مجدي جعفر - مقاربة نقدية في رواية (وجع الذاكرة) للكاتبة تغريد مصباح

الذاكرة البشرية هي السبب الرئيس في تطور السلوك الإنساني، فالخبرات المتراكمة والتي يتم خزنها، والاحتفاظ بها، واستدعاؤها عند الحاجة، تجعل البشر في حالة تغير مستمر، يتجنب العثرات، ويتقدم إلى الأفضل.

والكاتبة تغريد مصباح اتكأت على ذراع الذاكرة، لتقدم لنا نصا روائيا، استبطنت فيه النفس البشرية، من خلال شخصية الفتاة غادة، التي عطبت ذاكرتها، إثر حادث سير، وقدمتها لنا في شخصيتين متباعدتين، شخصية غادة قبل فقدان الذاكرة، وشخصيتها بعد فقدان الذاكرة ( وتدعى الحاجة سماح ).

وفقدان الذاكرة وفقا لعلوم النفس هو ضياع كلي للذاكرة لفترة من الزمن، كما في حالة غادة، فتفقد الذاكرة ما يقارب ربع القرن، ورغم أنها واعية تماما لما يدور حولها، ولكنها لا تستطيع أن تتذكر أي شيء.

ونحن لن نتحدث عن الذاكرة وفقا لما جاء من مفاهيم وتعريفات لها في العلوم الفسيولوجية والعصبية، ولكنا سنتناولها من منظور العلوم النفسية والعلوم التربوية أيضا، لأن جُل اهتمام الكاتبة انصب على هذين الجانبين.

والكاتبة استفادت من علم النفس المعرفي الذي يهتم بدراسة طرق معالجة المعلومات، وتخزينها، وأساليب استدعائها لمواجهة الحياة اليومية والخبرات المختلفة.

فغادة قبل الفقدان الكلي لذاكرتها، كانت تعيش في وسط أرستقراطي، وترصد الكاتبة الحياة اللاهية لها ولأسرتها، فالأب مشغول في أعماله التجارية وسرقته أمواله التي لاحصر لها من أبنائه، والأم هي الأخرى مشغوله بشلة النادي، وموائد القمار، وتركت تربية أولادها للشغالات والدادات، وغادة ابنة هذه الأسرة، والطالبة الجامعية، أهملت دراستها، وتسهر حتى الفجر، في صالات الديسكو، وتدخين السجائر، وشرب الكحوليات، ومرافقة الشباب اللاهي والعابث من أبناء طبقتها، وتقدم الكاتبة وصفا دقيقا لغادة، وللبيئة التي نشأت فيها، ولسلوكيات تلك الطبقة، وثقافتها، وطرق وأساليب الحياة اليومية والمعيشية لهم، والقصور الفارهة التي يعيشون فيها، والأزياء العارية التي تظهر وتكشف أكثر مما تخفي، والعطور الباريسية والإيطالية، وتُبرز بوضوح الحياة الكاملة لهذه الطبقة، التي تنتمي إليها الفتاة غادة، التي تفتح وعيها على هذا الواقع، وكأنها تشير وتنبه إلى أهمية الذاكرة الحسية، التي تعتمد على الحواس الخمسة في نقل العالم الخارجي بكل أبعاده ودقائقه، فعين غادة رأت أول ما رأت الملابس العارية، وسمعت أول ما سمعت أصداء الموسيقى الماجنة، واشتمت أول ما اشتمت رائحة العطور الباريسية غالية الثمن، وذاقت طعم البيرة والويسكي والخمور المعتقة، فاستقبلت من خلال حواسها واقع بيئتها، واختزنته في ذاكرتها، وكل ما نقلته حواسها، صار من الخبرات التي تراكمت في ذاكرتها، وأصبح هذا هو الواقع الحقيقي الذي شبت عليه.

وتصف الكاتبة الحياة اللاهية لتلك الفتاة التي ذهبت في رحلة مع أصدقائها للإسكندرية التي تعشقها، وتركتهم وعادت أدراجها غاضبة، باحثة في المحطة عن أقرب أتوبيس، سيتحرك إلى القاهرة، وعن سبب عودتها وحيدة مكتئبة، تقول :

( حتى سمير صديق الجامعة التي اعتقدت أنه يعشقها لذاتها، اكتشفت أيضا أنه يريدها جارية، لقد طلب منها الزواج أخيرا، ولكن بورقة عرفية، حتما ستمزقها الأيام، وبعدما يمل من جسدها، سيتركها على شاطئ الوحدة، ويفتش عن غيرها، لكنها عزمت أن تترك تلك الحياة المعربدة، ولكن كيف وقد تعودت عليها، فصارت جزء من شخصيتها ) ص 17

فحياة اللهو والعبث والعربدة، من صناعة البيئة التي نشأت فيها، وقد تشربت هذه الحياة بكل حواسها، وتشبعت بها، وصارت من مكونات شخصيتها.

وتقدمها الكاتبة بوعي شديد :

( وبائع التذاكر يقوم من فوق كرسيه، ليرمق جسدها، متابعا ذلك الشورت القصير والذي يكشف عن فخداها البيضاوان ( فخديها )، ومؤخرتها الملفتة للنظر ) ص18

وتحاول الكاتبة أن تقدم نموذجا آخر، مغايرا ومختلفا تماما عنها، ويصل أحيانا إلى حد التناقض، وهذا النموذج فتاة أخرى تماثلها في العمر وفي المستوى التعليمي، ولكنه من بيئة مختلفة، وهذه الفتاة تُدعى علياء :

( كانت تلك البنت تزرع وجهها في المصحف الذي بين يديها، ترتل منه بصوت منخفض غير مبالية بما يدور حولها، .. )

وتصفها الكاتبة :

( كان وجهها الأبيض يشع نورا، وعيونها السوداء تشع بالضياء، وتبدو في حجابها كقديسة، .. ) ص 18

وظلت الكاتبة تتنقل بمهارة بين الفتاتين، في محاولة ذكية منها أن يكتشف قارئها، الفروق الجوهرية بينهما، فانظر إليها وهي تصف الفتاة غادة من خلال مظهرها وسلوكها أيضا :

( ..، وبسرعة البرق أقبل عليها النادل، وعيونه ترمق الشورت الذي يكشف عن فخداها ( فخديها ) و " البادي " الضيق الذي يكاد أن ينفجر منه نهديها، ..) ص 19

وتقول أيضا :

( أخذت رشفة من فنجان القهوة، ثم مدت يدها في حقيبتها، وأخرجت علبة السجائر والقداحة، وسحبت بشفتيها سيجارة من العلبة على طريقة الكاوبوي وأشعلتها وشرعت تطلق دخانها الكثيف في الهواء ) ص 20

ورسائل الكاتبة من خلال هذا الوصف، قد وصلت إلى القارئ، من خلال سرد رامز وماتع وشفيف، فمن القراء من سينحاز إلى الفتاة علياء الملتزمة، ومنهم من سينكر على غادة تصرفاتها، ومنهم ايضا من سيتعاطف معها، لأنها لم تجد من يأخذ بيدها، ومن سيحاول أن يوازن بين البيئة والنشأة هنا، والبيئة والنشأة هناك، من خلال سلوكيات الفتاتين المتجاورتين على الكافتيريا في انتظار موعد تحرك الأتوبيس، والمتجاورتين أيضا في الأتوبيس بعد تحركة.

وبدت لي الكاتبة عبر سيرها أشواطا طويلة من الرواية كلاعبة سيرك ماهرة، أو كساحرة، استطاعت أن توازن بعصا الساحر بين الفكر والفن، وبين الدين والفن.

هل نجحت في تقديم رسالة المصلح الاجتماعي؟ هل نجحت في تقديم رسالة رجل الدين؟ هل نجحت في تقديم رسالة الخبير التربوي؟ هل؟ وهل؟ وهل؟.

عشرات الأسئلة قد تتبادر إلى ذهن القارئ، وهو يقرأ الرواية، وأخوف ما يخافه القارئ / الناقد أن تتحول الكاتبة إلى واعظ أو مصلح إجتماعي أو خبير تربوي، فالكاتب الروائي قد يكون بداخله كل هؤلاء، ولكن كيف يقدمهم؟.

ففي مناطق كثيرة في الرواية كانت الكاتبة على وعي بصير، بالفروق الجوهرية بين صوت الكاتب الروائي وصوت الواعظ الديني، وبين صوت الكاتب الروائي وصوت الخبير أو المرشد التربوي، وصوت الكاتب الروائي وصوت المصلح الاجتماعي، وهذا الوعي يؤكد أننا أمام ساحرة ( فنانة)، ولو قُدر للكاتبة أن تحافظ على هذا التوازن الدقيق والعجيب والمدهش في كل مشاهد الرواية، لكانت رواية أنموذجا، ولكن الكاتبة للأسف اختل منها هذا التوازن الرائع في بعض المشاهد، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :

( نظرت إليها عائشة في شفقة. إن التربية في البيت هي من تصنع حياتنا، فإما أن تقودنا إلى الصلاح أو أن تسوقتا إلى طريق الشيطان، كيف تطلب الأم من ابنتها أن ترتدي ملابس محتشمة، تحفظها من عيون الرجال وهي ترتدي الفحش بعينه، كيف يطلب الأب من ابنه أن يبتعد عن التدخين والسيجارة تتدلى من شفته، التربية يجب أن تكون عملية وليست نظرية، يجب أن نزرع الورد لنجني الورد، لا أن نزرع الشوك وننتظر الورد، .. ) ص 22

وكنت أتمنى أن تبتعد الكاتبة عن الخطابية والتقريرية في بعض مشاهدها أو تحذفها، فالأدب العالي عليه أن يُشير ويُلمح، لا أن يُصرح أو يقرر، وهذا هو الفرق بين صوت الأديب وصوت الواعظ.

كان صوت الساحرة ( الفنانة ) هو الضابط لهذا التوازن في معظم مشاهد الرواية، وكلما علا صوت الساحرة ( أقصد صوت الفن ) كان النص أكثر إمتاعا، وللأمانة كان صوت السحر ( الفن ) هو الغالب في معظم مشاهد الرواية.

هل المسافة بين الفتاتين بعيدة فعلا :

( -هو انتي ساكنة فين؟

-في بولاق أبو العلا .. إمبابة.

-كويس يعني جيران وسهل نزور بعض.

فرحت عائشة لكلام غادة أنهما جيران ..

-انتي كمان من إمبابة؟

-لا أنا من الزمالك.

نظرت لها عائشة ومدت شفتيها

-وبتقولي جيران إزاي بقى؟

-يعني بيني وبينك النيل بس.

- تقصدي مسافة السماء والأرض ) ص26

إذن الهوة شاسعة بين الفتاتين / الطبقتين، طبقة في السماء وأخرى على الأرض.

هل يمكن أن تتلاقى الفتاتين / الطبقتين؟

الكاتبة لا تقيم صراعا طبقيا عنيفا ورهيبا بين الفتاتين / الطبقتين، ورغم الهوة الواسعة، ورغم التباعد بين النموذجين الذي يصل حد التناقض، فالعوامل المشتركة بينهما تكاد تكون معدومة، لكن الكاتبة استطاعت بفنية واثبة أن تجمع بينهما، مستثمرة لحظة حادث الأتوبيس، في مشهد غاية في الثراء الفني ص ص : 28 - 29، وضعت فيه الفتاتين في مواجهة مباشرة مع الموت، لتنقل لنا من خلال هذا المشهد، الحالات النفسية للفتاتين، وأحاسيسهما المبهمة التي تتعانق فيها المشاعر المتضادة وتتفاعل.

شاء القدر أن التي تموت هي عائشة، وأن التي تعيش هي غادة، فهيأ الله لها المهندس الشاب هشام الذي كان في طريقه إلى الإسكندرية بصحبة صديقه المهندس الشاب محمد الصائغ لعقد صفقة عمل هناك، ولما كانت الجثث متناثرة على الطريق، وسيارات الاسعاف قادمة من الإسكندرية ومن القاهرة، ركنا المهندسين بسيارتهما على جانب الطريق، ونزلا ليستطلعا الأمر، وليساعدا رجال الاسعاف إن أمكن لهما في نقل المصابين بسيارتهما، واسترعى انتباه هشام جثة لفتاة منزوية بعيدا، حاول أن يلفت أنظار المسعفين إليها، ولكنهم زجروه وطلبوا منه بألا يتدخل في عملهم، فهي ميتة، وكان لديه إحساسا عميقا بأنها على قيد الحياة، وراح يتفحصها، فاحس بنبضات قلبها الواهنة، فراح يصرخ في المسعفين بأن قلبها ينبض نبضات ضعيفة واهنة، فصرخوا فيه، وطلبوا منه الانصراف حتى لا يطلبوا له الشرطة، فهو يعوقهم عن أداء عملهم في إنقاذ الأحياء، وقاموا بوضعها داخل سترة بلاستيكية.

ومن حوار المهندسين الشابين هشام ومحمد :

( -المرة دي هيجيبوا لنا الشرطة وأنا مش حمل بهدلة.

-لازم أنقذها .. حتى لو ها خدها في عربيتي لأقرب مستشفى ) ص 32

وأصرّ هشام على إنقاذها، ونقلها إلى أقرب مستشفى، وليحدث ما يحدث، وفي الوقت الذي كان يحاول نقل الجثة إلى سيارته في غفلة من المسعفين، كان صديقه محمد الصائغ يصرخ فيه، محذرا من خطورة ما يفعله، وأمام إصراره على نقلها، تركه وذهب إلى الإسكندرية ليلحق بالصفقة التي ستضيع منهما.

وتتداعى الأحداث بسرعة، فيذهب بها إلى المستشفى الذي يعمل به صديقه الطبيب محمود البكري، والذي يحاول إنقاذ الفتاة، ويُكتب لها حياة جديدة على يديه، ولكنها حياة مختلفة، فالفتاة فقدت الذاكرة، وهشام لا يتخلى عن الفتاة في محنتها، رغم الورطة التي أوقع نفسه فيها، بسبب شهامته، وإنسانيته، فالمستشفى يريد بيانات الفتاة، فيتذكر سماح ابنة عمته الوحيدة، التي ماتت، والتي لم يتم استخراج شهادة وفاة لها، لموت والديها بالحج، فأخذت اسم ابنة عمته التي في مثل عمرها تقريبا، وهي حيلة تبدو ساذجة من الكاتبة، لكنها على أية حال تُخرج هشام من هذا المأزق، وهذه الغادة التي لبست شخصية سماح، والتي لا تذكر شيئا عن ماضيها، تبدأ حياة أخرى جديدة مع هشام.

تحاول الكاتبة أن تقدم لنا نموذجا للشاب المسلم والفتاة المسلمة والأسرة المسلمة، من خلال هشام وسماح، دون أن تقع في فخ ( الأدلجة )، وبعيدا قدر استطاعتها عن المباشرة الفجة، عدوة الفن الأول، وبعيدا ( قدر استطاعتها أيضا )عن الخطب المنبرية، ولغة الوعظ والارشاد، فهي تعي الأصول الفنية التي يقف عليها العمل الروائي دون عثرات تُذكر.

اتسمت الرواية بالاستهلال القوي :

( كان صوت قرآن الفجر ينبعث من المآذن المحيطة يالبناية، وخصوصا غرفة الحاجة سماح، والتي كانت طوال الليل تصلي وتقرأ القرآن وتبتهل إلى الله بالتسبيح والأذكار، وحينما سمعت آذان الفجر فتحت باب غرفتها، وخرجت وهي تتمتم بالاستغفار، وتطرق باب غرفة زوجها هشام، وغرفة ابنها حمزة، وغرفة ابنتها علياء ) ص 5

وراحت تستحثهم على سرعة الاستيقاظ لصلاة الفجر.

ووفقا للمقاصد العليا للشريعة الإسلامية، والهدي النبوي، وأدبيات الدين الإسلامي السمحة، عاشت هذه الأسرة، وكانت حركتها في محيطها الاجتماعي وتصرفاتها وسلوكياتها منضبطة وفقا لهذا المنهج الوسطي، الذي اتسم به المصريين عموما قبل أن تغزوهم بعض الأفكار الغريبة والوافدة والتي لا تلائم ديدن وطبيعة هذا الشعب، الذي حافظ من خلال أزهره الشريف على وسطية هذا الدين الحنيف.

بدت غادة / سماح كطفلة ولدت لتوها، لا شيء في ذاكرتها، لا أماكن، لا شخصيات، لا وجوه، لا أرقام، فحواسها بدأت تتعرف على العالم الخارجي من جديد، وفي بيئة مختلفة، وتجد الاحتضان الحنون من هشام، والذي يعيد تصحيح خبراتها، ليتم تعديل السلوك، ولأن الإسلام دين الفطرة، عادت غادة / سماح إلى فطرتها الأولى بعد فقد الذاكرة، وصارت الحاجة سماح، التي يشهد لها القاصي والداني، ولعل تكوين الأسرة المسلمة كان من رسائل الرواية المهمة، التي أرادت الكاتبة أن تقدمها، ولا يتم ذلك إلا من خلال التربية السليمة.

وإذا كانت الكاتبة قد قدمت هذه الأسرة المسلمة في أسطر قليلة في استهلالها القوي للرواية، فإنها تدخل في الحدث مباشرة بوقوع سماح في الحمام، ويسيل دمها، وتفقد وعيها، ويهرع الجيران على صوت علياء فزعين، فالحاجة سماح محبوبة من الجميع، ومقدرة، وتنفق على المسجد بسخاء، وتطعم الجوعان وتكسو العريان، ولها أفضال كثيرة على معظم الجيران، وعندما هموا بأن يأخذوها إلى المستشفى، رفض زوجها هشام بشدة، مما أثار عجب ودهشة الجيران، واستنكار حمزة وعلياء لرفض والدهما، الذهاب بامهما إلى المستشفى لإنقاذها، واتصل بصديقه الدكتور محمود ليعمل لها اللازم بالبيت، وجاء الدكتور محمود على عجل، وبعد الكشف المبدئي، نصح بضرورة ذهابها إلى المستشفى، وهشام يرفض بشدة، محاولا إقناع الدكتور محمود باستقدام كل ما يلزم لها هنا لعلاجها بالبيت.

ولأن الكاتبة تعني بالتحليل النفسي لشخصياتها، وحتى يجئ الفعل المعاكس أو المتحول عند أحد أبطال روايتها مبررا، كما في حالة هشام، فإنها تعني برسم صورة أبطالها عناية فائقه، تفيد القارئ في التبين والتعرف على أفعال البطل، كما تفيد في تفسير سلوك هذا البطل إذا أتى فعلا غريبا، كفعل هشام في عدم الذهاب بزوجته إلى المستشفى، فأمام تهديد الدكتور محمود، وتحذيره له من خطورة مرور الوقت على حياتها، رضخ، وحدث ما كان يخشاه هشام، وهو عودة الذاكرة إلى سماح، لينمحي من ذاكرتها أحداث ربع قرن عاشته معه، وتتنكر له، ولأسرتها، وتفيق وهي تصرخ وتنادي على عائشة التي كانت بجوارها في الأتوبيس، وشيئا فشيئا تبدأ في تذكر غادة، وتعود إلى غادة، بسلوكها وتصرفاتها، مما ينذر ويهدد ويقوض أركان الأسرة المسلمة السعيدة، وحمزة وعلياء غير مصدقين بأن هذه أمهما التي ربتهما على الفضيلة والأخلاق الحميدة، ولا يعرفان المبررات لتحول سلوكها المفاجئ، ولا يجدان التبريرات المقنعة لهذا الفعل المتحول.

والكاتبة قد غيرت من ضمير السرد أكثر من مرة، من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، ومن المؤكد أن ضمير المتكلم قد يمنح الرواية قدرا أكبر من البوح، الذي يجعل الرواية أكثر إقناعا، ونجحت من خلال هذا الضمير، أن تجعل وكأن الشخص المتحدث به وعن طريق الإيهام، يحدثك عن تجربته الخاصة، ويبوح لك بما يعتمل في نفسه.

ويُحمد للكاتبة عنايتها بالحوار، وخاصة الحوار الذي يكشف خلجات النفس، فجاء حوارها حيا معبرا عن طبيعة شخصياتها، محددا لمجالها، ومصورا لملامحها النفسية.

وأرجو في هذه العجالة، أن أكون قد نثرت بعض قطرات الضوء حول هذه الرواية البديعة، كاشفا ولو من طرف خفي عن بعض جمالياتها، راجيا أن أكون عند حُسن الظن وعلى مستوى الثقة، ومن الله التوفيق.

............................

مجدي محمود جعفر

العاشر من رمضان

في 14 / 6 / 2023م




رواية (وجع الذاكرة) للكاتبة تغريد مصباح.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى