حين طلبت من الصديق العزيز الدكتور/ سمير سرحان ـ رئيس هيئة الكتاب ـ منذ ثلاث سنوات, أن يهتم بنشر الكتابات غير المصرية ضمن مطبوعات الهيئة, وأن يتيح لمبدعي الأقطار الناطقة بالعربية ـ والذين لانعرف عنهم شيئاً ـ فرصة انطلاق أعمالهم وكتاباتهم من القاهرة ـ ليتحقق لهم ميلاد حقيقي ـ حين طلبت منه ذلك لم أتوقع أن تكون استجابته الواعية والمدركة للمسئولية الثقافية الملقاة على عاتقه وعاتق هيئة الكتاب, سريعة وحاسمة.
كان ذلك في مناسبة اكتشافي لمبدع جميل من إريتريا هو الشاعر والروائي / أحمد عمر شيخ, الذي تعرفت عليه ضمن دورة للإذاعيين الأفارقة, جاءوا من جزر القمر وإثيوبيا والصومال وجيبوتي وتشاد وموريتانيا وغينيا كوناكري وغيرها, ليستزيدوا من الخبرة الإذاعية المصرية في مجالات عدة, وكان لقائي بهم فرصة لمناقشة البرامج الثقافية في الإذاعة والتليفزيون من حيث المفهوم والإعداد والتقديم والدور, والفلسفة والأهداف والأشكال والصيغ الإذاعية والمشكلات.
كان واضحاً أنَّ أحمد عمر شيخ يتميز من بين الآخرين بحضور ثقافي, وخبرة إذاعية متقدمة, ووعي بالمجال الذي يعمل فيه وهو مجال البرامج الثقافية في الإذاعة الإريترية, وسرعان ما اكتشفت أنه شاعر وروائي, عندما أطلعني علي بعض كتاباته المنشورة في صورة طباعية متواضعة عن إحدي دور النشر المحلية. وعندما كتبت عنه في " الأهرام" باعتباره يمثل الوجود العربي الثقافي في إريتريا, في مواجهة تيارات أخري ولغات أخري, لفت ذلك انتباه الدكتور / سمير سرحان واهتمامه, فقرر نشر عملين من أعماله صدرا قرب ختام العام الماضي هما رواية " نوراي" وديوان "رقصة الطيور" , فحقق بذلك ماكنت قد دعوته إليه, مشكورا.
كانت كتابتي الأولي عن " أحمد عمر شيخ" محاولة للتعريف به, وإلقاء بعض الضوء علي مساحة الإبداع لديه شعرا ورواية.
فقد ولد " أحمد عمر شيخ" في "جدة" بـ"السعودية" عام1966, وفي روايته " نوراي" تصوير بديع لرحلة العودة إلي الوطن ـ إرتيريا ـ عبر مينائه الرئيسي" مصوَّع " علي البحر الأحمر. حصل علي البكالوريوس في علوم الاقتصاد والإدارة في عام1991, وعمل منذ1992 معداً ومقدما للعديد من البرامج الإذاعية والتليفزيونية في بلاده. وفي مقدمة انجازاته الإعلامية تأسيسه لـ"ملتقى الحوار الإريتري" ـ أول وأهم منبر جماهيري مفتوح يناقش أهم القضايا السياسية والثقافية والاجتماعية في مرحلة انتقال إريتريا من الشرعية الثورية إلي الشرعية الدستورية, وهو منبر يرتاده القضاة والمعلمون والسياسيون والموظفون, وتتابعه وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية, فضلا عن صحف " الشرق الأوسط" و" الحياة "و"صوت إريتريا " وبعض مواقع الانترنت.
حصل "أحمد عمر شيخ" علي جائزة في الشعر من "جامعة الملك عبدالعزيز "ـ في السعودية ـ عام1987 ـ وكان مايزال طالبا بالجامعة, ثم علي أول جائزة تخصص للشعر الإريتري المكتوب بالعربية عام1995 وهي جائزة "رايموك" ثم حصل علي جائزة "أريتريون للسلام والدفاع" عام1999. واتيح للعديد من قصائده النشر في الصحف والمجلات الأدبية العربية ـ السعودية خاصة ـ و"المنتدي" الإماراتية, و"الموقف الأدبي "السورية و"إبداع" المصرية.
وقلت عنه أيضا إنه يعتز بإجادته للعربية والكتابة بها, في بلد يضم تسع لغات ويتسع للتعدد الثقافي العرقي. وهو يقول عن نفسه إنه يكتب عجمته باللغة العربية ويهتم بتكريس هذه اللغة في الواقع الإريتري ولكن بوجهها المشرق والمتجدد, مسهماً بهذا الموقف في جدل الهوية الإريترية, وهل هي انتماء عربي أم إفريقي اسلامي أم مسيحي؟! آملا أن يمد المثقفون العرب أيديهم إلي المبدعين بالعربية من أبناء إريتريا, فنحن منهم وهم منا كما يقول, وهناك من وشائج القربي والامتدادات المتواصلة عبر العصور مايحتم ذلك.
يقول "أحمد عمر شيخ" في قصيدته "رقصة الطيور" التي أطلق اسمها علي مجموعته الشعرية :
هدهِدْ سماءك, حلِّقْ أيها البطلُ
حيث المجاهل والأحلام تشتعلُ
شوقُ المدائن لاريثٌ نقابلهُ
موجُ الأصائل في الأحداق يرتحلُ
عزف النوارسِ, ياويح الجوي قدرٌ
صمتُ الشواهد أم ياريح قد ثملوا !!
صفو الأرائك لاتأس لموعدنا
شدو السنابل لاتيهٌ ولا ختلُ
هذي الدروب لنا لابد نعرفها
كيما نردد: ياللفجر يكتملُ
يغفو المدارُ علي شبَّاك حجرتنا
بوحُ الفواصل والأوتار تنهملُ
عزمُ الأرتري والآمادُ جاثية
سحرُ القوافل, يا إنسانُ , ياأملُ
غيثُ المواسم لاخلٌّ يجافينا
هذي سماؤكَ , رفْرِفْ أيها البطلُ
وسرعان ماينتقل بعد هذا البناء الشعري العمودي إلي صيغة شعر التفعيلة, مراوحاً بين الصيغتين, ومنوِّعاً أنغام نصّه الشعري وايقاعاته, طبقاً للحال النفسية, ومستويات التوتر في مقاطع القصيدة, يقول:
للطيورِ النذورْ
للمواقيتِ آجالها
والردى
للعراجين ظلُّ التصوفِ في الأفئده
للتفتّحِ , غبَّ انهيار الدخولِ
لنا , كلّ هذا المدى
أي شيء سدى !
حين صاغ السؤال العتيدْ
تماهي ببهو الرحيلِ
غفا طيفه السرمدي علي المائده
رُبَّ طفلٍ عراه الشحوبُ النبيلُ
سما, وتناهى إلى سمعه البصري الدوي
شوارع من زمهرير الندى
آه, قوس الفدا !
في روايته "نوراي" يعزف "أحمد عمر شيخ " علي الوتر الذي يجيده المبدعون الإريتريون شعراً وقصّا: وتر العودة إلي الوطن, وما يلاقونه من أهوال. في مقابل وتر الهجرة الذي ساد كتاباتهم إبان مقاومة الاحتلال الإثيوبي وما سبق من احتلال إيطالي. وكانت الهجرة من الداخل إلي خارج الوطن, خاصة إلى السودان وبلاد إفريقية أخري. تفاصيل هذا الرحيل إلي الوطن والرحيل من الوطن هي المادة الحية الموحية لعدد من الكتابات الإبداعية المتميزة.
أحمد عمر شيخ الذي يري في نفسه واحداً من جيل الشتات كما جاء علي لسان "سراج" في روايته, يفتن في تصوير البحر والموج, والسلالة, وصهيل العربة والحصان, وتشققات القدمين ونداءات الأزقة, وروائح البول والفقر, ورصيف المحطة, والطفل " نوراي" الذي ينسلّ من بين الطلبة في مدرسة الجيل, وعزيف الجن وقرع الطبول, كل ذلك في إيقاع شعري جارف, وصياغة تصويرية تتحدد خطوطها وملامحها بضربات فرشاة حادة, ولغة يتماوج فيها الشعور واللاشعور, كاشفين عن أعماق الشخصيات في مواجهة عذاب الرحلة, والضوء المنبعث من بعيد يشير إلي الميناء, إلي أمل الوصول, فهذه " مصوَّع" تلوح للقادمين. و"أحمد عمر شيخ" يصوغ لوحته وهو يقول: تتمطى سدول الظلمة, فاطمة تقول: أهلها سيقلقون إن هي تأخرت, تتجمع الغيوم السوداء, الرطوبة تتشبث بحلقي الناشف, أتململ وأصغي إلي اللحن الشارد ومواويل البحر الأحمر. أتمني لو أضمها إلي شذرات الصدر الحسير. أتدحرج ككتلة نوم هاربة, يفرُّ إيقاع الوقت مذعوراً , أطارد الأيام غبنا وانتظارا, يتهاوي النجم ويختفي عند القاع. تتجه بي مساحات العراء صوب أفق المدي السارح, تنتزعني " فاطمة" من بين البراثن, ترشني بالضوء وعبق الرطوبة" المصوعية" وروائح السمك النادر.
في هذه الرواية, كما يقول ناشرها الإريتري في طبعتها الأولي, شعب يطمح إلي التواصل مع محيطه: إريتريا بلد اللغات التسع والتعدد الثقافي العرقي, تراث وفلكلور, مهجر ولجوء, واقع الشتات بكل امتداده, تاريخ نضالي طويل, تشابكات وتقاطعات مابعد التحرير, نسجها كاتبنا الشاب عبر إرث الماضي وهموم وتطلعات الحاضر, في عمل أدبي هو "نوراي".
وليس "أحمد عمر شيخ" استثناء أو حالة منفردة فهناك جيل كامل من المبدعين الإريتريين بالعربية, يتكئون علي ثقافة عربية أصيلة, ويجيدون التعبير بهذه اللغة شعراً وقصاً ومسرحاً.
وقد أتيح لي أن أطلع علي نماذج من إبداع هذا الجيل الشاب الذي يدرس في مصر, من خلال مسابقة في القصة أقامها "النادي الإريتري في القاهرة " وشارك فيها عدد كبير من المبعوثين الإريتريين, تحت رعاية " السفارة الإريترية" والقسم الثقافي فيها. وأدهشني أن أجد تمكناً من الكتابة بالعربية علي هذا المستوى, وتنوعاً في التجارب والرؤي والآفاق لدى المتسابقين, وعزفاً علي بعض الأوتار الأساسية التي تمثل المقاومة والنضال والحرب والهجرة والرحيل والغربة. وصياغات قصصية تتابع الفن القصصي العربي والإنساني وتحاذيه ولاتتخلف عنه, ووعياً عميقاً بمشكلات إريتريا والعالم العربي والقارة الإفريقية في عصر العولمة وسيطرة القطب الواحد وتشابك دوائر الصراع.
لذا, فإني أكرر الشكر للدكتور/ سمير سرحان, داعياً له بموفور الصحة والعافية وسلامة العودة إلي الوطن, فقد وضع على خريطة النشر الأدبي العربي مبدعاً جميلاً من إريتريا, شاعراً وروائياً , هو" أحمد عمر شيخ" .
_______________
المصدر :
صحيفة الأهرام المصرية 42832 السنة 128-العدد 2004 مارس 14 23 من محرم 1425 هـ الأحد
@ Ahmed omer sheikh
بقلم / فاروق شوشة
_______________
كان ذلك في مناسبة اكتشافي لمبدع جميل من إريتريا هو الشاعر والروائي / أحمد عمر شيخ, الذي تعرفت عليه ضمن دورة للإذاعيين الأفارقة, جاءوا من جزر القمر وإثيوبيا والصومال وجيبوتي وتشاد وموريتانيا وغينيا كوناكري وغيرها, ليستزيدوا من الخبرة الإذاعية المصرية في مجالات عدة, وكان لقائي بهم فرصة لمناقشة البرامج الثقافية في الإذاعة والتليفزيون من حيث المفهوم والإعداد والتقديم والدور, والفلسفة والأهداف والأشكال والصيغ الإذاعية والمشكلات.
كان واضحاً أنَّ أحمد عمر شيخ يتميز من بين الآخرين بحضور ثقافي, وخبرة إذاعية متقدمة, ووعي بالمجال الذي يعمل فيه وهو مجال البرامج الثقافية في الإذاعة الإريترية, وسرعان ما اكتشفت أنه شاعر وروائي, عندما أطلعني علي بعض كتاباته المنشورة في صورة طباعية متواضعة عن إحدي دور النشر المحلية. وعندما كتبت عنه في " الأهرام" باعتباره يمثل الوجود العربي الثقافي في إريتريا, في مواجهة تيارات أخري ولغات أخري, لفت ذلك انتباه الدكتور / سمير سرحان واهتمامه, فقرر نشر عملين من أعماله صدرا قرب ختام العام الماضي هما رواية " نوراي" وديوان "رقصة الطيور" , فحقق بذلك ماكنت قد دعوته إليه, مشكورا.
كانت كتابتي الأولي عن " أحمد عمر شيخ" محاولة للتعريف به, وإلقاء بعض الضوء علي مساحة الإبداع لديه شعرا ورواية.
فقد ولد " أحمد عمر شيخ" في "جدة" بـ"السعودية" عام1966, وفي روايته " نوراي" تصوير بديع لرحلة العودة إلي الوطن ـ إرتيريا ـ عبر مينائه الرئيسي" مصوَّع " علي البحر الأحمر. حصل علي البكالوريوس في علوم الاقتصاد والإدارة في عام1991, وعمل منذ1992 معداً ومقدما للعديد من البرامج الإذاعية والتليفزيونية في بلاده. وفي مقدمة انجازاته الإعلامية تأسيسه لـ"ملتقى الحوار الإريتري" ـ أول وأهم منبر جماهيري مفتوح يناقش أهم القضايا السياسية والثقافية والاجتماعية في مرحلة انتقال إريتريا من الشرعية الثورية إلي الشرعية الدستورية, وهو منبر يرتاده القضاة والمعلمون والسياسيون والموظفون, وتتابعه وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية, فضلا عن صحف " الشرق الأوسط" و" الحياة "و"صوت إريتريا " وبعض مواقع الانترنت.
حصل "أحمد عمر شيخ" علي جائزة في الشعر من "جامعة الملك عبدالعزيز "ـ في السعودية ـ عام1987 ـ وكان مايزال طالبا بالجامعة, ثم علي أول جائزة تخصص للشعر الإريتري المكتوب بالعربية عام1995 وهي جائزة "رايموك" ثم حصل علي جائزة "أريتريون للسلام والدفاع" عام1999. واتيح للعديد من قصائده النشر في الصحف والمجلات الأدبية العربية ـ السعودية خاصة ـ و"المنتدي" الإماراتية, و"الموقف الأدبي "السورية و"إبداع" المصرية.
وقلت عنه أيضا إنه يعتز بإجادته للعربية والكتابة بها, في بلد يضم تسع لغات ويتسع للتعدد الثقافي العرقي. وهو يقول عن نفسه إنه يكتب عجمته باللغة العربية ويهتم بتكريس هذه اللغة في الواقع الإريتري ولكن بوجهها المشرق والمتجدد, مسهماً بهذا الموقف في جدل الهوية الإريترية, وهل هي انتماء عربي أم إفريقي اسلامي أم مسيحي؟! آملا أن يمد المثقفون العرب أيديهم إلي المبدعين بالعربية من أبناء إريتريا, فنحن منهم وهم منا كما يقول, وهناك من وشائج القربي والامتدادات المتواصلة عبر العصور مايحتم ذلك.
يقول "أحمد عمر شيخ" في قصيدته "رقصة الطيور" التي أطلق اسمها علي مجموعته الشعرية :
هدهِدْ سماءك, حلِّقْ أيها البطلُ
حيث المجاهل والأحلام تشتعلُ
شوقُ المدائن لاريثٌ نقابلهُ
موجُ الأصائل في الأحداق يرتحلُ
عزف النوارسِ, ياويح الجوي قدرٌ
صمتُ الشواهد أم ياريح قد ثملوا !!
صفو الأرائك لاتأس لموعدنا
شدو السنابل لاتيهٌ ولا ختلُ
هذي الدروب لنا لابد نعرفها
كيما نردد: ياللفجر يكتملُ
يغفو المدارُ علي شبَّاك حجرتنا
بوحُ الفواصل والأوتار تنهملُ
عزمُ الأرتري والآمادُ جاثية
سحرُ القوافل, يا إنسانُ , ياأملُ
غيثُ المواسم لاخلٌّ يجافينا
هذي سماؤكَ , رفْرِفْ أيها البطلُ
وسرعان ماينتقل بعد هذا البناء الشعري العمودي إلي صيغة شعر التفعيلة, مراوحاً بين الصيغتين, ومنوِّعاً أنغام نصّه الشعري وايقاعاته, طبقاً للحال النفسية, ومستويات التوتر في مقاطع القصيدة, يقول:
للطيورِ النذورْ
للمواقيتِ آجالها
والردى
للعراجين ظلُّ التصوفِ في الأفئده
للتفتّحِ , غبَّ انهيار الدخولِ
لنا , كلّ هذا المدى
أي شيء سدى !
حين صاغ السؤال العتيدْ
تماهي ببهو الرحيلِ
غفا طيفه السرمدي علي المائده
رُبَّ طفلٍ عراه الشحوبُ النبيلُ
سما, وتناهى إلى سمعه البصري الدوي
شوارع من زمهرير الندى
آه, قوس الفدا !
في روايته "نوراي" يعزف "أحمد عمر شيخ " علي الوتر الذي يجيده المبدعون الإريتريون شعراً وقصّا: وتر العودة إلي الوطن, وما يلاقونه من أهوال. في مقابل وتر الهجرة الذي ساد كتاباتهم إبان مقاومة الاحتلال الإثيوبي وما سبق من احتلال إيطالي. وكانت الهجرة من الداخل إلي خارج الوطن, خاصة إلى السودان وبلاد إفريقية أخري. تفاصيل هذا الرحيل إلي الوطن والرحيل من الوطن هي المادة الحية الموحية لعدد من الكتابات الإبداعية المتميزة.
أحمد عمر شيخ الذي يري في نفسه واحداً من جيل الشتات كما جاء علي لسان "سراج" في روايته, يفتن في تصوير البحر والموج, والسلالة, وصهيل العربة والحصان, وتشققات القدمين ونداءات الأزقة, وروائح البول والفقر, ورصيف المحطة, والطفل " نوراي" الذي ينسلّ من بين الطلبة في مدرسة الجيل, وعزيف الجن وقرع الطبول, كل ذلك في إيقاع شعري جارف, وصياغة تصويرية تتحدد خطوطها وملامحها بضربات فرشاة حادة, ولغة يتماوج فيها الشعور واللاشعور, كاشفين عن أعماق الشخصيات في مواجهة عذاب الرحلة, والضوء المنبعث من بعيد يشير إلي الميناء, إلي أمل الوصول, فهذه " مصوَّع" تلوح للقادمين. و"أحمد عمر شيخ" يصوغ لوحته وهو يقول: تتمطى سدول الظلمة, فاطمة تقول: أهلها سيقلقون إن هي تأخرت, تتجمع الغيوم السوداء, الرطوبة تتشبث بحلقي الناشف, أتململ وأصغي إلي اللحن الشارد ومواويل البحر الأحمر. أتمني لو أضمها إلي شذرات الصدر الحسير. أتدحرج ككتلة نوم هاربة, يفرُّ إيقاع الوقت مذعوراً , أطارد الأيام غبنا وانتظارا, يتهاوي النجم ويختفي عند القاع. تتجه بي مساحات العراء صوب أفق المدي السارح, تنتزعني " فاطمة" من بين البراثن, ترشني بالضوء وعبق الرطوبة" المصوعية" وروائح السمك النادر.
في هذه الرواية, كما يقول ناشرها الإريتري في طبعتها الأولي, شعب يطمح إلي التواصل مع محيطه: إريتريا بلد اللغات التسع والتعدد الثقافي العرقي, تراث وفلكلور, مهجر ولجوء, واقع الشتات بكل امتداده, تاريخ نضالي طويل, تشابكات وتقاطعات مابعد التحرير, نسجها كاتبنا الشاب عبر إرث الماضي وهموم وتطلعات الحاضر, في عمل أدبي هو "نوراي".
وليس "أحمد عمر شيخ" استثناء أو حالة منفردة فهناك جيل كامل من المبدعين الإريتريين بالعربية, يتكئون علي ثقافة عربية أصيلة, ويجيدون التعبير بهذه اللغة شعراً وقصاً ومسرحاً.
وقد أتيح لي أن أطلع علي نماذج من إبداع هذا الجيل الشاب الذي يدرس في مصر, من خلال مسابقة في القصة أقامها "النادي الإريتري في القاهرة " وشارك فيها عدد كبير من المبعوثين الإريتريين, تحت رعاية " السفارة الإريترية" والقسم الثقافي فيها. وأدهشني أن أجد تمكناً من الكتابة بالعربية علي هذا المستوى, وتنوعاً في التجارب والرؤي والآفاق لدى المتسابقين, وعزفاً علي بعض الأوتار الأساسية التي تمثل المقاومة والنضال والحرب والهجرة والرحيل والغربة. وصياغات قصصية تتابع الفن القصصي العربي والإنساني وتحاذيه ولاتتخلف عنه, ووعياً عميقاً بمشكلات إريتريا والعالم العربي والقارة الإفريقية في عصر العولمة وسيطرة القطب الواحد وتشابك دوائر الصراع.
لذا, فإني أكرر الشكر للدكتور/ سمير سرحان, داعياً له بموفور الصحة والعافية وسلامة العودة إلي الوطن, فقد وضع على خريطة النشر الأدبي العربي مبدعاً جميلاً من إريتريا, شاعراً وروائياً , هو" أحمد عمر شيخ" .
_______________
المصدر :
صحيفة الأهرام المصرية 42832 السنة 128-العدد 2004 مارس 14 23 من محرم 1425 هـ الأحد
@ Ahmed omer sheikh
بقلم / فاروق شوشة
_______________