليل، دون التفسير، كما في "ارتقاء التزاحم":​

لا تُرسلُ الرُّوحَ للفضاء

اِنتظِرْ

سيسلبُكَ إيَّاها

الوقتُ

سَلْ نَفْسَكَ:

مَنْ مِنَّا

يحكمُ الأحلامَ

ليعطرَها بعطرٍ فضائيٍّ

يخلو من المجراتِ؟ (ص14).

يتعانق الأمر بالنهي في قصيدة "لا تنتحري"، وذلك حين يخاطب الشاعرُ الأشياءَ راجيًا، ومحاولا إثنائها عن غايتها بسوْقِ أدلته من أجل أن يوقظ آخر أو ذاته، أو نفسه الأمارة بارتكاب الفعل، فيقول:​

تذكرْ

حين تتأمل الأشياءَ

لا تغلقْ الشاشاتِ عنها

حتى لا تمر من أمامكَ

فمفهومُ الذاكرةِ

وقتٌ قابلٌ للفناءِ

ثم يقول:

لا تكنْ مغامرًا

فأصواتُ الروحِ

غرغرةٌ قابلةٌ للحياةِ

تنعمُ

بما تجودُ به المحفوظاتُ

قلْ لي أيِّ شيءٍ

يلتقطهُ الأغبياءُ

عذرًا

أيتها

الأشياء:

لا تنتحري. (ص26).

وبعد صراع بين جعبة القفص الصدري ونبض الوريدِ السفلي، وشوق اللقاء بالارتقاء، نحو عبور النفس إلى ملحمة القلب، تطلق همسات الروح نهيا مغلفا بالتحذير، والنذير، مغبة الارتكاس في أوحال ارتكاب الآثام التي تمحو تاريخَ البراءة والنور، وتثبت ميلادا جديدا، دامسا، مغايرا:​

لا تدنو

المعاصي تكتبُ

تاريخًا

من ظلام. (ص 59).

يعانق الأمرُ النهيَ والسؤال في تلاحم ٍمُتتالٍ يظللهم جميعا أجواءُ الشكِ، والخيبات المرتحلات من زمن الشاعر إلى زمن المخاطَبْ الراهن، عبر قصيدة بنيتها متحدة، تساوقت معانيها عبر لغة تعرف وجهتها، لا تهوم في غير فضائها، تفارق الدلالة من خلال بنية تشتعل بالتضادات اللفظية، والحسية، غنية بالمفاجآت، صارخة في جنباتها، هامسة في حوارها حينا:​

لا تستمتع بقراءة الوقت

فهناك أكذوبة

اسمُها الشمسُ

لا تناجي الليلَ

لليل ِ صرخاتٌ

ألوانُها باهتةٌ

لا تجعلْ لضوضاءِ القمرِ

خواطرَ لكَ

فللبيت .. الليل عيونٌ

يتباكى لها الفجرُ

أينما كنتَ

لا تسمعْ لأحوالِ النجومِ

حتى لا تقذفكَ الشُّهُبُ

لكي تُحقِّقَ حلمَكَ

اصرُخْ في وَجْهِ الليلِ

فالحلمُ باقٍ

حتى يستيقظ الغافلون

لا تخضع للأقاويل

هناك أشياءٌ

صفاتُها هُمْ

أيها السائلُ

من يقذِفُ الوردَ

فاقدُ الحياءَ. (لا تستمتع، ص 93).

لا تميل قصائد الديوان إلى الطول، ومرد ذلك اهتمام الشاعر بالفكرة التي تستهدف العقل والفكر ومع هذا فهي لا تغمط حق العاطفة والوجدان، وقد جاء بعضها مكتسيا بالصورة الشعرية المفردة "البسيطة" ومنها المركبة "اللوحة" والصورة القائمة على المفارقة والدهشة، كما لا تخلُ من البراعة الإبداعية للشاعر حمدي عطية في كيفية البناء الفني لتلك الصورة وهيمنته على لغته الشعرية، ومنها: قصائد: "الحلم"، "غردي"، واللوحة الأولى من "شيرازيات".

وهناك من القصائد ما يمكن قراءتها على نحو مغاير من يقين الشاعر بالشك أو تمسكه باليقين المتمسك بالشك، أي في المنطقة التي يرقد فيها يقين يرجو التحقيق، وأمل ينتظر الوقوع، وحلم يسفر عن إرهاص ببشائر القادم الذي يعلن عن مصالحة الشاعر على الحياة ولو إلى حين، حين تتعدد الذات في القصيدة الواحدة أو من خلال العديد من القصائد، التي قد تنفرد بضمير الغائب عن المتكلم، أو بالحديث عن الذات باجتماع الضميرين معا في وقت واحد، خالية من الترقيم، حتى لا تُثقل ـ بدرجة ملحوظة ـ تحليق القصيدة تلك التي لا تتابع بدونه في انطلاقة واحدة رحلتها المجنحة، في رأي "غيوم أبولينير". كما يلجأ الشاعر إلى أسلوب التكرار لبعض الكلمات في بعض القصائد، عن قصد، لتوظيفها بتحقيق أغراض فكرية وتعبيرية عنده.

لم يكن حمدي عطية الإنسان المحاصر والمستعبد من الزمن، ويستطيع السمو إلى عظمة مأساوية بفضل الشك، كما يقول "إميل ميشال سيوران" في كتابه: "السقوط في الزمن". لكن يقين الشعراء صعب مستصعب، والشك والحيرة ديدنهم ومعدنهم الأصيل. هذا هو ما يفصل الشعر عن التاريخ وعن الفلسفة، وباقي ميادين العلوم الإنسانية، لأن الشعرَ تكذيبٌ للمُعطَىَ المباشر والموضوعي وجدلية تجعل كل ما تثبّته البداهة متحركا، إنه ذلك الطفل المتسائل الذي لا يكلّ، على حدّ قول نيتشه، لأنه لم يخضع بعد لطغيان المعرفة وأحكامها المسبقة على الأشياء، أو إنه تلك "الحرية الحرة" على رأي "رامبو" والمتمردة على وقاحة اليقينيات ومحاولة إلغاء المجهول، كما يقول محمد ناصر الدين.

ولهذا؛ فقد تنازل الشاعر عن فكرة اليقين في تجربته، ذاهبا إلى فكرة الشك والنسبية، وبات رافضا لكل أشكال المعرفة في معانيها الكلية والمطلقة، التي يجدها في الموروث الشعري؛ فالمعرفة لا تتخلق لديه إلا في لحظة اكتشافه لها، وفهمه العميق لمكوناتها... بحثا عن علاقة جديدة بالوجود من حوله، بحسب رؤية دكتور أمجد ريان "قراءة في التجربة الشعرية".

وهو ما عبر عنه الشاعر حمدي عطية، من ارتيابه، ووصوله إلى نهايات القصائد المفتوحة على حيواتٍ تجهل أن تضع ـ هي نفسها ـ نقطة الختام، وأقدار تضن أن تمنح الشاعر صَك الأمان، وخَتم النجاة، ووسام الوصول إلى القمة أو النهايات بفخر، فيعلن في مرارة تقطر صورا شعرية رائعة، يضمخها عبق التجربة، ولا يسقط عنها شرف المحاولة، ولو كانت فاشلة:

الحياةُ​

ليل .. قمر

نهار .. شمس

طموحاتٌ واجبةُ العزاءْ. (ارتقاء التزاحم، ص15).

قاموسُ اللغةِ

فارغٌ

فالحياةُ سنيورةٌ

مُتعدِّدَةُ الوجوهِ

تقتلُ الذَّات

والضميرَ نَحنُ

والفراغات. (ارتقاء التزاحم، ص16).

مات الملايينُ

من أجلِ الوصُولِ

للحياةِ

فوصلتُ لها

وحدي

لكي أحَاسَبَ

عليها. (شيرازيات، ص85).

الحياةُ نبضٌ

الحلمُ عِشْقٌ

الأملُ رافعٌ

رايةَ الاستسلامِ

والموجُ

يهزُ عِرقَ الوريدِ

يُبدَّلُ ضحكتي

موتًا

في قلبِ الموتِ

موتٌ

ينتظرُ النجاة. (انتظار، ص64).

استطاع الشاعر حمدي عطية أن يصادق "قصيدة النثر" ويستثمر شعريتها، سواءٌ على مستوى اللغة أو البناء أو الدلالة، ليشكل ديوانه "شيراز" الموجز، المتوهج، المتعدد إضافة لهذا الجنس الأدبي المتفرد الهوية، المتحرر الطوية، المتجدد أبدا بالتجريب عبر الشكل والفكرة واللغة، والمنفتح على الثقافات، والعقائد، والموروث الشعري، والتراث، والفلسفات، والفنون، والتاريخ والأسطورة، فنجح عطية في تحويل المعاني إلى ألفاظ اعتنى بتشكيلها وجمالياتها لتسكن قلب وعقل المتلقي دون إكراه أو إلحاح، أو تصنع، أو استعلاء، حيث نقل نبض الواقع، وأزمات العصر، ونضال الإنسان، وصراع الشاعر صاحب الرؤية في العبور بقارئه من منطقة الشك إلى رحاب اللا يقين، مع يقينه التام بأنه لا يملك لا راية الانتصار، ولا راية الاستسلام، لسببٍ جوهري يعلنه معتذرًا بعد أن اعتزم الصمت في تمتمات: (الحياةُ ليست من صُنعي، ولا أنا. إذًا نحن والصفرُ إلى المنتهى.. قائمةُ حسابٍ: فلا شروقَ .. فلا غروبَ. فالأملُ.. أن نرى ضِياء).​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى