إشعار
أن نتحدث عن السرد هو أن نفكّر فيه كما لو أنه غير موجود، كما هو شأن كلّ موجود، وقد تم حصْره في رقعة مفهومية، أو حيّز نصيّ، وقد أجيزَ له البقاء والانتشار، كما أطلِق سراحه، بعد أن جرى " ترويضه " والمقصد هو إحلال المرغوب في وضعه فيه، وليس إحالة الموجود إليه، ليكون متبصراً للنقص فيه، وقادراً على الارتقاء إلى سويته وهو يستغرق المرئي وأبعد .
من الصعب هنا، إن لم يكن مستحيلاً، النظر في السرد، أو التحدث فيه وحوله، وقد تجذّر، وفي أكثر من سياق، بمفهومه الذي يقصّره معنىً ومبنى، وتم تداوله وتوارثه عموماً بوصفه النسخة التي لا تتكرر، منذ أقدم العصور، وبذلك نحتاج إلى الكثير من الجهد لنحرر أنفسنا من فتنة أو غواية ما تلقّيناه علمَ سرد، أو هكذا يقال، أو فتنة سلطة سرد، أو كما يقال هكذا، وما رفِع من شأنه وأكسِب جانب قداسة، أو تقديس مع الزمن، تعزيزاً للسلطة الدنيوية التي تحيله إليه .
لكَم ظُلِمَ السرد على أيدي أكثر المتحمسين له، والباحثين في نشأته، ودوره في الكتابة ذات الصلة بما هو تاريخي، وأدبي، خصوصاً، وتناوله بنوع من الطهرانية التي تجرّده من" لوثاته " الأرضية والتي تقصيه كلّياً عما هو تخيلي مفارق للواقع الذي يكون من جهته مصدر كل تفكير وكتابة، وإن كان الواقع " واقعات " إن جاز التعبير، من خلال ألسنته، ومفارقاتها قولاً وفعلاً. وأريدَ منه وهو " محكوم " في هذه الخانة التسريدية، المتسردة، المتساردة، المسرودة، الساردة، المسردة، المستسردة، والسرديانية...إلخ، كما هو الممكن قوله توصيفاً لما هو مسموع " شفاهة " ومقروء طبعاً " كتابة " وتقدير حركية الصورة بلونها، وحجمها، وعمقها، ومساحتها، بالنسبة لما يجري الحديث باسمه، فهو أول المفكّر فيه والمستدعى لتفعيل أثره، وهو آخره، رغم استمراريته تالياً، وليكون السرد قائماً، حتى ونحن في وضعية الصمت، حيث للحياة وجه آخر وأكثر.
ماالذي يمكن تحرّيه في المغيَّب داخله، والتنقيب في تلك التراكمات التاريخية بنسبها الحكائي، أو القصصي، أو الوقائعي تاريخياً، ودائماً باسم السرد؟ ثمة الكثير الذي يظهر بـ " جُرْمه " كبيراً!
ومن هنا، سأحاول النظر فيه، خارج السياق المؤمّن عليه، والمحاكاتي كثيراً، والتقليدي ضمناً، خارج ما يجري تأطيره، وفي الوقت نفسه، محاولة تحرير الاسم مما يُسمّيه ويطلقه كما هو ..!
وعندما أتحدث هكذا، ومسترسلاً في الكلام، فإنما من خلال ما قرأته هنا وهناك، وما عاينته، في تنوع قراءاتي هنا وهناك بالمقابل، وما تراءى لي أن هذا الذي عشتُه قراءة، وكتبت فيه، يتناسب والصورة الرثة للواقع الذي ننتمي إليه، وما طالعته من نصوص تنسَّب إليه، وهو منها براء.
وحين أمهّدُ للموضوع بالصيغة هذه، فلأن الذي أحاول طرحه بلغة البحث المحرَّر من أي مرجع مباشر، رغم أنني سأتي على عناوين لها مكانتها، تضيء الفكرة المطروحة ضمناً، هو أبعد ما يكون عن الارتكاز إلى مرجع هو نفسه لم يُدّخَر باسمه أو من خلاله، جهداً، في إنتاج وإعادة ما يسهم في إفقاره أو اختزاله، وعدم النظر إلى الأفق البعيد، حيث التصور الكهفي قائم هنا.
وما أبتغي التعرض له، هو أن أنظر إلى السرد، كما أتفاعل معه بوصفه مستغرقاً كل ما يقال، وما يُكتَب، حتى ما يخص سقْط الكلام، حتى الكلمات المتقاطعة، لأنها دالة على واقعة نفسية، أو مشهد له عمقه ومساحته التي تفصح عما هو متوار ٍ فيها اجتماعياً، ليلتقي بذلك الفكر في أقصى حالات تجريده، مع التعبير الأدبي في أقصى حالاته حسيانية، طالما أن وراء كل منهما ما هو شعوري، أو نفسي، وما من حس أو فكر، إلا ويعتَمل فيه الحدثي، والصراعي بوجه ما .
وما يعزّز هذا التوجه المفتوح، هو ما يمكن أن يأتي صادماً لمن يدّعي المحافظة وسواها، حيث إن كل ما يأتي فكرياً، يذكّر بمشكلة قائمة، أو وشيكة الحدوث، وأدبياً، ينوّه إلى مخاض نفسي، وله منافذه وحالاته النفسية، والرامية إلى المستقبل، دون ذلك ما كان للفكر أو الأدب من قائمة، وما أتمناه هو إمعان النظر في العبارة الرئيسة التي تشكل البذرة الملحقة بذاتها في السرد. وتحديداً في ضوء الانفجار المعرفي والتطور النوعي الطارىء على السرد في كتابة النصوص!
سليل زنى أو لقيط
سأسمّي السرد سليل زنى أو لقيطاً. ماالذي يدفع بي إلى ارتكاب مثل هذه " الجنحة " أو " الجناية " الأخلاقية والتاريخية، وبمثل هذا " السفور " ؟ أليس هذا الذي أتهجاه خرقاً لما هو قيمي، أو بصورة أكثر دقة:خدشاً مباشراً للحياء العام، ولتاريخ أدب وفكر يستغرق زمناً طويلاً ؟
إنها أسئلة وتساؤلات في محلها، إنما من أي منطلق، وتبعاً لأي تصور؟ استناداً إلى الجاري النظر فيه في ثباته، ومن نقطة جرى تحديدها زماناً ومكاناً، وقرّر بالصيغة هكذا فقط .
وهو ما يخرج السرد من تحت ركام مصطنع، ويضفي على مفهوم " التهذيب " بمعْلمه القيمي والسائد ما يجعله خلاف المتردد حوله، وليجعل من اسم الحياء نفسه، شاهداً على نقيضه !
سأكتب إذاً، وبنوع من التأكيد:
السرد في مفهومه سليل زنى تجاوزاً، وتمثيلاً رمزياً، ولهذا لا ينضبط ولا يحتكم إلا إلى نفسه، ليس له مرآة، إنه هو نفسه مرآة، وبصيغة أكثر دقة، لا يحتاج إلى مرآة، لأن هذه قد تكون مزيفة، أو معمولة بمعيار لا يؤتمَن، وأصل المرآة، هو أنها من الخارج، لجعل الناظر في وضعية المتعرف على وجهه أو جسمه، سوى أن السرد تكون مرآته داخليه، حاملة ومحمولة عبره، ومعرفته تتوقف على مدى تفهُّم السرد اسماً، وكيفية الذهاب إليه أقصى ما يمكن التحرك والنظر، السرد مكاشفة مفتوحة، لمن يعوّل عليه، أو يرى فيه ما يطرحه تعبيراً عن واقعة معينة، وامتحاناً له قبل سواه: قارئه المباشر، وبذلك لا يستهان به في فعله الكبير، وجانب السبر للقوى الخفية فيه. ومن هنا يتهيبه المحافظون في الكتابة، وأما التقليديون فيرون فيه خطورة على موقعهم.
ذلك لأن السرد يعيش في وضعية عري، إنه طليق بجسده، طليق بمحتواه، لا يقبَض عليه، ولا يأتمر بأمر معين، لحظة التدقيق في بنيته الفعليه، أي بوصفه ليس الخارج عن كل قانون، إنما الذي يحمل قانونه الطبيعي داخله، والذي يتجذر في كامله، رغم أن مفردة القانون تحيلنا على ما هو سلطوي، أو سلطة ولها مكان وزمان، ومن يمثّلونها بالمقابل، لكن قانون السرد كامن فيه، ولا يقرَأ أو يُسمَع أو يكشَف عن علاماته الفارقة، بمقدار ما يفكَّر فيه دائماً على أنه الحاكم بأمر نفسه على وجه التحديد، وأن يكون بمثل هذا التوصيف، فلأن في ذلك رفضاً لكل أبوية، والبنوة مجازة.
والعري داخلي وخارجي، إنه تعدد الوجوه في آن، وليس فيه ما يخفى، بالنسبة لمن يتحرى واقع حاله، من خلال هذا الكم الهائل من الكتابات عنه، أو الكتابات التي ترتد إليه وإن لم يُسمَّ فيها.
ماالذي يجعل من السرد سليل زنى، أو لقيطاً؟
إنه اسمه، فهو، وإن كان يرتبط بموضوع، لكنه يكون في الأساس خارجه، فما أن يحل فيه حتى يصبح محرَّراً منه. ثمة شبهة في التعامل معه، حين ينطلق الكاتب من يقين أنه يمسك زمام المبادرة في التصرف معه كما يريد . فلا أحد يستطيع الجزم بمرجعية السرد. بزعم الأصل، رغم العدد الهائل من الكتب التي وضعت حوله أو باسمه .
السرد المعتبَر لقيطاً لا يرعوي. إنه خطر، أي اقتراب منه بمأزق صاحبه. إن فقدان الأبوة يحيلنا إلى قوته الذاتية التي لا يحاط بها. فاللقيط يحفّز على سؤال الأب، وما السعي إلى تثبيت البنوّة تالياً، إلا من باب التعاطف الخفي واللاشعوري مع الأبوة التي تتجاوب مع منطقنا السلطوي ضمناً، وما يكون في ذلك شهادة على أننا محكومون من الداخل، بعضويتنا وليس بخيالنا الأقرب توصيفاً جمالياً، وأهلية إثراء، للسرد .
اللقيط وقح، صفيق، برّي، يرعد ويزبد، يهدأ فجأة، يباغت ويختفي، ويناور، يعبث ويلهو على طريقته، لأن ليس من صنافة قواعدية اعتبارية تسمح لنا بالتعرف عليه، لتبيّن حدوده.
ذلك من شأنه أن يمد في مفهوم المتخيل إلى ما لانهاية، والتنوع في الصيغ القولية، والبتر في اللغة، ومن ثم في طرق التعبير، اسمياً وفعلياً، وفراغات، فكلها ذاتية النسَب.
زِنوية السرد هي التي تبقيه في عراء كل شيء، هي التي تبقيه في مأمن من كل لباس، أو لبس، من كل وصاية جانبية. العراء رجوع بالاسم المعلَن عنه هنا إلى حالة اللابراءة، إلى تطييف الاسم بالذات،لأن السرد ما كان له أن يكون سرداً إلا إلا نظير متناول الثمرة المحرمة، وهي أساساً مسمّاة هكذا، وستظل هكذا، ليعيش السرد أبديته، عبر استمرارية التناول. إنه معفى من أي ضريبة، مجاز له أن يعيش بعيداً عن أي تعليمات جانبية، عن أن التزام حرفي بما يصله خارجاً.
في اللقيط ما يذكّر بارتكاب الجناية. ولكن الجناية المذكّرة باللقيط هي من أصل الكلمة، وليست طارئة عليها. أن تكون طارئة، لن يستقيم المعنى، عملاً بالموقع الذي يتفعل فيه السرد نفسه .
نلاحظ أن السرد مأخوذ بما هو درامي. حسنٌ، أليست الدرامية إطلالة " من الخلف " على حدث مأساوي ما، على عنف قائم، على مجابهة ساخنة، ليكون للقول الموصوف بالخبر، بالسرد ذلك المسوّغ الشرعي لتأكيد وجود هو في الأساس موجود، وللموجود أن يعيشه بالمزيد من التحرر من المقيَّد فيه ( أليس الدازاين الذي ألح هيدغر على معناه: الوجود هناك، استجابة لنداء الوجود، لجعل الموجود أكثر تجاوزاً للحدود الضيقة التي تتلبسه؟).
ماالذي يُبقي السرد بوصفه المجازي سليل زني؟ إنه الفعل الملحمي الذي لا يحاط به، الذي يوجد مشروعيته من ذاته. إنه منزوع الحياء، الخجل، الحشمة، والأدب" بالمعنى الأخلاقي " لأن كل ما ذُكر هنا بمثابة قيود تعيقه في القيام بما يعنيه. ثمة فيض خاص يجعل وجود نصه أهلاً لأن يزداد عمقاً، تحولاً، تغيراً، وانتقالاً طفروياً من وضع إلى آخر مغاير له تماماً.
للسرد، عالمه الخاص الذي لا يجيَّر، أو يحوَّر كما يُراد له. كل ما يُنسَب إليه يُقتَطع منه، كما لو أنه موصول به. إن تقديراً عمرياً له، يخرجه عن كل تاريخ يُسمّيه، لأنه أبعد من أن يكون محمولاً جنسياً محدداً، أو مؤطراً. ذلك هو فعله الذي لا يُترجَم قانونياً. إنه يُلهِم عن بُعْد، والذين تمكنوا من أن يبدعوا، وأن يكون لهم استثناء في الكتابة سردياً، عاشوا وحام مفهومه اللقيطي.
وأن يكون السرد ولد زنى، تشبيهاً، فلأنه يحيل المعني به إلى أصل غير موجود حرفياً. أي ما يصله بما هو جنسي. لكن أي نوع من الجنس يكون هذا، لينظَر في أمره؟ فيكون خارج كل تعهّد أخلاقي. نعم، السرد منزوع الأخلاق، طالما أنها نظرياً وعملياً ترسم حدوداً، ونقاط رصد، كما هو مفهوم المنهج. السرد ولِد في لحظة معينة، لأن أي فعل بداية، انتقاص من مكانته، ودخول في خانة الجنايات، وهو ما يجرّد السرد من كل قيمة اعتبارية في زمنها المفتوح .
فاصل سردي
في بحثه " صيدلية أفلاطون " تحدث جاك دريدا عن الكتابة في مواجهة الكلام. الكلام/ اللوغوس أو الخطاب أو الأب نفسه. نعم، الأب أصل الكلام، ومنشئه وحاميه، ومعاقِب المخالف. حيث كل كلام، يحيل إليه، ليكون كلّي الحضور، الوجود نفسه، وما يصله بالمطلق الإلهي في الحالة هذه. كما لو أنه السرد المطلق دون توقف. فهو يتكلم، وإن لم يتكلم، لأن هناك ما يبقيه حاضراً وإن شهِد غياباً، في مشهد درامي لا يهدأ، وبتباين تبعاً للمستجدات. ولهذا كانت الكتابة التي تسمّي اليد التي فعلتها سطرياً أو حفرياً في صخر وغيره، خارج " مؤسسة " الأب المطلقة، مرفوضة، مطارَدة. لهذا ارتبطت باللعنة، بالإثم، بالدنس، باللاشرعية، لتكون تلقيحاً خارجياً، في نطاق ما هو مجهول، حيث ينعدم الشهود. ومعرضة للتسفيه. لتشبَه بناء على ما تقدَّم بـ؟ ولد زنى " بـ " الابن الضال "، الابن الضال له أب لكنه خارج " جادة صوابه المرسومة ". الكتابة هنا تنزع عن الكلام قدسيته، نبراته، الهيئة المثبتة والمؤبدة، الوجه، وربما اللحية أو برودة النظرات، وصرامة الملامح، والاقتصاد اللافت في تحريك اليدين...إلخ، وتحيل الكلام إلى أثر وجودي معلوم بزمانه ومكانه النسبيين، وتخضع كل من يأتي على ذكره بعد حين لامتحان سبر معلوماتي، جهة أي شهادة تقوم على الذاكرة، وما يخص نيَّة القول، والاعتراف، وشخصية الشاهد، وما في ذلك من منْح السرد تلك القيمة المصادرة، والمحتكرة، والمنقادة صراطياً. والسرد انتثار المعاني، والسرد السماح للمعاني في أن تتدفق، أن تتناسل، أن تهيب بالكتابات في أن تعيش مخاضات ماضية إلى المستقبل، وأن تعيش عدَمية ما كان، تدشيناً لما هو آت، وهكذا. إنه المستحيل الذي يعايَن فنياً.
