مجدي جعفر - قراءة في رواية ( الوشاح الأحمر) للكاتبة تغريد مصباح

( 1 )[/B][/CENTER]

لامست الكاتبة تغريد مصباح في روايتها ( الوشاح الأحمر )، هموم الشباب وأفراحهم، تطلعاتهم وانكساراتهم، وناقشت بوعي بصير معاناتهم النفسية والعاطفية، وأثارت عدة قضايا، منها :

1 – الحب الأول : وهو ما يُعرف بالحب المثالي أو الأفلاطوني، وصدّرت روايتها بمقولة للكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس :

( في حياة كل منا وهم جميل، يُسمى الحب الأول .. لا تصدق .. فإن حبك الأول هو حبك الأخير ).

وهذه المقولة عتبة مهمة من عتبات الولوج إلى النص، وتكاد تكون اختزالا للعظة أو الأمثولة، التي أرادت أن تقدمها لشبابنا الذي يقع في الحب من أول نظرة وللمرة الأولى، ففي الحب الأول، يكون الصراع بين العقل والقلب، وقد أقامت الكاتبة صراعا حادا وعنيفا بينهما، وتأتي الغلبة في النهاية، لصالح القلب عند أصحاب الجسوم الغضة والقلوب البيضاء .

2 – التفاوت الطبقي الرهيب بين المحبين، فهل الحب قادر على اختزال المسافة بين الطبقات؟.

3 – التقدم التكنولوجي المذهل والسريع، وخاصة في تقنيات الويب، والحياة الجديدة في عالم افتراضي بديل، فوظفت الكاتبة وسائل التواصل الاجتماعي توظيفا جيدا، ومعظم أحداث الرواية دارت في هذا الفضاء الافتراضي.

4 – الهوة الواسعة بين الأجيال، بين جيل قديم محافظ، وجيل جديد متحرر ومتمرد.

= الرواية تقع في خمسة فصول، وينتظم كل فصل عدة مقاطع سردية، هي أقرب إلى المشاهد السينمائية.

= استخدمت تقنية رواية ( الأصوات )، وأبرز الأصوات :

1 – صوت أميرة.

2 – صوت عمر.

3- صوت أسامة

ومنحتهم الكاتبة المساحة الأكبر، للتعبير عما يعتمل في داخلهم الموّار، فهم يمثلون الأجيال الشابة الجديدة، وكان الفضاء الألكتروني ( الفيس بوك ) هي الواحة الآمنة للبوح والفضفضة، والتعبير عن نبضات القلب وهمسات النفس وفيوضات الروح.

= الضمير الغالب على هذه الرواية هو ضمير المتكلم، وهو الضمير الأنسب للتعبير عن لواعج الذات.

وبدأت الكاتبة الرواية بهذا الضمير، وفي صفحة واحدة، وفي جمل قصيرة وسريعة ومتلاحقة، أقرب إلى لغة القصة القصيرة، التي تومئ ولا تصرح، أقرب إلى الهمس منه إلى الزعيق، اختزلت فترة زمنية مهمة في حياة الضابط أسامة والفتاة أميرة بنت الطبقة الراقية، وكاشفة عن حال أسامة الخجول بطبعه، وحبه لبنت الأكابر، وتعلقه بها، وكيف خطفت عقله وقلبه منذ أن وقعت عيناه عليها، وسرعان ما تزوجها، وسرعان ماعلت بطنها، وانتفخت، و ..

وبلا مقدمات وهذا شيء جيد تدخل الكاتبة في الحدث مباشرة، والذي يُعد نقطة الانطلاق الأهم، ونقطة التحول الكبير، فالضابط أسامة كان يستعيد مع نفسه أيامه معها، وهو يتملى من جمالها وهي راقدة على السرير، ويحزنه أنه سيغادرها إلى المعسكر، وهي التي أسرت عقله، واستعمرت قلبه، فكيف يفارقها؟

وتفاجأ بها تحلم :

( وما أن اقترب منها، ورفع تلك الخصلات المتناثرة على وجهها حتى سمعها تهذي بعبارات غزل واضحة، تتحسس وسادتها وتحتضنها بشدة، تقبلها بعنف، شعر بغيرة من تلك الوسادة، لكنه على يقين بأن تلك العبارات الرومانسية من نصيبه بالتاكيد، فهو فارسها وبطلها القومي، فمن لها غيره تبث له حديث الغرام، وتفتش عنه في يقظتها ومنامها، فشعر بالفخر، وازدادت رغبته في الاقتراب منها، واحتضانها بعنف، والاستمتاع بطعم الكريز المتساقط من شفتيها، لكنه عاد أدراجه، وتجمدت مفاصله، بمجرد أن سمعها تنادي بشوق ولهفة .. عمر ) ص 7

ومن هذه البداية القوية، تنطلق الكاتبة وتمسك بتلابيب القارئ، مستخدمة خاصية التشويق التي نفتقدها في الكثير من الروايات الجديدة، ولا يترك القارئ الرواية إلا بعد أن يأتي عليها جملة، ويصل إلى النهاية المدهشة والأكثر إثارة وقوة، فقد وفرت لروايتها حبكة جيدة ومتماسكة، باختيارها الموضوع الجيد، من واقعنا المعيش المعاصر، وبانتقائها لشخصياتها وحركة تلك الشخصيات في محيطها الاجتماعي، وحركتها في فضاء روائي جديد متخيل، وشخصياتها على قلتها، ولكنها من لحم ودم وأعصاب، ومسار حركتها في الفضاء الروائي يتماس مع حركتها في الواقع الحياتي المعيش.

هل حال الضابط أسامة المتيم بزوجته أميرة سيظل على ثباته بعد أن سمعها تهذي في منامها باسم غيره، وتناديه بلهفة وشوق؟!.

ففور أن سمعها تنادي باسم عمر :

( ابتعد عنها، وقام مفزوعا، وقلبه يترنح، وكأن روحه تصعد، يا لها من صدمة مميتة لرجولته، وبدأ يتساءل : من عمرهذا الذي تهذي زوجته باسمه .. تحتضنه .. تقبله .. تمارس العشق معه في أحلامها ) ص7

إن الغيرة أخذت تنهش في صدره، ولكنه يحاول أن يتماسك، ويبدو ثابتا ومتزنا، حتى يتأكد من تلك الشكوك.

وألمح لها عن حلمها دون أن يشير إلى عمر، فارتعبت، وظلت تقاوم النوم في حضوره، حتى لا يتلصص على أحلامها التي تعريها وتفضحها، ولما أعياه التفكير، ذهب إلى والدتها السيدة ( فريدة المراسي ) يبثها بعض شجونه، فأقنعته:

( موضوع عمر انقضى منذ سنوات، وأن ما تبقى منه أشلاء حلم قديم، طواه الزمن، أميرة الآن زوجته، التي تحمل في رحمها ابنهما، والذي بمجرد أن يأتي إلى الدنيا سينسيها كل شيء، عمر وأبيها وأمها، وأسامة نفسه ) ص10

وعاد من عند أمها وهو أكثر هدوءا، ولكن سرعان ما عاد الشك يلعب برأسه، فهاتفها النقال يصدر أصوات رسائل واتساب، تطلع إلى شاشة الهاتف، فوجدها من رقم بدون اسم، لم يفتح الرسائل، ولكنه لمح كلمة ( وحشتيني )، دوّن الرقم، وراح يتساءل :

( من هذا الذي يطارد زوجته في أحلامها ويقظتها، وكيف لهذه الزوجة المستهترة أن تقيم علاقة مع رجل دون زوجها؟ ) ص11

وبلغ الشك مداه في غيابه عنها وهو بالمعسكر، فيتساءل بينه وبين نفسه :

( إلى أي مدى وصلت العلاقة بينهما؟ أما زالا يسهران حتى الصباح على الهاتف، يتبادلان الرسائل الغرامية، هل اقترب من فراشه ودنسه؟ .. وهل الطفل الراقد في رحمها، أبنه ومن صلبه؟ أم أنه ابن .... ) ص12

حين يذهب أسامه إلى المعسكر، تذهب أميرة لتعيش مع أمها، وعندما يأخذ إجازته، تنتقل إلى بيت زوجها، وكان هذا الحل مرضيا له، فيكون أكثر اطمئنانا عليها، وقد ضبطتها أمها، ساهرة طوال الليل، تتبادل الغرام مع عمر، فعنفتها، وصفعتها على وجهها، وتعترف لها بأنها لم تزل تحبه، بل تعشقه، وأدمنته، وتصر أمها على أن تذهب للدكتور سامح عياد أستشاري الأمراض النفسية والعصبية، ليعالجها من إدمان المدعو عمر!.

الكاتبة استخدمت في روايتها أسلوب الصدمة، وهو أسلوب معروف في الإخراج السينمائي، وتتبناه المدرسة الروسية، حيث يعتمد المخرج أسلوب الصدمات، لا يقدم مشاهده على التوالي في نعومة وسلاسة ويسر، ويتابع المشاهد الفيلم وهو مستلق في كرسيه الوثير، يحتسي المشروبات الباردة أو الساخنة، ويتناول السندوتشات، ولكن كل مشهد عنده يمثل صدمة، وما يكاد يفيق المتفرج من المشهد / الصدمة حتى يلاحقة بمشهد / صدمة آخر، فمشهد صدمة ثالث وعاشر ، ويظل المشاهد مشدودا بكل حواسه، وهكذا فعلت الكاتبة تغريد مصباح، فاستخدمت أسلوب الصدمة، وجاءت مشاهدها الروائية في ترتيبها عبارة عن صدمات متتالية للقارئ، ولا تجعله يفيق أبدا أو يهنأ لحظة.

( 2 )

( ال

وشاح أحمر ) و ( قيصر العشق )

دلالة العنوان التي ظلت غامضة، لم تتضح للمتلقي إلا في الفصل الثاني، فالوشاح الأحمر هو الاسم المستعار لأميرة، ومن ذكاء الكاتبة أنها لا تقدم كل المعلومات عن الشخصية دفعة واحدة، ولكنها تقدمها على مدار صفحات الرواية، وعند الحاجة، ولا تتكشف الشخصية للمتلقي إلا في نهاية الرواية.

وأميرة هي الابنة الوحيدة لأبويها، فالأب فؤاد شهاب يعمل بالسلك الدبلوماسي، سفيرا في فرنسا، ثم انتقل للعمل سفيرا بالولايات المتحدة الأمريكية، والأم فريدة المراسي أستاذة جامعية، والخال ضابط كبير بالأمن الوطني، والعم ضابط كبير بالمخابرات الحربية، وتعيش في إحدى الفيلات الواسعة والكبيرة بمصر الجديدة، والأب لا يعود إلى مصر إلا لماما، في إجازات قصيرة، خاطفة، والأم هي من تقوم على تربية ابنتها أميرة من الألف إلى الياء، وكانت تربيتها لها أقرب إلى التربية العسكرية، فهل تجدي هذه التربية نفعا؟!.

وهذا سؤال مهم تطرحه أحداث الرواية.

وأميرة طالبة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وهي من الكليات المرموقة، وكل هذه المعلومات وغيرها، نعرفها من بوحها وفضفضتها لطبيبها النفسي، واستغرقت جلسات البوح والفضفضة والاعترافات عدة جلسات، ومع كل جلسة فضفضة تشعر براحة نفسية، فهي تعاني الوحدة، والغربة داخل بيتها، فالأب بعيد عنها، والأم هي المعلمة الصارمة، وتتسم بالحسم وقوة الشخصية، وهي شخصية محافظة إلى أبعد مدى، فتقول لطبيبها :

( وقفت أمامها كقطة برية تريد أن تموء في حضرة الأسد ) ص19

وربما هذا التشبيه، يكون كاشفا عن علاقة طالبة السياسة والاقتصاد بأمها، فهي تريد أن تسمح لها بأن تنضم في ( الجروب ) الخاص بشلتها في الكلية لتتواصل معهم ا أثناء الإجازة، ولما كان هذا المطلب من المحرمات، رأت أمها بعد أخذ ورد مع نفسها، أن البنت كبرت، ولتمنحها بعض من الحرية، مع الكثير من التعليمات والضوابط، ولترى بعد ذلك أثر التربية العسكرية على البنت، فتقول لها :

( هتعملي حساب على الفيس باسم مستعار وصورة مستعارة، لا تليفونك ولا صورك حد يشوفهم نهائي، ....، وكمان ده كله لا يؤثر على مذاكرتك وتفوقك، فاهمة يا " ميرو " ) ص 19

وكان الفيس الخاص بها، باسم ( الوشاح الأحمر )، وضمتها إحدى زميلاتها إلى صفحة جديدة تحمل اسم ( وجع قلب )، وراحت تكتب خواطرها الرومانسية، والتي كانت تحوز على أكبر عدد من الإعجاب والتعليقات، وهذا ما كان يسعدها، وظلت متحفظة جدا في تعليقاتها وردودها، حتى ظهر ( قيصر العشق ) :

( ظهر ذلك الشاب والذي تحمل صفحته اسم " قيصر العشق، ...، بدأت أنشغل بمنشوراته الرومانسية وكأنها من أجلي، كما أن بروفايل صفحته يحمل صورة كاظم الساهر، تسللت خلسة إلى صفحته الشخصية، وتجولت في شوارعها وميادينها الواسعة، لكنني توقفت كثيرا، وتوقف معه نبض قلبي، حينما رأيت صوره الشخصية المخبأة بداخل صفحته، بطوله الفارع وجسده الرياضي وشعره الأسود الفاحم، وعيونه السوداء، بوسامته الجذابة والتي زادتها جاذبية شاربه ولحيته الخفيفة، ولأول مرة أجد شابا يجمع بين الرومانسية الجامحة والوسامة الملفتة للنظر ) ص 20

وهذا الوسيم الذي يُكنى بقيصر العشق : اسمه عمر، من المحلة الكبرى، عمره ثلاثون عاما، خريج كلية الحقوق جامعة القاهرة، ويعمل بإحدى الشركات بالمملكة العربية السعودية.

وبدأ يرسل لها الرسائل على الخاص، ويمطرها بعبارات الغزل وجُمل الهيام، ولم تستطع أن تقاوم حبه الجارف، وخالفت تعليمات أمها، وصدحت له باسمها وكليتها، وتعترف لطبيبها النفسي :

( وبدأت العلاقة تتطور بيننا، بدأت أدمنه، استيقظ من نومي على رسالته صباح الخير يا أميرة، وأنام على رسالته تصبحي على خير يا أميرة، وبينهما حوار لا ينقطع ) ص 23

وكانت تغار من كم البنات اللواتي تعج بهن صفحته، وتسأله عن كل بنت تعلق على منشوراته، ومدى علاقته بها، وكان هو الآخر يغار من كل شاب جديد تقبل صداقته، وصب جام غضبه عندما ظهر عضو جديد يحمل اسم ( أمير الرومانسية ) لفت الانتباه بمنشوراته الرومانسية التي تقطر عذوبة وتذوب رقة، وخطف منه اعجابات ونعليقات ( الجروب ) وشعر بأنه يحوم حولها، فطلب منها الانسحاب، وإلغاء صداقته، وفعلت إرضاءا له.

وتبوح لطبيبها :

( أصبح عمر كل حياتي، بطيبة قلبه، واهتمامه بي، وأصبح الفون والفيس كل حياتي، لقد عوضني عمر عن حرماني الأبوي، ووجدت فيه حنان أمي ، التي تحولت من أم يجب أن تحتضن ابنتها الوحيدة ، إلى شرطي تراقب كل تصرفاتي، وتضرب بيد من حديد، لأي خطأ أقترفه ) ص24

ولم تعد علاقتهما قاصرة على شات الفيس والرسائل، وضربت بتعليمات أمها عرض الحائط، وأعطته رقم هاتفها، وتحادثا معا، ووصف صوتها بصوت الكناريا، وأرسلت له صورتها بعد إلحاح منه.

وعندما اعترف لها بحبه، قالت وهي تتخيل أمها:

( ...، وأنا أيضا أعشقك، أنادي على ذلك الشرطي القابع في مكتبة، أتأمل وجهها وعيونها الحادة ترمقني، تصرخ في، لقد خالفت كل قواعد اللعبة يا ميرو، بحتي بأسرار عائلتك، أعطيته رقم هاتفك، والآن تعطيه قلبك، ولكني نظرت إليها بتحد واضح، أخرجت لساني وأنا أغمز بعيوني إليها، واكتب بكل ثقة .. وأنا بحبك كمان ) ص26

وهذه المشاهد تبين بجلاء علاقتها المتوترة والمأزومة مع أمها.

والعلاقة بين أميرة وعمر، شهدت هي الأخرى توترات وتحولات درامية كثيرة، فبدا مراوغا، يكذب كثيرا، انتظرته أن يعود إلى مصر، ويتقدم لخطبتها، وهي مستعدة لمحاربة أهلها والدنيا كلها من أجله، وبدلا من أن يذهب لطلب يدها، أعلن خطبته على دعاء! فترك في قلبها جراحا لا تندمل، وفي روحها شروخا لا تلتئم، وتقوقعت على نفسها، وبدت حزينة مكتئبة، وانهارت، وباحت لأمها، وابتعدت عنه.

وتقول لطبيبها :

( في فترة البُعد الأخيرة، ظهر أسامة، ضابط بالقوات المسلحة، شاب وسيم من أسرة عريقة، والده عقيد في الجيش، وأمه صيدلانية تمتلك سلسلة صيدليات في القاهرة الكبرى والأسكندرية، أسامة نسخة كربونية من والدي، الأخلاق والإلتزام والطيبة والحنان ) ص41

وعن علاقتها بعمر بعد ظهور أسامة تقول :

( عدنا نتحدث من جديد تحت مُسمى أصدقاء، وكل منا يعلم أنه كاذب في توصيف تلك العلاقة، وأننا مازلنا نذوب عشقا ) ص 48

( غياب أسامة عشرين يوم في الشهر، فكرني بعلاقتي مع والدي اللي كان دايما بعيد ومسافر، وخوف أمي عليا وحصارها ليا، جعلوني أهرب من وحدتي وفراغي العاطفي إلى حضن عمر واهتمامه بيا ) ص 53

مقارنة بين عمر وأسامة :

تقول أميرة لطبيبها :

= كان عمر يحكي لي مواقف حدثت بينه وبين دعاء، حدثت بيني وبين أسامة، ولكن رد فعل أسامة كان مختلف جدا، مما جعلني أضع الاثنين في مقارنة حقيقية، أضعها على ميزان العقل والقلب معا.

ونلاحظ هنا أن كلمة العقل تأتي على لسان أميرة، والتي كانت تنتصر دائما للقلب، وتكاد تكون قد ألغت العقل تماما ونحته جانبا واندفعت نحو عمر مستجيبة لصوت ونداء القلب وحده.

موقف لعمر :

( حكى لي مرة، حينما كان نائما بجوار دعاء، وسمعها تهذي بحوار رومانسي بينها وبين شخص آخر، وكان صوتها عال، لم يمهلها حتى تستيقظ، أو اعتبر كل هذا أضغاث أحلام، لكنه صفعها على وجهها، مما جعلها تستيقظ مفزوعة، وظل يضربها بيده ويسبها بأحط الشتائم، لدرجة جعلت والده يصعد على صوت صراخها، ويخلصها من يديه بصعوبة ) ص 54

موقف مماثل لأسامة :

( ما أن انتهيت من إفطاري، حتى بادرني بابتسامته الجميلة :

-هو القمر كان بيحلم بمين امبارح، وكان بيحب فيه أووي بكلمات غزل يا حبيبي .. يا عمري، يا قلبي، بعشقك، انتظرتك تخلصي غزل وتقولي في الآخر أسامة، ما قولتيش، قلت أكيد الغزل الجامد ده في الولد الشقي اللي لسه مالوش اسم، علشان كده ما قولتيش اسمه

ثم قام ومسح على شعري، وطبع قبلة على جبهتي ) ص 54

( ظللت طوال الليل مستيقظة بجوار أسامة، لم أستطع النوم من التفكير والخوف، أن أعاود الكلام أثناء نومي، وأهذي بكلمات الغزل والعشق وأن يتطور الحوار وأذكر اسم عمر ) ص 55

اقترب الفجر وأنا أقاوم النعاس، وبينما أسامة يتقلب في فراشه، حتى التفت نحوي، فوجدني ما زلت مستيقظة، يسيطر الخوف على وجهي، فمد يده وجذبني من ذراعي وضمني إلى صدره وقبلني قبلة طويلة، شعرت ساعتها بالأمان، وهمس في أذني :

-نامي واحلمي براحتك، مش أنا الراجل اللي يحاسب مراته على حلم.

موقف آخر أظهر لي مدى التفاوت النفسي في شخصية عمر، حينما كنا نتحدث عبر الوات ساب ذات مساء

-هو فين أسامة؟

-في غرفة المكتب بيخلص شغل.

-طب خلي بالك ليدخل عليكي وانت مش واخده بالك، أنا مش عايز أسبب لك مشاكل يا عمري.

-لو دخلت على دعاء وهي بتكلم رجل غريب، كنت عملت إيه؟.

-هخلي الدكاترة يحتاروا يلموا عضمها، ويصلحوا وشها إزاي؟ ) ص 55

هل بعد جلسات البوح والفضفضة والاعترافات تطهرت أميرة؟ وهل استفادت من هذه التجربة بحلوها ومرها؟ وهل كان لسماع صوت العقل دورا في إعادة تقييمها الصحيح لتلك التجربة؟

تقول : ( جاء الوقت لإنهاء هذه القصة، لأنه ببساطة هناك شخص ليس له ذنب في تلك الحكاية، غير أنه إنسان بمعنى الكلمة، ولا يستحق إلا كل حب واحترام، فمن أجله سأضع بيدي نهاية هذه القصة ) ص 58

وتعود لتذكر أفضال أسامة عليها :

( أسامة علمني يعني إيه حب، وأن الحب مش كلام حلو وبس، ولكنه أفعال حلوة، وده اللي حسيته مع أسامه، وقف جنبي وصبر عليا بكل احترام وتقدير على عكس عمر بتصرفاته مع دعاء، واللي ما احترمش كونها زوجة عايشه مع راجل بجسمه، وقلبه وعقله مع غيرها، وهي كمان ما قدرتش ظروفه ولا حاولت تخفف عنه ) ص 58

ونلاحظ أن أميرة قد بدأت تعيد تقييم العلاقة بينها وبين عمر، وبدأت تقيس بميزان العقل والقلب معا، بفضل مساعدة الدكتور سامح عياد لها.

وعمر لم يأخذ خطوة واحدة ليحول تلك العلاقة الوهمية إلى واقع :

( لو أخذ تلك الخطوة، كنت حاربت الدنيا كلها عشانه، أنا حبيته من قلبي لكنه ما حاولش إنه يوصل للحلم ويقرب خطوة علشان يقرب مني ) ص66

وبدأت صورة عمر تهتز في عينيها :

( كمان مكنش صريح، تقدر تقول إنه كداب، اناني، علاقات الفيس فكرته شهريار، الستات بترمي نفسها تحت رجليه، رغم إنه طيب وغلبان، لكن الفيس مليان ستات حياتهم فارغة، بيحولوا أي إنسان تافه لشخص عظيم، الفيس هو السبب إن عيادتك مليانة يا دكتور، .. ) ص66

وبذلك تكون أميرة قد نجحت في العبور من أزمتها، وخلصت من التجربة بعبر وعظات، ومن خلال هذه التجربة الخاصة، خلصت إلى بعض الأراء المهمة، والتي سقناها قبلا، ويمكن أن تفيد الآخرين، ويمكن ايضا تعميمها.

