وإن كانت (الأبيقورية) ذهبت مذهباً متطرفاً في المادة فأن الصوفية أيضاً قد نحت نفس هذا المذهب في شططها وغلوها في الروح والنفس وجوهر الله.
يقول الأستاذ (فريد وجدي) في دائرة المعارف: إن التصوف هو مذهب كان الغرض منه تصفية القلب عن غير الله والصعود بالروح إلى عالم التقديس بإخلاص العبودية للخالق والتجرد عما سواه. وهذا قديم كقدم النزعة التي أوجدته، فان الإنسان منذ ألوف من السنين أدرك أن خلف هذه الغلف الجسدانية سراً مكنوناً، فنشأ هذا المذهب في كل أمة راقية، ولبس شكلاً مناسباً لعقولها وأفكارها، وهو معروف في الهند والصين ألوف من السنين، وله عند الهنديين أساليب شديدة على النفس، ولكنه لما وجد تحت ظل الإسلام وأحيط بأدب القرآن دخل في دور جديد). وقد اختلف العلماء والمتصوفون أنفسهم في حقيقة تاريخ مذهب التصوف والى أين يذهب عهده، على أن عهده يرجع إلى قديم الزمن وان لم يكن معروفا قبل بهذا الاسم، وقد اختلق العرب اشتقاقا لهذه الكلمة واختلفوا في وضعها، فمنهم من ذهب مذهب القائل: (إن أول من انفرد في الإسلام بخدمة الله عند المسجد الحرام رجل يقال له (صوفة) واسمه الغوث بن مر فانتسبوا إليه لمشابهتهم إياه في الانقطاع إلى الله، فسموا بالصوفية) وقال الزبير: قال أبو عبيدة: (وصوفة وصوفان يقال لكل من ولي من البيت شيئاً من غير أهله، أو قام بشيء من أمر المناسك). وقد ذهب قوم إلى أن التصوف منسوب إلى أهل الصفة في الانقطاع إلى الله وملازمة الفقر، وهم المعروفون في الإسلام بأهل الصفة. والتصوف عندهم يقصد به رياضة النفس ومجاهدة الطبع برده عن الأخلاق الرذيلة وحمله على الأخلاق الفضيلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص. ومنهم من نسب الصوفية إلى لباس الصوف. فقيل في أحدهم صوفي، وليس طريقهم مقيدا بلباس الصوف، ولاهم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به ولكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال.
ويقول الشيخ الشعراني في كتابه الطبقات: (إن طريق الصوفية مقيدة بالكتاب والسنة، وإنها مبنية على سلوك أخلاق الأنبياء والأصفياء) وأنها لا تكون مذمومة إن خالفت صريح القرآن أو السنة أو الإجماع لا غير، أما إذا لم تخالف فغاية الكلام أنه فهم أوتيه رجل مسلم، فمن شاء فليعمل به ومن شاء تركه. والتصوف هو عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل والكتاب والسنة، فكل من عمل بها انقدح له من ذلك علوم وأدب وأسرار وحقائق تعجز الألسن عنها نظير ما انقدح لعلماء الشريعة من الأحكام حين عملوا بما علموه من أحكامها. فالتصوف إنما هو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة إذا خلا عمله من العلل وحظوظ النفس كما أن علم المعاني والبيان زبدة علم النحو. ولا يدرك أن علم التصوف تفرع من عين الشريعة إلا من تبحر في علم الشريعة حتى بلغ إلى النهاية. وكيف تخرج علومهم عن الشريعة والشريعة هي وصلتهم إلى الله عز وجل في كل لحظة؟ وقد اجتمع القوم على أنه لا يصلح للتصدر في طريق الله إلا من تبحر في علم الشريعة وعلم منطوقها ومفهومها وخاصها وعامها وناسخها ومنسوخها، وتبحر في لغة العرب حتى عرف مجازاتها واستعارتها وغير ذلك، فكل صوفي فقيه ولا عكس.
وقد ورد فصل يحسن ذكره في هذا الموضع للدلالة على الروح الصوفية التي كانت تسود عقول أصحابها من كتاب (اللمع في التصوف) قال الشيخ أبو نصر: سألني سائل عن علم التصوف ومذاهب الصوفية وزعم أن الناس اختلفوا في ذلك فمنهم من يغلو في تفضيله ورفعه فوق مرتبته، ومنهم من يخرجه عن حد المعقول والتحصيل، ومنهم من يرى أن ذلك ضرب من اللهو واللعب وقلة المبالاة بالجهل، ومنهم من ينسب ذلك إلى التقوى والتقشف، وليس التصوف في تنوق الكلام واللباس وغير ذلك، ومنهم من يسرف في الطعن وقبح المقال فيهم حتى ينسبهم إلى الزندقة والضلالة، وليس من مذهبهم النزول على الرخص وطلب التأويلات والميل إلى الترفه والسَّعات، وركوب الشهوات لأن ذلك تهاون بالدين، وإنما مذهبهم التمسك بالأولى والأتم في أمر الدين. والصوفية لم ينفردوا بنوع من العلم دون نوع ولم يترسموا برسم من الأحوال المحمودة والأخلاق الشريفة.
ما هو التصوف؟ سال سائل محمد بن القصاب وهو استناد الجنيد الصوفي الشهير، فقال: أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم من رجل كريم مع قوم كرام. وقال الجنيد: التصوف أن تكون مع الله بلا علاقة. وفي الحقيقة أن هذه الكلمة هي التي يتخذها الصوفيون أساسا لتصوفهم في المشرق كان أم في المغرب. ويدخل موضوع التصوف المبني على هذه القاعدة في عداد المذاهب الفلسفية، فالإنسان إذا أراد أن يكون مع الله بلا علاقة فهو محتاج ولا ريب إلى معرفة الله وتحديد علاقاته مع الإنسان معه، ولا ريب أن هذه الموضوعات هي سبيل مظلمة من سبل الفلسفة التي يستضيء الفيلسوف عقله لإنارتها، والصوفي يعتمد توكله وإيمانه.
وكلمة التصوف جاءت إلى العربية من اليونانية (صوفيا وهي تعني إغلاق الفم والصمت. وليس ببعيد هذا، لأن التصوف جاء إلى العرب ونشأ بينهم بعد هجرتهم من الجزيرة، وتعرفهم إلى مدنيات الأمم المجاورة لهم كالفرس واليونان وكانت فكرة التصوف عند هؤلاء شائعة
والأرجح أن يكون التصوف مذهبا مستقلا له شأنه. ينظر صاحب هذا المذهب إلى الكون نظر أصحاب المذاهب الأخرى له. وكما أن المتشرع الحكيم يضع من عنده القوانين للكون ويحدد كل شيء بالنسبة إليه بنظام، وكما أن الفيلسوف قد يجحد كل ما يصنعه غيره ويناقش الطبيعة بلغته الفلسفية الخاص، فالصوفي كذلك له من مذهبه ما يجعله مستقلا تمام الاستقلال عن المذاهب الأخرى: ينظر إلى الكون بعينه المجسدة، ويتفهم الفضائل حسبما يوحي إليه مذهبه، ولا بأس بأن نقول كمن قال (فيكتور كوزان): إن التصوف هو مذهب من المذاهب الفلسفية وإنما يستعين على الظهور بالدين؛ وهو إن لم يكن غنيا بمنطقه وقواعده وارتقائه على العقل فهو يتضمن قالب المذهب الفلسفي ولا يحدد إلا نقطة نظرية ضيقة المجال. وقد غلب هذا المذهب على المذاهب الطبيعية، وعم في سائر الديانات التي ارتكزت على الكتب السماوية والتعاليم البشرية.
على أن هذا لم يمنع قول القائلين: أن الصوفية ليست مذهبا يعتنقه المرء، يأخذ بعقائده وتقاليده. فإنها أدنى إلى الطبائع في بعض النفوس منها إلى قواعد مذهب مقرر، وأنت ترى كثيرين من الناس يعيشون عيشة الصوفية في زهدهم وقناعتهم وما هم بالصوفيين.
حكم العلماء على الصوفية
نشأ المذهب الصوفي شأن كل مذهب يكون الإخلاص رائده، ثم يتسرب إليه التحيل والهدى، ولم يعرف التاريخ مذهبا داجي فيه أصحابه مثلما عرف من التصوف، فقد دخل فيه المخلص والزنديق والنشيط والبليد، فالتصوف أساسه الزهد والتظاهر بالفقر وكراهية الدنيا، وكم من أناس حبب لهم العيش الرخاء والتواني في السعي، فأووا إلى هذه المذاهب التي تعلي من قيمتهم وتظاهروا بالتصوف، وقديما كان الناس يتسابقون إلى إيواء الصوفي وإطعامه، والمبالغة في إكرامه، وهكذا كانوا ينتقلون في عيشهم من بادرة إلى بادرة معتمدين على الظاهرة الصوفية، وليس في قلوبهم إلا الغل والنفاق، ولابن تيميه فتوى جليلة في الصوفية وحال أقسامهم، فقد قال بعد أن شرح موضع الصوفية من العلماء: (والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم، ففيهم السابق السابق بحسب اجتهاده، وفيهم من قد يجتهد فيخطيء، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، وقد انتسبت إليهم طائفة من صوفية الحقائق الذين اعتنقوا مذهب الصوفية بإخلاص قلب، ووفاء سريرة، وصوفية الأرزاق، وصوفية الرسم ممن لا يغنون فتيلا، والصوفية كانوا ولم يزالوا من جملة الزهاد، ولكنهم انفردوا عن الزهاد بصفات وأحوال، واتسموا بسمات خاصة بهم، والتصوف طريقة بدؤها الزهد الكلي كما قدمنا في كل متاع الدنيا؛ ثم ترخص المنتسبون إليها - لما حرموا من ملذة الدنيا فجعل البعض ذلك لهم حيلة - بالسماع والرقص، فمال إليهم طلاب الآخرة من العوام لما يظهرونه من التزهد، ومال إليهم طلاب الدنيا لما يرون عندهم من الراحة واللعب.
ويبدو أن هذا الضرب من التحيل لم يبخس حق قيمة المتصوفين الحقيقيين، وقد قال القشيري في رسالة: (لم يكن عصر في مدة الإسلام وفيه شيخ من هذه الطائفة إلا وأئمة ذلك الوقت من العلماء قد استسلموا لذلك الشيخ وتواضعوا له تباركوا به، فقد أذعن الإمام الشافعي لشيبان الراعي حين طلب الإمام أحمد بن حنبل أن يسأله عمن نسي صلاة لا يدري أي صلاة هي؟ وإذعان أحمد لشيبان كذلك حين قال لشيبان (هذا رجل غفل عن الله فجزاؤه أن يؤدب). وكذلك إذعان الإمام أحمد لأبي حمزة البغدادي واعتقاده فيه حين كان يرسل إليه دقائق المسائل ويقول: ما تقول في هذا يا صوفي؟ وكان يروى أن الإمام أحمد كان يحث ابنه على الاجتماع بصوفية زمانه، ويقول انهم بلغوا في الإخلاص مقاما لم يبلغه
وقد أوى منهم إلى ضروب من الكرامات زعموا أنها خاصة لا تصدر إلا عنهم، يريدون من وراء ذلك أن الله يسخر قوات الطبيعة والأشياء لهم، ولكن هذا النوع من هذه الكرامات لم يرق معشر العلماء فاختلفوا في أحكامها. والناس في إنكارها أقسام، منهم من ينكرها مطلقاً، ومنهم من يقول أن هذه الكرامات تشبه السحر من أهل السيميا، وينصح للإنسان بعدم صدهم وعدم تصديقه لهم. وقد أفتوا بتكفيرهم كما أفتوا بتكفير الغزالي وحرق كتابه الأحياء. ولكن البعض من أئمة هذا المذهب لم يجعلوا هذه الكرامات قواعد راسخة للصوفية لا يكون صادقا إلا من يؤتاها ويأتي بها.
وقد قال أبو يزيد البسطامي - واضع الله وراء جبته: (لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود، ومن ترك التقشف ولزوم الجماعة وحضور الجنائز وعيادة المرضى وتلاوة القرآن وادعى بهذا الشان فهو مبتدع، وفي هذا دلالة واضحة على أن من يدخل في هذا المذهب ويعتنق مبادئه ثم يطرح عنه قواعد الشريعة المشيد عليها هو مبتدع مختلق، يحترف الصوفية فرارا من كلفات الدين ومشقات العيش
وخلاصة الأمر أن التصوف تقلب كثيرا وتحرر كثيرا وطرأ عليه ما يطرأ على سائر المذاهب عادة، ولكن التصوف الحقيقي ظل محترما في عيون الناس وقلوب الناس. وليس بوسعنا إخراج الحكم عليها من باب أحكام العلماء لاختلاف فتاواهم فيها وإنما علينا أن نستعرض مبادئها وقواعدها ونرى ما يلائم منهاجه منها سنة الحياة وما يباين، وهنالك القول الفصل
خليل هنداوي
مجلة الرسالة - العدد 209
بتاريخ: 05 - 07 - 1937
يقول الأستاذ (فريد وجدي) في دائرة المعارف: إن التصوف هو مذهب كان الغرض منه تصفية القلب عن غير الله والصعود بالروح إلى عالم التقديس بإخلاص العبودية للخالق والتجرد عما سواه. وهذا قديم كقدم النزعة التي أوجدته، فان الإنسان منذ ألوف من السنين أدرك أن خلف هذه الغلف الجسدانية سراً مكنوناً، فنشأ هذا المذهب في كل أمة راقية، ولبس شكلاً مناسباً لعقولها وأفكارها، وهو معروف في الهند والصين ألوف من السنين، وله عند الهنديين أساليب شديدة على النفس، ولكنه لما وجد تحت ظل الإسلام وأحيط بأدب القرآن دخل في دور جديد). وقد اختلف العلماء والمتصوفون أنفسهم في حقيقة تاريخ مذهب التصوف والى أين يذهب عهده، على أن عهده يرجع إلى قديم الزمن وان لم يكن معروفا قبل بهذا الاسم، وقد اختلق العرب اشتقاقا لهذه الكلمة واختلفوا في وضعها، فمنهم من ذهب مذهب القائل: (إن أول من انفرد في الإسلام بخدمة الله عند المسجد الحرام رجل يقال له (صوفة) واسمه الغوث بن مر فانتسبوا إليه لمشابهتهم إياه في الانقطاع إلى الله، فسموا بالصوفية) وقال الزبير: قال أبو عبيدة: (وصوفة وصوفان يقال لكل من ولي من البيت شيئاً من غير أهله، أو قام بشيء من أمر المناسك). وقد ذهب قوم إلى أن التصوف منسوب إلى أهل الصفة في الانقطاع إلى الله وملازمة الفقر، وهم المعروفون في الإسلام بأهل الصفة. والتصوف عندهم يقصد به رياضة النفس ومجاهدة الطبع برده عن الأخلاق الرذيلة وحمله على الأخلاق الفضيلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص. ومنهم من نسب الصوفية إلى لباس الصوف. فقيل في أحدهم صوفي، وليس طريقهم مقيدا بلباس الصوف، ولاهم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به ولكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال.
ويقول الشيخ الشعراني في كتابه الطبقات: (إن طريق الصوفية مقيدة بالكتاب والسنة، وإنها مبنية على سلوك أخلاق الأنبياء والأصفياء) وأنها لا تكون مذمومة إن خالفت صريح القرآن أو السنة أو الإجماع لا غير، أما إذا لم تخالف فغاية الكلام أنه فهم أوتيه رجل مسلم، فمن شاء فليعمل به ومن شاء تركه. والتصوف هو عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل والكتاب والسنة، فكل من عمل بها انقدح له من ذلك علوم وأدب وأسرار وحقائق تعجز الألسن عنها نظير ما انقدح لعلماء الشريعة من الأحكام حين عملوا بما علموه من أحكامها. فالتصوف إنما هو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة إذا خلا عمله من العلل وحظوظ النفس كما أن علم المعاني والبيان زبدة علم النحو. ولا يدرك أن علم التصوف تفرع من عين الشريعة إلا من تبحر في علم الشريعة حتى بلغ إلى النهاية. وكيف تخرج علومهم عن الشريعة والشريعة هي وصلتهم إلى الله عز وجل في كل لحظة؟ وقد اجتمع القوم على أنه لا يصلح للتصدر في طريق الله إلا من تبحر في علم الشريعة وعلم منطوقها ومفهومها وخاصها وعامها وناسخها ومنسوخها، وتبحر في لغة العرب حتى عرف مجازاتها واستعارتها وغير ذلك، فكل صوفي فقيه ولا عكس.
وقد ورد فصل يحسن ذكره في هذا الموضع للدلالة على الروح الصوفية التي كانت تسود عقول أصحابها من كتاب (اللمع في التصوف) قال الشيخ أبو نصر: سألني سائل عن علم التصوف ومذاهب الصوفية وزعم أن الناس اختلفوا في ذلك فمنهم من يغلو في تفضيله ورفعه فوق مرتبته، ومنهم من يخرجه عن حد المعقول والتحصيل، ومنهم من يرى أن ذلك ضرب من اللهو واللعب وقلة المبالاة بالجهل، ومنهم من ينسب ذلك إلى التقوى والتقشف، وليس التصوف في تنوق الكلام واللباس وغير ذلك، ومنهم من يسرف في الطعن وقبح المقال فيهم حتى ينسبهم إلى الزندقة والضلالة، وليس من مذهبهم النزول على الرخص وطلب التأويلات والميل إلى الترفه والسَّعات، وركوب الشهوات لأن ذلك تهاون بالدين، وإنما مذهبهم التمسك بالأولى والأتم في أمر الدين. والصوفية لم ينفردوا بنوع من العلم دون نوع ولم يترسموا برسم من الأحوال المحمودة والأخلاق الشريفة.
ما هو التصوف؟ سال سائل محمد بن القصاب وهو استناد الجنيد الصوفي الشهير، فقال: أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم من رجل كريم مع قوم كرام. وقال الجنيد: التصوف أن تكون مع الله بلا علاقة. وفي الحقيقة أن هذه الكلمة هي التي يتخذها الصوفيون أساسا لتصوفهم في المشرق كان أم في المغرب. ويدخل موضوع التصوف المبني على هذه القاعدة في عداد المذاهب الفلسفية، فالإنسان إذا أراد أن يكون مع الله بلا علاقة فهو محتاج ولا ريب إلى معرفة الله وتحديد علاقاته مع الإنسان معه، ولا ريب أن هذه الموضوعات هي سبيل مظلمة من سبل الفلسفة التي يستضيء الفيلسوف عقله لإنارتها، والصوفي يعتمد توكله وإيمانه.
وكلمة التصوف جاءت إلى العربية من اليونانية (صوفيا وهي تعني إغلاق الفم والصمت. وليس ببعيد هذا، لأن التصوف جاء إلى العرب ونشأ بينهم بعد هجرتهم من الجزيرة، وتعرفهم إلى مدنيات الأمم المجاورة لهم كالفرس واليونان وكانت فكرة التصوف عند هؤلاء شائعة
والأرجح أن يكون التصوف مذهبا مستقلا له شأنه. ينظر صاحب هذا المذهب إلى الكون نظر أصحاب المذاهب الأخرى له. وكما أن المتشرع الحكيم يضع من عنده القوانين للكون ويحدد كل شيء بالنسبة إليه بنظام، وكما أن الفيلسوف قد يجحد كل ما يصنعه غيره ويناقش الطبيعة بلغته الفلسفية الخاص، فالصوفي كذلك له من مذهبه ما يجعله مستقلا تمام الاستقلال عن المذاهب الأخرى: ينظر إلى الكون بعينه المجسدة، ويتفهم الفضائل حسبما يوحي إليه مذهبه، ولا بأس بأن نقول كمن قال (فيكتور كوزان): إن التصوف هو مذهب من المذاهب الفلسفية وإنما يستعين على الظهور بالدين؛ وهو إن لم يكن غنيا بمنطقه وقواعده وارتقائه على العقل فهو يتضمن قالب المذهب الفلسفي ولا يحدد إلا نقطة نظرية ضيقة المجال. وقد غلب هذا المذهب على المذاهب الطبيعية، وعم في سائر الديانات التي ارتكزت على الكتب السماوية والتعاليم البشرية.
على أن هذا لم يمنع قول القائلين: أن الصوفية ليست مذهبا يعتنقه المرء، يأخذ بعقائده وتقاليده. فإنها أدنى إلى الطبائع في بعض النفوس منها إلى قواعد مذهب مقرر، وأنت ترى كثيرين من الناس يعيشون عيشة الصوفية في زهدهم وقناعتهم وما هم بالصوفيين.
حكم العلماء على الصوفية
نشأ المذهب الصوفي شأن كل مذهب يكون الإخلاص رائده، ثم يتسرب إليه التحيل والهدى، ولم يعرف التاريخ مذهبا داجي فيه أصحابه مثلما عرف من التصوف، فقد دخل فيه المخلص والزنديق والنشيط والبليد، فالتصوف أساسه الزهد والتظاهر بالفقر وكراهية الدنيا، وكم من أناس حبب لهم العيش الرخاء والتواني في السعي، فأووا إلى هذه المذاهب التي تعلي من قيمتهم وتظاهروا بالتصوف، وقديما كان الناس يتسابقون إلى إيواء الصوفي وإطعامه، والمبالغة في إكرامه، وهكذا كانوا ينتقلون في عيشهم من بادرة إلى بادرة معتمدين على الظاهرة الصوفية، وليس في قلوبهم إلا الغل والنفاق، ولابن تيميه فتوى جليلة في الصوفية وحال أقسامهم، فقد قال بعد أن شرح موضع الصوفية من العلماء: (والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم، ففيهم السابق السابق بحسب اجتهاده، وفيهم من قد يجتهد فيخطيء، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، وقد انتسبت إليهم طائفة من صوفية الحقائق الذين اعتنقوا مذهب الصوفية بإخلاص قلب، ووفاء سريرة، وصوفية الأرزاق، وصوفية الرسم ممن لا يغنون فتيلا، والصوفية كانوا ولم يزالوا من جملة الزهاد، ولكنهم انفردوا عن الزهاد بصفات وأحوال، واتسموا بسمات خاصة بهم، والتصوف طريقة بدؤها الزهد الكلي كما قدمنا في كل متاع الدنيا؛ ثم ترخص المنتسبون إليها - لما حرموا من ملذة الدنيا فجعل البعض ذلك لهم حيلة - بالسماع والرقص، فمال إليهم طلاب الآخرة من العوام لما يظهرونه من التزهد، ومال إليهم طلاب الدنيا لما يرون عندهم من الراحة واللعب.
ويبدو أن هذا الضرب من التحيل لم يبخس حق قيمة المتصوفين الحقيقيين، وقد قال القشيري في رسالة: (لم يكن عصر في مدة الإسلام وفيه شيخ من هذه الطائفة إلا وأئمة ذلك الوقت من العلماء قد استسلموا لذلك الشيخ وتواضعوا له تباركوا به، فقد أذعن الإمام الشافعي لشيبان الراعي حين طلب الإمام أحمد بن حنبل أن يسأله عمن نسي صلاة لا يدري أي صلاة هي؟ وإذعان أحمد لشيبان كذلك حين قال لشيبان (هذا رجل غفل عن الله فجزاؤه أن يؤدب). وكذلك إذعان الإمام أحمد لأبي حمزة البغدادي واعتقاده فيه حين كان يرسل إليه دقائق المسائل ويقول: ما تقول في هذا يا صوفي؟ وكان يروى أن الإمام أحمد كان يحث ابنه على الاجتماع بصوفية زمانه، ويقول انهم بلغوا في الإخلاص مقاما لم يبلغه
وقد أوى منهم إلى ضروب من الكرامات زعموا أنها خاصة لا تصدر إلا عنهم، يريدون من وراء ذلك أن الله يسخر قوات الطبيعة والأشياء لهم، ولكن هذا النوع من هذه الكرامات لم يرق معشر العلماء فاختلفوا في أحكامها. والناس في إنكارها أقسام، منهم من ينكرها مطلقاً، ومنهم من يقول أن هذه الكرامات تشبه السحر من أهل السيميا، وينصح للإنسان بعدم صدهم وعدم تصديقه لهم. وقد أفتوا بتكفيرهم كما أفتوا بتكفير الغزالي وحرق كتابه الأحياء. ولكن البعض من أئمة هذا المذهب لم يجعلوا هذه الكرامات قواعد راسخة للصوفية لا يكون صادقا إلا من يؤتاها ويأتي بها.
وقد قال أبو يزيد البسطامي - واضع الله وراء جبته: (لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود، ومن ترك التقشف ولزوم الجماعة وحضور الجنائز وعيادة المرضى وتلاوة القرآن وادعى بهذا الشان فهو مبتدع، وفي هذا دلالة واضحة على أن من يدخل في هذا المذهب ويعتنق مبادئه ثم يطرح عنه قواعد الشريعة المشيد عليها هو مبتدع مختلق، يحترف الصوفية فرارا من كلفات الدين ومشقات العيش
وخلاصة الأمر أن التصوف تقلب كثيرا وتحرر كثيرا وطرأ عليه ما يطرأ على سائر المذاهب عادة، ولكن التصوف الحقيقي ظل محترما في عيون الناس وقلوب الناس. وليس بوسعنا إخراج الحكم عليها من باب أحكام العلماء لاختلاف فتاواهم فيها وإنما علينا أن نستعرض مبادئها وقواعدها ونرى ما يلائم منهاجه منها سنة الحياة وما يباين، وهنالك القول الفصل
خليل هنداوي
مجلة الرسالة - العدد 209
بتاريخ: 05 - 07 - 1937