ولأن الحديث يدور حول دريدا وصيدليته، لا بد من تنوير مشهد صيدلاني، كما تابعته في كتابي " الطب الفلسفي، من صيدلية أفلاطون إلى صيدلية جاك دريدا وأبعد "، وهو أن جوهر الصيدلية كما هو المذكور حول معنى " فارماكون " مقابل " الصيدلية "، أي" السم والعقار في آن " وهذا يسمح للكتابة في أن تعيش خيارين يتداخلان، يتشابكان، يتناظران، يتنازعان، حيث إن عالم الصيدلية" الفارماكون " عالم الحياة والموت، وذلك متاح للمعني، تبعاً لقدراته. وربما يستدعي هذا الثنائي: السم/ الداء والعقار/ الدواء، ما أفصح عنه فرويد بثنائي: الإيروس " ما يدل على الحياة، أو الليبيدو، بمعناه الطاقوي الحيوي الواسع " والثاناتوس " ما يدل على الموت، أو الطاقة التدميرية في الحياة أو في الجسد " ولا بد أن السرد فيه ما الإيروسيه ما فيه من الثاناتوسية، فيه من السم ما فيه من العقار، والأكثر من ذلك، حين وازى دريدا بين فعل الكتابة والاستمناء، فالكتابة إشهار حياة، وكذلك الاستمناء، منتجاً ذكرياً، وفاعل إخصاب حيوي بالمقابل، وبذلك يصبح السرد في عموم أنشطته التي عرِف بها قديماً، وما سيعرَف بها لاحقاً، ميكانيزم إيروس.
السرد لا يأخذ إذاً من أحد، أو ينتظر إشارة منه، ليخبِر عما فيه، إنما ما يتنشط باسمه قولاً وفعلاً هنا وهناك. كما لو أن الذي يقوم بفعل السرد في الحكاية، إنما يمارس خلْقاً، ويبعث أجساماً تكون هيكلية وقد أعطيت أرواحاً وهيئات، كما هي الشخصيات الورقية بالنسبة إلى الكاتب.
لعلنا نستطيع القول أن دريدا، بالطريقة هذه، كان مأخوذاً بجوانب مختلفة من السرد، وإن لم يقم كما هو حال السارد المعروف في حقله الواسع، ولكن المثار باسمه أناره كريستالياً بشكل لافت.
علام يقوم السرد؟
السرد موصول بالحدث، بالفعل، بالسلوك. غير أن الأول ليس رهينة الثاني. ما يكون حدثاً ليس هو السرد، لينظَر في أمره. الثاني تابع، وموقوف على الأول. وبالطريقة هذه يجري تنسيب السرد كما لو أنه يُعرَف بأب وأم. وهذا تجنّ عليه. ليس الحدث، أو مرادفه، هو الذي يهب السرد كينونته، إنما السرد هو الذي يبقى منزوع الإطار، الزمن المعروف بأبعاده الثلاثة.
لا شيء يوقف السرد، ويبحث في عمره، وعلاماته الفارقة، لأن كل إجراء كهذا تصرف لا يليق به، بمقدار ما يعرّف بالفاعل النسبي، والسرد قريب من المطلق، مثلما أن اللقيط أو ولد الزنى يفتح الخيال على اللامتناهي جهة تصور الأب المجهول، وهو ممتد إلى المستقبل .
لعل السرد هنا، وبهذه الصفة نسيب شيطاني، من باب تقريب المفهوم، حيث الشيطان يُلجَأ إليه، وليس هو من يحتمي بأي كان، وهذا يسمح بتعميق الأثر والصورة المتخيلة له باضطراد.
ولعل تاريخ قراءة النصوص الأدبية" كالرواية، من دون كيشوت إلى يوليسيس أو إعادة البحث عن الزمن المفقود "، أو ما كتبه بنيامين عن بريخت، وبلانشو عن كافكا، يعلّمنا بما لا ينبغي أن نعلم، كما نريد، لتكون المتابعة مستمرة، والفراغ المحفّز على المقاربة وتوقع المختلف والانقطاعات دائماً في وضعية صيرورة. أي ما يجعل السرد أرحب مما هو مسنود به وإليه.
هل هناك سرد عربي قائم بذاته؟
في قراءة الأدبيات العربية الإسلامية، لا يُلاحَظ أي أثر فعلي، يؤمَن جانبُه، ويكون شهادة تاريخية لها مصداقيتها على وجود سرد عربي، كما يتردد هنا وهناك. حيث ظهرت الكتابة العربية متأخرة، وبتأثير من الاتصال بالثقافات الأخرى. إن الأثر الكبير الذي يجري التباهي به، أو اعتباره مفخرة الأدب العربي الحكائي، من نوع " ألف ليلة وليلة " وفي بنيتها، لو أننا كاشفنا ذاكرته الزمانية والمكانية، ومن خلال أهم شخصيتين فيها: شهرزاد- شهريار، وكيف قيّض لهذه الليالي أن تبصر نهارها، سوف يعدِم كل أثر تقريباً لمفهوم السرد بجانبه التأسيسي القويم، وما في ذلك من صراع. نحن هنا إزاء سرد يتكلم ما هو " خارجي " بلغة أخرى، ليجد نفسه محكياً، أو مسروداً بلغة قيّض لها بعد انتظار أن تكون عربية، ويحدث لها تداول وإشهار جمالي، وتجميل محتوى، بوصفها مفخرة سردية، ومختلف عوالمها، تشير إلى الخارج. إنها على الأقل، تتمظهر هجيناً، أو جرّاء عملية تطعيم استغرقت وقتاً، ليتاح لها الظهور والانتشار، رغم كابوس الرقابة بذهنيتها الدينية والاجتماعية والثقافية التي مثّلت طراداً لمجتمع " ألف ليلة وليلة، وأن جل الذين حاولوا مقاربة هذا المجتمع الحكائي الذي قيل فيه الكثير، من النقاد العرب، إنما لم يخفوا، وحديثاً خاصة، تأثرهم بالمتردد حول نص طويل المدى، طياوياً، في تداخلاته، بما هو أجنبي " أسمّي هنا بورخيس، ومن ثم تودوروف " وسمة العجائبي المغوارة، كهجنة في إثر هجنة، وهو ما يستوقف العمل بمفهوم السرد العربي " كصفة " نشأت في تربة الواقع، وليس حالة تعرية للاسم من ناحية ونزع كل قيمة معرفية، أو جهد معرفي، استقصائي، وآثاري في معاينة أس السرد!
في هذا السياق: ماالذي يمكن قوله لحظة الربط بين منشغل بالسرد، وهو عبدالفتاح كيليطو، حول العائد إلى خصوصية السرد العربي، ودقة ذلك، والمأخوذ من مرجعيته الغربية كثيراً؟!
ذلك يتعلق بوضعية السرد وصلته بالمجتمع. فهو في نشأته فاعل اجتماعي، ومأثور سلطوي. إنما كيف يتفعل في الذاكرة الجماعية، ويتم التعامل معه، بوجود ذلك الرصيد الأدبي، الفني، المرئي والمسموح والذي يستغرق بنياناً مجتمعياً على وجه العموم، وتكون السلطة بهرمها الأعلى داخلة كعنصر من بين العناصر المجتمعية الطائفة وليس " المايسترو " الموجّه لا الموجَّه في أي حركة حادثة، وتلك الدمغة الرمزية التي يجلوها السرد في ما يقال ويتم تداوله ونشره شعراً ونثراً، وتلك الممرات، المعابر، الطرق، والقنوات المعمولة أو التي الجاري تدشينها، أو تنويعها هنا وهناك لجعل السرد في مستوى مجتمعه الغدوي وليس ما كان أو ما هو كائن، وما يُرى ويعايَش راهناً، يظهر هذا السرد، بمعطاه ومحتواه ومداه العربي في أبأس وضعياته، أو الدال على تاريخ من التمثيل الأضحوي في بنية مفهومه تاريخياً، لحظة القيام بجردة لمعرفة صنافة المحظورات في سياق الثالوث الرهيب بزوايا الخانقة: السلطة، الدين، والجنس، وما في معتركه من تقليص للواقع واختزال لمبناه ومعناه، وهو محمول من الأعلى، وسوء المشهد القاعدي وعري مؤخرته.
وما حاولت إثارته من خلال مفهوم " البصل " ووحدته بكل مكوناته " القشرية " في كتابي ( العرب لا يحبّون البصل ) إلا محاولة تعبيرعما يُبقي السرد:
دون اسمه، جهة اللحاق به، أو إثراء معناه.
خارجاً عن سياق متقطع وانعطافي رسمه.
متخلفاً عن اللحاق باسمه، جرّاء تراكمات التخلف البنيوية في مجتمعه.
نعم، يمكن لأي منا، أن يدخل في مضمار إحصاء ما هو مكتوب عربياً، في الأدب، بكل مكوناته ومؤثراته، لكن سيكون هناك ضرب لافت من التجاهل لحقيقة أن السرد الذي يكال له المديح هنا وهناك، وعبْر التذكير بما هو منشور في الرواية، القصة، المسرحية،وغيرها، والرفع من قيمة السرد بالتالي، إنما يُعتبَر ذلك مأساة الذاكرة الجماعية عينها، وهي تواسي نفسها في جانب منها، بأنها موجودة، وهي ممنوعة من أن تكشف عما يكوّنها عميقاً، وهي مأساة تشدّد على مأساة الواقع الأكثر كارثية. تُرى، عن أي سرد يمكننا التحدث في واقع ممزق، مختزل، مطارد في كل ما يخص وجوده الفعلي، وضاغط على موجوده، وهو مراقَب ومراقِب ذاتي للغته وحركاته؟
وحين يكون الناقد قواداً!
ذلك ما ماورد في نهاية رواية عبدالكبير الخطيبي " الذاكرة الموشومة " حيث أفصح بالحرف أن على الناقد أن يكون قواداً بين كاتبه " الذي يتابعه ويكتب عنه " وقارئه الذي يعنيه أمره، وما تعنية مفردة " القواد " من جعْل الطريق بين الاثنين سالكاً، بل ومنشطاً على سلوكه، حيث إن القواد لا يعرَف بصفته هذه إلا من خلال علاقة لها بُعد إيروسي معلوم، وفي حالة الكتابة، لدينا ما هو مجازي، جهة النظر إلى عملية القراءة والكتابة، ودور الناقد. إنه هو من يحرّر السرد من خلال حصيلة معلوماتية كافية، منتجة ومؤثرة، من كل تأطير، ويبقيه مؤمماً عليه بأكثر من معنى تعزيزاً لفكرة السرد التي لا ينظَر إليها من جهة واحدة، وبسرعة واحدة في المكاشفة النقدية.
في مقدور أي كان أن يعترض، أن يرفض تصوراً كهذا، لا بأس، ليس من مقاضاة لتاريخ قائم أو نصوص تجري تسميتها، وتجريدها من القيمة الذاتية لها، إنما هي مكاشفة لصلات الوصل بين ما هو معيش واقعاً، وما هو مردود النص المكتوب وموقعه الاجتماعي، وجانب الفني فيه .
في السياق، في الإمكان توسيع مفهوم السرد، أكثر مما هو مثبَت أو متردد حوله، وهو أنه، وكما نوَّهت إلى ذلك، ليس من قول، مهما كان نوعه أو جنسه إلا وله فيه من السرد ما يبقيه ويحْييه.
في الشعر الذي يصنَّف جانباً على ما كان مأخوذاً بالصورة الشعرية، وما يعزلها عن السرد، بوصفه دراما حدث، صيرورة وسيروة في آن. لكن أي عبارة ذات محتوى سردي قليلاً أو كثيراً. وإذا تجاوبنا مع هيدغر عن أن اللغة حوار في الأصل، وهو كذلك، لأنها تسمّي بشراً، وبينهم تكون علاقات قائمة، وتسمّي حيوات ومجالات وأفعالاً ومقولات قول...إلخ، فإن ما يعنينا، مذ وجدنا كان السرد كموناً، وإذا به ينبثق بأنسابه المتباينة.
تُرى أليس في لامية امرىء القيس المشهورة سرد طافح بالحركة:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ِ بسقْط اللوى بين الدخل فحومل ؟
أليس المتخيَّل في عائده الشعري مفعَّلاً وسط لائحة مشاعر وأحاسيس تصل ما كان بما هو كائن، وتمد به صوب ما سيكون: الرغبة في أن يكون الآتي على نسق المشتهى سالفاً؟
وأن البحر المختار" الطويل " يستجيب لهذه التباينات، بإيقاعاته المفصحة عن توتراته النفسية؟!
السرد وصولاً إلى الضحك
ثمة ما يحفّز على تأكيد ما أراه حقيقة قائمة لحظة التدقيق فيه، وهو في مدى قوة العلاقة بين السرد باعتباره سليل زنى أو لقيطاً، وخاصية الضحك. لماذا؟
الضحك نشاط نشاطي، لكنه محرّر جسدي مما يقيّده ومنوّره من الداخل. الضحك نسف للحدود، إيعاز بوجود حياة تخرج على ما هو مقنَّن, السرد لا يعترف بالتقنين أو التسنين. لأن الضحك الذي يرتبط بنقيض الحياء، يسمّي حياة، يهيب بالجسد لأن ينكشف على داخله قدْر مستطاعه. من يضحك هو من يخرج عن جسده ويستحيل نشاطاً ضحكياً محتفىً بالحياة. ومن يخشى الضحك، من يرسم دائرة محكمة حول الضحك، وفي مجتمع محافظ، يدرك تماماً مخاطره في فعل التسوية بين الأجساد، في التوحيد والتساوي بين الأجساد، ونزع الحجاب السلطوي، الوجهائي، التقيوي، المشيخي...إلخ عنه، ليعود الجسد كما هو مأخوذه الطبيعي، وقد ارتفعت الحدود الفاصلة، كما عاينت ذلك في صفحات متفرقة من كتابي " تراجيديا الضحك "، ومأساة السرد ضمناً.
في روايته " كتاب الضحك والنسيان " لكونديرا، ثمة إبهارُ سرد يستحق التقدير أو الاحتفاء به، وهو الذي يتمحور حول " الضحك " لحظة الإشارة إلى أن الضحك يعلّمنا كيف نعيش، وحين نعيش من خلاله، نتعلم كيف نستمر في الحياة، وليس في حسباننا ما يذكّر بالموت. الضحك تحرير حياة، إطلاق للجسد من كل عناصر قوته، أن تضحك هو أن تجهر بقواك الطبيعية، هو أن تتحرر من تلك الأخلاقيات المسنودة بالحشمة، ومغزاها: التحكم بالضحك، لأن اللامساواة التي بني عليها المجتمع تعلِم بذلك. والذين يعترضون على الضحك هو أكثر المعنيين بالتشدد، أو السعي إلى إبقاء التباين قائماً، لفرض هيبة طرفية على الآخرين. ونلاحظ هنا، مثلاً، كيف يجري التنبيه والتشديد على لزوم التعامل مع النصوص الدينية بوصفها مؤمَّمة من كل كل ضحك. لأن النص محرَّر إلهياً، أو داخل في إهابه، والضحك فتح ثغر" صدع " لأن الضحك يسمح بطرح الأسئلة الأكثر أهلية لأن توقظ النص بستنطقه في نشأته، أي ما يخص مفهوم العدم سالفاً ، دينياً.
يصبح للسرد هنا مسار آخر، وتصريف آخر، له ما يوجّهه بمأثور سلطوي ديني، وما يتحكم فيه من هذا المنطلق، وجانب التقطع فيه، وهو الخاص بفصل المقال فيما بين الإنسي والإلهي من انفصال، وهذا الفصل هو الذي يبقي الناسوي على مبعدة كافية من اللاهوتي، في اقتصاد الضحك الذي يعني التدبير المحكم في الكتابة عما هو مأخوذ به إلهياً، وما في ذلك من ضبط محكَم للسرد، أي ما في ذلك من حصر السرد، حيث لا يعود سليل زني أو لقيطاً، أو مصنَّعاً بشرياً ومؤطراً.
إن التعرف على مدى الانفتاح الحاصل في هذا المجتمع أو ذاك، هو الذي يعلِمنا بالموقع الاعتباري والفني للسرد، وأي سليل زنى أو لقيط يمكن معايشته أو مكاشفة قواه وهواه ومداه فيه!
الحديث عن السرجد لا ينتهي، لأن السرد لامتناه !
أن نتحدث عن السرد هو أن نفكّر فيه كما لو أنه غير موجود، كما هو شأن كلّ موجود، وقد تم حصْره في رقعة مفهومية، أو حيّز نصيّ، وقد أجيزَ له البقاء والانتشار، كما أطلِق سراحه، بعد أن جرى " ترويضه " والمقصد هو إحلال المرغوب في وضعه فيه، وليس إحالة الموجود إليه، ليكون متبصراً للنقص فيه، وقادراً على الارتقاء إلى سويته وهو يستغرق المرئي وأبعد .
من الصعب هنا، إن لم يكن مستحيلاً، النظر في السرد، أو التحدث فيه وحوله، وقد تجذّر، وفي أكثر من سياق، بمفهومه الذي يقصّره معنىً ومبنى، وتم تداوله وتوارثه عموماً بوصفه النسخة التي لا تتكرر، منذ أقدم العصور، وبذلك نحتاج إلى الكثير من الجهد لنحرر أنفسنا من فتنة أو غواية ما تلقّيناه علمَ سرد، أو هكذا يقال، أو فتنة سلطة سرد، أو كما يقال هكذا، وما رفِع من شأنه وأكسِب جانب قداسة، أو تقديس مع الزمن، تعزيزاً للسلطة الدنيوية التي تحيله إليه .
لكَم ظُلِمَ السرد على أيدي أكثر المتحمسين له، والباحثين في نشأته، ودوره في الكتابة ذات الصلة بما هو تاريخي، وأدبي، خصوصاً، وتناوله بنوع من الطهرانية التي تجرّده من" لوثاته " الأرضية والتي تقصيه كلّياً عما هو تخيلي مفارق للواقع الذي يكون من جهته مصدر كل تفكير وكتابة، وإن كان الواقع " واقعات " إن جاز التعبير، من خلال ألسنته، ومفارقاتها قولاً وفعلاً. وأريدَ منه وهو " محكوم " في هذه الخانة التسريدية، المتسردة، المتساردة، المسرودة، الساردة، المسردة، المستسردة، والسرديانية...إلخ، كما هو الممكن قوله توصيفاً لما هو مسموع " شفاهة " ومقروء طبعاً " كتابة " وتقدير حركية الصورة بلونها، وحجمها، وعمقها، ومساحتها، بالنسبة لما يجري الحديث باسمه، فهو أول المفكّر فيه والمستدعى لتفعيل أثره، وهو آخره، رغم استمراريته تالياً، وليكون السرد قائماً، حتى ونحن في وضعية الصمت، حيث للحياة وجه آخر وأكثر.
ماالذي يمكن تحرّيه في المغيَّب داخله، والتنقيب في تلك التراكمات التاريخية بنسبها الحكائي، أو القصصي، أو الوقائعي تاريخياً، ودائماً باسم السرد؟ ثمة الكثير الذي يظهر بـ " جُرْمه " كبيراً!
ومن هنا، سأحاول النظر فيه، خارج السياق المؤمّن عليه، والمحاكاتي كثيراً، والتقليدي ضمناً، خارج ما يجري تأطيره، وفي الوقت نفسه، محاولة تحرير الاسم مما يُسمّيه ويطلقه كما هو ..!
وعندما أتحدث هكذا، ومسترسلاً في الكلام، فإنما من خلال ما قرأته هنا وهناك، وما عاينته، في تنوع قراءاتي هنا وهناك بالمقابل، وما تراءى لي أن هذا الذي عشتُه قراءة، وكتبت فيه، يتناسب والصورة الرثة للواقع الذي ننتمي إليه، وما طالعته من نصوص تنسَّب إليه، وهو منها براء.
وحين أمهّدُ للموضوع بالصيغة هذه، فلأن الذي أحاول طرحه بلغة البحث المحرَّر من أي مرجع مباشر، رغم أنني سأتي على عناوين لها مكانتها، تضيء الفكرة المطروحة ضمناً، هو أبعد ما يكون عن الارتكاز إلى مرجع هو نفسه لم يُدّخَر باسمه أو من خلاله، جهداً، في إنتاج وإعادة ما يسهم في إفقاره أو اختزاله، وعدم النظر إلى الأفق البعيد، حيث التصور الكهفي قائم هنا.
وما أبتغي التعرض له، هو أن أنظر إلى السرد، كما أتفاعل معه بوصفه مستغرقاً كل ما يقال، وما يُكتَب، حتى ما يخص سقْط الكلام، حتى الكلمات المتقاطعة، لأنها دالة على واقعة نفسية، أو مشهد له عمقه ومساحته التي تفصح عما هو متوار ٍ فيها اجتماعياً، ليلتقي بذلك الفكر في أقصى حالات تجريده، مع التعبير الأدبي في أقصى حالاته حسيانية، طالما أن وراء كل منهما ما هو شعوري، أو نفسي، وما من حس أو فكر، إلا ويعتَمل فيه الحدثي، والصراعي بوجه ما .
وما يعزّز هذا التوجه المفتوح، هو ما يمكن أن يأتي صادماً لمن يدّعي المحافظة وسواها، حيث إن كل ما يأتي فكرياً، يذكّر بمشكلة قائمة، أو وشيكة الحدوث، وأدبياً، ينوّه إلى مخاض نفسي، وله منافذه وحالاته النفسية، والرامية إلى المستقبل، دون ذلك ما كان للفكر أو الأدب من قائمة، وما أتمناه هو إمعان النظر في العبارة الرئيسة التي تشكل البذرة الملحقة بذاتها في السرد. وتحديداً في ضوء الانفجار المعرفي والتطور النوعي الطارىء على السرد في كتابة النصوص!
سليل زنى أو لقيط
سأسمّي السرد سليل زنى أو لقيطاً. ماالذي يدفع بي إلى ارتكاب مثل هذه " الجنحة " أو " الجناية " الأخلاقية والتاريخية، وبمثل هذا " السفور " ؟ أليس هذا الذي أتهجاه خرقاً لما هو قيمي، أو بصورة أكثر دقة:خدشاً مباشراً للحياء العام، ولتاريخ أدب وفكر يستغرق زمناً طويلاً ؟
إنها أسئلة وتساؤلات في محلها، إنما من أي منطلق، وتبعاً لأي تصور؟ استناداً إلى الجاري النظر فيه في ثباته، ومن نقطة جرى تحديدها زماناً ومكاناً، وقرّر بالصيغة هكذا فقط .
وهو ما يخرج السرد من تحت ركام مصطنع، ويضفي على مفهوم " التهذيب " بمعْلمه القيمي والسائد ما يجعله خلاف المتردد حوله، وليجعل من اسم الحياء نفسه، شاهداً على نقيضه !
سأكتب إذاً، وبنوع من التأكيد:
السرد في مفهومه سليل زنى تجاوزاً، وتمثيلاً رمزياً، ولهذا لا ينضبط ولا يحتكم إلا إلى نفسه، ليس له مرآة، إنه هو نفسه مرآة، وبصيغة أكثر دقة، لا يحتاج إلى مرآة، لأن هذه قد تكون مزيفة، أو معمولة بمعيار لا يؤتمَن، وأصل المرآة، هو أنها من الخارج، لجعل الناظر في وضعية المتعرف على وجهه أو جسمه، سوى أن السرد تكون مرآته داخليه، حاملة ومحمولة عبره، ومعرفته تتوقف على مدى تفهُّم السرد اسماً، وكيفية الذهاب إليه أقصى ما يمكن التحرك والنظر، السرد مكاشفة مفتوحة، لمن يعوّل عليه، أو يرى فيه ما يطرحه تعبيراً عن واقعة معينة، وامتحاناً له قبل سواه: قارئه المباشر، وبذلك لا يستهان به في فعله الكبير، وجانب السبر للقوى الخفية فيه. ومن هنا يتهيبه المحافظون في الكتابة، وأما التقليديون فيرون فيه خطورة على موقعهم.
ذلك لأن السرد يعيش في وضعية عري، إنه طليق بجسده، طليق بمحتواه، لا يقبَض عليه، ولا يأتمر بأمر معين، لحظة التدقيق في بنيته الفعليه، أي بوصفه ليس الخارج عن كل قانون، إنما الذي يحمل قانونه الطبيعي داخله، والذي يتجذر في كامله، رغم أن مفردة القانون تحيلنا على ما هو سلطوي، أو سلطة ولها مكان وزمان، ومن يمثّلونها بالمقابل، لكن قانون السرد كامن فيه، ولا يقرَأ أو يُسمَع أو يكشَف عن علاماته الفارقة، بمقدار ما يفكَّر فيه دائماً على أنه الحاكم بأمر نفسه على وجه التحديد، وأن يكون بمثل هذا التوصيف، فلأن في ذلك رفضاً لكل أبوية، والبنوة مجازة.
والعري داخلي وخارجي، إنه تعدد الوجوه في آن، وليس فيه ما يخفى، بالنسبة لمن يتحرى واقع حاله، من خلال هذا الكم الهائل من الكتابات عنه، أو الكتابات التي ترتد إليه وإن لم يُسمَّ فيها.
ماالذي يجعل من السرد سليل زنى، أو لقيطاً؟
إنه اسمه، فهو، وإن كان يرتبط بموضوع، لكنه يكون في الأساس خارجه، فما أن يحل فيه حتى يصبح محرَّراً منه. ثمة شبهة في التعامل معه، حين ينطلق الكاتب من يقين أنه يمسك زمام المبادرة في التصرف معه كما يريد . فلا أحد يستطيع الجزم بمرجعية السرد. بزعم الأصل، رغم العدد الهائل من الكتب التي وضعت حوله أو باسمه .
السرد المعتبَر لقيطاً لا يرعوي. إنه خطر، أي اقتراب منه بمأزق صاحبه. إن فقدان الأبوة يحيلنا إلى قوته الذاتية التي لا يحاط بها. فاللقيط يحفّز على سؤال الأب، وما السعي إلى تثبيت البنوّة تالياً، إلا من باب التعاطف الخفي واللاشعوري مع الأبوة التي تتجاوب مع منطقنا السلطوي ضمناً، وما يكون في ذلك شهادة على أننا محكومون من الداخل، بعضويتنا وليس بخيالنا الأقرب توصيفاً جمالياً، وأهلية إثراء، للسرد .
اللقيط وقح، صفيق، برّي، يرعد ويزبد، يهدأ فجأة، يباغت ويختفي، ويناور، يعبث ويلهو على طريقته، لأن ليس من صنافة قواعدية اعتبارية تسمح لنا بالتعرف عليه، لتبيّن حدوده.
ذلك من شأنه أن يمد في مفهوم المتخيل إلى ما لانهاية، والتنوع في الصيغ القولية، والبتر في اللغة، ومن ثم في طرق التعبير، اسمياً وفعلياً، وفراغات، فكلها ذاتية النسَب.
زِنوية السرد هي التي تبقيه في عراء كل شيء، هي التي تبقيه في مأمن من كل لباس، أو لبس، من كل وصاية جانبية. العراء رجوع بالاسم المعلَن عنه هنا إلى حالة اللابراءة، إلى تطييف الاسم بالذات،لأن السرد ما كان له أن يكون سرداً إلا إلا نظير متناول الثمرة المحرمة، وهي أساساً مسمّاة هكذا، وستظل هكذا، ليعيش السرد أبديته، عبر استمرارية التناول. إنه معفى من أي ضريبة، مجاز له أن يعيش بعيداً عن أي تعليمات جانبية، عن أن التزام حرفي بما يصله خارجاً.
في اللقيط ما يذكّر بارتكاب الجناية. ولكن الجناية المذكّرة باللقيط هي من أصل الكلمة، وليست طارئة عليها. أن تكون طارئة، لن يستقيم المعنى، عملاً بالموقع الذي يتفعل فيه السرد نفسه .
نلاحظ أن السرد مأخوذ بما هو درامي. حسنٌ، أليست الدرامية إطلالة " من الخلف " على حدث مأساوي ما، على عنف قائم، على مجابهة ساخنة، ليكون للقول الموصوف بالخبر، بالسرد ذلك المسوّغ الشرعي لتأكيد وجود هو في الأساس موجود، وللموجود أن يعيشه بالمزيد من التحرر من المقيَّد فيه ( أليس الدازاين الذي ألح هيدغر على معناه: الوجود هناك، استجابة لنداء الوجود، لجعل الموجود أكثر تجاوزاً للحدود الضيقة التي تتلبسه؟).
ماالذي يُبقي السرد بوصفه المجازي سليل زني؟ إنه الفعل الملحمي الذي لا يحاط به، الذي يوجد مشروعيته من ذاته. إنه منزوع الحياء، الخجل، الحشمة، والأدب" بالمعنى الأخلاقي " لأن كل ما ذُكر هنا بمثابة قيود تعيقه في القيام بما يعنيه. ثمة فيض خاص يجعل وجود نصه أهلاً لأن يزداد عمقاً، تحولاً، تغيراً، وانتقالاً طفروياً من وضع إلى آخر مغاير له تماماً.
للسرد، عالمه الخاص الذي لا يجيَّر، أو يحوَّر كما يُراد له. كل ما يُنسَب إليه يُقتَطع منه، كما لو أنه موصول به. إن تقديراً عمرياً له، يخرجه عن كل تاريخ يُسمّيه، لأنه أبعد من أن يكون محمولاً جنسياً محدداً، أو مؤطراً. ذلك هو فعله الذي لا يُترجَم قانونياً. إنه يُلهِم عن بُعْد، والذين تمكنوا من أن يبدعوا، وأن يكون لهم استثناء في الكتابة سردياً، عاشوا وحام مفهومه اللقيطي.
وأن يكون السرد ولد زنى، تشبيهاً، فلأنه يحيل المعني به إلى أصل غير موجود حرفياً. أي ما يصله بما هو جنسي. لكن أي نوع من الجنس يكون هذا، لينظَر في أمره؟ فيكون خارج كل تعهّد أخلاقي. نعم، السرد منزوع الأخلاق، طالما أنها نظرياً وعملياً ترسم حدوداً، ونقاط رصد، كما هو مفهوم المنهج. السرد ولِد في لحظة معينة، لأن أي فعل بداية، انتقاص من مكانته، ودخول في خانة الجنايات، وهو ما يجرّد السرد من كل قيمة اعتبارية في زمنها المفتوح .
فاصل سردي
في بحثه " صيدلية أفلاطون " تحدث جاك دريدا عن الكتابة في مواجهة الكلام. الكلام/ اللوغوس أو الخطاب أو الأب نفسه. نعم، الأب أصل الكلام، ومنشئه وحاميه، ومعاقِب المخالف. حيث كل كلام، يحيل إليه، ليكون كلّي الحضور، الوجود نفسه، وما يصله بالمطلق الإلهي في الحالة هذه. كما لو أنه السرد المطلق دون توقف. فهو يتكلم، وإن لم يتكلم، لأن هناك ما يبقيه حاضراً وإن شهِد غياباً، في مشهد درامي لا يهدأ، وبتباين تبعاً للمستجدات. ولهذا كانت الكتابة التي تسمّي اليد التي فعلتها سطرياً أو حفرياً في صخر وغيره، خارج " مؤسسة " الأب المطلقة، مرفوضة، مطارَدة. لهذا ارتبطت باللعنة، بالإثم، بالدنس، باللاشرعية، لتكون تلقيحاً خارجياً، في نطاق ما هو مجهول، حيث ينعدم الشهود. ومعرضة للتسفيه. لتشبَه بناء على ما تقدَّم بـ؟ ولد زنى " بـ " الابن الضال "، الابن الضال له أب لكنه خارج " جادة صوابه المرسومة ". الكتابة هنا تنزع عن الكلام قدسيته، نبراته، الهيئة المثبتة والمؤبدة، الوجه، وربما اللحية أو برودة النظرات، وصرامة الملامح، والاقتصاد اللافت في تحريك اليدين...إلخ، وتحيل الكلام إلى أثر وجودي معلوم بزمانه ومكانه النسبيين، وتخضع كل من يأتي على ذكره بعد حين لامتحان سبر معلوماتي، جهة أي شهادة تقوم على الذاكرة، وما يخص نيَّة القول، والاعتراف، وشخصية الشاهد، وما في ذلك من منْح السرد تلك القيمة المصادرة، والمحتكرة، والمنقادة صراطياً. والسرد انتثار المعاني، والسرد السماح للمعاني في أن تتدفق، أن تتناسل، أن تهيب بالكتابات في أن تعيش مخاضات ماضية إلى المستقبل، وأن تعيش عدَمية ما كان، تدشيناً لما هو آت، وهكذا. إنه المستحيل الذي يعايَن فنياً.
ولأن الحديث يدور حول دريدا وصيدليته، لا بد من تنوير مشهد صيدلاني، كما تابعته في كتابي " الطب الفلسفي، من صيدلية أفلاطون إلى صيدلية جاك دريدا وأبعد "، وهو أن جوهر الصيدلية كما هو المذكور حول معنى " فارماكون " مقابل " الصيدلية "، أي" السم والعقار في آن " وهذا يسمح للكتابة في أن تعيش خيارين يتداخلان، يتشابكان، يتناظران، يتنازعان، حيث إن عالم الصيدلية" الفارماكون " عالم الحياة والموت، وذلك متاح للمعني، تبعاً لقدراته. وربما يستدعي هذا الثنائي: السم/ الداء والعقار/ الدواء، ما أفصح عنه فرويد بثنائي: الإيروس " ما يدل على الحياة، أو الليبيدو، بمعناه الطاقوي الحيوي الواسع " والثاناتوس " ما يدل على الموت، أو الطاقة التدميرية في الحياة أو في الجسد " ولا بد أن السرد فيه ما الإيروسيه ما فيه من الثاناتوسية، فيه من السم ما فيه من العقار، والأكثر من ذلك، حين وازى دريدا بين فعل الكتابة والاستمناء، فالكتابة إشهار حياة، وكذلك الاستمناء، منتجاً ذكرياً، وفاعل إخصاب حيوي بالمقابل، وبذلك يصبح السرد في عموم أنشطته التي عرِف بها قديماً، وما سيعرَف بها لاحقاً، ميكانيزم إيروس.
السرد لا يأخذ إذاً من أحد، أو ينتظر إشارة منه، ليخبِر عما فيه، إنما ما يتنشط باسمه قولاً وفعلاً هنا وهناك. كما لو أن الذي يقوم بفعل السرد في الحكاية، إنما يمارس خلْقاً، ويبعث أجساماً تكون هيكلية وقد أعطيت أرواحاً وهيئات، كما هي الشخصيات الورقية بالنسبة إلى الكاتب.
لعلنا نستطيع القول أن دريدا، بالطريقة هذه، كان مأخوذاً بجوانب مختلفة من السرد، وإن لم يقم كما هو حال السارد المعروف في حقله الواسع، ولكن المثار باسمه أناره كريستالياً بشكل لافت.
علام يقوم السرد؟
السرد موصول بالحدث، بالفعل، بالسلوك. غير أن الأول ليس رهينة الثاني. ما يكون حدثاً ليس هو السرد، لينظَر في أمره. الثاني تابع، وموقوف على الأول. وبالطريقة هذه يجري تنسيب السرد كما لو أنه يُعرَف بأب وأم. وهذا تجنّ عليه. ليس الحدث، أو مرادفه، هو الذي يهب السرد كينونته، إنما السرد هو الذي يبقى منزوع الإطار، الزمن المعروف بأبعاده الثلاثة.
لا شيء يوقف السرد، ويبحث في عمره، وعلاماته الفارقة، لأن كل إجراء كهذا تصرف لا يليق به، بمقدار ما يعرّف بالفاعل النسبي، والسرد قريب من المطلق، مثلما أن اللقيط أو ولد الزنى يفتح الخيال على اللامتناهي جهة تصور الأب المجهول، وهو ممتد إلى المستقبل .
لعل السرد هنا، وبهذه الصفة نسيب شيطاني، من باب تقريب المفهوم، حيث الشيطان يُلجَأ إليه، وليس هو من يحتمي بأي كان، وهذا يسمح بتعميق الأثر والصورة المتخيلة له باضطراد.
ولعل تاريخ قراءة النصوص الأدبية" كالرواية، من دون كيشوت إلى يوليسيس أو إعادة البحث عن الزمن المفقود "، أو ما كتبه بنيامين عن بريخت، وبلانشو عن كافكا، يعلّمنا بما لا ينبغي أن نعلم، كما نريد، لتكون المتابعة مستمرة، والفراغ المحفّز على المقاربة وتوقع المختلف والانقطاعات دائماً في وضعية صيرورة. أي ما يجعل السرد أرحب مما هو مسنود به وإليه.
هل هناك سرد عربي قائم بذاته؟
في قراءة الأدبيات العربية الإسلامية، لا يُلاحَظ أي أثر فعلي، يؤمَن جانبُه، ويكون شهادة تاريخية لها مصداقيتها على وجود سرد عربي، كما يتردد هنا وهناك. حيث ظهرت الكتابة العربية متأخرة، وبتأثير من الاتصال بالثقافات الأخرى. إن الأثر الكبير الذي يجري التباهي به، أو اعتباره مفخرة الأدب العربي الحكائي، من نوع " ألف ليلة وليلة " وفي بنيتها، لو أننا كاشفنا ذاكرته الزمانية والمكانية، ومن خلال أهم شخصيتين فيها: شهرزاد- شهريار، وكيف قيّض لهذه الليالي أن تبصر نهارها، سوف يعدِم كل أثر تقريباً لمفهوم السرد بجانبه التأسيسي القويم، وما في ذلك من صراع. نحن هنا إزاء سرد يتكلم ما هو " خارجي " بلغة أخرى، ليجد نفسه محكياً، أو مسروداً بلغة قيّض لها بعد انتظار أن تكون عربية، ويحدث لها تداول وإشهار جمالي، وتجميل محتوى، بوصفها مفخرة سردية، ومختلف عوالمها، تشير إلى الخارج. إنها على الأقل، تتمظهر هجيناً، أو جرّاء عملية تطعيم استغرقت وقتاً، ليتاح لها الظهور والانتشار، رغم كابوس الرقابة بذهنيتها الدينية والاجتماعية والثقافية التي مثّلت طراداً لمجتمع " ألف ليلة وليلة، وأن جل الذين حاولوا مقاربة هذا المجتمع الحكائي الذي قيل فيه الكثير، من النقاد العرب، إنما لم يخفوا، وحديثاً خاصة، تأثرهم بالمتردد حول نص طويل المدى، طياوياً، في تداخلاته، بما هو أجنبي " أسمّي هنا بورخيس، ومن ثم تودوروف " وسمة العجائبي المغوارة، كهجنة في إثر هجنة، وهو ما يستوقف العمل بمفهوم السرد العربي " كصفة " نشأت في تربة الواقع، وليس حالة تعرية للاسم من ناحية ونزع كل قيمة معرفية، أو جهد معرفي، استقصائي، وآثاري في معاينة أس السرد!
في هذا السياق: ماالذي يمكن قوله لحظة الربط بين منشغل بالسرد، وهو عبدالفتاح كيليطو، حول العائد إلى خصوصية السرد العربي، ودقة ذلك، والمأخوذ من مرجعيته الغربية كثيراً؟!
ذلك يتعلق بوضعية السرد وصلته بالمجتمع. فهو في نشأته فاعل اجتماعي، ومأثور سلطوي. إنما كيف يتفعل في الذاكرة الجماعية، ويتم التعامل معه، بوجود ذلك الرصيد الأدبي، الفني، المرئي والمسموح والذي يستغرق بنياناً مجتمعياً على وجه العموم، وتكون السلطة بهرمها الأعلى داخلة كعنصر من بين العناصر المجتمعية الطائفة وليس " المايسترو " الموجّه لا الموجَّه في أي حركة حادثة، وتلك الدمغة الرمزية التي يجلوها السرد في ما يقال ويتم تداوله ونشره شعراً ونثراً، وتلك الممرات، المعابر، الطرق، والقنوات المعمولة أو التي الجاري تدشينها، أو تنويعها هنا وهناك لجعل السرد في مستوى مجتمعه الغدوي وليس ما كان أو ما هو كائن، وما يُرى ويعايَش راهناً، يظهر هذا السرد، بمعطاه ومحتواه ومداه العربي في أبأس وضعياته، أو الدال على تاريخ من التمثيل الأضحوي في بنية مفهومه تاريخياً، لحظة القيام بجردة لمعرفة صنافة المحظورات في سياق الثالوث الرهيب بزوايا الخانقة: السلطة، الدين، والجنس، وما في معتركه من تقليص للواقع واختزال لمبناه ومعناه، وهو محمول من الأعلى، وسوء المشهد القاعدي وعري مؤخرته.
وما حاولت إثارته من خلال مفهوم " البصل " ووحدته بكل مكوناته " القشرية " في كتابي ( العرب لا يحبّون البصل ) إلا محاولة تعبيرعما يُبقي السرد:
دون اسمه، جهة اللحاق به، أو إثراء معناه.
خارجاً عن سياق متقطع وانعطافي رسمه.
متخلفاً عن اللحاق باسمه، جرّاء تراكمات التخلف البنيوية في مجتمعه.
نعم، يمكن لأي منا، أن يدخل في مضمار إحصاء ما هو مكتوب عربياً، في الأدب، بكل مكوناته ومؤثراته، لكن سيكون هناك ضرب لافت من التجاهل لحقيقة أن السرد الذي يكال له المديح هنا وهناك، وعبْر التذكير بما هو منشور في الرواية، القصة، المسرحية،وغيرها، والرفع من قيمة السرد بالتالي، إنما يُعتبَر ذلك مأساة الذاكرة الجماعية عينها، وهي تواسي نفسها في جانب منها، بأنها موجودة، وهي ممنوعة من أن تكشف عما يكوّنها عميقاً، وهي مأساة تشدّد على مأساة الواقع الأكثر كارثية. تُرى، عن أي سرد يمكننا التحدث في واقع ممزق، مختزل، مطارد في كل ما يخص وجوده الفعلي، وضاغط على موجوده، وهو مراقَب ومراقِب ذاتي للغته وحركاته؟
وحين يكون الناقد قواداً!
ذلك ما ماورد في نهاية رواية عبدالكبير الخطيبي " الذاكرة الموشومة " حيث أفصح بالحرف أن على الناقد أن يكون قواداً بين كاتبه " الذي يتابعه ويكتب عنه " وقارئه الذي يعنيه أمره، وما تعنية مفردة " القواد " من جعْل الطريق بين الاثنين سالكاً، بل ومنشطاً على سلوكه، حيث إن القواد لا يعرَف بصفته هذه إلا من خلال علاقة لها بُعد إيروسي معلوم، وفي حالة الكتابة، لدينا ما هو مجازي، جهة النظر إلى عملية القراءة والكتابة، ودور الناقد. إنه هو من يحرّر السرد من خلال حصيلة معلوماتية كافية، منتجة ومؤثرة، من كل تأطير، ويبقيه مؤمماً عليه بأكثر من معنى تعزيزاً لفكرة السرد التي لا ينظَر إليها من جهة واحدة، وبسرعة واحدة في المكاشفة النقدية.
في مقدور أي كان أن يعترض، أن يرفض تصوراً كهذا، لا بأس، ليس من مقاضاة لتاريخ قائم أو نصوص تجري تسميتها، وتجريدها من القيمة الذاتية لها، إنما هي مكاشفة لصلات الوصل بين ما هو معيش واقعاً، وما هو مردود النص المكتوب وموقعه الاجتماعي، وجانب الفني فيه .
في السياق، في الإمكان توسيع مفهوم السرد، أكثر مما هو مثبَت أو متردد حوله، وهو أنه، وكما نوَّهت إلى ذلك، ليس من قول، مهما كان نوعه أو جنسه إلا وله فيه من السرد ما يبقيه ويحْييه.
في الشعر الذي يصنَّف جانباً على ما كان مأخوذاً بالصورة الشعرية، وما يعزلها عن السرد، بوصفه دراما حدث، صيرورة وسيروة في آن. لكن أي عبارة ذات محتوى سردي قليلاً أو كثيراً. وإذا تجاوبنا مع هيدغر عن أن اللغة حوار في الأصل، وهو كذلك، لأنها تسمّي بشراً، وبينهم تكون علاقات قائمة، وتسمّي حيوات ومجالات وأفعالاً ومقولات قول...إلخ، فإن ما يعنينا، مذ وجدنا كان السرد كموناً، وإذا به ينبثق بأنسابه المتباينة.
تُرى أليس في لامية امرىء القيس المشهورة سرد طافح بالحركة:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ِ بسقْط اللوى بين الدخل فحومل ؟
أليس المتخيَّل في عائده الشعري مفعَّلاً وسط لائحة مشاعر وأحاسيس تصل ما كان بما هو كائن، وتمد به صوب ما سيكون: الرغبة في أن يكون الآتي على نسق المشتهى سالفاً؟
وأن البحر المختار" الطويل " يستجيب لهذه التباينات، بإيقاعاته المفصحة عن توتراته النفسية؟!
السرد وصولاً إلى الضحك
ثمة ما يحفّز على تأكيد ما أراه حقيقة قائمة لحظة التدقيق فيه، وهو في مدى قوة العلاقة بين السرد باعتباره سليل زنى أو لقيطاً، وخاصية الضحك. لماذا؟
الضحك نشاط نشاطي، لكنه محرّر جسدي مما يقيّده ومنوّره من الداخل. الضحك نسف للحدود، إيعاز بوجود حياة تخرج على ما هو مقنَّن, السرد لا يعترف بالتقنين أو التسنين. لأن الضحك الذي يرتبط بنقيض الحياء، يسمّي حياة، يهيب بالجسد لأن ينكشف على داخله قدْر مستطاعه. من يضحك هو من يخرج عن جسده ويستحيل نشاطاً ضحكياً محتفىً بالحياة. ومن يخشى الضحك، من يرسم دائرة محكمة حول الضحك، وفي مجتمع محافظ، يدرك تماماً مخاطره في فعل التسوية بين الأجساد، في التوحيد والتساوي بين الأجساد، ونزع الحجاب السلطوي، الوجهائي، التقيوي، المشيخي...إلخ عنه، ليعود الجسد كما هو مأخوذه الطبيعي، وقد ارتفعت الحدود الفاصلة، كما عاينت ذلك في صفحات متفرقة من كتابي " تراجيديا الضحك "، ومأساة السرد ضمناً.
في روايته " كتاب الضحك والنسيان " لكونديرا، ثمة إبهارُ سرد يستحق التقدير أو الاحتفاء به، وهو الذي يتمحور حول " الضحك " لحظة الإشارة إلى أن الضحك يعلّمنا كيف نعيش، وحين نعيش من خلاله، نتعلم كيف نستمر في الحياة، وليس في حسباننا ما يذكّر بالموت. الضحك تحرير حياة، إطلاق للجسد من كل عناصر قوته، أن تضحك هو أن تجهر بقواك الطبيعية، هو أن تتحرر من تلك الأخلاقيات المسنودة بالحشمة، ومغزاها: التحكم بالضحك، لأن اللامساواة التي بني عليها المجتمع تعلِم بذلك. والذين يعترضون على الضحك هو أكثر المعنيين بالتشدد، أو السعي إلى إبقاء التباين قائماً، لفرض هيبة طرفية على الآخرين. ونلاحظ هنا، مثلاً، كيف يجري التنبيه والتشديد على لزوم التعامل مع النصوص الدينية بوصفها مؤمَّمة من كل كل ضحك. لأن النص محرَّر إلهياً، أو داخل في إهابه، والضحك فتح ثغر" صدع " لأن الضحك يسمح بطرح الأسئلة الأكثر أهلية لأن توقظ النص بستنطقه في نشأته، أي ما يخص مفهوم العدم سالفاً ، دينياً.
يصبح للسرد هنا مسار آخر، وتصريف آخر، له ما يوجّهه بمأثور سلطوي ديني، وما يتحكم فيه من هذا المنطلق، وجانب التقطع فيه، وهو الخاص بفصل المقال فيما بين الإنسي والإلهي من انفصال، وهذا الفصل هو الذي يبقي الناسوي على مبعدة كافية من اللاهوتي، في اقتصاد الضحك الذي يعني التدبير المحكم في الكتابة عما هو مأخوذ به إلهياً، وما في ذلك من ضبط محكَم للسرد، أي ما في ذلك من حصر السرد، حيث لا يعود سليل زني أو لقيطاً، أو مصنَّعاً بشرياً ومؤطراً.
إن التعرف على مدى الانفتاح الحاصل في هذا المجتمع أو ذاك، هو الذي يعلِمنا بالموقع الاعتباري والفني للسرد، وأي سليل زنى أو لقيط يمكن معايشته أو مكاشفة قواه وهواه ومداه فيه!
الحديث عن السرجد لا ينتهي، لأن السرد لامتناه !