( 3 )

كما منحت الكاتبة المساحة الكافية لأميرة للبوح والفضفضة والاعترافات للدكتور سامح عياد، منحتها أيضا لعمر وأمام نفس الدكتور، فأسامة كان قد أحب أميرة، وتضاعف حبه لها بعد أن حملت، فالتقط رقم عمر، وأعطاه لصديق له يعمل بالاتصالات، وأبلغه عن بعض المعلومات عن عمر، ولأن الشك قد لعب برأسه، فأراد أن يعرف حدود تلك العلاقة التي جمعتهما، وشخصيته اتسمت على مدار صفحات الرواية، وفي كل المواقف بالثبات الانفعالي، وحُسن تقدير الموقف، وبعد تحريه عن عمر عرف أنه استقر بمصر، وتزوج من دعاء، وأنجب منها بنتا، وانفصل عن زوجته بعد شهور قليلة، ويتردد على القاهرة ليُعالج عند الدكتور سامح عياد استشاري الأمراض النفسية والعصبية، وأشار على أم أميرة، بأن تقنع ابنتها بضرورة الذهاب إلى الدكتور سامح، وأمام اصرار أمها وافقت على مضض، أسامة قد ذهب إلى الدكتور سامح عياد قبل أن تذهب أميرة إليه، ووعده بعد معالجته لأميرة بمفاجآت سارة، وستبهجه، وسيحقق له كل ما يحلم به، ووعده الدكتور بأنه سيفعل كل ما في وسعه، وسيسخر كل علمه وخبراته في علاجها.

وبعد أن عولجت، ذهب إليه أسامة، ليشكره على علاجها، وليفي له بوعده واتفاقه معه، وبدا الدكتور ناسيا أو متناسيا الوعد والاتفاق الذي بينهما، فاخرج من جيبه صورة جواز سفر له، وتأشيرة الذهاب إلى أمريكا، فكل حلم الدكتور سامح أن يترك مصر، ويهاجر للعيش والعمل هناك، وقدم على الهجرة عشرات المرات، وفي كل مرة يتم رفض طلبه، وصورة ناطحات السحاب معلقه في مكتبه، ولا يكف عن التطلع إليها، كادت الفرحة أن تنط من عينيه، وخطف جواز السفر والتاشيرة من أسامة، وهو غير مصدق، ساعتها عاجله أسامه، وأخرج من جيبه فلاشا، وأعطاها له وهو في نشوة فرحه بقرب تحقيق حلمه، وقال له تنقل لي جلسات" المكاشفة " الخاصة بأميرة، حاول أن يفهمه بأنه من الصعب عليه أن يفشي أسرار مرضاه، , وموضوع أميرة انتهى، ولا تشغل بالك به، أميرة طفلة بريئة، وعلاقتها بعمر كانت لعب عيال مش اكثر، وإنها أنهت العلاقة بالفعل، وأن عمر وأميرة عمرهم ما اتقابلوا إلا في الخيال، وفاجأه أسامة:

( انت ما تعرفش إن مستشفى جونز هوبكنز ) من أكبر مستشفيات الولايات المتحدة، وإني بذلت مجهود جبار عشان أوفر لك فرصة عمل هناك، و .. و .. )، فخطف أسامة جواز السفر والتأشيرة من يده، وعقد العمل كان لم يزل بيده، وهم واقفا، فاستوقفه الدكتور سامح، وقال لنفسه مبررا قبول عرض أسامة:

( ماذا سيخسر لو أفشى أسرار مرضاه، إنهم مجموعة من الحمقى والضعفاء الذين فشلوا في التعامل مع الآخرين فسقطوا في مستنقع الجنون )

ونقل له مكاشفات أميرة، وماكاد ينتهي من نقلها، حتى باغته أسامة وعلى نفس الفلاشا انقل مكاشفات عمر، تردد قليلا، ولكن الحلم الذي راوده طويلا ويتحقق الآن على يديه، جعله ينفذ ما طلبه منه.

وقبل أن يغلق العيادة، ويحزم أمتعته للهجرة إلى البلد الحلم، اتصل بأميرة، وطلب مقابلتها على عجل، ورغم أنها كانت تعاني من الآم الحمل، فهي على وشك الوضع، ذهبت إليه :

قال لها :

( من عدة شهور، جاني شاب هنا، الشاب ده كان متزوج وعنده بنت، وكان بيعاني من مشاكل مع مراته، وده بسبب إنه كان بيحب بنت من خلال شبكة التواصل الاجتماعي، كان بيحبها بجنون، لكن الظروف حرمته منها، واضطرته يتزوج علشان ينساها، لكنه ما قدرش )

وأعطاها فلاشا عليها ( مكاشفات ) هذا الشاب وطلب منها أن تسمعها من باب حب الاستطلاع مش أكثر، وأن تحكم عقلها لا قلبها.

وجاءت اعترافات عمر وبوحه وفضفضته، صادمة لأميرة، وأجابت لها عن كل الأسئلة التي كانت تؤرقها، وبررت لها بعض تصرفاته التي كانت تستنكرها، فهو ليس بالمراوغ ولا بالمخاع، وليس بالكذاب، وشعرت بأنها ظلمته، وعمر يستحق أن نفرد له المساحة الكافية، لأنه يمثل شريحة كبيرة من الشباب المصري، وتكاد تكون الشريحة الأكبر، التي تعاني الفقر والعوز والحاجة، وتكابد في تلك الحياة، ولكننا سنوجز قدر الاستطاعة، فهو شاب مصري من المحلة الكبرى، وتخرج في كلية الحقوق جامعة القاهرة بتقدير جيد جدا، وتخطته الكلية وعينت ابنة وكيل الكلية، وكما خاب حلمه في التعيين بالكلية، خاب حلمه في الارتباط بوفاء حب السنوات ، بنت شارعهم وزميلة الدراسة، فخطفها زميل دراسة لهما، عقب تخرجه في كلية التجارة، اصطاد أهله له وظيفة في البنك الأهلي، ووالد عمر يعمل فلاحا ولا يملك غير قراريط قليلة، يفلحها، وبالكاد تكفي حياة الكفاف، وأخوته الكُثر يبنون الأمال الكبيرة عليه، فهو الوحيد الذي سلك طريق التعليم الجامعي، ويرون فيه المخلص لهم من عذاباتهم وانتشالهم من فقرهم، والشهور تمر وهو ينتقل من عمل إلى عمل، وبالكاد يوفر مصروفه اليومي، وتعرف على دعاء :

( كنت في نقابة المحامين، استخرج كارنيه النقابة، كانت تساند خالها عبدالرحمن شكري المحامي في حملته الانتخابية، وقفت بجواره واشتركت في حملته الانتخابية، طمعا في الحصول على عمل في مكتبه بالقاهرة )

ومع نجاحه انتقل للعمل بمكتبه، واقترب من دعاء أكثر، وعرف الكثير عن حياتها الشخصية، فهي بنت لأم مصرية وأب سعودي، وشكت له من تصرفات والدها السعودي الذي تركهم صغارا يعانون، ولكنها بمساعدة خالها المحامي حصلت على مستحقاتها ومستحقات أختها حنان الأصغر منها، وحق امها المسالمة مهيضة الجناح، ودعاء تتسم بالشخصية القوية، ويصفها عمر بأنها قوية مثل رجل شجاع لا يهاب أحد، ووالدها يخشاها ويعمل لها ألف حساب، وتحولت الصداقة بينهما إلى حب، وأخذت تلح عليه في ضرورة الارتباط، ولأنه لا يملك حتى ثمن خاتم الخطوبة، طلب منها ان تكلم والدها السعودي والبحث له عن فرصة عمل بالسعودية،

يقول عمر :

( وبعد طول انتظار، وصل عقد العمل والتأشيرة، لكنه بعيد كل البُعد عن مؤهلي الدراسي، وشعرت بخيبة أمل لا تقل عن خيبتي بضياع وفاء ) ص72

وسافر، واستلم العمل كمسئول عن مجمع سكني مع آخرين، براتب متوسط، والسكن بداخل المجمع في غرفة حقيرة لا تليق بإنسان.

( مع الفراغ الذي كنت أعيشه، بدأت أسترجع ذكرياتي مع وفاء حبيبتي الأولى، ودعاء حبيبتي الثانية، لكن بين الاثنين كنت أرسم في خيالي فتاة أحلام مختلفة تجمع بين وفاء ودعاء ) ص73

ولسد الفراغ، وقتل الملل، دخل العالم الافتراضي، بعد أن عرف من أصدقائه، أنه يمكنه محادثة أية فتاة أو امرأة في أي مكان في العالم، وفتح لنفسه حساب باسم ( قيصر العشق )، واشترك في العديد من ( الجروبات )، وتفاجأ بعضوة جديدة باسم مستعار ( الوشاح الأحمر )، تخطف بمنشوراتها الرومانسية وأشعارها العذبة الرقيقة، الأضواء منه، وتحصل على أكثر الاعجابات والتعليقات، فتواصل مع الأصدقاء على الجروب بتجاهل منشوراتها، وعدم التعليق عليها، وازداد اصرارا على اقتحام عالم تلك الأميرة المجهولة، ولكن كل محاولاته باءت بالفشل مثل الآخرين، فأصر على الوصول إلى قلبها المغلق، فأرسل لها الرسائل الرومانسية على الخاص، وتتجاهلها، وهددها بالانسحاب من الجروب والفيس إذا لم ترد على رسائله، وترضخ لتهديده وتفتح الرسائل، فيتيه دلالا، ويحلق طربا، ويحس بأن هناك باب من العشق يُفتح له، فيقول في بوحه لطبيبه :

( مرت الأيام والصداقة بيننا تكبر يوما بعد يوم، حتى بدأت تثق في كلامي وحديثي، فأصبحت صديقها الوحيد، وصارت صديقتي الوحيدة، تهون علىّ الكثير مما أعانيه، تقدم لي النصيحة، تحمل في قلبها حنانا يكفي لإطعام ملايين المحرومين، ذكرتني بأمي، بحبيبتي وفاء، وأنستني دعاء وقسوتها التي لا حدود لها ) ص75

وما أن راحت تحكي له عن أسرتها، حتى بدأ يشعر بضآلته أمام هذه الأسرة العريقة، وقد ندم اشد الندم عندما تورط في حبها، فهي نجمة في السماء، فكيف الوصول إليها؟ لقد عجز عن الوصول إلى وفاء الذي جمع الحب بينهما اكثر من سبع سنوات وهي فقيرة مثله، فما بال هذه الأميرة، حاول أن يفهمها ذلك رمزا، ولكنها أصرت عند عودته أن يتقدم لخطبتها، وهي ستحارب من أجل حبهما، فلم يكن أمامه من بُد سوى اطلاق دعاء عليها، الذي ادعى لها أنها حاولت الانتحار، لتعيده إاليها من جديد، ولكنه ضعف وعاد إلى أميرة، فكان قد أدمنها كما أدمنته، وسيفعل ما عليه، ويذهب ليطلب يدها من أبيها، وهو يعرف أنه مرفوض مرفوض، يقول في بوحه لطبيبه :

( حجزت تذكرة السفر، وتحدد يوم سفري، وكانت أميرة شريكة ليلتي، حتى موعد صعودي للطائرة، وانقطع بيننا الحوار بإقلاع الطائرة ) ص82

في المطار :

تم القبض عليه، واقتادوه إلى غرفة صغيرة منعزلة للتحقيق معه، يقول :

( في غرفة صغيرة بها مكتب وحيد وكرسي، جلست أنتظر، وبجواري حقائبي، حتى دخل الغرفة، شخص يرتدي بذلة سوداء، يبدو أنه من رجال الأمن، ابتسم في وجهي.

-ماتخافش، كلها ساعة وهترجع لبيتك وأهلك، مجرد دردشة بسيطة، اعتبرني زي والدك أو أخوك الكبير.

-خير يا فندم .. أنا تحت أمر سيادتك.

-أعرفك بنفسي، أنا شكري المراسي، من الأمن الوطني، وخال أميرة فؤاد شهاب .. أظن أنت فهمت دلوقت إيه معزى الدردشة دي، أنت شاب ذكي وهتقدر تعرف فين طريق مصلحتك، وتمشي فيه .. واللي هيكون طبعا بعيد جدا عن ابنتنا أميرة ، .... )

( الرواية الجميلة اللي عملتها أنت ودعاء على أميرة عجبتني جدا، وعشان كدة نفذتها لكم وحجزت لكم القاعة وكل الترتيبات جاهزة لإتمام خطوبتكم، ... ) ص 83

كانت أميرة تسمع ( مكاشفات ) عمر، وهي غير مصدقة لتلك المؤامرة التي قادها الجميع لإنهاء قصة حبهما، بهذه القسوة، كانت تصرخ، وراحت تفتش عن الشريحة المدون عليها رقم عمر، ووجدتها، وهاتفته، وكانت اللهفة والشوق والدموع، وانتهت المكالمة الطويلة على صوت عمر :

( -أميرة أنا في القاهرة، محتاج اشوفك، أبص في عيونك، أمسك إيدك، أطلب منك السماح، ارجوك ولو دقيقة واحدة بس، أنت ما تعرفيش حالتي النفسية، أنا حاولت الانتحار أكثر من مرة، أقسم بالله حاولت ولكني فشلت بإمتياز، نفسي اشوفك ولو مرة قبل ما أموت ..

-بعد الشر عنك يا حبيبي، أرجوك بلاش تهور، أنا كمان محتاجة أشوفك.

-بجد يا أميرة، هاشوفك، هاقعد معاكي، هلمس إيدك، وأسمع نبض قلبك،

-إيه رأيك نتقابل بكرة الساعة عشرة الصبح في محطة مترو التحرير

-هنتظرك من دلوقت.

-مع السلامة يا حبيبي ) ص90

وما كادت تنتهي من مهاتفته، حتى عاودتها الآم مخاض الولادة، ونقلوها بالإسعاف إلى المستشفى، وسط ذعر والدها، أمها وأسامة :

وكان أسامة :

( .. قد سمع كل حوارات أميرة وعمر، وتاكد أنها كانت علاقة عابرة، لم تخرج عن الشات والمكالمات الهاتفية، لم يقترب من بيته، لم يلمس يدها أو يرى وشاحها الأحمر، لقد كان ووالدها السبب في كل هذا، تركاها بمفردها وحيدة، حتى فتشت عمن يؤنس وحدتها، حتى لجأت إلى ذلك المشروع المخرب الذي دخل ليدمر حياتنا، قد ظنه الجميع موقع تواصل اجتماعي، لكنه في الحقيقة ضياع اجتماعي و ... ) ص 93

وقرر أسامة أن يسوي معاشه، ويقوم بعمل مشروع في القاهرة ليعيش بجوار زوجته وابنه حمزة الذي ينتظر قدومه بلهفة.

مكثت اميرة في المستشفى أسبوعا حتى يندمل الجرح، وتم وضع حمزة تحت الملاحظة لإصابته بمرض الصفراء.

وما أن خرجت من المستشفى تذكرت الموعد الذي ضربته لعمر، بدلت الشريحة : وما أن وضعتها حتى بدات تخرج من الهاتف أصوات متواصلة لرسائل عبر الوات ساب، عشرات الرسائل بدات تقرا ..

( الرسائل لم تنقطع يوما، كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة، حتى بدأت تتحول الرسائل إلى رسائل جنونية، شرع يهددها إن لم تأتي إليه، سيذهب إلى بيت أبيها ليراها بالقوة، سيقابل زوجها أسامة ويخبره بقصة حبهما، وليكن ما يكون، لن يسمح للظروف أن تفرق بينهما للأبد، أنه مازال ينتظرها كل يوم في محطة المترو، نظرت في ساعتها فوجدتها تقترب من الخامسة مساء، ارتدت ملابسها على عجل، وهرعت إلى خارج غرفتها، اصطدمت بأمها على درجات السلم، فلم تشعر بها، نادت عليها وهي في غاية الاندهاش من منظر ابنتها :

-في إيه يا أميرة .. بتجري رايحة فين ..خالك شكري هنا ) ص 96

كل يوم ينتظر حبيبته أن تأتي ولا تأتي، ويحدوه الأمل، يفتش في وجوه الفتيات والنساء عنها، وكلما لمح واحدة ترتدي وشاحا احمر، يجري خلفها، ( فكانت قد وعدته بأن أول لقاء يجمعهما، سترتدي له الوشاح الأحمر )، ويناديها بأميرة، فتنظر له باستنكار، وتتركه وتمضي، ويذهب إلى أخرى وثالثة وعاشرة، ومعظمهن يلوين بوزهن، ويردونه بقسوة.

( عشرات المواقف والعبارات، لكن النسيان هو سيد الموقف، والنكران هو الرد الدائم، فاشار إلى الوشاح الأحمر الذي اتقفا أن ترتديه يوم لقاءهما، وبدأت تتحول حالته، فبدا كمجنون فقد عقله للتو، فاشار إلى رأسها

-الوشاح الأحمر

فنزعت الوشاح الأحمر عن رأسها، وأطاحت به بعيدا، فطار في الهواء، واستقر على قضبان المترو، وهي تصرخ في وجهه

-وآدي الوشاح الأحمر ) ص ص 98 ، 99

سمعت أميرة أصوات وصراخ، ورأت الناس تتجمع حول جثة مُغطاه بأوراق الجرائد

( -مجنون .. فضل يصرخ ويكلم نفسه بصوت عال مخيف، وبعدين رمى نفسه تحت عجلات المترو )

وهمت أميرة بالإنصراف، وقبل أن تشيح بوجهها عن المشهد المرعب أطاح الهواء بالورقة التي تغطي وجهه، وصرخت :

( فظهر أمامها الوجه واضحا وضوح الشمس، إنه حبيبها عمر بشعره الأسود، بوسامته الجذابة والتي زادته شاربه ولحيته الخفيفة، يسيل الدم من جبهته، يفتح عيونه السوداء بذهول، وعلى وجهه ابتسامة مجهولة الهوية )

( أمسكت بقايا وجهه وهي تصرخ، قبلت رأسه والدموع تغرق خديها ...وصل إلى أذنيها صوت ينادي عليها، رفعت رأسها إلى أعلى، فوجدت والدها فؤاد شهاب يقف على الرصيف وبجواره والدتها فريدة المراسي، وخالها شكري المراسي، هؤلاء الجناة الذين أودعوا قصة حبهما إلى المهالك، الثلاثي الشيطاني الذي تآمر لإنهاء تلك القصة بكل قسوة ) ص 100

( 4 )

الاستفادة من السينما :

استفادت الكاتبة من تقنيات السينما في روايتها، وخاصة ( فن المونتاج ) في ترتيب مشاهدها، فجاءت مشاهد على التوالي، ومشاهد أخرى على التوازي، ومشاهد ثالثة مركبة ومتداخة، واستخدمت أسلوب الصدمات.

ويبدو أن الكاتبة متابعة جيدة للسينما العربية والعالمية، فتناثر في الرواية بعض أسماء نجوم عرب وعالميين.

توظيف الأغاني :

امتازت الكاتبة باختيارها للأغاني المعبرة عن الحالة التي يمر بها الحبيبين، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :

1 – يرسل لها عمر بعد أن أعلن خطبته على دعاء، وسافر إلى السعودية، محاولا أن يبرر عدم ارتباطه بها للهوة الواسعة بينهما، فيختار أغنية ( الحب المستحيل ) لكاظم الساهر، يقول مطلعها :

( أعرف أني أعيش بمنفى، وأنت بمنفى

وبيني وبينك ريح وبرق ورعد ونار

وأعرف أن الوصول لعينيك .. وهم

وأعرف أن الوصول إليك .. إليك انتحار )

2 – اصرار أسامة على أن تكون رقصتهما في الفرح، على نغمات نفس الأغنية التي رقصا على أنغامهما منذ أن تعارفا أول مرة في فرح بنت وزير الخارجية، على صوت ماجدة الرومي :

( يُسمعني حين يراقصني / كلمات ليست كالكلمات

يحملني من تحت ذراعي / يزرعني في إحدى الغيمات

والمطر الأسود في عيني / يتساقط زخات .. زخات

يحملني معه .. لمساء / .. وردي الشرفات )

الزمن :

رغم أنه ليس هناك تواريخ محددة، يمكننا أن نحدد زمن الرواية، ولكن الأحداث معاصرة جدا، ويكفي أن نشير إلى ورود كلمات في النص يمكن من خلالها أن نحدد الزمن، فالكاتبة تقول ضابط بالأمن الوطني، وتم تغيير مسمى قطاع أمن الدولة إلى أمن الوطن، وهذا حدث بعد ثورة 25 يناير 2011م، والزمن الداخلي ممتد.

المكان :

المكان الأبرز، الفضاء الألكتروني، والفون والفيس بوك، فمعظم الأحداث دارت عبر ومن خلال هذه الوسائط الحديثة، والمكان على الأرض محدود جدا، فيلا بمصر الجديدة، منزل ريفي متواضع بالمحلة الكبرى، معسكر جيش، عيادة الطبيب النفسي، مستشفى، نقابة المحامينن مكتب محامي، وأسماء دول مثل فرنسا وهي أكثر الدول الأجنبية حضورا ( حيث كان يعمل فؤاد شهاب سفيرا بها، وقضت أميرة وأسامة شهر العسل بباريس)، أمريكا ( انتقل فؤاد شهاب للعمل بالسفارة المصرية هناك )، السعودية ( تعاقد عمر للعمل ووالد دعاء سعودي)

الشخصيات :

اهتمت الكاتبة برسم كل شخصياتها بعتاية، وفقا لأبعادها الثلاثة، البُعد الخارجي للشخصية، والبُعد الداخلي، ورصدت ما يعتمل في عقل شخصياتها وما يشتجر في نفوسها، ولم تغفل حركة هذه الشخصيات في محيطها الاجتماعي، وشخصيات روايتها قليلة، ولكنها لم تهمل أي شخصية في رسمها وتقديمها بعناية، حتى لو اعتقد القارئ أنها شخصية ثانوية، أنظر إليها كيف رسمت شخصية السكرتيرة التي تعمل بعيادة الطبيب، رسمتها بمهارة فائقة، وكيف كانت تظهر انفعالات السكرتيرة، وشخصية ضابط الأمن الوطني الذي لم يظهر في الصورة غير مرة أو مرتين، لكنها شخصية فاعلة ومؤثرة، وصانعة لبعض الأحداث، ومحركة لها، ولو من خلف الستار.

الاستفادة من علمي النفس والاجتماع :

يبدو أن الكاتبة قارئة جيدة لعلم الاجتماع وعلى وعي بعلم النفس، وإذا كان لعلم النفس حضوره في هذه الرواية، فإنه حاضرا بقوة في روايتها ( وجع الذاكرة ) وأرجو أن نقاربها نقديا قريبا.

ولعب الحوار دورا هاما في هذه الرواية، وأرجو أن نتوقف في مقال لاحق، بشيء من التفصيل على التقنبات والحيل الفنية التي استخدمتها في روايتها الثلاث التي صدرت مؤخرا، وأرجو أن أكون قد نثرت بعض قطرات الضوء حول هذه الرواية البديعة للكاتبة تغريد مصباح.

مجدي جعفر

العاشر من رمضان

1/ 6 / 2023م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى