محاولة تأكيد
لن يكون السرد سرداً إلا إذا أفصح عن لاسرديته، تعبيراً عن لانمطيته. فلكَم أحيلَ السرد وهو يخضع لمنطق التمثيل التاريخاني هنا وهناك، كما لو أنه مشدود، كخيط، إلى بكرة " كبكوبة " السارد باعتباره المرجع أو الحامل له.وما في ذلك من تأطير له. وما في ذلك من إحكام الطوق عليه، واستحالة ربطه بما هو حياتي متغير، بما هو انعطافي، وخاضع لتلك التقطعات التي تحدث بلبلةً في وعي الباحث في أمره، وليس المنتقل " من – إلى "، حيث إن الجاري حدوثه واقعاً، وما في ذلك من انقلابات رؤى، وتحول مصائر مباغت، يحرّر الكتابة الفعلية من أي خطية مسلَّمة.
في مكاشفة صغائرية " ميكروسكوبية " من المستحيل بمكان، النظر في السرد بتلك اليقينية، أو تلك الصراطية المعهودة كثيراً، في بنية الكتابات التي تجد صعوبة في التنفس خارج جسد معهود يضيق عليها الخناق، ويسهم في إفقارها، بمقدار ما يضمحل تدريجياً وتفقد حيويتها تلك.
هو ما يمكن تبيّنه في المفهوم: اللامفهوم واقعاً للواقع، لأن بناه تعمل على النقيض من بنى الفعل الذي يتخلل قول السارد المعلوم، أو الكتابة المسطورة، وما في ذلك من مأزق مزمن معتَّم عليه.
ما يعلّم هو المجهول المستمر الذي ينظَر إليه، أو كما هو مرتقَب في أفق الرؤية الواسع، والذي يدفع بأي فكرة ، مهما كان نوعها أو جنسها، في أن تخضع للّاتوقع، طالما أن السرد يمضي إلى الآتي، وليس من ضمان لمعرفة ما سيكون عليه الآتي هذا، ليكون في مقدور السرد أن يحافظ على سويَّة معينة " نمطية متداولة " وإمكان توقع القادم قبل حلوله أو حدوثه، وقد جرى التركيز على أن السرد هو في أكثر تمثيل مجازي له، يجعله ملاصقاً للحقيقة، يكون سليل زنى أو لقيطاً.
وإذا كان المشهد الممكن تتبّعه بالهيئة هذه، فأي سهم أنثوي يحضر بعدده وعدته في تلوينه وتكوينه؟ بمعنى آخر: إلى أي درجة، يحدثنا ابن الزنى " السرد " هذا " أو لقيطه عن " أمه " التي لا نعرف عنها شيئاً سوى أنها أنثى، وأنها أُخصِبت سابقاً، وولّدت زنى/ لقيطاً، ولنكون بالتالي إزاء تأشيرة مغايرة لما يخص السرد، وفرحة بالموعود المؤثر في إثرائه بما لا يقال، لحظة الربط بين كون السرد، كما هو المتردّد عنه، معرَّفاً به، وما يطرحه ولدَ زنى/ لقيطاً ؟
أزعم هنا، ولا أقول " أجزم " انطلاقاً من الممكن قوله حول هذا التنسيب الصادم لأذواق الكم الأغلب من السرديين، أو المعبّرين عن السرد في نمطيته، وهي بقالبها التقليدي الذكوري أيضاً.
بصمة الأنثوي في السرد
كما نوَّهت آنفاً، فإن أول الممكن قوله، هو أنه بمجرد النظر إلى السرد بعيداً عن كونه مجرد تصور معطى، أو متَّفق عليه، كما هو المصطلح المذكور في زمان ومكان معلومين، وإنما على أنه كائن حي، ويستحيل تقديم تعريف به أو تقديم توصيف له، لأنه لا يتشخص، لا يتجسم، لا يخضع لقياس معين في الطول والعرض والعمق والوزن، لا يخضع لتحليل مخبري كيميائي أو مقاربة فيزيائية، لتبيّن بنية جاذبيته في جعْله استقطابياً ، أو محورياً، إذ إن مفهوم" المحوري " يحيله إلى ما هو دائري، أو محكوم ببداية ونهاية، وهو خلاف ذلك تماماً، كما تقول الحياة من خلال معطياتها الكبرى أو مستجداتها، كما تقول الوقائع الكبرى، وتلك الصغرى، التي يستحيل البت في حقيقة وضعها، لا بل كما يقول الواقع نفسه، وهو معايَن من قبل كم هائل من الناس العاديين جداً، وليس مجموعة كتّاب لهم تجربتهم المعهودة في الكتابة، فينطلق كل منهم، وملؤه سعي إلى أن يقول مختلفاً، مما هو جامع بين الجميع، وليثبت ذلك، عن وعي، واحتماء بمخياله الثقافي، الفكري، الأدبي...إلخ، والواقع يظل مأخوذاً بلاتناهي أقنعته وأشكاله وألوانه.
السرد يعيش طليقاً، مأخوذاً بقانونه الذي ينحّي كل منطق قياس جانباً، وجينوم الحركة والصورة الممكن تخيلها أو توقعها له، خارج كل توقع، هذا لأن هناك خروجاً على كل أبوية معلومة، أو " خانة الأب " والوالدية المحكومة بالزمان والمكان أو تاريخ الولادة. السرد يتقطع، يكبر، يصغر، أو يعيش تفاعلات، عائدة إليه وحده. هذا لأنه في محْكَم وجوده تكاثري، أي أنثوي باقتدار!
وحدها الخيانة الزوجية، وما يشكل إطاحة بالزوج، باسمه المعتاد، جانباً، يثاب عليها الكاتب، لأن في ذلك من مصلحة الكتابة عينها، وإنصافاً مثمراً للواقع الذي يأتي في مكاشفته تخيلياً مختزلاً.
ماالذي يحفّز لدي إرادة الدفع بالمفهوم المأثور بتاريخه التليد وذي الهيبة، إلى ركاب الأنثوي؟ إنها ليست إرادة ضاغطة من الخارج، إنما ما يرفع سقف الرؤية، ويوسّع في محيط تدفقات أفانين السرد، وما هو خارج المسمى، جرّاء متغيرات الواقع، وما هو خاضع لمنْع التسمية، أو ممنوع التفكير فيه، لأسباب عرفية: علموية، أو أكاديمية محروسة، أو مدرسية متيقَّن بها كثيراً، حيث إن ما يشكل دعماً أو إسناداً لسرد يعيش خارج سربية أوصافه، أو ثكنة تصوراته، هو نفسه هذا الذي يحيل أياً منا إلى الواقع والنظر في هذا الخضم الذي يتعدى نطاق" الشاطىء " ويغمره إلى مساحات بعيدة، وثمة ضحايا بالمقابل، على وقع التنميط في المفهوم، وما في هذا التثبيت للصورة النمطية، من لفت النظر إلى طغيان الأبوي: الذكوري أسَّاً، وحجْب الرؤية عن الأنثوي وبدعته. وأحسب، هنا، وربما بنوع من اليقين المفتوح، أن وراء قول: كل بدعة ضلالة...وتبعاتها،ثمة نسب أنثوي فاعل وملهِم، ويدعو إلى تمرد المخيال على نفسه وصاحبه، بمقدار ما يحرّض العقل ذاته بأن ينمحي أمام صورته المقولِبة له، ليموت وينبعث في هيئة جديدة، كما هو شأن الكم اللامحدود من البراديغمات، أي ضروب التنوع، وزيف كل محوَّل محروس عن جينة السرد.
ليس لولد زنى، أو اللقيط أب، هذا يسمح له بأن يكون في عهدة أمه/ والدته التي تتكفل بإثرائه :
ليس للزنى قانون ضابط له. وأنا أتحدث عن فعله في نفسه وفي وسطه. إنما ما يبقيه فائضاً على كل ما يلمّح إليه، أو يذكّر به، إنه شكاك في أمره، غير واثق من نفسه، أو غير مطمئن إليها البتة طبعاً، ذلك عائد إلى خاصيته العضوية أو الجينومية، لأنه لا يحمل مورّثاً يقبل الخضوع لتحليل ما من نوع مخبري " طبّي " أو زمرة تصنّفه ويقيَّم نوع دمه بالطريقة هذه. ثمة خلطة في دمه، وهي خلطة تجعله مكْرمة متجذرة في تكوينه الحيوي، وأهلاً لأن يتنوع من الداخل، فلا يثبت على وصفة أو خاصية توصيفية معينة، جهة هيئاته طباعاً وأوضاعاً، وما يترتب على ذلك في إبراز التأثير في محيطه، وما يرفع من شأن الوقائع، فيكون المسمى لغوياً كثير التنوع، ومشكّلاً محكاً دائماً لكل تغير، فينتفي سقف ثابت لرؤية الأشياء، وحساب دقيق لكل عنصر داخل فيها.
أن يكون السرد سليل زنى أو لقيطاً، أو يبقي المتعة في الحيوية المستمرة والمنشّطة لما يجري وصفه أو تحويل المحسوس والمتخيَّل إلى كلمات محبوكة بطريقة معينة، وضمن نسق كلامي معين شفاهة أو كتابة، وثمة حدث أو أحداث تدخل " مطحنة " اللغة ، لتخرج تالياً في كلمات لها دلالتها، وكما هي قاعدة بناء الجملة، والمعنى المتولد منها، ومسار خطي معلوم هنا وهناك.
