رؤوف حدو - التناص الميتاسردي وأسئلة الكتابة في قصة "طقس على ورق بارد" للأديب علي جاسم الفيصل

هل نستطيع الافلات من التشيخوفية؟ إن البحث المتواصل للكتاب عن طرائق وتقنيات سردية أدى إلى ظهور الكتابة الميتاسردية بالانتقال لعملية نقلية لهموم الكاتب وتمخضات المخيال في سبيل توليد النصوص. يعرف النقاد الميتاسرد أو الميتاقص (Métarécit) بذلك الخطاب المتعالي الذي يصف العملية الإبداعية نظرية ونقدا، إذن فهي تفضح مكونات النص وطرائق وأسرار بنائه، وترصد دواخل الكاتب أثناء عملية الإبداع، تلك التي قد لايراها ولايحسها المتلقي في نصوص اعتيادية، إذن الميتاسرد هو عملية تشاركية يمكن اعتبارها كأبواب مفتوحة على خيال السارد، ويتوجه بها صراحة للمتلقي: إني أتحدث إليك، فلننس القصة ولأخبرك عن قصة القصة، هي أشبه ب making off قصة قصيرة، ولكن من خلال هذا النوع من النصوص فإن الكاتب يخادع المتلقي بكتابة قصة داخل قصة. بالعودة لقصة "طقس على ورق بارد" فهي ظاهريا لقاص بصدد اتمام كتابة قصة بعيدا عن شخوصه المعتادة، لكن أحدها يعترض طريقه، هو يشبهه بحوذي غاصت عربته في الثلج، وسنفهم بأن الثلج هو الورقة وأن الحوذي هو الشخصية الميتاسردية، والعقدة هي كيفية إزاحته من الثلج ليتسنى للكاتب إتمام قصته، لتنتهي القصة بفشله وترك الحوذي وحده ليصبح هذا الأخير داخل النص بعد أن استسلم السارد وخرج منه. إن القصة التي بين أيدينا تطرح سؤالا مهما عن الهيمنة وصراع الشخصية مع المؤلف السارد، الشخصية الميتاسردية التي تتمرد على خطة الكاتب: "في حقيقة الأمر كلانا شل الآخر عن الحركة", يشبه هذا التمرد بالتعالي وهذا مايوافق تعريف الميتاسرد بالخطاب النرجسي المتعالي، هذا الصراع بين الإثنين يظهر في القصة على أنه تعاضد، السارد يحاول مساعدة الشخصية الميتاسردية على المضي فيما يخطط له، ولكن أيضا ليخلي له الساحة ويمارس فعل الكتابة عن غيره. هته الشخصية تتطابق وشخصية السارد: "كان من الذين اعتدت الكتابة عنهم في قصصي، كان يشبهني، مثلما كنت اشبهه" ونحن نقرأ ذلك نستعيد مسألة من يكتب فعلا و هل يتنحى الكاتب كلية أم أنه يتلبس شخصياته؟ يصرح السارد بأن إذن أضحت شخصية الحوذي عقبة في طريق المتن القصصي للسارد" ورطة، الحال غير السار" وأصبح الصراع عنوانا لفرض الهيمنة، ويذكرني هذا الطرح بنظرية الذكر المهيمن le male dominant ، يتصارعان على حلبة من ورق، حول غواية السرد، ذلك الأبيض المغري الذي ينادي الحبر لإنجاب نص. لكن لماذا اتخذت الشخصية الميتاسردية لباس الحوذي؟ هنا نحيل القصة لسؤال التناص بعد مسألة التنظير. نتذكر جميعا رائعة تشيكوف: لمن أشكو كآبتي: قصة أيونا الحوذي العجوز الذي يسعى لإيجاد من يصغي له ليكلمه عن وفاة ابنه، لكنه يلقى اللامبالاة، يحاول أن يجر ثقلا ملقا على ظهره، لكنه لايجد إلا ركابا لامبالون، كأنهم "جثث قراء" من دون حياة: العسكري ثم السكارى، والحوذي الشاب، قد يسمعونه ولكن لايحسون بآلامه وكآبته. يصف تشيخوف مشاعر تلك الخيبة قائلاً: "وتدور عينا أيونا بقلق وعذاب على الجموع المهرولة على جانبي الطريق: ألن يجد في هذه الآلاف واحداً يصغي إليه، لكنّ الجموع تسرع من دون أن تلاحظه أو تلاحظ وحشته، وحشة هائلة لا حدود لها. لو أنّ صدر أيونا انفجر، لسالت منه الوحشة، فربما أغرقت الدنيا كلها. ومع ذلك لا أحد يراها. لقد استطاعت أن تختبئ في صدفة ضئيلة، فلن ترى حتى في وضح النهار". "ويلتفت إلى الراكب عدة مرات ولكن الأخير كان قد أغمض عينيه ويبدو غير راغب في الإنصات" يقول يوسف إدريس إنّ التشيخوفية مرحلة في حياة كلّ كاتب قصة قصيرة. إن أدب القصة القصيرة بوصفه أدبا للجماعات المغمورة يجعل محاولة الافلات من التشيكوفية ضربا من العبث وهنا أقصد التوقف عند شخوص تشيكوف. سعى حوذي تشيكوف لإيجاد حل لمشكلته لكن الحمل كان ثقيلا، أراد تشيكوف السارد أن يساعده لكن من دون جدوى، ربما حاول تشيكوف الافلات من قيد شخوصه والمضي لكن لم يستطع فكتب قصص هؤلاء المهمشين محاولا مساعدتهم، ليجد ركابا يركبون عربته في كل زمان ومكان. تمرد الشخصية على خطة السارد وهيمنته يفلح أخيرا، يعلن المؤلف السارد استسلامه وحسرته ليخرج من النص، حاول جر عربة السرد ليبعده عن طريقه لكن من دون جدوى. إذن فهو يتنحى كلية، كما تنحى تشيكوف وتركنا نطل على نفس أيونا من دون أن يخبرنا بذلك وبلمسة ساخرة، وكأنها لعبة وليست مأساة، تركه يمارس طقس البوح بكل عفوية حتى وصل إلى فرسه: "هكذا يا أخي الفرس، لم يعد كوزما أيونيتش موجودا... رحل عنا....فجأة" وحقق الهيمنة وأصبح الذكر المهيمن بعد صراعه مع السارد: "لدي الأن إلا زوجة واحدة : الأرض الرطبة؛ أي القبر" حين يكون في الورق ألم ووجع أشبه بالموت.

رؤوف حدو


___________


النص:

هذا الحوذي الذي غاصت عربته في الثلج جاء قطعا من خارج النص. في حقيقة الأمر كلانا شل الآخر عن الحركة، او عن إكمال ما يدور في رأسه. نزل من عليائه ليتلمس ما في ذاكرته من محاولات لإنقاذ نفسه والاعتذار لي من هذا الموقف المحرج.
من ناحيتي كان لزاما علي أن اتخلص من هذه الورطة لكي افضي مساحاتي البيضاء و أكمل القصة.
حدقت به، كان من الذين اعتدت الكتابة عنهم في قصصي، كان يشبهني، مثلما كنت اشبهه وهو يبحث عن ركاب مهمشين وبالكاد يملكون القليل من الكلمات..
ومن بين السطور استعدت مراجعتي لهذا الحال غير السار مرة بعد أخرى ، فلم أر يوما كاتبين يجران عربة ثقيلة مثل هذه وهي محملة بكل تلك الجثث من القراء.
ومع ذلك حاولت بجد مساعدته.. تعبت، و ارهقتني المحاولات..
كنت اسمع لهاثي مثل صهيل من بعيد. وهو يراني مثل حصان بائس لا يجيد الدفع ولا الجر حتى على الورق.
في نهاية الأمر؛
لم اجد حلا آخر لي سوى الخروج من النص..
فتركته لوحده وأنا متأسف جدا.. ولعله ينجح في طقس ما
على إنقاذ عربته
من الكتابة.

علي جاسم الفيصل / العراق



-----------------
* طقس على ورق بارد -علي جاسم الفيصل- النص الحائز على المرتبة الثانية في مسابقة الأقصوصة دورة ثانية - الهراديبية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى