***
ربّ ضاقت ملاعبي
في الدروب المقيّدة
- لقد فطر الإنسان منذ القدم على الحزن والفرح، فإذا شعر بحالة انكسار وإخفاق غشت روحه غيوم الحزن الداكن وأثقلت كاهله هموم الزمن الذي لا يرحم. فيهب معبرا عن حالة الحزن بما يناسبها، وإذا حصل عكس الحزن كانت علامة الفرحة تعلو جبينه، وتخط فوقه ملامح البشارة والسعادة فيحاول جاهدا ليعبر عن هذه الحالة بما يناسبها، والأمر سوي عند المبدع وخاصة الشاعر فيكون تعبيره عبر ما تنفثه أنفاسه المتقطعة من كلمات تختصر مساحات الحزن والفرح معا. ولنتأمل معا تلك الحالة الشعورية التي يقدمها لنا الشاعر العربي عمرأبو ريشة حينما يقول: ربّ ضاقت ملاعبي في الدروب المقيـّده /أنا عمـر مخصّـب وأمــاني مشـــرّده /ونشيـــد خنقــت فــي كبريـــائــي تنهـّـده /ربّ مازلـت ضاربـا مـن زماني تمردّه /بسماتــي سخيـــّـة وجراحـــي مضمــّـده . - ومن هذا المنطلق يمكننا القول : أن الشعر هو ترجمان النفس، و الناطق المفصح عن كوامنها و دواخلها، فتمر الحالة بالنفس حسب قدرة كل شاعر. تتفاوت نسبيا من حالة لأخرى، من حالة الحزن القاتل إلى الفرح الراقص،و من القوة الثائرة إلى الرقــّة الهادئة، وبين هذه الحالة أو تلك تظهر قدرة الشاعر على التعبير والرصد لأجواء تلك الحالات، وهنا يكون الشاعر بمثابة شخصين ( الشاعر ونفس الشاعر ) في حوار سريّ لا يعلمـه إلا الله والشاعـر نفسـه .وفي ذات اللحظـة يحـاول الشاعـر أن يلتقط بعض أجزاء تلك المحاورة الهامة من المشاعر فيسجلها على دفاتره وأوراقه .قصائد ومقاطع شعريـة، وفي الكثير من الأحيان يخفق الشاعر في عملية التسجيل فنجده يعمـد إلى عمليـة استرجاع شريط تلك الحالة أو الوقفة التي أيقظت عنده هاجس الإبداع، وهنا يتبين لنا أن الموقف الشعوري عند الشاعر رغم تداخله وتعقده لا يتعدى حدود " الاصطناعية " و " العفوية ". إن الموقف الاصطناعي هو ذلك الموقف الذي يجعل الشاعر حريصا على تسجيل حضوره تحت تأثير خارجي أي أن يكون بإيعاز من شخص آخر أو يكون مقترنا بمناسبة معينة ،وفي هذه الحالة يكون الشاعر شبيها بتاجر أو صانع لمادة ما. تكون مادته جاهزة حسب الطلب المقدم أو المعروض عليه، وذلك لأن هذه الحالة تجعل الشاعر يكلــّف نفسه في عملية الصنعة الشعرية بين التنميق والتزويق والجري وراء الألفاظ الرنانة الفارغة المحتوى والقوافي التي لا طائل منها. ومهما حاول الشاعر أن يخفي ذلك فإنه يظهر جليا واضحا وجليا للعيان.
أما الموقف الثاني فهو الموقف العفوي الذي يكون بمثابة " الناموس " أو الإلهام الذي يغمر الشاعر في لحظة لم يكن ينتظرها على الإطلاق، و إذا كان هناك من يداهمه فيض الأحلام اللذيذة أو الأحلام المزعجة ،فالشاعر أيضا يغمره ذلك الحلم لكنه في شكل قصيدة فيقوم ليرسم معالمها الكبرى بروعة تهزّ النفس و تحرّك الوجدان و ذلك هو الشعر المطبوع و الشاعر الفنان الفحل الذي لا يشق له غبار. وأما حالات الكتابة الشعرية فأتصور أنها لا تخرج عن كونها ثلاث حالات .و هذه الحالات تظل متصلة اتصالا مباشرا باللغة و الصورة و الوزن فهناك من الشعراء من يحاول امتلاك زمام اللغة و الوزن دون الصورة الفنية، وفي هذه الحالة تكون القصيدة عبارة عن لغة موزونة تغلب عليها التقريرية و المباشرة، وهنا يصح في حق هذا الشعر أنه " نظم " ويصح في حق صاحبه أن نطلق عليه اسم"الناظم" وأما الحالة الثانية فهي الحالة التي يحاول فيها الشاعر أن يلقي القبض على الصورة و اللغة معا فيوفــّق لحظة تضيع منه القافية على حساب اللغة و الصورة الفنية، وفي هذه الحالة تكون القصيدة ترتكز على تفعيلة واحدة أو أكثر ترتب جوا موسيقيا معينا يختلف تمام الاختلاف عن القصيدة الموزونة المقفاة ،وبذلك تكون حرة من عامل البحر الكامل التفعيلات و القافية المحدّدة لإطار الموسيقى الشعرية . و هذا ما نراه شائعا عن شعراء " قصيدة التفعيلة " أو الحرة كما يحلو للبعض تسميتها . و أما الحالة الثالثة : فهي الحالة النادرة في أيامنا هذه و التي يتمكن فيها الشاعر من امتلاك ناصية اللغة المولدة للصورة الفنية الرائعة ، والمعاني العميقة المحفوفة بجو موسيقي آسر للألباب دون أن تخلو القصيدة من تلك القافية المعجزة ، وفي هذه الحالة يمكننا القول بأنها قمة الحالات التي يستطيع الشاعر أن يحدث الجديد على مستوى الشكل والمضمون في كلا القصيدتين القصيدة العربية المتعارف عليها منذ القدم ( الخليلية) أو القصيدة الحديثة ( الحرة ). وأتصوّر أن هناك حالة رابعة بدأت تشقّ طريقها إلى مرابع القصائد ،و تحاول إقحام نفسها إقحاما مروعا. تلك الحالة أخذت شكلها من الشعر الغربي وبالذات من عمليات الترجمة ( القصيدة النثرية ). فلقد حاول الشاعر العربي أن يترجم تلك الأشعار وهو يعيشها إلى حد التصور ليضفي عليها بصمة جديدة تجمع بين النثر والشعر في وسط إيقاعي موسيقي، ليعطي لها شرعية النص الشعري الجديد المتزامن مع حالات الناس في هذا العصر، وذلك في الوقت الذي مازلنا نبحث عن أسس وقواعد للقصيدة الحرة دون الإقصاء أو الإلغاء للقصيدة الشعرية العربية الضاربة في عمق التاريخ العربي منذ عهد الغطارفة والمهلهل إلى يومنا هذا. ولكن ربما يأتي عهد علينا لنجد أنفسنا أكثر استعدادا لتقبل هذا النوع وذلك لأن النفس البشرية تواقة إلى ركوب الصعب وتواقة إلى التلذذ بالغامض الغريب حتى تنكشف معالمه، وتتضح رؤاه وبعد ذلك يصبح الصعب سهلا ، والغريب مألوفا ولكن حالة الفرح والحزن تبقى هي هي لا تتغير إلا بوجوه المقابل. ومهما كانت الحالة الشعرية يظل الشاعر ينقلنا إلى حالته النفسية التي تتدفق حزنا أو فرحا ، أو ثورة أو غضبا لا حدودله.
ربّ ضاقت ملاعبي
في الدروب المقيّدة
- لقد فطر الإنسان منذ القدم على الحزن والفرح، فإذا شعر بحالة انكسار وإخفاق غشت روحه غيوم الحزن الداكن وأثقلت كاهله هموم الزمن الذي لا يرحم. فيهب معبرا عن حالة الحزن بما يناسبها، وإذا حصل عكس الحزن كانت علامة الفرحة تعلو جبينه، وتخط فوقه ملامح البشارة والسعادة فيحاول جاهدا ليعبر عن هذه الحالة بما يناسبها، والأمر سوي عند المبدع وخاصة الشاعر فيكون تعبيره عبر ما تنفثه أنفاسه المتقطعة من كلمات تختصر مساحات الحزن والفرح معا. ولنتأمل معا تلك الحالة الشعورية التي يقدمها لنا الشاعر العربي عمرأبو ريشة حينما يقول: ربّ ضاقت ملاعبي في الدروب المقيـّده /أنا عمـر مخصّـب وأمــاني مشـــرّده /ونشيـــد خنقــت فــي كبريـــائــي تنهـّـده /ربّ مازلـت ضاربـا مـن زماني تمردّه /بسماتــي سخيـــّـة وجراحـــي مضمــّـده . - ومن هذا المنطلق يمكننا القول : أن الشعر هو ترجمان النفس، و الناطق المفصح عن كوامنها و دواخلها، فتمر الحالة بالنفس حسب قدرة كل شاعر. تتفاوت نسبيا من حالة لأخرى، من حالة الحزن القاتل إلى الفرح الراقص،و من القوة الثائرة إلى الرقــّة الهادئة، وبين هذه الحالة أو تلك تظهر قدرة الشاعر على التعبير والرصد لأجواء تلك الحالات، وهنا يكون الشاعر بمثابة شخصين ( الشاعر ونفس الشاعر ) في حوار سريّ لا يعلمـه إلا الله والشاعـر نفسـه .وفي ذات اللحظـة يحـاول الشاعـر أن يلتقط بعض أجزاء تلك المحاورة الهامة من المشاعر فيسجلها على دفاتره وأوراقه .قصائد ومقاطع شعريـة، وفي الكثير من الأحيان يخفق الشاعر في عملية التسجيل فنجده يعمـد إلى عمليـة استرجاع شريط تلك الحالة أو الوقفة التي أيقظت عنده هاجس الإبداع، وهنا يتبين لنا أن الموقف الشعوري عند الشاعر رغم تداخله وتعقده لا يتعدى حدود " الاصطناعية " و " العفوية ". إن الموقف الاصطناعي هو ذلك الموقف الذي يجعل الشاعر حريصا على تسجيل حضوره تحت تأثير خارجي أي أن يكون بإيعاز من شخص آخر أو يكون مقترنا بمناسبة معينة ،وفي هذه الحالة يكون الشاعر شبيها بتاجر أو صانع لمادة ما. تكون مادته جاهزة حسب الطلب المقدم أو المعروض عليه، وذلك لأن هذه الحالة تجعل الشاعر يكلــّف نفسه في عملية الصنعة الشعرية بين التنميق والتزويق والجري وراء الألفاظ الرنانة الفارغة المحتوى والقوافي التي لا طائل منها. ومهما حاول الشاعر أن يخفي ذلك فإنه يظهر جليا واضحا وجليا للعيان.
أما الموقف الثاني فهو الموقف العفوي الذي يكون بمثابة " الناموس " أو الإلهام الذي يغمر الشاعر في لحظة لم يكن ينتظرها على الإطلاق، و إذا كان هناك من يداهمه فيض الأحلام اللذيذة أو الأحلام المزعجة ،فالشاعر أيضا يغمره ذلك الحلم لكنه في شكل قصيدة فيقوم ليرسم معالمها الكبرى بروعة تهزّ النفس و تحرّك الوجدان و ذلك هو الشعر المطبوع و الشاعر الفنان الفحل الذي لا يشق له غبار. وأما حالات الكتابة الشعرية فأتصور أنها لا تخرج عن كونها ثلاث حالات .و هذه الحالات تظل متصلة اتصالا مباشرا باللغة و الصورة و الوزن فهناك من الشعراء من يحاول امتلاك زمام اللغة و الوزن دون الصورة الفنية، وفي هذه الحالة تكون القصيدة عبارة عن لغة موزونة تغلب عليها التقريرية و المباشرة، وهنا يصح في حق هذا الشعر أنه " نظم " ويصح في حق صاحبه أن نطلق عليه اسم"الناظم" وأما الحالة الثانية فهي الحالة التي يحاول فيها الشاعر أن يلقي القبض على الصورة و اللغة معا فيوفــّق لحظة تضيع منه القافية على حساب اللغة و الصورة الفنية، وفي هذه الحالة تكون القصيدة ترتكز على تفعيلة واحدة أو أكثر ترتب جوا موسيقيا معينا يختلف تمام الاختلاف عن القصيدة الموزونة المقفاة ،وبذلك تكون حرة من عامل البحر الكامل التفعيلات و القافية المحدّدة لإطار الموسيقى الشعرية . و هذا ما نراه شائعا عن شعراء " قصيدة التفعيلة " أو الحرة كما يحلو للبعض تسميتها . و أما الحالة الثالثة : فهي الحالة النادرة في أيامنا هذه و التي يتمكن فيها الشاعر من امتلاك ناصية اللغة المولدة للصورة الفنية الرائعة ، والمعاني العميقة المحفوفة بجو موسيقي آسر للألباب دون أن تخلو القصيدة من تلك القافية المعجزة ، وفي هذه الحالة يمكننا القول بأنها قمة الحالات التي يستطيع الشاعر أن يحدث الجديد على مستوى الشكل والمضمون في كلا القصيدتين القصيدة العربية المتعارف عليها منذ القدم ( الخليلية) أو القصيدة الحديثة ( الحرة ). وأتصوّر أن هناك حالة رابعة بدأت تشقّ طريقها إلى مرابع القصائد ،و تحاول إقحام نفسها إقحاما مروعا. تلك الحالة أخذت شكلها من الشعر الغربي وبالذات من عمليات الترجمة ( القصيدة النثرية ). فلقد حاول الشاعر العربي أن يترجم تلك الأشعار وهو يعيشها إلى حد التصور ليضفي عليها بصمة جديدة تجمع بين النثر والشعر في وسط إيقاعي موسيقي، ليعطي لها شرعية النص الشعري الجديد المتزامن مع حالات الناس في هذا العصر، وذلك في الوقت الذي مازلنا نبحث عن أسس وقواعد للقصيدة الحرة دون الإقصاء أو الإلغاء للقصيدة الشعرية العربية الضاربة في عمق التاريخ العربي منذ عهد الغطارفة والمهلهل إلى يومنا هذا. ولكن ربما يأتي عهد علينا لنجد أنفسنا أكثر استعدادا لتقبل هذا النوع وذلك لأن النفس البشرية تواقة إلى ركوب الصعب وتواقة إلى التلذذ بالغامض الغريب حتى تنكشف معالمه، وتتضح رؤاه وبعد ذلك يصبح الصعب سهلا ، والغريب مألوفا ولكن حالة الفرح والحزن تبقى هي هي لا تتغير إلا بوجوه المقابل. ومهما كانت الحالة الشعرية يظل الشاعر ينقلنا إلى حالته النفسية التي تتدفق حزنا أو فرحا ، أو ثورة أو غضبا لا حدودله.