(الجزء الثالث)
تحدثنا في الجزء الأول من الدراسة عن العنوان وارتباطه بعالم النص ارتباطا عضويا، بحيث لا نستطيع فهم العنوان ودلالاته إلا بالرجوع إلى النص، ولا نستطيع استكشاف النص إلا عن طريق فهم العنوان؛ فالعنوان هو عتبة الولوج الأولى إلى عالم النص، ثم تحدنا عن حركة المعنى والبناء الرأسي للنص، وحاولنا استكشاف كيفية بناء الرؤية الفكرية في النص، والرموز التي وضعها الشاعر مصابيح تضيء للمتلقي زوايا الرؤية المختلفة بحيث تتكشف تلك الرؤية في كل خطوة يخطوها المتلقي حتى يغلق النص قوسيه، وفي الجزء الثاني تحدثنا عن البناء الأفقي للنص، واقتصر الحديث على الصورة التي ارتبطت بالرؤية الفكرية؛ لتكون العلاقات البلاغية عنصرا أساسيا في بناء الرؤية الفكرية إلى جانب شبكة العلاقات اللغوية، وفي هذا الجزء نستكمل دراسة بقية العلاقات البلاغية المرتبطة بما طرحناه في العنوان (جدلية الماضي والحاضر)فتحدثنا عن النص بين الخبرية والإنشائية، وكان حديثنا منصبًّا على زاوية التأويل التي التزمنا بها، وهي الواردة في العنوان، أي أن التأويل كان يدور حول الكشف عن جدلية الماضي والحاضر من خلال استخدام الأساليب الخبرية والأساليب الإنشائية.
النص بين الخبرية والإنشائية:
يرى بعض الباحثين أن أسلوب الخبر والإنشاء "لا يكتفي بأنه يجسم ظلال الجمال الأخَّاذ، ويمتح من فضاء النور رونقه، ويأخذ من وسط العقد جوهرته ودرته وخريدته فقط، وإنما يحقق للفكر عطشه إلى المعرفة، وإدراك أسرارها" (د. حسين جمعة، جماليات الخبر والإنشاء: دراسة بلاغية جمالية نقدية، ص 10) وهذا يعني أن أسلوب الخبر والإنشاء ليس مجرد أسلوب يبحث عن التجميل والتزيين؛ كي يأتي النص بارع الجمال أو أخَّاذا فقط، ولكنه يكشف إلى جانب ذلك عن تحولات الدلالة داخل النص، وكيف يمكن أن يتحرك المعنى من خلال إيراد الأسلوب خبريا أو إنشائيا، ومن ثم فإن اختيار الشاعر لأسلوبه هو اختيار واعٍ قائم على إخفاء الدلالة خلف ستائر شفافة من الأساليب، ومراوغة المتلقي؛ كي يصبح شريكا في إنتاج الدلالة، واكتشاف المعنى، ومن ثم التوصل إلى الرؤية الفكرية المتخفية خلف شبكة العلاقات البلاغية واللغوية.
الأساليب الخبرية وعلاقتها بإنتاج الدلالة:
يهيمن الأسلوب الخبري على النص بصورة جلية، وقد يكون سبب ذلك الضغط النفسي الذي يتعرض له الشاعر نتيجة طغيان الحالة المعبَّر عنها؛ إذ يمثل سببا كافيا للجوء الشاعر إلى استخدام الأسلوب الخبري، وهيمنته على مفاصل النص، ويتوزع الأسلوب الخبري على خارطة النص توزُّعا متقنا؛ إذ تتخلله الأساليب الإنشائية؛ لتُحدث نوعا من الديناميكية من خلال التنقل بين الأساليب بحيث تنفي عن النص الملل والجمود، وتدفعه نحو الحركة الدائمة والدائبة التي تتناسب مع حركة الانتقال من الحاضر إلى الماضي، ومن الماضي إلى الحاضر، ومعها حركة النفس المبدعة الموَّارة بالتساؤلات والرغبات، وإذا كان الغرض الأساسي للأسلوب الخبري هو الإفادة، أي إفادة المُخاطب بمعلومة ربما لم يكن يعرفها من قبل فإن هذا الأسلوب يخرج عن معناه الحقيقي/الإفادة إلى معنى غير حقيقي وهو المعنى البلاغي، وإذا كان الأسلوب الخبري أسلوبا بلاغيا يعطي للكلام الذي يقع فيه احتمالية الصدق والكذب في ذاته مع إشارته إلى دلالة معينة دون التصريح بها فإن لجوء الشاعر إلى استخدام هذا الأسلوب يوحي بأنه يؤمن أن كلامه لن يجمع عليه المتلقون؛ إذ إنه يحتمل أن يصدقه البعض ويكذبه البعض الآخر، ولكنه منذ البداية لا يعنى بذلك؛ بل عنايته الكبرى هي نقل المشهد الذي يريد التعبير عنه نقلا كاملا مع تصوير ما يتحكم في النفس الإبداعية لحظة الإبداع، وإعادة تشكيل تلك الروح الإبداعية؛ لتكون ماثلة من خلال الألفاظ أمام المتلقي، موَّارة بالمشاعر الحية المتفاعلة، ومن ثم قد يُنزِل النص المتلقي الخالي الذهن منزلة المتردد أو الشاك، والعكس صحيح؛ ذلك أن الأغراض الخاصة بـالأسلوب الخبري يتعلق أساسها اللغوي بالمتكلم والمخاطَب معا، ومن ثم فقد قسَّم البلاغيون أنواع المتكلم مع المخاطب إلى ثلاثة أنواع يستوجب كلٌّ منهما غرضا مُحددا، فقد يكون المخاطَب خالي الذهن، ومن ثم فإن المتكلم يسوق له الخبر خاليا من أي توكيد، فحين نرى الجملة الخبرية خالية من التوكيد نعلم أن المخاطَب خالي الذهن، وإذا كان الموقف والسياق يقتضيان أن يكون المخاطَب شاكا نتيجة طبيعة المعنى ولم يرد في الجملة ما يدل على كون المخاطَب شاكا فإننا نعلم في هذه الحالة أن الشاعر قد أنزل المخاطَب الشاك منزلة الخالي الذهن، وحين يكون المخاطَب شاكا فإن النص يأتي بما يدل على ذلك من أدوات التوكيد، وقد يزداد شك المخاطَب فيصل إلى مرحلة الإنكار، وهنا نجد النص يحتوي على مؤكِّدات تتناسب مع درجة الإنكار، وهذا يعني أن النص هو مرآة الأنا الشاعرة التي تتجلى فيها حالة المخاطَب في النص، ونلاحظ أن الجمل الخبرية تنوعت فجاءت بعضها موكدة، وجاءت بعضها خالية من التوكيد، ومن ثم فإن الشاعر اعتبر المتلقي خالي الذهن لا يحتاج إلى توكيد المعاني التي يسوقها، وكأنه اعتبر هذه المعاني مسلمات لا تحتاج إلى توكيد؛ فهي تعبر عن واقع لا يحتاج أدلة عليه. لقد عبَّرت خبرية الجمل في النص عن فكر الشاعر الذي تشكَّل في ذهنه قبل صياغة القصيدة، وتحرَّك منسربا بين ألفاظها وجملها، وشكَّل شبكة من العلاقات المنسوجة، وكان بمقتضاها للنص حقوله الدلالية، ومن الأساليب الخبرية الواردة في النص:
أعدو كما نافرٍ من مساء بغيض المضاجع
أعدو كمن لاحقته النار ألسنة وأضراساً
وأرنو فلا وجه يشي بالهداية وحتى في التماع الفنارات
شَرودٌ، ولا جنة تأوي ولا نهلة من فرات مياه
أعدو الى ضوئها
أعدو واحتلام هذا الصباح الفتيّ خيال
بلادي العتيقة كلما تذكرت أشجارها تذكرت أعمارها..
وحُوْبَ رماح سمهريات قدَّدتها فؤوس
تتكون الصورة السابقة من مجموعة من الأساليب الخبرية بعضها يتشكل من جمل فعلية، وبعضها الآخر يتشكل من جمل اسمية، ولكنها جميعا تصور حالة محددة للأنا الشاعرة، ومن الملاحظ أن الشاعر لم يستخدم أية وسيلة من وسائل التوكيد؛ ليؤكد الفكرة التي يوردها في الأسلوب الخبري، ومن ثم فإن الأساليب الخبرية هنا تنتمي إلى الخبر الابتدائي، وهو الخبر الذي يتعامل مع المتلقي على أنه خالي الذهن فيلقي إلى الفكرة دون مؤكدات، وهذا يدفعنا إلى استنتاج أن ما يقوله الشاعر لا يحتاج إلى مؤكدات؛ فهو من الوضوح بحيث لا يمكن لأحد أن يشك فيها أو ينكره، وهذه الأساليب الخبرية الغرض منها السأم والكراهية والبغض (أعدو كما نافر...) وكذلك الغرض منها الخوف والرعب الشديد (أعدو كمن لاحقته النار...) فإننا يمكن أن نتخيل إنسانا تلاحقه النار لتقضي عليه، ومن ثم نرى عليه علامات الخوف والرعب من الاحتراق بالنار، وكذلك الغرض من الأسلوب الخبري التيه والضياع (فلا وجه يشي بالهداية) وهناك الغرض الجوع والعطش والتشرد (شرود، ولا جنة تأوي ولا نهلة من فرات مياه) وكلها أغراض تقود الإنسان إلى الشعور بالسلبية، وتعبر عن الفقد لكل مقومات الحياة الآمنة المستقرة، ثم تأتي الأساليب الخبرية الأخرى؛ لتؤكد حالة الفقد والضياع والفقر، وهي أيضا حالة سلبية في قوله
بهذي البلاد
صرير النواعير صرصرت أبوابنا فاستحالت غثاءً.. بحة
وندوب المرايا دموع الأمهات الصادقات
فالأسلوب الأول يدل على التغير الذي أصاب المجتمع ومفرداته، وفقدان الأشياء لوظيفتها التي أنشئت من أجلها؛ فصرير النواعير في حالتها الطبية يدل على خروج الماء، أي الحياة والخصب، أما هنا فيدل على الإزعاج وفقدان القيمة، والأسلوب الخبري الثاني يدل على الضياع والحزن، وهما حالتان سلبيتان، ومن الملاحظ كذلك أن الشاعر لم يستخدم أية مؤكدات تؤكد كلامه؛ لأنه يرى أن ما يقوله لا يحتاج إلى تأكيد؛ فهو مشهود في كل مكان من أرض بلاده، والناس تشاهده يوميا، وتشهد عليه، ولا يوجد منهم من يشك في ذلك أو ينكره، ومن ثم فإن استخدام أسلوب التوكيد هنا يكون غير ذي جدوى، وبالتالي فلا حاجة لتأكيد ذلك، ثم تأتي الأساليب الخبرية التالية
ثابت ذلك الرمل.. وهو للان
ومهما تحوّل او تغوّل القارُ إسفلتا للصِلات الحديثة
هذي الارض سِفرٌ بمسمار ومزمارٍ
لوجد وعهد ورمل وسهل ومهدٍ وحرف تكور قصة قصـــة
قصة المجد القديم
وهذه الأساليب الخبرية تدل على الثبات، وقد استخدم النص الألفاظ الدالة على هذا الثبات سواء دلالة مباشرة، أو غير مباشرة (ثابت -وهو للآن – هذه الأرض سفر ...) وبذلك تكون تلك الأساليب الخبرية دالة على عكس ما تدل الأساليب الخبرية السابقة الدالة على التغيُّر، كما أشرنا سابقا، وإذا نظرنا فإننا نلاحظ أن الأساليب الخبرية السابقة تشير إلى الحاضر الذي تغيَّرت أحواله، وأما هذه الأساليب الخبرية فإنها تدل على الماضي، وبذلك تكون الأساليب الخبرية كاشفة عن الرؤية الفكرية، ومساعدة في إنتاج الدلالة، ومؤكدة لحركة المعنى التي تحدثنا عنها سابقا، ثم يأتي نوع آخر من الأساليب الخبرية في قوله:
آية.. أنت يا بيرق الاخضرار
راية في سماء البلاد المشرقية تهفو لها الشمس
والإشراق والأشواق
والغرض من هذه الأساليب التعظيم (آية أنت يا بيرق الاخضرار – راية في سماء البلاد المشرقية – تهفو لها الشمس والإشراق والأشواق) وكلها ألفاظ تحمل كل معاني التعظيم والإجلال ومن ثم فإن استخدام الأساليب الخبرية كان أحد الآليات البلاغية التي لجأ إليها الشاعر إما لتأكيد رؤية الفكرية التي يخفيها خلف شبكة العلاقات اللغوية، أو للكشف عن بعض الجوانب التي لم تكشف عنها زوايا التأويل السابقة.
الأساليب الإنشائية وعلاقتها بإنتاج الدلالة:
يقوم الإنشاء على أساس الطلب الذي يطلبه المتكلم من المخاطَب، ومعنى ذلك أن الكلام الإنشائي مرتبط بتصورات المتكلم ورؤاه ومشاعره، وكاشف عن تلك الرؤى والتصورات والمشاعر، وسوف نتناول الأساليب الإنشائية في النص من زاوية كونها معبرة عن رؤى الشاعر وتصوراته ومشاعره، محللين ذلك تحليلا يربطه بالدلالة الكلية للنص، وقد وردت الأساليب الإنشائية في النص اثنتي عشرة مرة، موزعة على نوعين من الأساليب، هما أسلوب النداء، وأسلوب الأمر؛ فقد ورد أسلوب النداء أربع مرات، عفي حين ورد أسلوب الأمر تسع مرات، وبذلك لا يتساوى الأسلوبان من حيث ورود كل منهما في النص؛ ومن ثم لا يشكلان توازيا دلاليا سوف نتحدث عنه، وقد تنوَّعت الأغراض البلاغية لهذه الأساليب الإنشائية، ويعدُّ السياق المحدد الفعلي للدلالة من خلال (كشفه عن دلالات الأبنية اللغوية التركيبية بصورة دقيقة لا ينصرف الذهن إلى غيرها من الدلالات التي يمكن أن تتضمنها أو تؤديها سيما تلك التراكيب المحتملة لأكثر من معنى وبواسطة تجاوز الكلمات حدودها المعجمية المعروفة إلى دلالات جديدة قد تكون مجازية أو إضافية أو نفسية أو إيحائية أو اجتماعية، أو غير ذلك من الدلالات) (شاذلية سيد محمد السيد، السياق وأثره في بيان الدلالة، ص 6) من الأساليب الإنشائية الواردة في النص أسلوب النداء، وقد تحدثنا عنه في أثناء حديثنا عن حركة المعنى في النص، وكذلك في أثناء حديثنا عن الصورة الفنية، ولكن حديثنا هناك ورد بما يتناسب مع تلك المرحلة من التأويل، وهنا نستطيع التفصيل بما يتناسب مع التشكيل البلاغي وأثره في إنتاج الدلالة، وقد ورد أسلوب النداء في النص أربع مرات (ألا أيها المجد المفخخ بالأباطيل اللعينة والأساطير – ألا أيها الآكلون قمح البلاد – يا نبضًا تأطر بالسنابل والحقول – يا بنت الأُلى يمَّموا شطر أسلافهم) وفي البداية نلاحظ التوازن على المستوى الدلالي في اختيار أدوات النداء؛ فقد وردت (أيها) مسبوقة بحرف التنبيه (ألا) مرتين، ووردت أداة النداء (يا) مرتين، وهي أدوات نداء للقريب والبعيد، أما الأداة (أيها) فهي أداة نداء يتصل بها المنادى المعرف بالألف واللام، وتستخدم مع المذكر والمؤنث، ومع المفرد والمثنى والجمع، وكون الأداة هنا للقريب والبعيد فإن له دلالة خاصة؛ ففي المنادى الأولى (أسيها المجد ...) نلاحظ أنه قريب إلى الشاعر في المكانة، أي قريب من قلبه، ولكنه بعيد في الزمان؛ إذ إن هذا المجد موغل في القدم، ومن ثم فإنه يحمل دلالتين: الأولى البعد الزمني والثانية القرب من القلب والنفس؛ حيث يعتز الشاعر بهذا المجد المحاط بالأساطير، أي الذي نسج الناس حوله الأساطير الكثيرة نتيجة عظمته، وهو ما دفع الشاعر إلى قوله عن بلاده صاحبة هذا المجد: (راية في سماء البلاد المشرقية تهفو لها الشمس والإشراق والأشواق) وأما المنادى الثاني (أيها الآكلون قمح البلاد) فقد استخدم الشاعر أداة النداء الدالة على القريب والبعيد؛ ليدل على أن هؤلاء الآكلين قمح البلاد يعيشون في البلاد، أي أنهم من أبناء هذه البلاد، وليسوا من خارجها؛ فهم ينتسبون إليها، ويعيشون على أرضها، ولكنهم بعيدون كل البعد عن طباع أهلها، وحرصهم على بلادهم، وكذلك يدل على بعدهم عن قلب الشاعر وقناعاته؛ لأنهم عامل هدم للبلاد، ويمكن أن تكون الدلالة أنهم قريبون من البلاد، أي يسكنون فيها، ولكنهم بعيدون عن الشاعر، أي أنه يسكن في مكان بعيد عنهم، وهو ما يدل على واقع الحال؛ فالشاعر مغترب عن وطنه، ومن ثم فهو بعيد عنهم وهم بعيدون عنه، ولكنهم قريبون من أرضهم؛ لأنهم يعيشون على أرض بلادهم، وقد استخدم الشاعر في النداءين أداة التنبيه (ألا) لينبه على أهمية ما سيقول، ومن سينادي؛ ففي النداء الأول سوف ينادي على المجد وهو شيء مهم جدا، ومن الضروري استخدام أداة التنبيه (ألا) وفي النداء الثاني (ألا أيها الآكلون ...) استخدم كذلك أداة التنبيه لينبه أولئك الذين يأكلون قمح البلاد إلى خطورة ما يفعلون، والغرض من النداء الأول (ألا أيها المجد...) التعظيم، وأما الغرض من النداء الثاني (ألا أيها الآكلون...) فهو التنبيه على أهمية ما يُدْعى المنادى إليه، ويمكن أن يكون الغرض الدلالة على الزجر والردع لمن يقوم بأكل قمح البلاد، كما يمكن أن يكون الغرض هو الدعوة إلى إيقاظ المنادى من غفلته، ورجوعه عما يفعل، وكلها دلالات يمكن واردة من خلال استقراء ظلال المعنى في النداء، ونلاحظ كذلك أن المنادى في الأسلوبين معرفة، وهذا يدل على أنه معروف للشاعر، وكذلك لأهل البلاد، فإذا انتقلنا إلى الأسلوبين الآخرين (يا نبضًا تأطر بالسنابل والحقول – يا بنت الأُلى يمَّموا شطر أسلافهم) فإننا نلاحظ أيضا أن الشاعر استخدم أداة النداء (يا) الدالة على القريب والبعيد، وعلى الرغم من أن المنادى في الأسلوبين واحد، وهو البلاد إلا أننا نلاحظ اختلافا في الاستخدام، ومن ثم الاختلاف في الدلالة؛ ففي الأسلوب الأول (يا نبضًا تأطر بالسنابل والحقول) جاء المنادى نكرة على الرغم من أن المقصود به البلاد، ليدل على العموم والشمول، وفي الوقت نفسه يدل على التعظيم، ويمكن اعتبار النكرة هنا غير محضة، ومن ثم تكتسب التعريف، وكان ابن هشام هو أول من صرَّح أن الجملة الخبرية بعد النكرات المحضة صفات، وبعد المعارف المحضة أحوال، والنكرة غير المحضة هي التي توجد معها قرينة تقربها إلى المعرفة، والقرينة هنا معنوية ناشئة من معرفة من يتوجه إليه النداء، وقد يرى البعض أنها نكرة محضة، وفي جميع الأحوال فهي دالة على التعظيم، وأما المنادى الثاني (يا بنت الأُلى يمَّموا شطر أسلافهم) فالمنادى هنا معرفة؛ إذ أضاف البلاد/ بنت إلى أبنائها الذين يصنعون أمجادها/ يمموا شطر أسلافهم، وهذا النداء يقف في مقابلة النداء (أيها الآكلون قمح البلاد)؛ ذلك أن المضمون في النداءين مختلف، ففي النداء الأول أشار إلى صانعي مجد البلاد، ونسب البلاد إليهم/ بنت الألى، وأما في النداء الثاني فإن المضمون يدور حول نهب البلاد، وتدمير حاضرها، ومن ثم فإننا أمام عنصرين من عناصر البلاد، أحدهما يهدم والآخر يبني، ومن الملاحظ أن الشاعر استخدم أيضا أداة النداء (يا) الدالة على القريب والبعيد، ولكن الدلالة هنا مختلفة عن أسلوبيْ النداء فيما سبق؛ فهنا القرب متوجه إلى نفس الشاعر وقلبه، والبعد متوجه إلى المكان، فالمنادى/ البلاد قريب من قلب الشاعر، ولكنه بعيد عنه في المكان، ومن ثم فإن أسلوب النداء في النص قد ساعد في إنتاج الدلالة، والكشف عن جانب من الرؤية الفكرية في النص.
أما أسلوب الأمر فقد ورد في النص تسع مرات، هي (ألا أيها المجد المفخَّخ بالأباطيل اللعينة والأساطير عَنّا – إليك عنا قليلاً – عرّجوا – نحو تلك التخوم العتيقة عرّجوا.. – سائلوا كل بخّاتٍ عشقه الرمل عن سيرة السالفين – هبي أنني الآن لا أعدو – هبي أن عينيك مهماز قلبي الضعيف – هبي أن أرجوحة الضوء ميس الجميلات في موئل الظل – هبي أنى.. بأحلام جدي كروح الزواجل راودتها المعارج قبل المدارج) ومن الملاحظ أن بعض أساليب الأمر جاءت بصيغة اسم فعل الأمر (...... والأساطير عنَّا – إليك عنا قليلا) وبعضها جاء بصيغة فعل الأمر مباشرة (عرجوا – سائلوا – هبي) كما نلاحظ أن بعض صيغ الأمر جاءت مرة واحدة (سائلوا) وبعضها تكرر (عنَّا – إليك عنَّا – عرجوا – هبي) في الأسلوبين الأولين يبدو حضور الماضي بقوة في الذهنية، بحيث يبدو هذا الماضي بكل ما يحيط به من أساطير ماثلا في ذهن الشاعر، وأبناء وطنه، وهنا يأتي طلب الشاعر من هذا الماضي التنحي قليلا؛ حتى يعيشوا الحياة ويصنعوا أمجادهم دون أن يكون الماضي ضاغطا عليهم بكل ما فيه من أمجاد، وما يحيط به من أساطير، ومن ثم فإن الأمر هنا الغرض منه التمني، أي أن الشاعر يتمنى أن يتنحى الماضي قليلا (إليك عنَّا قليلا) وقد كرر الشاعر الأسلوب مرتين بالصيغة نفسها/ اسم فعل أمر، وفي الأسلوبان الثاني والثالث هما (عرّجوا – نحو تلك التخوم العتيقة عرّجوا..) وفيهما يكرر الشاعر أيضا الصيغة نفسها (عرِّجوا) ولكنه هنا يكررها باستخدام صيغة فعل الأمر نفسه، وهذان الأسلوبان يمكن قراءتهما بطريقتين، الأولى اعتبارهما صيغتين منفصلتين، الأولى (عرِّجوا) وهي أسلوب أمر مكون من فعل وفاعل، ولا يوجد تكملة للجملة، ويترك الشاعر للمتلقي استنطاق النص؛ لمعرفة الشيء الذي يمكن أن يعرجوا عليه، والصيغة الثانية هي (نحو تلك التخوم العتيقة عرّجوا..) وقد قدَّم الشاعر الجهة التي يطلب التعريج عليها، وهي تلك التخوم العتيقة، والمقصود بها الآثار الباقية من أمجاد الأسلاف الذين صنعوا المجد، ثم يأتي الشاعر بالفعل والفاعل (عرِّجوا) وهذه القراءة – أي اعتبارهما جملتين منفصلتين – يؤكدها توزيع الجمل على فضاء الصفحة؛ إذ وردت كل جملة في سطر، وهذا يوحي بأن الشاعر أراد أن تكون كل جملة منفصلة عن الأخرى، ويمكن قراءة الأسلوبين بطريقة أخرى، وهي اعتبار الأسلوبين أسلوبا واحدا تكرر الفعل (عرِّجوا) وبذلك تكون الجملة كالتالي (عرّجوا نحو تلك التخوم العتيقة عرّجوا..) وهنا يكون الغرض من الأسلوب التوبيخ، وقد اخترنا التوبيخ لأن الأمر ورد بعد جملة يتحدث فيها الشاعر عن الآثار الناتجة عن أفعال الآكلين قمح البلاد، ويكون الغرض من الفعل الثاني (عرِّجوا) هو التوكيد، ثم يأتي أسلوب الأمر الخامس (سائلوا كل بخّاتٍ عشقه الرمل عن سيرة السالفين) ومن الملاحظ أن الفعل جاء (سائلوا) ولم يأتِ (اسألوا) ومن الواضح الفرق بين الصيغتين فالصيغة الأولى تدل على تكرار السؤال لتوكيد المعنى، أي أن تكرار السؤال لأكثر من جهة سوف يصل للنتيجة ذاتها، وهو ما يتناسب مع اللفظ (كل) ومن ثم فإن استخدام الفعل بهذه الصيغة (سائلوا) يدل على الكثرة إلى جانب دلالته على التوبيخ الواردة في الأسلوب السابق (عرِّجوا) فالشاعر يوبخ أولئك الذين أكلوا قمح البلاد، ووصلوا بها إلى هذا الواقع المزري الذي عبَّرت عنه الجملتين السابقتين لهذين الأسلوبين (عرجوا – سائلوا) مباشرة، وهاتان الجملتان هما (صرير النواعير صرصرت أبوابنا فاستحالت غثاءً.. بحة – وندوب المرايا دموع الأمهات الصادقات) ومن ثم كانت دلالة التوبيخ للأمر هنا منطقية، على أن البعض قد يرى أن الغرض من الأمر التمني، أي أن الشاعر يتمنى من آكلي قمح البلاد أن يعرجوا وأن يسائلوا، والتمني يحمل في طياته اليأس من هؤلاء؛ لأن التمني هو رغبة شيء مستحيل التحقق على عكس الترجي، والتمني أقرب من الترجي؛ لأن الشاعر يرى أن آكلي قمح البلاد عقلاء ويدركون ما يفعلون، أي أنهم ليسوا فاقدي الإرادة، ومن ثم فإن افعالهم تعبر عما في أنفسهم، وإرادتهم الكاملة، ثم تأتي أساليب الأمر الأربعة التالية (هبي أنني الآن لا أعدو – هبي أن عينيك مهماز قلبي الضعيف – هبي أن أرجوحة الضوء ميس الجميلات في موئل الظل – هبي أنى.. بأحلام جدي كروح الزواجل راودتها المعارج قبل المدارج) ويتكرر فيها فعل الأمر (هبي) وهذا الأمر موجَّه إلى البلاد، وفي كل مرة يطلب الشاعر شيئا مختلفا، لقد نجحت الأساليب الإنشائية المنتشرة عبر الفضاء النصي في الكشف عن المعنى، وإنتاج الدلالة، كما أنها دارت حول الإطار العام للنص، وعمَّقت ما ورد من خلال تتبع حركة المعنى في النص، أو ما كشفت عنه الصورة الفنية، وبذلك تتضافر العناصر كلها في الكشف عن المعنى وإنتاج الدلالة.
تحدثنا في الجزء الأول من الدراسة عن العنوان وارتباطه بعالم النص ارتباطا عضويا، بحيث لا نستطيع فهم العنوان ودلالاته إلا بالرجوع إلى النص، ولا نستطيع استكشاف النص إلا عن طريق فهم العنوان؛ فالعنوان هو عتبة الولوج الأولى إلى عالم النص، ثم تحدنا عن حركة المعنى والبناء الرأسي للنص، وحاولنا استكشاف كيفية بناء الرؤية الفكرية في النص، والرموز التي وضعها الشاعر مصابيح تضيء للمتلقي زوايا الرؤية المختلفة بحيث تتكشف تلك الرؤية في كل خطوة يخطوها المتلقي حتى يغلق النص قوسيه، وفي الجزء الثاني تحدثنا عن البناء الأفقي للنص، واقتصر الحديث على الصورة التي ارتبطت بالرؤية الفكرية؛ لتكون العلاقات البلاغية عنصرا أساسيا في بناء الرؤية الفكرية إلى جانب شبكة العلاقات اللغوية، وفي هذا الجزء نستكمل دراسة بقية العلاقات البلاغية المرتبطة بما طرحناه في العنوان (جدلية الماضي والحاضر)فتحدثنا عن النص بين الخبرية والإنشائية، وكان حديثنا منصبًّا على زاوية التأويل التي التزمنا بها، وهي الواردة في العنوان، أي أن التأويل كان يدور حول الكشف عن جدلية الماضي والحاضر من خلال استخدام الأساليب الخبرية والأساليب الإنشائية.
النص بين الخبرية والإنشائية:
يرى بعض الباحثين أن أسلوب الخبر والإنشاء "لا يكتفي بأنه يجسم ظلال الجمال الأخَّاذ، ويمتح من فضاء النور رونقه، ويأخذ من وسط العقد جوهرته ودرته وخريدته فقط، وإنما يحقق للفكر عطشه إلى المعرفة، وإدراك أسرارها" (د. حسين جمعة، جماليات الخبر والإنشاء: دراسة بلاغية جمالية نقدية، ص 10) وهذا يعني أن أسلوب الخبر والإنشاء ليس مجرد أسلوب يبحث عن التجميل والتزيين؛ كي يأتي النص بارع الجمال أو أخَّاذا فقط، ولكنه يكشف إلى جانب ذلك عن تحولات الدلالة داخل النص، وكيف يمكن أن يتحرك المعنى من خلال إيراد الأسلوب خبريا أو إنشائيا، ومن ثم فإن اختيار الشاعر لأسلوبه هو اختيار واعٍ قائم على إخفاء الدلالة خلف ستائر شفافة من الأساليب، ومراوغة المتلقي؛ كي يصبح شريكا في إنتاج الدلالة، واكتشاف المعنى، ومن ثم التوصل إلى الرؤية الفكرية المتخفية خلف شبكة العلاقات البلاغية واللغوية.
الأساليب الخبرية وعلاقتها بإنتاج الدلالة:
يهيمن الأسلوب الخبري على النص بصورة جلية، وقد يكون سبب ذلك الضغط النفسي الذي يتعرض له الشاعر نتيجة طغيان الحالة المعبَّر عنها؛ إذ يمثل سببا كافيا للجوء الشاعر إلى استخدام الأسلوب الخبري، وهيمنته على مفاصل النص، ويتوزع الأسلوب الخبري على خارطة النص توزُّعا متقنا؛ إذ تتخلله الأساليب الإنشائية؛ لتُحدث نوعا من الديناميكية من خلال التنقل بين الأساليب بحيث تنفي عن النص الملل والجمود، وتدفعه نحو الحركة الدائمة والدائبة التي تتناسب مع حركة الانتقال من الحاضر إلى الماضي، ومن الماضي إلى الحاضر، ومعها حركة النفس المبدعة الموَّارة بالتساؤلات والرغبات، وإذا كان الغرض الأساسي للأسلوب الخبري هو الإفادة، أي إفادة المُخاطب بمعلومة ربما لم يكن يعرفها من قبل فإن هذا الأسلوب يخرج عن معناه الحقيقي/الإفادة إلى معنى غير حقيقي وهو المعنى البلاغي، وإذا كان الأسلوب الخبري أسلوبا بلاغيا يعطي للكلام الذي يقع فيه احتمالية الصدق والكذب في ذاته مع إشارته إلى دلالة معينة دون التصريح بها فإن لجوء الشاعر إلى استخدام هذا الأسلوب يوحي بأنه يؤمن أن كلامه لن يجمع عليه المتلقون؛ إذ إنه يحتمل أن يصدقه البعض ويكذبه البعض الآخر، ولكنه منذ البداية لا يعنى بذلك؛ بل عنايته الكبرى هي نقل المشهد الذي يريد التعبير عنه نقلا كاملا مع تصوير ما يتحكم في النفس الإبداعية لحظة الإبداع، وإعادة تشكيل تلك الروح الإبداعية؛ لتكون ماثلة من خلال الألفاظ أمام المتلقي، موَّارة بالمشاعر الحية المتفاعلة، ومن ثم قد يُنزِل النص المتلقي الخالي الذهن منزلة المتردد أو الشاك، والعكس صحيح؛ ذلك أن الأغراض الخاصة بـالأسلوب الخبري يتعلق أساسها اللغوي بالمتكلم والمخاطَب معا، ومن ثم فقد قسَّم البلاغيون أنواع المتكلم مع المخاطب إلى ثلاثة أنواع يستوجب كلٌّ منهما غرضا مُحددا، فقد يكون المخاطَب خالي الذهن، ومن ثم فإن المتكلم يسوق له الخبر خاليا من أي توكيد، فحين نرى الجملة الخبرية خالية من التوكيد نعلم أن المخاطَب خالي الذهن، وإذا كان الموقف والسياق يقتضيان أن يكون المخاطَب شاكا نتيجة طبيعة المعنى ولم يرد في الجملة ما يدل على كون المخاطَب شاكا فإننا نعلم في هذه الحالة أن الشاعر قد أنزل المخاطَب الشاك منزلة الخالي الذهن، وحين يكون المخاطَب شاكا فإن النص يأتي بما يدل على ذلك من أدوات التوكيد، وقد يزداد شك المخاطَب فيصل إلى مرحلة الإنكار، وهنا نجد النص يحتوي على مؤكِّدات تتناسب مع درجة الإنكار، وهذا يعني أن النص هو مرآة الأنا الشاعرة التي تتجلى فيها حالة المخاطَب في النص، ونلاحظ أن الجمل الخبرية تنوعت فجاءت بعضها موكدة، وجاءت بعضها خالية من التوكيد، ومن ثم فإن الشاعر اعتبر المتلقي خالي الذهن لا يحتاج إلى توكيد المعاني التي يسوقها، وكأنه اعتبر هذه المعاني مسلمات لا تحتاج إلى توكيد؛ فهي تعبر عن واقع لا يحتاج أدلة عليه. لقد عبَّرت خبرية الجمل في النص عن فكر الشاعر الذي تشكَّل في ذهنه قبل صياغة القصيدة، وتحرَّك منسربا بين ألفاظها وجملها، وشكَّل شبكة من العلاقات المنسوجة، وكان بمقتضاها للنص حقوله الدلالية، ومن الأساليب الخبرية الواردة في النص:
أعدو كما نافرٍ من مساء بغيض المضاجع
أعدو كمن لاحقته النار ألسنة وأضراساً
وأرنو فلا وجه يشي بالهداية وحتى في التماع الفنارات
شَرودٌ، ولا جنة تأوي ولا نهلة من فرات مياه
أعدو الى ضوئها
أعدو واحتلام هذا الصباح الفتيّ خيال
بلادي العتيقة كلما تذكرت أشجارها تذكرت أعمارها..
وحُوْبَ رماح سمهريات قدَّدتها فؤوس
تتكون الصورة السابقة من مجموعة من الأساليب الخبرية بعضها يتشكل من جمل فعلية، وبعضها الآخر يتشكل من جمل اسمية، ولكنها جميعا تصور حالة محددة للأنا الشاعرة، ومن الملاحظ أن الشاعر لم يستخدم أية وسيلة من وسائل التوكيد؛ ليؤكد الفكرة التي يوردها في الأسلوب الخبري، ومن ثم فإن الأساليب الخبرية هنا تنتمي إلى الخبر الابتدائي، وهو الخبر الذي يتعامل مع المتلقي على أنه خالي الذهن فيلقي إلى الفكرة دون مؤكدات، وهذا يدفعنا إلى استنتاج أن ما يقوله الشاعر لا يحتاج إلى مؤكدات؛ فهو من الوضوح بحيث لا يمكن لأحد أن يشك فيها أو ينكره، وهذه الأساليب الخبرية الغرض منها السأم والكراهية والبغض (أعدو كما نافر...) وكذلك الغرض منها الخوف والرعب الشديد (أعدو كمن لاحقته النار...) فإننا يمكن أن نتخيل إنسانا تلاحقه النار لتقضي عليه، ومن ثم نرى عليه علامات الخوف والرعب من الاحتراق بالنار، وكذلك الغرض من الأسلوب الخبري التيه والضياع (فلا وجه يشي بالهداية) وهناك الغرض الجوع والعطش والتشرد (شرود، ولا جنة تأوي ولا نهلة من فرات مياه) وكلها أغراض تقود الإنسان إلى الشعور بالسلبية، وتعبر عن الفقد لكل مقومات الحياة الآمنة المستقرة، ثم تأتي الأساليب الخبرية الأخرى؛ لتؤكد حالة الفقد والضياع والفقر، وهي أيضا حالة سلبية في قوله
بهذي البلاد
صرير النواعير صرصرت أبوابنا فاستحالت غثاءً.. بحة
وندوب المرايا دموع الأمهات الصادقات
فالأسلوب الأول يدل على التغير الذي أصاب المجتمع ومفرداته، وفقدان الأشياء لوظيفتها التي أنشئت من أجلها؛ فصرير النواعير في حالتها الطبية يدل على خروج الماء، أي الحياة والخصب، أما هنا فيدل على الإزعاج وفقدان القيمة، والأسلوب الخبري الثاني يدل على الضياع والحزن، وهما حالتان سلبيتان، ومن الملاحظ كذلك أن الشاعر لم يستخدم أية مؤكدات تؤكد كلامه؛ لأنه يرى أن ما يقوله لا يحتاج إلى تأكيد؛ فهو مشهود في كل مكان من أرض بلاده، والناس تشاهده يوميا، وتشهد عليه، ولا يوجد منهم من يشك في ذلك أو ينكره، ومن ثم فإن استخدام أسلوب التوكيد هنا يكون غير ذي جدوى، وبالتالي فلا حاجة لتأكيد ذلك، ثم تأتي الأساليب الخبرية التالية
ثابت ذلك الرمل.. وهو للان
ومهما تحوّل او تغوّل القارُ إسفلتا للصِلات الحديثة
هذي الارض سِفرٌ بمسمار ومزمارٍ
لوجد وعهد ورمل وسهل ومهدٍ وحرف تكور قصة قصـــة
قصة المجد القديم
وهذه الأساليب الخبرية تدل على الثبات، وقد استخدم النص الألفاظ الدالة على هذا الثبات سواء دلالة مباشرة، أو غير مباشرة (ثابت -وهو للآن – هذه الأرض سفر ...) وبذلك تكون تلك الأساليب الخبرية دالة على عكس ما تدل الأساليب الخبرية السابقة الدالة على التغيُّر، كما أشرنا سابقا، وإذا نظرنا فإننا نلاحظ أن الأساليب الخبرية السابقة تشير إلى الحاضر الذي تغيَّرت أحواله، وأما هذه الأساليب الخبرية فإنها تدل على الماضي، وبذلك تكون الأساليب الخبرية كاشفة عن الرؤية الفكرية، ومساعدة في إنتاج الدلالة، ومؤكدة لحركة المعنى التي تحدثنا عنها سابقا، ثم يأتي نوع آخر من الأساليب الخبرية في قوله:
آية.. أنت يا بيرق الاخضرار
راية في سماء البلاد المشرقية تهفو لها الشمس
والإشراق والأشواق
والغرض من هذه الأساليب التعظيم (آية أنت يا بيرق الاخضرار – راية في سماء البلاد المشرقية – تهفو لها الشمس والإشراق والأشواق) وكلها ألفاظ تحمل كل معاني التعظيم والإجلال ومن ثم فإن استخدام الأساليب الخبرية كان أحد الآليات البلاغية التي لجأ إليها الشاعر إما لتأكيد رؤية الفكرية التي يخفيها خلف شبكة العلاقات اللغوية، أو للكشف عن بعض الجوانب التي لم تكشف عنها زوايا التأويل السابقة.
الأساليب الإنشائية وعلاقتها بإنتاج الدلالة:
يقوم الإنشاء على أساس الطلب الذي يطلبه المتكلم من المخاطَب، ومعنى ذلك أن الكلام الإنشائي مرتبط بتصورات المتكلم ورؤاه ومشاعره، وكاشف عن تلك الرؤى والتصورات والمشاعر، وسوف نتناول الأساليب الإنشائية في النص من زاوية كونها معبرة عن رؤى الشاعر وتصوراته ومشاعره، محللين ذلك تحليلا يربطه بالدلالة الكلية للنص، وقد وردت الأساليب الإنشائية في النص اثنتي عشرة مرة، موزعة على نوعين من الأساليب، هما أسلوب النداء، وأسلوب الأمر؛ فقد ورد أسلوب النداء أربع مرات، عفي حين ورد أسلوب الأمر تسع مرات، وبذلك لا يتساوى الأسلوبان من حيث ورود كل منهما في النص؛ ومن ثم لا يشكلان توازيا دلاليا سوف نتحدث عنه، وقد تنوَّعت الأغراض البلاغية لهذه الأساليب الإنشائية، ويعدُّ السياق المحدد الفعلي للدلالة من خلال (كشفه عن دلالات الأبنية اللغوية التركيبية بصورة دقيقة لا ينصرف الذهن إلى غيرها من الدلالات التي يمكن أن تتضمنها أو تؤديها سيما تلك التراكيب المحتملة لأكثر من معنى وبواسطة تجاوز الكلمات حدودها المعجمية المعروفة إلى دلالات جديدة قد تكون مجازية أو إضافية أو نفسية أو إيحائية أو اجتماعية، أو غير ذلك من الدلالات) (شاذلية سيد محمد السيد، السياق وأثره في بيان الدلالة، ص 6) من الأساليب الإنشائية الواردة في النص أسلوب النداء، وقد تحدثنا عنه في أثناء حديثنا عن حركة المعنى في النص، وكذلك في أثناء حديثنا عن الصورة الفنية، ولكن حديثنا هناك ورد بما يتناسب مع تلك المرحلة من التأويل، وهنا نستطيع التفصيل بما يتناسب مع التشكيل البلاغي وأثره في إنتاج الدلالة، وقد ورد أسلوب النداء في النص أربع مرات (ألا أيها المجد المفخخ بالأباطيل اللعينة والأساطير – ألا أيها الآكلون قمح البلاد – يا نبضًا تأطر بالسنابل والحقول – يا بنت الأُلى يمَّموا شطر أسلافهم) وفي البداية نلاحظ التوازن على المستوى الدلالي في اختيار أدوات النداء؛ فقد وردت (أيها) مسبوقة بحرف التنبيه (ألا) مرتين، ووردت أداة النداء (يا) مرتين، وهي أدوات نداء للقريب والبعيد، أما الأداة (أيها) فهي أداة نداء يتصل بها المنادى المعرف بالألف واللام، وتستخدم مع المذكر والمؤنث، ومع المفرد والمثنى والجمع، وكون الأداة هنا للقريب والبعيد فإن له دلالة خاصة؛ ففي المنادى الأولى (أسيها المجد ...) نلاحظ أنه قريب إلى الشاعر في المكانة، أي قريب من قلبه، ولكنه بعيد في الزمان؛ إذ إن هذا المجد موغل في القدم، ومن ثم فإنه يحمل دلالتين: الأولى البعد الزمني والثانية القرب من القلب والنفس؛ حيث يعتز الشاعر بهذا المجد المحاط بالأساطير، أي الذي نسج الناس حوله الأساطير الكثيرة نتيجة عظمته، وهو ما دفع الشاعر إلى قوله عن بلاده صاحبة هذا المجد: (راية في سماء البلاد المشرقية تهفو لها الشمس والإشراق والأشواق) وأما المنادى الثاني (أيها الآكلون قمح البلاد) فقد استخدم الشاعر أداة النداء الدالة على القريب والبعيد؛ ليدل على أن هؤلاء الآكلين قمح البلاد يعيشون في البلاد، أي أنهم من أبناء هذه البلاد، وليسوا من خارجها؛ فهم ينتسبون إليها، ويعيشون على أرضها، ولكنهم بعيدون كل البعد عن طباع أهلها، وحرصهم على بلادهم، وكذلك يدل على بعدهم عن قلب الشاعر وقناعاته؛ لأنهم عامل هدم للبلاد، ويمكن أن تكون الدلالة أنهم قريبون من البلاد، أي يسكنون فيها، ولكنهم بعيدون عن الشاعر، أي أنه يسكن في مكان بعيد عنهم، وهو ما يدل على واقع الحال؛ فالشاعر مغترب عن وطنه، ومن ثم فهو بعيد عنهم وهم بعيدون عنه، ولكنهم قريبون من أرضهم؛ لأنهم يعيشون على أرض بلادهم، وقد استخدم الشاعر في النداءين أداة التنبيه (ألا) لينبه على أهمية ما سيقول، ومن سينادي؛ ففي النداء الأول سوف ينادي على المجد وهو شيء مهم جدا، ومن الضروري استخدام أداة التنبيه (ألا) وفي النداء الثاني (ألا أيها الآكلون ...) استخدم كذلك أداة التنبيه لينبه أولئك الذين يأكلون قمح البلاد إلى خطورة ما يفعلون، والغرض من النداء الأول (ألا أيها المجد...) التعظيم، وأما الغرض من النداء الثاني (ألا أيها الآكلون...) فهو التنبيه على أهمية ما يُدْعى المنادى إليه، ويمكن أن يكون الغرض الدلالة على الزجر والردع لمن يقوم بأكل قمح البلاد، كما يمكن أن يكون الغرض هو الدعوة إلى إيقاظ المنادى من غفلته، ورجوعه عما يفعل، وكلها دلالات يمكن واردة من خلال استقراء ظلال المعنى في النداء، ونلاحظ كذلك أن المنادى في الأسلوبين معرفة، وهذا يدل على أنه معروف للشاعر، وكذلك لأهل البلاد، فإذا انتقلنا إلى الأسلوبين الآخرين (يا نبضًا تأطر بالسنابل والحقول – يا بنت الأُلى يمَّموا شطر أسلافهم) فإننا نلاحظ أيضا أن الشاعر استخدم أداة النداء (يا) الدالة على القريب والبعيد، وعلى الرغم من أن المنادى في الأسلوبين واحد، وهو البلاد إلا أننا نلاحظ اختلافا في الاستخدام، ومن ثم الاختلاف في الدلالة؛ ففي الأسلوب الأول (يا نبضًا تأطر بالسنابل والحقول) جاء المنادى نكرة على الرغم من أن المقصود به البلاد، ليدل على العموم والشمول، وفي الوقت نفسه يدل على التعظيم، ويمكن اعتبار النكرة هنا غير محضة، ومن ثم تكتسب التعريف، وكان ابن هشام هو أول من صرَّح أن الجملة الخبرية بعد النكرات المحضة صفات، وبعد المعارف المحضة أحوال، والنكرة غير المحضة هي التي توجد معها قرينة تقربها إلى المعرفة، والقرينة هنا معنوية ناشئة من معرفة من يتوجه إليه النداء، وقد يرى البعض أنها نكرة محضة، وفي جميع الأحوال فهي دالة على التعظيم، وأما المنادى الثاني (يا بنت الأُلى يمَّموا شطر أسلافهم) فالمنادى هنا معرفة؛ إذ أضاف البلاد/ بنت إلى أبنائها الذين يصنعون أمجادها/ يمموا شطر أسلافهم، وهذا النداء يقف في مقابلة النداء (أيها الآكلون قمح البلاد)؛ ذلك أن المضمون في النداءين مختلف، ففي النداء الأول أشار إلى صانعي مجد البلاد، ونسب البلاد إليهم/ بنت الألى، وأما في النداء الثاني فإن المضمون يدور حول نهب البلاد، وتدمير حاضرها، ومن ثم فإننا أمام عنصرين من عناصر البلاد، أحدهما يهدم والآخر يبني، ومن الملاحظ أن الشاعر استخدم أيضا أداة النداء (يا) الدالة على القريب والبعيد، ولكن الدلالة هنا مختلفة عن أسلوبيْ النداء فيما سبق؛ فهنا القرب متوجه إلى نفس الشاعر وقلبه، والبعد متوجه إلى المكان، فالمنادى/ البلاد قريب من قلب الشاعر، ولكنه بعيد عنه في المكان، ومن ثم فإن أسلوب النداء في النص قد ساعد في إنتاج الدلالة، والكشف عن جانب من الرؤية الفكرية في النص.
أما أسلوب الأمر فقد ورد في النص تسع مرات، هي (ألا أيها المجد المفخَّخ بالأباطيل اللعينة والأساطير عَنّا – إليك عنا قليلاً – عرّجوا – نحو تلك التخوم العتيقة عرّجوا.. – سائلوا كل بخّاتٍ عشقه الرمل عن سيرة السالفين – هبي أنني الآن لا أعدو – هبي أن عينيك مهماز قلبي الضعيف – هبي أن أرجوحة الضوء ميس الجميلات في موئل الظل – هبي أنى.. بأحلام جدي كروح الزواجل راودتها المعارج قبل المدارج) ومن الملاحظ أن بعض أساليب الأمر جاءت بصيغة اسم فعل الأمر (...... والأساطير عنَّا – إليك عنا قليلا) وبعضها جاء بصيغة فعل الأمر مباشرة (عرجوا – سائلوا – هبي) كما نلاحظ أن بعض صيغ الأمر جاءت مرة واحدة (سائلوا) وبعضها تكرر (عنَّا – إليك عنَّا – عرجوا – هبي) في الأسلوبين الأولين يبدو حضور الماضي بقوة في الذهنية، بحيث يبدو هذا الماضي بكل ما يحيط به من أساطير ماثلا في ذهن الشاعر، وأبناء وطنه، وهنا يأتي طلب الشاعر من هذا الماضي التنحي قليلا؛ حتى يعيشوا الحياة ويصنعوا أمجادهم دون أن يكون الماضي ضاغطا عليهم بكل ما فيه من أمجاد، وما يحيط به من أساطير، ومن ثم فإن الأمر هنا الغرض منه التمني، أي أن الشاعر يتمنى أن يتنحى الماضي قليلا (إليك عنَّا قليلا) وقد كرر الشاعر الأسلوب مرتين بالصيغة نفسها/ اسم فعل أمر، وفي الأسلوبان الثاني والثالث هما (عرّجوا – نحو تلك التخوم العتيقة عرّجوا..) وفيهما يكرر الشاعر أيضا الصيغة نفسها (عرِّجوا) ولكنه هنا يكررها باستخدام صيغة فعل الأمر نفسه، وهذان الأسلوبان يمكن قراءتهما بطريقتين، الأولى اعتبارهما صيغتين منفصلتين، الأولى (عرِّجوا) وهي أسلوب أمر مكون من فعل وفاعل، ولا يوجد تكملة للجملة، ويترك الشاعر للمتلقي استنطاق النص؛ لمعرفة الشيء الذي يمكن أن يعرجوا عليه، والصيغة الثانية هي (نحو تلك التخوم العتيقة عرّجوا..) وقد قدَّم الشاعر الجهة التي يطلب التعريج عليها، وهي تلك التخوم العتيقة، والمقصود بها الآثار الباقية من أمجاد الأسلاف الذين صنعوا المجد، ثم يأتي الشاعر بالفعل والفاعل (عرِّجوا) وهذه القراءة – أي اعتبارهما جملتين منفصلتين – يؤكدها توزيع الجمل على فضاء الصفحة؛ إذ وردت كل جملة في سطر، وهذا يوحي بأن الشاعر أراد أن تكون كل جملة منفصلة عن الأخرى، ويمكن قراءة الأسلوبين بطريقة أخرى، وهي اعتبار الأسلوبين أسلوبا واحدا تكرر الفعل (عرِّجوا) وبذلك تكون الجملة كالتالي (عرّجوا نحو تلك التخوم العتيقة عرّجوا..) وهنا يكون الغرض من الأسلوب التوبيخ، وقد اخترنا التوبيخ لأن الأمر ورد بعد جملة يتحدث فيها الشاعر عن الآثار الناتجة عن أفعال الآكلين قمح البلاد، ويكون الغرض من الفعل الثاني (عرِّجوا) هو التوكيد، ثم يأتي أسلوب الأمر الخامس (سائلوا كل بخّاتٍ عشقه الرمل عن سيرة السالفين) ومن الملاحظ أن الفعل جاء (سائلوا) ولم يأتِ (اسألوا) ومن الواضح الفرق بين الصيغتين فالصيغة الأولى تدل على تكرار السؤال لتوكيد المعنى، أي أن تكرار السؤال لأكثر من جهة سوف يصل للنتيجة ذاتها، وهو ما يتناسب مع اللفظ (كل) ومن ثم فإن استخدام الفعل بهذه الصيغة (سائلوا) يدل على الكثرة إلى جانب دلالته على التوبيخ الواردة في الأسلوب السابق (عرِّجوا) فالشاعر يوبخ أولئك الذين أكلوا قمح البلاد، ووصلوا بها إلى هذا الواقع المزري الذي عبَّرت عنه الجملتين السابقتين لهذين الأسلوبين (عرجوا – سائلوا) مباشرة، وهاتان الجملتان هما (صرير النواعير صرصرت أبوابنا فاستحالت غثاءً.. بحة – وندوب المرايا دموع الأمهات الصادقات) ومن ثم كانت دلالة التوبيخ للأمر هنا منطقية، على أن البعض قد يرى أن الغرض من الأمر التمني، أي أن الشاعر يتمنى من آكلي قمح البلاد أن يعرجوا وأن يسائلوا، والتمني يحمل في طياته اليأس من هؤلاء؛ لأن التمني هو رغبة شيء مستحيل التحقق على عكس الترجي، والتمني أقرب من الترجي؛ لأن الشاعر يرى أن آكلي قمح البلاد عقلاء ويدركون ما يفعلون، أي أنهم ليسوا فاقدي الإرادة، ومن ثم فإن افعالهم تعبر عما في أنفسهم، وإرادتهم الكاملة، ثم تأتي أساليب الأمر الأربعة التالية (هبي أنني الآن لا أعدو – هبي أن عينيك مهماز قلبي الضعيف – هبي أن أرجوحة الضوء ميس الجميلات في موئل الظل – هبي أنى.. بأحلام جدي كروح الزواجل راودتها المعارج قبل المدارج) ويتكرر فيها فعل الأمر (هبي) وهذا الأمر موجَّه إلى البلاد، وفي كل مرة يطلب الشاعر شيئا مختلفا، لقد نجحت الأساليب الإنشائية المنتشرة عبر الفضاء النصي في الكشف عن المعنى، وإنتاج الدلالة، كما أنها دارت حول الإطار العام للنص، وعمَّقت ما ورد من خلال تتبع حركة المعنى في النص، أو ما كشفت عنه الصورة الفنية، وبذلك تتضافر العناصر كلها في الكشف عن المعنى وإنتاج الدلالة.