السرد بموصوفه هذا هو الذي يعطي متعة النص، أو لذته صلاحية التناوب بين صفة الوارد تخيلياً، وجهة القائم في سرد كلامي أو كتابة معينة، وما في هذا الأثر من متعة متداخلة مع الموسوم نصاً، في فراغاته أو ثغراته التي تنشّط فضيلة المساءلة عما يعتوره من نقص معين، وما يهيب بالقراءة أو عملية الحوار والمناقشة في أن يكون للتفاعل طقسه المفتوح والملهم والباعث على المتعة، وهذه لا تتوقف عن تفعيل علاقات جديدة دونها تتلاشى المتعة، أي يفقد السرد كل معنى له أو قيمة أو حتى تسمية فعلية، يستحقها، أي باعتبارها سرداً .
ذلك من مناقبية السرد الذي يحمل بصمة الأنثوي باستمرار، وفي العمق، ويشهّر ضمناً بسلطة ذلك المعروف بـ" الآمر- الناهي " الأب، بتاريخه التليد والرهيب، و" بيته " الذي يمثّل حضور ذكوريته، وحيازته لكل ما هو قائم فيه وفي محيطه تعبيراً عن تداولات منطق القوة هذه. بينما في حال الأنثوي فلا قيامة لبيت كهذا، إنما لبرّية تبقي السرد شاهداً على لاتناهي خصوبتها، وما يجعل من هذه الخصوبة ذاكرة فردية وهي تجمع قوى كونية هائلة ومهيبة داخلها، هي المعين الذي لا ينضب أساساً للسرد الذي يطنَب في وصفه، بتاريخانيته، ومأثرة الذكوري المعززة .
علامات غير منطقية
الحديث عن المنطق، وما للمنطق من قدرات وطاقات وإمكانات معتبرة وهيئات كذلك، وسلطات موزعة بين تضاعيفه، في ترتيب معينللعالم الجاري وصفه أو استدراجه إلى متن الكلام في مختلف وظائفه الحسابية، التاريخية، الاجتماعية، الفلسفية وغيرها، لا ينبغي الخروج على قواعدها، وجانب المحاسبة المعلومة، حديث عما هو مؤطر، وما هو مرصود من الداخل. أي إن كل ما مسموع أو جار استخدامه بصورة مغايرة، محوَّل إلى الخارج، ومحل ريبة، ويُقتَص منه .
ربما هوذا حال السرد. الأب، بوصفه السرد المحْكم، يعلو ولا يُعلى عليه " أرضياً هنا "وما يقوله هو ما يشكل امتداداً لسلطته، وما يخرج باسمه مفرداً وجمعاً، يحمل إمضاءته طبعاً، في كل ما يشرّع للحياة، وما يقوعد العلاقات الاجتماعية، ويشغل الدستور أو القوانين الموضوعة.
خارج الأب، خارج المعلوم والمعزَّز بقوة رعائية" أو فارضة ومشرعنة، يكون اللامحكم، ما هو حياتي، اللاسرد باللامحاط به، أي تكون الأنثى: الأم المحررة من هيمنة الأب، والتي تتعهد ضمناً أو تقديراً بمنح ما هو حياتي ما يبقيها أكثر مما هي عليه قوة، وما في ذلك من انعطافات، أو من خروقات هي الأصل المفصلي لكل ما نعرفه في التاريخ من ثورات واستجابات للتغير .
أقولها هنا مباشرة: إن الإبداع أنثوي في عمقه. وكل مبدع، ومالك قدرة فكرية، وعلمية مغايرة، لا يعدو أن يكون في صميم مكوّنه النفسي أنثوياً، لأن المركَّب العضوي هو الذي يسوّغ لذلك.
واهب المتعة، أو مانح اللذة في مأثرة المكاشفة النقدية، مأخوذ بما هو أنثوي، حيث إن الأم في الحالة هذه ترفع وليدها عالياً، ترضعه اللامتناهي، كما هي الطبيعة في بليغ عجائبها وغرائبها !
هذا لا يتوقف ناحية التحقق من مصداقية ذلك، على جانب الاعتراف في الكاتب، أو المتحدث، نفياً أو رفضاً قاطعاً لفعل تنسيب كهذا، تعبيراً عن جندرية موجهة، بمقدار ما يكون تأكيد هذا الأثر أكثر حيوية، وتعرية لرافض تنسيب كهذا، وتعبيراً عن مدى الاعتداد بما هو ذكوري.
الأنثوي تكاثري، متعدد الفضاءات، أهلٌ للمزيد من الانشطارات والانقسامات والتباينات، وما في هذا المحْدث الأدبي والفكري والفني، من دقة في الذي نعْلم به أو يباغتنا بجدته وبراعة طرحه.
نعم، نحن سرديون، لا بل نكون السرد مفهوماً، معلوماً ومجهولاً، سوى أن الذي ينبغي التنبه إليه هو أن هذا السرد الذي نزعم تنسيبه إلينا، من الأخطاء القاتلة التي تشهد على همجية الموجَّه بشرياً، وفي سياق المزعوم بـ " الإنساني ". أولاً، لأن الإنسان ليس هو الوحيد الذي يعطى حق إبراز هذا التنسيب. فالعالم كله شراكة قائمة، تجمل ما حصر له من الفاعلين فيها: كائنات مختلفة طبعاً، والجماد نفسه، كما هو موصوف، لا يقل اعتباراً وقيمة في منح كل ما يقال ويفكَّر فيه خارج المتردد سردياً، وما يعطي السرد حقه في تمثيله الذاتي، هو سعي الإنسان هنا وهناك إلى الانطلاقة خارج الأنانية التي يعرَف بها، وإحكام الحدود الفاصلة بينه وبين العوالم الأخرى في محيطه الأرضي، فما بالك بالمحيط الكوني نفسه؟ ذلك يمنح السرد مشروعية أخرى لمساءلة من يحتكره ضمن مواصفات محددة، ويلغي- في الحال- تلك القيمة المصطنعة والمفروضة عليه .
هل يمكن طرح مثل هذه المقولة إلى الواجهة: ليس من سرد معزَّز بأبوية معينة، إلا وفيه همجية مفعَّلة، وتسمّي المستأثر به: الذكر بجماع عصوره وطغيان معتقدها ؟!
من جهة المرأة، وباعتبارها تحمل اسماً، وبعيداً عن تنسيبها إلى دائرة الزوجية، أو العائلية، حيث تنبري السلطة القاهرة والحدودية الضاربة للرجل الذكر، والمتباهي بنوعه، لتكون هي الرافعة الكونية، وليس الكوكبية وحدها، في إطلاق سراح السرد من قمقمه الذكوري، ودونما رجعة هنا.
وعلي أن أعزز مقولة ثقافية، أطرحها توضيحاً لمفهوم السرد، وهي أن السرد كبذرة، لا ينحّي الذكر كقيمة مشاركة في صنعه أو نشأته أو تنميته أو حضوره بمواصفات متحولة، بمقدار ما يكون هذا السرد، وفي تصور كهذا، موسّعاً الحدود ودون تحفظ: ثمة حضور للذكر، وحضور للأنثى، سوى أنه ، وفي ضوء المستجدات، وبغية توضيح مشهد السرد، بدقة أكثر، تبقى بصمة الأنثى هي العلامة الفارقة، ليس من باب إنقاص سلطة الذكر، وإنما تنوير العلاقة بينهما، حيث إن الدفع بسلطة البصمة هذه نحو الأنثى، لا يهمّش الذكر، إنما يوجّه أنظارنا إلى نوع الفعل، وهو ما يفيد الرجل أو الذكر، ويعينه في مكاشفة نفسها، وتاريخها الطويل الأحادي الجانب كثيراً، بمقدار ما يخرجه ذلك من وهم المعطى له، تاريخياً، وتبعات ذلك سلبياً. والسرد كأول ضحية له .
ربما يرفض فيلسوف في مقام أفلاطون، كل ما يخصه بالسرد، وينتفض في كلّيته، مع التذكير بما هو أنثوي، سوى أن الاسم- اللقب الذي عرِف به" الأكاديمية " جهة البستان الذي كان يعلّم فيه، أو وهو يطرح أفكاره وتصوراته، كان يمثّله وهو في هيئة طفل صغير يرضع من صدر أنثى هائلة وبارعة التكوين، وهي تمنحه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر قبله على بال بشر، وفي كتابه " الجمهورية " في تركيبه الهندسي، وفي محاوراته المختلفة، ثمة رائحة أنثى وقدرتها الفذة في تحريك أفكاره ومفرداته، ووجهة حواراته رغم وفورة السلطة الذكورية، لكنها الأنثى هي التي تشكل العلامة الفارقة في تعزيز سرد فكري، يتخذ ألواناً وأطيافاً.
ألم يكن سرفانتس مسكوناً بتلك الحسناء التي فتنته، ولسردها الطويل والمتلون شهادة تخليد لاسمه تالياً، كما لو أنه يولد مع كل عملية قراءة؟ ذلك من شأن متحري السرد تبيّن هذا النسب الأنثوي؟
ألم يكن دافنشي الفنان والمتعدد المواهب حصيلة هذه التوأمة الجنسية، وللأنثى حضور نافذ في تكوينه الحيوي والإبداعي؟ سرد يخرج عن نطاقه الضيق، ويتعدى المألوف فيه، بما لا يقاس!
لا تعود اللغة، بالطريقة هذه، قادرة على التعبير عما يجري، وبوصفها منتظمة بلسان ذكوري، قادرة على المضي بالشهادة الداعمة لسلطته، والإعلاء من شأن الكوني، وفي محميته، وإنما ما يغيّر في مسارها بالذات، والدفع بها إلى الاعتراف بالجرم التاريخي المرتكب بحق اللغة عينها.
إن شاعراً حين يتغزل بالمرأة، ويظهر مفاتنها، ولا يدخر جهداً، ومن موقعه كرجل، ومعطى ذلك الامتياز الذي يشرّع له فعل التباهي بذكورته في توصيف المتعي فيها، ومن وجهة نظره، إنما في قرارة نفسه، ومن حيث لا يحتسب، يكون المأهول بتلك القوى العائدة إلى المرأة: الأنثى التي لا يمكنه التنفس دونها، وعملية القلب الدلالية التي تعرّيه من الداخل وفي لاشعوره الجماعي التليد!
ثمة صعوبة بالغة بالاعتراف بهذا الجرح العميق" الصدْعي" والذي تسبب من وراء هذا التحريف التاريخي لمفهوم السرد، وهو من حيث التقويم " جرْم جنائي- أخلاقي " لا أظنه يدفَن أو يُنهى أمره بالتقادم، بمقدار ما يفصح عن عميق حضوره في كل متغير قولاً وكتابة، وهو لا بد أنه باق، ما بقيت حياة، حتى تعاود المرأة: الأنثى البارعة سلطتها الرمزية، وتسوية الكوني، أي حيث يعلّمنا السرد، والذي يعهَد في انعطافات تترى إليها، ما ليس نعلم: سرد يتعزز سلماً، أكثر مما يتعزز حرباً، أو صراعاً دامياً، أو مكائد تتناسل هنا وهناك، هي من صنع الرجل، ومن تلك الأوهام التي يعتقدها منذ الأب الأول للبشرية، ودمغة قابيل الجرمية لا تخفى في سياقها، ولهذا، تكون الدرامية بخاصيتها الصادمة، شغالة السرد في الحكايات، القصص، الروايات، المسرحيات وكل أصناف الكتابة، عبر بؤر التوتر القائمة، مع انتشار الظلال المعتمة والرطبة للذكورة.
نلاحظ مثلاً، في الأثر الحكائي الملحمي الطابع " ألف ليلة وليلة " كيف يمارس السرد أدواره الجهنمية، وبرعاية ذكورية: شهريار هو المؤثّر الأول، وإن كان المستمع الأول، ويا للمفارقة الكبرى، وهو ملِك، ولديه هذه القدرة الرهيبة على الإصغاء إلى صوت شهرزاد، مع ما يؤخَذ بعين الاعتبار من سلطة فاعلة له، وديمومة الإصغاء، من فاعل ذكوري قاتل، إلى حكاءة، في أول عمرها، كما هو مقدَّر، ودون مقاطعة، لتكون هي سرده المتوخى، كما هي حصيلة مجموعة الحكايات الألف ليلاتية وليلة مضافة علامة المعجز من ناحية، وإغلاق محضر ضبط المسرود وإبراز السلطة المطلقة والمعترَف بها أنثوياً، ومن خلال ولادتها لثلاثة أولاد ذكور، من ناحية أخرى، وهو ما يصدم كل واعية أنثوية. أليس تصرف جمانة حداد الرد فعلي، في رفضها لهذا المشيد في " ألف ليلة وليلة " سرداً ثقيل الوطء، تعبيراً عن هذا المعمول، ونعياً له؟ وقد " قتلت " شهرزاد الساردة واجهةً، المسرودة ضمناً، في محاول محو كل أثر لشهريار الطافح بالذكورة!
ذلك ما يوسّع مداركنا الثقافية، لنولِي اهتماماً بما هو قائم على أرض الواقع، جهة السرد الذي يشهد انشطارات، وتعابير شاهدة على أن هناك ما يجري في الواقع، ولم يعترَف به، كما يستحق هذا الواقع في محتواه، وما يناسبه من لغة أخرى تعبيراً، وما يناسب اللغة هذه سرداً يخرج عن كونه السرد المعهود، أي السرد الأبوي: الذكري، وقد خرج عن معلومه، في رعاية أنثاه هنا !
ما يعِدُ به السرد سليل أنثى أو لقيطاً
أن يكون السرد سليل أنثى، لقيطاً، هو رفع حالة الجاهزية للقول أو الكتابة، إلى مستوى غير مسبوق، عندما نمارس مسحاً ميدانياً وسيميائياً لهذه الجمهورة المتوافرة بين أيدينا من الكتابات، وما يأتي في صيغة أقوال ومشاهدات، تصريحات أو إعلامات، تترجم من جهتها، ببنية ما هو جار ٍ، وما يحسّسنا بما يجري، وبما يمكن أن يجري أو يحدث في الآتي القريب، في ضوء ما كان طبعاً، وما يدفع بنا إلى الارتقاء إلى هذا المستوى المغاير سرداً، لما كان بالمقابل .
ذلك، من مناقبية السرد وهو يتنفس، أو يتكلم في المحمول باسمه كلاماً وكتابة، أنثوياً. إن الذي يهمني النظر فيه، ولو من خلال إشارات عابرة، ولكنها تميط اللثام عن أكثر مظاهر القول والفعل حضورَ أثر، وتلبساً بالجريمة المرتكبة بحق السرد، وكيفية الحجْر عليه، لأسباب كثيرة، يهمني هنا التأكيد على أن السرد هذا، وبما جرى ويجري الربط به، أنثوياص، هو أن السرد لا ينام. هل سمعتم، أو رأيتم بالعين المجردة أن أماً تنام، أن المرأة تنام في حقيقة أمرها فيزيزلوجياً؟
في هذا السياق الهائل الأبعاد، يكون السرد في مقام سليل زنى، أو اللقيط، ما يغيّب الفارق الكبير والمحسوس بين تنوع الأجناس الأدبية، بين ما هو فكري- فلسفي وأدبي أيضاً، ليس لأن هناك ما جرى ويجري التخطيط به، تبعاً لمفكَّر فيه، مشروعاً أو ورشة عمل معينة، وإنما ما يشكّل تنبهاً، وإن جاء متأخراً لما يكون من حق السرد أن يعرَف به، وفي حقيقته، ما هو فاعل، ولم يُسمَّ.
على سبيل المثال، كيف يمكن التعريف بناتالي ساروت؟ بم، وكيف تخبرنا كتاباتها المختلفة، وضمناً رواياتها، عن طريقة تعاملها مع محتوى الكتابة، كسرد قائم، قائم لا يقوم على رِجْلين، أو أربع أرجل، إنما يكون أخطبوطياً، إنما يكون سلطعونياً حيث التحرك في كل اتجاه. كما لو أنها تترجم بعضاً ما يدخل في رصيدها الجندري، وعمره ألوف مؤلفة من السنين، وقد صدَر حكم بلا رجعة، عليه، بأن يلتزم الصمت، تحت طائلة المسئولية، على وقْع الانقلاب الذكري، وهو يدفع بسرد الذكوري ليكون الآمر الناهي في الجاري وضْعه: صيغة سرد أو ميكانيزم العمل بموجبه .
لا أزمنة مألوفة، لا معايشة لتلك العلاقات بين الأسماء والأفعال، والواقع المتمثَّل والمتداول فيما بيننا، كما هو المعايَن هنا وهناك، إنما ما يتبع كسراً، شطباً، تشطيراً جينياً متتابعاً، كأن نقرأ في التعريف برواتها " الفواكه الذهبية " 1962 " :
(هذا العمل لناتالي ساروت ليس له طابع ولا مؤامرة. بطلها رواية ، الفواكه الذهبية ، وموضوعها ردود الفعل التي تثيرها هذه الرواية والاستقبال الذي تتلقاه لدى من يحبونها أو يرفضونها.
إنها ليست مسألة رسم الواقع المرئي والمعروف. مغامرات بلزاكيةالمحيطة بإصدار كتاب ليس من اختصاصناتالي ساروت. حيث لا يتعلق الأمر هنا بالناشرين ولا بالإعلان ولا بألعاب الجوائز الأدبية. إن مؤلفة كتاب الفواكه الذهبيةLes Fruits d'Or غائبة أيضًا. ليتم عرض هذه الإجراءات الدرامية غير المرئية والدقيقة للغاية فقط ..
ولا ينبغي لنا أن نقول هذه القصيدة أيضًا ، فالكثير من هذه الصورة الروائية الجديدة هي الحدود التي تفصل تقليديًا الشعر عن الرواية المشوشة. ).
ثمة التصعيد بلغة السرد، كما يليق بالسر، اعتراف عميق بالخطأ التاريخي الكبير، والذي أفصح عن المزيد من الانحراف في تاريخ كتابة السرد، وليكون لبصمة ساروت الإشهارُ العلاماتي بأن الذي اعتمدتْه هو المعبّر الدقيق عن بنيتها الأنثوية وثراء المغذّي لكينونتها بالمقابل .
إنها تغيب، كما هو المقدَّر في خطاب السرد المألوف، لأنها تكون قد أدركت دور السرد، كما يليق به، وكما هو منتظَر، ليكون تعبيراً عن نقلات نوعية في سجلّه، تعظيماً لواقع استثنائي وفاعل.
هكذا الممكن النظر فيه، في سياق ما هو لا خطي، ومتيقَّن منه، في ضوء الفوضى، أو " الكاوس: التشاوس " حيث الزمن خارج التصنيف، والحدث لا يحاط به، كعيّنة مخبرية، ولأن الواقع شهد انفجارات في وجوه مكوناته، وما يجعل أي صيغة سردية قائمة بائسة. كما هو الجاري اتباعه، وبتنوع قادر على خلْق المفاجأة وإثارة الانبهار لدى القارىء الذي يتفاعل مع النص المقروء، بمقدار ما يعيش هو نفسه سرده في تبار ٍ مع سرد النص الموضوع أماماً، وما في هذا التقابل من تشديد على أن وجوب تكافؤ معين بينهما، ليقول السرد شهادته المعتبرة.
كما هو شأن كتابات موريس بلانشو، وأنا أطرح أمثلة مقاربة للواقع الذي منه وفيه أبصرت كتابات بلانشو نفسها،ومن ذلك " الانتظار النسيان" العنوان المربط للذهنية المألوفة قراءة وكتابة، كأن نقرأ هذا المضيء لهذا العمل الروائي النوعي، تبعاً لما يذهب إليه الناقد مكسيم ديكو، في بحثه عنه " موريس بلانشو: فينومينولوجيا السردMaurice Blanchot : une phénoménologie du récit:
( تتداخل نصوص بلانشو مع التفكير في الوجود في العالم والسرد ، المرتبطين ارتباطًا وثيقًا ، لذا تقترح النظر إلى الكائن المتكلم في علاقته الوثيقة بمثال سردي. وفي الواقع ، فإن أي وضع للكلمات ، يتعلق بمقاربة الراوي ، يحد محاولة لفهم واقع أصبح موقعًا للابتسام. بما أن "الحاضر الحي ينبع من عدم هويته مع نفسه ، ومن إمكانية التتبع المتراجع" ، لأنه "دائمًا أثر بالفعل" ، فإن اللفظي سيكون النظام الوحيد القادر على الاقتراب من العالم ، ولكن بدون ولكن القدرة على جعلها في حالتها الزائلة للظهور الفوري. بهذه الطريقة ، يعرض بلانشو كل المحاكاة وكل إخفاقات القصة ، والعديد من خطوط الشقوق التي تمزق من الداخل في البحث عن فهم العالم. كما أن الراوي هو الذي لديه المهمة الصعبة المتمثلة في تسمية العالم. هذا هو بالفعل الدور الذي لا يرى فيه "أنا" الإنسان الأخير نفسه ، لأن "الاسم نفسه يفرق بيننا". من خلال إجبار الشخصية التي هي آخر رجل "على التعرف على نفسه بهذا الاسم" ، يضع الراوي "فخاً" له. أي محاولة لفهم الكينونة ، خاصة النص أو اللفظية ، ترفقه. وهنا تكمن مفارقة السرد في بلانشوت: الكلمة تعبر، عن التعبير لكنها "تحجب التعبير”fait écran à l’expression ).
هوذا الواقع الذي لم يعد يُنظَر إليه بوصفه السلبي، والجاري التصرف به بمعايير ذوقية دون مراعاة لسلطته المحتسبة، وهو ما سجّل خطأ فاحشاً على الناظر في مرآة ذاته الضيقة الإطار.
وهو الواقع الشديد التنوع الذي يمكن مكاشفته في مختلف النصوص التي تستحيل سردية من خلال تلك النوعية اللافتة من البناء البناء التعبيري لوقائع قائمة، ونظيرتها ذهنياً وتفاعلاتها.
أليس الذي ركَّز عليه ميشيل فوكو، في كتاباته " حفريات المعرفة "، مثلاً، تجسيد لامرئيّ في التداخل مع المرئي، والمنبني على سرد قيّض له أن ينتظر زمناً ليستغرق أزمنة بعد تعميق فعله، وفي العنوان نفسه، ما ينوّه إلى أن السرد الذي كان ينبغي تغيير النظرة إليه، كان " رهين المحبسين " إن جاز التعبير: رهين التسمية، من جانب واحد، ورهين الواقع المحجَّر عليه كذلك .
وفي حال جاك دريدا، ما يزيد مفهوم الكتابة التي يتفاعل فيها الفلسفي والأدبي" لنستعيد هنا ما كان يعرَف به هيراقليطس في " شذراته " المتألقة قبل خمسة وعشرين قرناً، وما اشتهر به نيتشه في كبريات نصوصه التي يتعايش فيها الفلسفي والأدبي، الإنساني والحيواني والنباتي تقديراً، وحيث إن دريدا تغذّى جيداً بكل هذا الزاد الكوكبي كثيراً، وآثر هضْمه ليطرح نصوصاً تحمل آثار هذا الإجراء، كما في : الكتابة والاختلاف، هوامش الفلسفة، المهماز، الانتثار...إلخ .
وما يمكن أن يقال في أمر: كافكا، خوان رولفو، بورخيس، ماركيز، فيرجينا وولف، توني موريسون، مارغريت دورا، جنكيز إيتماتوف، في " تمويل " المفهوم " بالمزيد من ذلك الرصيد الواقعي وتحريره من سلطة المحطور قولاً أو فعلاً، وبصيغ شتى....إلخ.
ويسمح لنا كل ذلك، أن ننظر في القريب منا، وفي محيطنا، وكيف بدأ نجم السرد سليل زنى أو لقيطاً، من خلال هذه الهمم في الكتابات التي تشهد انتشاراً لها، في أعمال غادة السمان، إبراهيم الكوني، واسيني الأعرج، نبيل سليمان، سليم بركات، أحلام مستغانمي، رجاء عالم،برهان شاوي.. وفي أعمال روائية لاحقة، لمن أتابعهم عن كثب : جان دوست، إبراهيم يوسف، يونس الأخزمي، هيثم حسين، مها حسن، وبصورة خاصة، لدى الكاتبات اللواتي يشعرن أنهن ظلمن من ينتمين إليه، طويلاً، وهو ينبض داخلهن، أي السرد بمفهومه المطروح هنا. فالسرد بنية ومقاماً وأداء عمل، هو الذي يهدد كل ما جرى التعامل معه، ووقّع، ربما، باسمه على بياض، مسلّمة، وهو ليس كذلك في الذي يعرَف به ولا يعرَف به، بما أنه يرفض الانتماء إلى أي خانة توصيف، إنما الدفع بكل توصيف، أو تعريف، أو تأطير، مثال " الباررغون " الكانطي- الدرّيدي، محرراً من الإطار، أو الهامش، وهو المفتوح دائماً على المغاير له، والبرّية هي عنوانه اللاعنوان الأمثل له ( ينظر مثلاً، ما أفصحت عنه مها حسن في سرديتها السيرية : أحد يسكن رأسي، ولا علْم لنا أين يسكن رأسها تفكيراً وتدبيراً وتخيلياً، حيث تتم مقابلة المأتي به أنتي سرد للسائل أبوياً .
لعلي هنا أستطيع القول على أن العمل بموجب سرد هكذا، ينتمي إلى مرحلة ما بعد الكولونيالية، حيث يجري تحرير النصوص معمَّدة بماء الحرية، وبما هو لا حدودي، يشكل انعطافة فعلية، لتفجير الذاكرة المجتمعية المنمطة قسراً، وإطلاق سرح الألسنة التي ألجمت سلطوياً، وما في هذا التحول النوعي، من " سعادة " نوعية بالمقابل، لما هو إنساني، ومن يعانون محظورات تطالهم في انتمائهم الاجتماعي، السياسي، الجندري، والقومي، بمفهومه الواسع، وفي نطاق عوالمي راهنا، كما تعلِمنا اللائحة الكبرى من هذه الحضورات المختلفة للكتابات وإيروسياتها المختلفة في توجهاتها، وفي مضامينها، وتوقها إلى المزج بين مكونات الأدب والفكر، وتيمة الكوني بامتياز.
وما يوسّع الدائرة حيث ترفَع الحدود بين المعتبَر شعراً ونثراً، لأن الجنس المقروء، وهو هجين، ينشّط ذاكرة القارىء الفردية، إن أراد لها أن تنتعش بالمقابل، لتستحق انتماء إلى يومها وغدها.
وربما في ضوء هذا الذي جرى تسطيره ما يعدُنا بالآتي المختلف، فالذي نعيشه هنا وهناك، حيث الكم الهائل من الكوارث وما يمكن توقعه، لا يستطيع سوى سرد من نوع سليل زنىً حصراً أو لقيط، وبجلاء، أن يفلح في اجتيافه وإيفائه حقه النسبي، إنما في سياق متعة تسجَّل باسم الآتي، الآتي وليس سواه، وبالطريقة هذه، يكون " ابن الحرام " هذا، هو ما يمنحنا " حلالاً محتفىً به.
لن يكون السرد سرداً إلا إذا أفصح عن لاسرديته، تعبيراً عن لانمطيته. فلكَم أحيلَ السرد وهو يخضع لمنطق التمثيل التاريخاني هنا وهناك، كما لو أنه مشدود، كخيط، إلى بكرة " كبكوبة " السارد باعتباره المرجع أو الحامل له.وما في ذلك من تأطير له. وما في ذلك من إحكام الطوق عليه، واستحالة ربطه بما هو حياتي متغير، بما هو انعطافي، وخاضع لتلك التقطعات التي تحدث بلبلةً في وعي الباحث في أمره، وليس المنتقل " من – إلى "، حيث إن الجاري حدوثه واقعاً، وما في ذلك من انقلابات رؤى، وتحول مصائر مباغت، يحرّر الكتابة الفعلية من أي خطية مسلَّمة.
في مكاشفة صغائرية " ميكروسكوبية " من المستحيل بمكان، النظر في السرد بتلك اليقينية، أو تلك الصراطية المعهودة كثيراً، في بنية الكتابات التي تجد صعوبة في التنفس خارج جسد معهود يضيق عليها الخناق، ويسهم في إفقارها، بمقدار ما يضمحل تدريجياً وتفقد حيويتها تلك.
هو ما يمكن تبيّنه في المفهوم: اللامفهوم واقعاً للواقع، لأن بناه تعمل على النقيض من بنى الفعل الذي يتخلل قول السارد المعلوم، أو الكتابة المسطورة، وما في ذلك من مأزق مزمن معتَّم عليه.
ما يعلّم هو المجهول المستمر الذي ينظَر إليه، أو كما هو مرتقَب في أفق الرؤية الواسع، والذي يدفع بأي فكرة ، مهما كان نوعها أو جنسها، في أن تخضع للّاتوقع، طالما أن السرد يمضي إلى الآتي، وليس من ضمان لمعرفة ما سيكون عليه الآتي هذا، ليكون في مقدور السرد أن يحافظ على سويَّة معينة " نمطية متداولة " وإمكان توقع القادم قبل حلوله أو حدوثه، وقد جرى التركيز على أن السرد هو في أكثر تمثيل مجازي له، يجعله ملاصقاً للحقيقة، يكون سليل زنى أو لقيطاً.
وإذا كان المشهد الممكن تتبّعه بالهيئة هذه، فأي سهم أنثوي يحضر بعدده وعدته في تلوينه وتكوينه؟ بمعنى آخر: إلى أي درجة، يحدثنا ابن الزنى " السرد " هذا " أو لقيطه عن " أمه " التي لا نعرف عنها شيئاً سوى أنها أنثى، وأنها أُخصِبت سابقاً، وولّدت زنى/ لقيطاً، ولنكون بالتالي إزاء تأشيرة مغايرة لما يخص السرد، وفرحة بالموعود المؤثر في إثرائه بما لا يقال، لحظة الربط بين كون السرد، كما هو المتردّد عنه، معرَّفاً به، وما يطرحه ولدَ زنى/ لقيطاً ؟
أزعم هنا، ولا أقول " أجزم " انطلاقاً من الممكن قوله حول هذا التنسيب الصادم لأذواق الكم الأغلب من السرديين، أو المعبّرين عن السرد في نمطيته، وهي بقالبها التقليدي الذكوري أيضاً.
بصمة الأنثوي في السرد
كما نوَّهت آنفاً، فإن أول الممكن قوله، هو أنه بمجرد النظر إلى السرد بعيداً عن كونه مجرد تصور معطى، أو متَّفق عليه، كما هو المصطلح المذكور في زمان ومكان معلومين، وإنما على أنه كائن حي، ويستحيل تقديم تعريف به أو تقديم توصيف له، لأنه لا يتشخص، لا يتجسم، لا يخضع لقياس معين في الطول والعرض والعمق والوزن، لا يخضع لتحليل مخبري كيميائي أو مقاربة فيزيائية، لتبيّن بنية جاذبيته في جعْله استقطابياً ، أو محورياً، إذ إن مفهوم" المحوري " يحيله إلى ما هو دائري، أو محكوم ببداية ونهاية، وهو خلاف ذلك تماماً، كما تقول الحياة من خلال معطياتها الكبرى أو مستجداتها، كما تقول الوقائع الكبرى، وتلك الصغرى، التي يستحيل البت في حقيقة وضعها، لا بل كما يقول الواقع نفسه، وهو معايَن من قبل كم هائل من الناس العاديين جداً، وليس مجموعة كتّاب لهم تجربتهم المعهودة في الكتابة، فينطلق كل منهم، وملؤه سعي إلى أن يقول مختلفاً، مما هو جامع بين الجميع، وليثبت ذلك، عن وعي، واحتماء بمخياله الثقافي، الفكري، الأدبي...إلخ، والواقع يظل مأخوذاً بلاتناهي أقنعته وأشكاله وألوانه.
السرد يعيش طليقاً، مأخوذاً بقانونه الذي ينحّي كل منطق قياس جانباً، وجينوم الحركة والصورة الممكن تخيلها أو توقعها له، خارج كل توقع، هذا لأن هناك خروجاً على كل أبوية معلومة، أو " خانة الأب " والوالدية المحكومة بالزمان والمكان أو تاريخ الولادة. السرد يتقطع، يكبر، يصغر، أو يعيش تفاعلات، عائدة إليه وحده. هذا لأنه في محْكَم وجوده تكاثري، أي أنثوي باقتدار!
وحدها الخيانة الزوجية، وما يشكل إطاحة بالزوج، باسمه المعتاد، جانباً، يثاب عليها الكاتب، لأن في ذلك من مصلحة الكتابة عينها، وإنصافاً مثمراً للواقع الذي يأتي في مكاشفته تخيلياً مختزلاً.
ماالذي يحفّز لدي إرادة الدفع بالمفهوم المأثور بتاريخه التليد وذي الهيبة، إلى ركاب الأنثوي؟ إنها ليست إرادة ضاغطة من الخارج، إنما ما يرفع سقف الرؤية، ويوسّع في محيط تدفقات أفانين السرد، وما هو خارج المسمى، جرّاء متغيرات الواقع، وما هو خاضع لمنْع التسمية، أو ممنوع التفكير فيه، لأسباب عرفية: علموية، أو أكاديمية محروسة، أو مدرسية متيقَّن بها كثيراً، حيث إن ما يشكل دعماً أو إسناداً لسرد يعيش خارج سربية أوصافه، أو ثكنة تصوراته، هو نفسه هذا الذي يحيل أياً منا إلى الواقع والنظر في هذا الخضم الذي يتعدى نطاق" الشاطىء " ويغمره إلى مساحات بعيدة، وثمة ضحايا بالمقابل، على وقع التنميط في المفهوم، وما في هذا التثبيت للصورة النمطية، من لفت النظر إلى طغيان الأبوي: الذكوري أسَّاً، وحجْب الرؤية عن الأنثوي وبدعته. وأحسب، هنا، وربما بنوع من اليقين المفتوح، أن وراء قول: كل بدعة ضلالة...وتبعاتها،ثمة نسب أنثوي فاعل وملهِم، ويدعو إلى تمرد المخيال على نفسه وصاحبه، بمقدار ما يحرّض العقل ذاته بأن ينمحي أمام صورته المقولِبة له، ليموت وينبعث في هيئة جديدة، كما هو شأن الكم اللامحدود من البراديغمات، أي ضروب التنوع، وزيف كل محوَّل محروس عن جينة السرد.
ليس لولد زنى، أو اللقيط أب، هذا يسمح له بأن يكون في عهدة أمه/ والدته التي تتكفل بإثرائه :
ليس للزنى قانون ضابط له. وأنا أتحدث عن فعله في نفسه وفي وسطه. إنما ما يبقيه فائضاً على كل ما يلمّح إليه، أو يذكّر به، إنه شكاك في أمره، غير واثق من نفسه، أو غير مطمئن إليها البتة طبعاً، ذلك عائد إلى خاصيته العضوية أو الجينومية، لأنه لا يحمل مورّثاً يقبل الخضوع لتحليل ما من نوع مخبري " طبّي " أو زمرة تصنّفه ويقيَّم نوع دمه بالطريقة هذه. ثمة خلطة في دمه، وهي خلطة تجعله مكْرمة متجذرة في تكوينه الحيوي، وأهلاً لأن يتنوع من الداخل، فلا يثبت على وصفة أو خاصية توصيفية معينة، جهة هيئاته طباعاً وأوضاعاً، وما يترتب على ذلك في إبراز التأثير في محيطه، وما يرفع من شأن الوقائع، فيكون المسمى لغوياً كثير التنوع، ومشكّلاً محكاً دائماً لكل تغير، فينتفي سقف ثابت لرؤية الأشياء، وحساب دقيق لكل عنصر داخل فيها.
أن يكون السرد سليل زنى أو لقيطاً، أو يبقي المتعة في الحيوية المستمرة والمنشّطة لما يجري وصفه أو تحويل المحسوس والمتخيَّل إلى كلمات محبوكة بطريقة معينة، وضمن نسق كلامي معين شفاهة أو كتابة، وثمة حدث أو أحداث تدخل " مطحنة " اللغة ، لتخرج تالياً في كلمات لها دلالتها، وكما هي قاعدة بناء الجملة، والمعنى المتولد منها، ومسار خطي معلوم هنا وهناك.
السرد بموصوفه هذا هو الذي يعطي متعة النص، أو لذته صلاحية التناوب بين صفة الوارد تخيلياً، وجهة القائم في سرد كلامي أو كتابة معينة، وما في هذا الأثر من متعة متداخلة مع الموسوم نصاً، في فراغاته أو ثغراته التي تنشّط فضيلة المساءلة عما يعتوره من نقص معين، وما يهيب بالقراءة أو عملية الحوار والمناقشة في أن يكون للتفاعل طقسه المفتوح والملهم والباعث على المتعة، وهذه لا تتوقف عن تفعيل علاقات جديدة دونها تتلاشى المتعة، أي يفقد السرد كل معنى له أو قيمة أو حتى تسمية فعلية، يستحقها، أي باعتبارها سرداً .
ذلك من مناقبية السرد الذي يحمل بصمة الأنثوي باستمرار، وفي العمق، ويشهّر ضمناً بسلطة ذلك المعروف بـ" الآمر- الناهي " الأب، بتاريخه التليد والرهيب، و" بيته " الذي يمثّل حضور ذكوريته، وحيازته لكل ما هو قائم فيه وفي محيطه تعبيراً عن تداولات منطق القوة هذه. بينما في حال الأنثوي فلا قيامة لبيت كهذا، إنما لبرّية تبقي السرد شاهداً على لاتناهي خصوبتها، وما يجعل من هذه الخصوبة ذاكرة فردية وهي تجمع قوى كونية هائلة ومهيبة داخلها، هي المعين الذي لا ينضب أساساً للسرد الذي يطنَب في وصفه، بتاريخانيته، ومأثرة الذكوري المعززة .
علامات غير منطقية
الحديث عن المنطق، وما للمنطق من قدرات وطاقات وإمكانات معتبرة وهيئات كذلك، وسلطات موزعة بين تضاعيفه، في ترتيب معينللعالم الجاري وصفه أو استدراجه إلى متن الكلام في مختلف وظائفه الحسابية، التاريخية، الاجتماعية، الفلسفية وغيرها، لا ينبغي الخروج على قواعدها، وجانب المحاسبة المعلومة، حديث عما هو مؤطر، وما هو مرصود من الداخل. أي إن كل ما مسموع أو جار استخدامه بصورة مغايرة، محوَّل إلى الخارج، ومحل ريبة، ويُقتَص منه .
ربما هوذا حال السرد. الأب، بوصفه السرد المحْكم، يعلو ولا يُعلى عليه " أرضياً هنا "وما يقوله هو ما يشكل امتداداً لسلطته، وما يخرج باسمه مفرداً وجمعاً، يحمل إمضاءته طبعاً، في كل ما يشرّع للحياة، وما يقوعد العلاقات الاجتماعية، ويشغل الدستور أو القوانين الموضوعة.
خارج الأب، خارج المعلوم والمعزَّز بقوة رعائية" أو فارضة ومشرعنة، يكون اللامحكم، ما هو حياتي، اللاسرد باللامحاط به، أي تكون الأنثى: الأم المحررة من هيمنة الأب، والتي تتعهد ضمناً أو تقديراً بمنح ما هو حياتي ما يبقيها أكثر مما هي عليه قوة، وما في ذلك من انعطافات، أو من خروقات هي الأصل المفصلي لكل ما نعرفه في التاريخ من ثورات واستجابات للتغير .
أقولها هنا مباشرة: إن الإبداع أنثوي في عمقه. وكل مبدع، ومالك قدرة فكرية، وعلمية مغايرة، لا يعدو أن يكون في صميم مكوّنه النفسي أنثوياً، لأن المركَّب العضوي هو الذي يسوّغ لذلك.
واهب المتعة، أو مانح اللذة في مأثرة المكاشفة النقدية، مأخوذ بما هو أنثوي، حيث إن الأم في الحالة هذه ترفع وليدها عالياً، ترضعه اللامتناهي، كما هي الطبيعة في بليغ عجائبها وغرائبها !
هذا لا يتوقف ناحية التحقق من مصداقية ذلك، على جانب الاعتراف في الكاتب، أو المتحدث، نفياً أو رفضاً قاطعاً لفعل تنسيب كهذا، تعبيراً عن جندرية موجهة، بمقدار ما يكون تأكيد هذا الأثر أكثر حيوية، وتعرية لرافض تنسيب كهذا، وتعبيراً عن مدى الاعتداد بما هو ذكوري.
الأنثوي تكاثري، متعدد الفضاءات، أهلٌ للمزيد من الانشطارات والانقسامات والتباينات، وما في هذا المحْدث الأدبي والفكري والفني، من دقة في الذي نعْلم به أو يباغتنا بجدته وبراعة طرحه.
نعم، نحن سرديون، لا بل نكون السرد مفهوماً، معلوماً ومجهولاً، سوى أن الذي ينبغي التنبه إليه هو أن هذا السرد الذي نزعم تنسيبه إلينا، من الأخطاء القاتلة التي تشهد على همجية الموجَّه بشرياً، وفي سياق المزعوم بـ " الإنساني ". أولاً، لأن الإنسان ليس هو الوحيد الذي يعطى حق إبراز هذا التنسيب. فالعالم كله شراكة قائمة، تجمل ما حصر له من الفاعلين فيها: كائنات مختلفة طبعاً، والجماد نفسه، كما هو موصوف، لا يقل اعتباراً وقيمة في منح كل ما يقال ويفكَّر فيه خارج المتردد سردياً، وما يعطي السرد حقه في تمثيله الذاتي، هو سعي الإنسان هنا وهناك إلى الانطلاقة خارج الأنانية التي يعرَف بها، وإحكام الحدود الفاصلة بينه وبين العوالم الأخرى في محيطه الأرضي، فما بالك بالمحيط الكوني نفسه؟ ذلك يمنح السرد مشروعية أخرى لمساءلة من يحتكره ضمن مواصفات محددة، ويلغي- في الحال- تلك القيمة المصطنعة والمفروضة عليه .
هل يمكن طرح مثل هذه المقولة إلى الواجهة: ليس من سرد معزَّز بأبوية معينة، إلا وفيه همجية مفعَّلة، وتسمّي المستأثر به: الذكر بجماع عصوره وطغيان معتقدها ؟!
من جهة المرأة، وباعتبارها تحمل اسماً، وبعيداً عن تنسيبها إلى دائرة الزوجية، أو العائلية، حيث تنبري السلطة القاهرة والحدودية الضاربة للرجل الذكر، والمتباهي بنوعه، لتكون هي الرافعة الكونية، وليس الكوكبية وحدها، في إطلاق سراح السرد من قمقمه الذكوري، ودونما رجعة هنا.
وعلي أن أعزز مقولة ثقافية، أطرحها توضيحاً لمفهوم السرد، وهي أن السرد كبذرة، لا ينحّي الذكر كقيمة مشاركة في صنعه أو نشأته أو تنميته أو حضوره بمواصفات متحولة، بمقدار ما يكون هذا السرد، وفي تصور كهذا، موسّعاً الحدود ودون تحفظ: ثمة حضور للذكر، وحضور للأنثى، سوى أنه ، وفي ضوء المستجدات، وبغية توضيح مشهد السرد، بدقة أكثر، تبقى بصمة الأنثى هي العلامة الفارقة، ليس من باب إنقاص سلطة الذكر، وإنما تنوير العلاقة بينهما، حيث إن الدفع بسلطة البصمة هذه نحو الأنثى، لا يهمّش الذكر، إنما يوجّه أنظارنا إلى نوع الفعل، وهو ما يفيد الرجل أو الذكر، ويعينه في مكاشفة نفسها، وتاريخها الطويل الأحادي الجانب كثيراً، بمقدار ما يخرجه ذلك من وهم المعطى له، تاريخياً، وتبعات ذلك سلبياً. والسرد كأول ضحية له .
ربما يرفض فيلسوف في مقام أفلاطون، كل ما يخصه بالسرد، وينتفض في كلّيته، مع التذكير بما هو أنثوي، سوى أن الاسم- اللقب الذي عرِف به" الأكاديمية " جهة البستان الذي كان يعلّم فيه، أو وهو يطرح أفكاره وتصوراته، كان يمثّله وهو في هيئة طفل صغير يرضع من صدر أنثى هائلة وبارعة التكوين، وهي تمنحه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر قبله على بال بشر، وفي كتابه " الجمهورية " في تركيبه الهندسي، وفي محاوراته المختلفة، ثمة رائحة أنثى وقدرتها الفذة في تحريك أفكاره ومفرداته، ووجهة حواراته رغم وفورة السلطة الذكورية، لكنها الأنثى هي التي تشكل العلامة الفارقة في تعزيز سرد فكري، يتخذ ألواناً وأطيافاً.
ألم يكن سرفانتس مسكوناً بتلك الحسناء التي فتنته، ولسردها الطويل والمتلون شهادة تخليد لاسمه تالياً، كما لو أنه يولد مع كل عملية قراءة؟ ذلك من شأن متحري السرد تبيّن هذا النسب الأنثوي؟
ألم يكن دافنشي الفنان والمتعدد المواهب حصيلة هذه التوأمة الجنسية، وللأنثى حضور نافذ في تكوينه الحيوي والإبداعي؟ سرد يخرج عن نطاقه الضيق، ويتعدى المألوف فيه، بما لا يقاس!
لا تعود اللغة، بالطريقة هذه، قادرة على التعبير عما يجري، وبوصفها منتظمة بلسان ذكوري، قادرة على المضي بالشهادة الداعمة لسلطته، والإعلاء من شأن الكوني، وفي محميته، وإنما ما يغيّر في مسارها بالذات، والدفع بها إلى الاعتراف بالجرم التاريخي المرتكب بحق اللغة عينها.
إن شاعراً حين يتغزل بالمرأة، ويظهر مفاتنها، ولا يدخر جهداً، ومن موقعه كرجل، ومعطى ذلك الامتياز الذي يشرّع له فعل التباهي بذكورته في توصيف المتعي فيها، ومن وجهة نظره، إنما في قرارة نفسه، ومن حيث لا يحتسب، يكون المأهول بتلك القوى العائدة إلى المرأة: الأنثى التي لا يمكنه التنفس دونها، وعملية القلب الدلالية التي تعرّيه من الداخل وفي لاشعوره الجماعي التليد!
ثمة صعوبة بالغة بالاعتراف بهذا الجرح العميق" الصدْعي" والذي تسبب من وراء هذا التحريف التاريخي لمفهوم السرد، وهو من حيث التقويم " جرْم جنائي- أخلاقي " لا أظنه يدفَن أو يُنهى أمره بالتقادم، بمقدار ما يفصح عن عميق حضوره في كل متغير قولاً وكتابة، وهو لا بد أنه باق، ما بقيت حياة، حتى تعاود المرأة: الأنثى البارعة سلطتها الرمزية، وتسوية الكوني، أي حيث يعلّمنا السرد، والذي يعهَد في انعطافات تترى إليها، ما ليس نعلم: سرد يتعزز سلماً، أكثر مما يتعزز حرباً، أو صراعاً دامياً، أو مكائد تتناسل هنا وهناك، هي من صنع الرجل، ومن تلك الأوهام التي يعتقدها منذ الأب الأول للبشرية، ودمغة قابيل الجرمية لا تخفى في سياقها، ولهذا، تكون الدرامية بخاصيتها الصادمة، شغالة السرد في الحكايات، القصص، الروايات، المسرحيات وكل أصناف الكتابة، عبر بؤر التوتر القائمة، مع انتشار الظلال المعتمة والرطبة للذكورة.
نلاحظ مثلاً، في الأثر الحكائي الملحمي الطابع " ألف ليلة وليلة " كيف يمارس السرد أدواره الجهنمية، وبرعاية ذكورية: شهريار هو المؤثّر الأول، وإن كان المستمع الأول، ويا للمفارقة الكبرى، وهو ملِك، ولديه هذه القدرة الرهيبة على الإصغاء إلى صوت شهرزاد، مع ما يؤخَذ بعين الاعتبار من سلطة فاعلة له، وديمومة الإصغاء، من فاعل ذكوري قاتل، إلى حكاءة، في أول عمرها، كما هو مقدَّر، ودون مقاطعة، لتكون هي سرده المتوخى، كما هي حصيلة مجموعة الحكايات الألف ليلاتية وليلة مضافة علامة المعجز من ناحية، وإغلاق محضر ضبط المسرود وإبراز السلطة المطلقة والمعترَف بها أنثوياً، ومن خلال ولادتها لثلاثة أولاد ذكور، من ناحية أخرى، وهو ما يصدم كل واعية أنثوية. أليس تصرف جمانة حداد الرد فعلي، في رفضها لهذا المشيد في " ألف ليلة وليلة " سرداً ثقيل الوطء، تعبيراً عن هذا المعمول، ونعياً له؟ وقد " قتلت " شهرزاد الساردة واجهةً، المسرودة ضمناً، في محاول محو كل أثر لشهريار الطافح بالذكورة!
ذلك ما يوسّع مداركنا الثقافية، لنولِي اهتماماً بما هو قائم على أرض الواقع، جهة السرد الذي يشهد انشطارات، وتعابير شاهدة على أن هناك ما يجري في الواقع، ولم يعترَف به، كما يستحق هذا الواقع في محتواه، وما يناسبه من لغة أخرى تعبيراً، وما يناسب اللغة هذه سرداً يخرج عن كونه السرد المعهود، أي السرد الأبوي: الذكري، وقد خرج عن معلومه، في رعاية أنثاه هنا !
ما يعِدُ به السرد سليل أنثى أو لقيطاً
أن يكون السرد سليل أنثى، لقيطاً، هو رفع حالة الجاهزية للقول أو الكتابة، إلى مستوى غير مسبوق، عندما نمارس مسحاً ميدانياً وسيميائياً لهذه الجمهورة المتوافرة بين أيدينا من الكتابات، وما يأتي في صيغة أقوال ومشاهدات، تصريحات أو إعلامات، تترجم من جهتها، ببنية ما هو جار ٍ، وما يحسّسنا بما يجري، وبما يمكن أن يجري أو يحدث في الآتي القريب، في ضوء ما كان طبعاً، وما يدفع بنا إلى الارتقاء إلى هذا المستوى المغاير سرداً، لما كان بالمقابل .
ذلك، من مناقبية السرد وهو يتنفس، أو يتكلم في المحمول باسمه كلاماً وكتابة، أنثوياً. إن الذي يهمني النظر فيه، ولو من خلال إشارات عابرة، ولكنها تميط اللثام عن أكثر مظاهر القول والفعل حضورَ أثر، وتلبساً بالجريمة المرتكبة بحق السرد، وكيفية الحجْر عليه، لأسباب كثيرة، يهمني هنا التأكيد على أن السرد هذا، وبما جرى ويجري الربط به، أنثوياص، هو أن السرد لا ينام. هل سمعتم، أو رأيتم بالعين المجردة أن أماً تنام، أن المرأة تنام في حقيقة أمرها فيزيزلوجياً؟
في هذا السياق الهائل الأبعاد، يكون السرد في مقام سليل زنى، أو اللقيط، ما يغيّب الفارق الكبير والمحسوس بين تنوع الأجناس الأدبية، بين ما هو فكري- فلسفي وأدبي أيضاً، ليس لأن هناك ما جرى ويجري التخطيط به، تبعاً لمفكَّر فيه، مشروعاً أو ورشة عمل معينة، وإنما ما يشكّل تنبهاً، وإن جاء متأخراً لما يكون من حق السرد أن يعرَف به، وفي حقيقته، ما هو فاعل، ولم يُسمَّ.
على سبيل المثال، كيف يمكن التعريف بناتالي ساروت؟ بم، وكيف تخبرنا كتاباتها المختلفة، وضمناً رواياتها، عن طريقة تعاملها مع محتوى الكتابة، كسرد قائم، قائم لا يقوم على رِجْلين، أو أربع أرجل، إنما يكون أخطبوطياً، إنما يكون سلطعونياً حيث التحرك في كل اتجاه. كما لو أنها تترجم بعضاً ما يدخل في رصيدها الجندري، وعمره ألوف مؤلفة من السنين، وقد صدَر حكم بلا رجعة، عليه، بأن يلتزم الصمت، تحت طائلة المسئولية، على وقْع الانقلاب الذكري، وهو يدفع بسرد الذكوري ليكون الآمر الناهي في الجاري وضْعه: صيغة سرد أو ميكانيزم العمل بموجبه .
لا أزمنة مألوفة، لا معايشة لتلك العلاقات بين الأسماء والأفعال، والواقع المتمثَّل والمتداول فيما بيننا، كما هو المعايَن هنا وهناك، إنما ما يتبع كسراً، شطباً، تشطيراً جينياً متتابعاً، كأن نقرأ في التعريف برواتها " الفواكه الذهبية " 1962 " :
(هذا العمل لناتالي ساروت ليس له طابع ولا مؤامرة. بطلها رواية ، الفواكه الذهبية ، وموضوعها ردود الفعل التي تثيرها هذه الرواية والاستقبال الذي تتلقاه لدى من يحبونها أو يرفضونها.
إنها ليست مسألة رسم الواقع المرئي والمعروف. مغامرات بلزاكيةالمحيطة بإصدار كتاب ليس من اختصاصناتالي ساروت. حيث لا يتعلق الأمر هنا بالناشرين ولا بالإعلان ولا بألعاب الجوائز الأدبية. إن مؤلفة كتاب الفواكه الذهبيةLes Fruits d'Or غائبة أيضًا. ليتم عرض هذه الإجراءات الدرامية غير المرئية والدقيقة للغاية فقط ..
ولا ينبغي لنا أن نقول هذه القصيدة أيضًا ، فالكثير من هذه الصورة الروائية الجديدة هي الحدود التي تفصل تقليديًا الشعر عن الرواية المشوشة. ).
ثمة التصعيد بلغة السرد، كما يليق بالسر، اعتراف عميق بالخطأ التاريخي الكبير، والذي أفصح عن المزيد من الانحراف في تاريخ كتابة السرد، وليكون لبصمة ساروت الإشهارُ العلاماتي بأن الذي اعتمدتْه هو المعبّر الدقيق عن بنيتها الأنثوية وثراء المغذّي لكينونتها بالمقابل .
إنها تغيب، كما هو المقدَّر في خطاب السرد المألوف، لأنها تكون قد أدركت دور السرد، كما يليق به، وكما هو منتظَر، ليكون تعبيراً عن نقلات نوعية في سجلّه، تعظيماً لواقع استثنائي وفاعل.
هكذا الممكن النظر فيه، في سياق ما هو لا خطي، ومتيقَّن منه، في ضوء الفوضى، أو " الكاوس: التشاوس " حيث الزمن خارج التصنيف، والحدث لا يحاط به، كعيّنة مخبرية، ولأن الواقع شهد انفجارات في وجوه مكوناته، وما يجعل أي صيغة سردية قائمة بائسة. كما هو الجاري اتباعه، وبتنوع قادر على خلْق المفاجأة وإثارة الانبهار لدى القارىء الذي يتفاعل مع النص المقروء، بمقدار ما يعيش هو نفسه سرده في تبار ٍ مع سرد النص الموضوع أماماً، وما في هذا التقابل من تشديد على أن وجوب تكافؤ معين بينهما، ليقول السرد شهادته المعتبرة.
كما هو شأن كتابات موريس بلانشو، وأنا أطرح أمثلة مقاربة للواقع الذي منه وفيه أبصرت كتابات بلانشو نفسها،ومن ذلك " الانتظار النسيان" العنوان المربط للذهنية المألوفة قراءة وكتابة، كأن نقرأ هذا المضيء لهذا العمل الروائي النوعي، تبعاً لما يذهب إليه الناقد مكسيم ديكو، في بحثه عنه " موريس بلانشو: فينومينولوجيا السردMaurice Blanchot : une phénoménologie du récit:
( تتداخل نصوص بلانشو مع التفكير في الوجود في العالم والسرد ، المرتبطين ارتباطًا وثيقًا ، لذا تقترح النظر إلى الكائن المتكلم في علاقته الوثيقة بمثال سردي. وفي الواقع ، فإن أي وضع للكلمات ، يتعلق بمقاربة الراوي ، يحد محاولة لفهم واقع أصبح موقعًا للابتسام. بما أن "الحاضر الحي ينبع من عدم هويته مع نفسه ، ومن إمكانية التتبع المتراجع" ، لأنه "دائمًا أثر بالفعل" ، فإن اللفظي سيكون النظام الوحيد القادر على الاقتراب من العالم ، ولكن بدون ولكن القدرة على جعلها في حالتها الزائلة للظهور الفوري. بهذه الطريقة ، يعرض بلانشو كل المحاكاة وكل إخفاقات القصة ، والعديد من خطوط الشقوق التي تمزق من الداخل في البحث عن فهم العالم. كما أن الراوي هو الذي لديه المهمة الصعبة المتمثلة في تسمية العالم. هذا هو بالفعل الدور الذي لا يرى فيه "أنا" الإنسان الأخير نفسه ، لأن "الاسم نفسه يفرق بيننا". من خلال إجبار الشخصية التي هي آخر رجل "على التعرف على نفسه بهذا الاسم" ، يضع الراوي "فخاً" له. أي محاولة لفهم الكينونة ، خاصة النص أو اللفظية ، ترفقه. وهنا تكمن مفارقة السرد في بلانشوت: الكلمة تعبر، عن التعبير لكنها "تحجب التعبير”fait écran à l’expression ).
هوذا الواقع الذي لم يعد يُنظَر إليه بوصفه السلبي، والجاري التصرف به بمعايير ذوقية دون مراعاة لسلطته المحتسبة، وهو ما سجّل خطأ فاحشاً على الناظر في مرآة ذاته الضيقة الإطار.
وهو الواقع الشديد التنوع الذي يمكن مكاشفته في مختلف النصوص التي تستحيل سردية من خلال تلك النوعية اللافتة من البناء البناء التعبيري لوقائع قائمة، ونظيرتها ذهنياً وتفاعلاتها.
أليس الذي ركَّز عليه ميشيل فوكو، في كتاباته " حفريات المعرفة "، مثلاً، تجسيد لامرئيّ في التداخل مع المرئي، والمنبني على سرد قيّض له أن ينتظر زمناً ليستغرق أزمنة بعد تعميق فعله، وفي العنوان نفسه، ما ينوّه إلى أن السرد الذي كان ينبغي تغيير النظرة إليه، كان " رهين المحبسين " إن جاز التعبير: رهين التسمية، من جانب واحد، ورهين الواقع المحجَّر عليه كذلك .
وفي حال جاك دريدا، ما يزيد مفهوم الكتابة التي يتفاعل فيها الفلسفي والأدبي" لنستعيد هنا ما كان يعرَف به هيراقليطس في " شذراته " المتألقة قبل خمسة وعشرين قرناً، وما اشتهر به نيتشه في كبريات نصوصه التي يتعايش فيها الفلسفي والأدبي، الإنساني والحيواني والنباتي تقديراً، وحيث إن دريدا تغذّى جيداً بكل هذا الزاد الكوكبي كثيراً، وآثر هضْمه ليطرح نصوصاً تحمل آثار هذا الإجراء، كما في : الكتابة والاختلاف، هوامش الفلسفة، المهماز، الانتثار...إلخ .
وما يمكن أن يقال في أمر: كافكا، خوان رولفو، بورخيس، ماركيز، فيرجينا وولف، توني موريسون، مارغريت دورا، جنكيز إيتماتوف، في " تمويل " المفهوم " بالمزيد من ذلك الرصيد الواقعي وتحريره من سلطة المحطور قولاً أو فعلاً، وبصيغ شتى....إلخ.
ويسمح لنا كل ذلك، أن ننظر في القريب منا، وفي محيطنا، وكيف بدأ نجم السرد سليل زنى أو لقيطاً، من خلال هذه الهمم في الكتابات التي تشهد انتشاراً لها، في أعمال غادة السمان، إبراهيم الكوني، واسيني الأعرج، نبيل سليمان، سليم بركات، أحلام مستغانمي، رجاء عالم،برهان شاوي.. وفي أعمال روائية لاحقة، لمن أتابعهم عن كثب : جان دوست، إبراهيم يوسف، يونس الأخزمي، هيثم حسين، مها حسن، وبصورة خاصة، لدى الكاتبات اللواتي يشعرن أنهن ظلمن من ينتمين إليه، طويلاً، وهو ينبض داخلهن، أي السرد بمفهومه المطروح هنا. فالسرد بنية ومقاماً وأداء عمل، هو الذي يهدد كل ما جرى التعامل معه، ووقّع، ربما، باسمه على بياض، مسلّمة، وهو ليس كذلك في الذي يعرَف به ولا يعرَف به، بما أنه يرفض الانتماء إلى أي خانة توصيف، إنما الدفع بكل توصيف، أو تعريف، أو تأطير، مثال " الباررغون " الكانطي- الدرّيدي، محرراً من الإطار، أو الهامش، وهو المفتوح دائماً على المغاير له، والبرّية هي عنوانه اللاعنوان الأمثل له ( ينظر مثلاً، ما أفصحت عنه مها حسن في سرديتها السيرية : أحد يسكن رأسي، ولا علْم لنا أين يسكن رأسها تفكيراً وتدبيراً وتخيلياً، حيث تتم مقابلة المأتي به أنتي سرد للسائل أبوياً .
لعلي هنا أستطيع القول على أن العمل بموجب سرد هكذا، ينتمي إلى مرحلة ما بعد الكولونيالية، حيث يجري تحرير النصوص معمَّدة بماء الحرية، وبما هو لا حدودي، يشكل انعطافة فعلية، لتفجير الذاكرة المجتمعية المنمطة قسراً، وإطلاق سرح الألسنة التي ألجمت سلطوياً، وما في هذا التحول النوعي، من " سعادة " نوعية بالمقابل، لما هو إنساني، ومن يعانون محظورات تطالهم في انتمائهم الاجتماعي، السياسي، الجندري، والقومي، بمفهومه الواسع، وفي نطاق عوالمي راهنا، كما تعلِمنا اللائحة الكبرى من هذه الحضورات المختلفة للكتابات وإيروسياتها المختلفة في توجهاتها، وفي مضامينها، وتوقها إلى المزج بين مكونات الأدب والفكر، وتيمة الكوني بامتياز.
وما يوسّع الدائرة حيث ترفَع الحدود بين المعتبَر شعراً ونثراً، لأن الجنس المقروء، وهو هجين، ينشّط ذاكرة القارىء الفردية، إن أراد لها أن تنتعش بالمقابل، لتستحق انتماء إلى يومها وغدها.
وربما في ضوء هذا الذي جرى تسطيره ما يعدُنا بالآتي المختلف، فالذي نعيشه هنا وهناك، حيث الكم الهائل من الكوارث وما يمكن توقعه، لا يستطيع سوى سرد من نوع سليل زنىً حصراً أو لقيط، وبجلاء، أن يفلح في اجتيافه وإيفائه حقه النسبي، إنما في سياق متعة تسجَّل باسم الآتي، الآتي وليس سواه، وبالطريقة هذه، يكون " ابن الحرام " هذا، هو ما يمنحنا " حلالاً محتفىً به.