هل صحيح أن القصيدة تطوير للتعجُّب، بتعبير " فاليري "؟ إذا كان ذلك صحيحاً، هل ذلك يعني أنها تعيش امتحاناً دائماً مع المجهول والمباغت ،وأن الدهشة مرضعتها الكبرى وأفقها الرحب؟
كيف نفرّق بين الشعّر الذي يسمّي نفسه، والشعر الذي يسمّي قائله، ومن يكون قائله الشّعري هذا؟ وأي لقاء من النوع الشّعري يكون أو يجري بينهما؟ وأين يكون موقع الشعر في الحالات هذه؟
أتحدث عن الشعر الذي يمارس ديمومته، ويشير إلى قائله، وأتحدث عن الشعر الذي لا بد أن تكون كينونته المعتبَرة، من خلال قائله، وأتحدث عن الشعر، حين يضعف وجوداً مع قائله .
أتحدت عن الشعر الذي يذكّرني بالوردة دائماً، مع فارق، أن الوردة قد تبث عطرها ضمن فسحة معينة مكانياً طبيعةً لها، لكن الشعر متكتم على " عطره " حيث يعتمد على مقدار ذائقة قارئه له، الذائقة التي تتنوع في مقامها الجمالي، جهة الحمولة الإبداعية في الشعر، إلى درجة الإنتشاء أحياناً .
وإذا كان لا بد من النظر في الشعر في واقعه المديد، فهو الذي يفعّل فينا قراءةً، حين يفيض بما يعنيه أكثر مما عناه قائله، وهو محلَّق بخيال، وباعتماد روح لا تعيش وقدتها إلا هنا ، أي حيث يصبح قائله نفسه قارئاً، ولا يحيط بشعره، حيث قيّض له أن يشهد انبثاقته وجوداً، في لحظة غير مرتقبة، وغير مخطَّط له، خارج أي مفهوم حسابي بالتأكيد، لحظة لها حسابها الزماني- النفسي الخاص.
وما يكون متنَّفساً وجوداً بملء حضوره، فإنما يكشف عن حقيقة محتواه وما يرمي إليه أبدياً.
إلى أي درجة، تمكنت الشاعرة الهندية أنورادا فيجايا كريشنان ، أن تمارس سباحتها غطساً وغوصاً في نهر الوجود الأكثر قابلية للجريان بين منبع البدء الوجودي المفترض، ومتوخى مصبه المفترض؟
أي موعد لهذه الشاعرة الهندية مع طائرها الذي تعتبر نفسها إياه؟
أي طائر تشكَّل في صهارة مجموعتها الشعرية "الطائر الذي هو أنا " "1 "
الطائر الذي يعلونا
هوذا طائر الشاعرة كريشنان، حيث يندرج تشكيلياً في بنية العنوان. طائر يتراءى بحجمه الصغير، بما يتناسب وغلاف المجموعة الشعرية، وباللون البنفسجي المحفّز على النظر عميقاً، مسنوداً من حرف " الواو " في " هو "في نظر ٍ جانبي يساراً، وما يضيء معنىً في الداخل. لكنه الطائر الذي لا يقدَّر أو يوزَن إلا بوحدة " قياس- وزن" شديدة الاستثنائية، وليس من قبَل أي كان .
يبدو أن الشاعرة عاشت متاعبَ تترى إلى أن برزت باسمها الأدبي: الشعري، وأن صلتها بالشعر لم تترسخ، إلا على وقْع خطى دفعت بها لأن تطالع ما هو عائد إلى عالم القصيدة، في تنوعها، في توسّع مساراتها، في اختلاف أطيافها في الزمان والمكان. دون ذلك كيف يمكنها أن تسمّي الطائر اسم علَم يجلوها، أو تعرَف به، يكون نسَبها الشعري الفضائي، ولتكون إياه ؟!
شاعرة أرادت أن تقيم علاقة روحية مع الشعر، وفي مجموعتها الشعرية الأولى، وما كان من احتفاء بها، تعبيراً عن أنها اكتسبت مكانتها شاعرة بجدارة، كما هو المقروء على غلاف المجموعة، وفي اللغة الانكليزية.
في كتابة مقدمة لها للطبعة العربية، تعلِمنا بأنها عاشت حالات فينيكسية كثيرة، أي ولادات كثيرة، حتى هيّئت لتكون شاعرة، تعبيراً عن توقير الاسم: اللقب. لا شعر دون إماتة الجسد العرَضي، لا قول للشعر، دون نضج يستوفي شروطه، تتمازج فيه السماء والأرض وخفاياهما، حين تقول( كم مرة يمكن للقصيدة أن تُكتب- إن لم نحسب الأربعين تعديلاً في العقل أو على الورق- تماماً كالبستاني الذي لا يمكن له سوى التفكير بالتقليم والقص والغرس. ؟ ص 11 ) .
في كل كتابة إماتة معينة، لها عمرها، مخاضها، أنقاضها، ورياضها، وللأربعين مغزاه الرمزي، دالة الكثرة، حيث الخصوبة والانبعاث في اللاوعي الجمعي، وفي مأثور الميثولوجي التليد، وذلك التنقل بين المتخيّل مضمراً، والمتخيل مثمَراً ورَقياً. والتذكير بالبستاني يحيلنا إلى العمل في الأرض، وما يتطلبه العمل في الأرض، جهة إنماء المرغوب فيه، من تعشيب واستنبات وثمر.
يكون الشاعر بستانياً: مصادق البذرة أو الشتلة أو التربة والماء والهواء والشمس والثمر المنتظر.
أي معايشة مركَّبة تبيّنها كتابة الشعر أو القصيدة. حيث لا تسلك طريقاً، إنما تشق طرقاً لها !
في قصيدتها " الطائر الذي هو أنا " والتي أعطيَت عنواناً للمجموعة الشعرية، يمكن مكاشفة المميَّز فيها لتكون محيلة هذه المجموعة إليها كعنوان:
( في هذه الغابة من أنا ؟
لم ريشي مظلل بالأرجواني؟
أي شجري تدعوني لتكون منزلي؟
أي فاكهة سوف آكل
هل أُقتَل بمخلب أو بمنقار فولاذي ؟
هل أبدو متوحشاً ؟ هل أملك عَرفاً؟
من أنا في هذه القصة اليوم ؟
هل سيصطاني صياد
أ سحرة يسرقونني؟
...
هل أنا طائر ليلي؟
أأتودد لحبيبتي ؟
هل سأنجو من حرائق الغابات ؟
أأنا أسطورة، أُبعَث بعد الموت؟
من أنا
من أنا
هل تسمع ندائي؟ ص 86 )
ما صلة الشاعرة بالطائر، لتمثّله شعراً، ولتنسب إليه ما ليس له صلة به إطلاقاً؟ أم تراها تحيل نفسها إلى ذلك الطائر الطليق، العصي على المنع في الطيران وتجاوز الحدود المصطنعة بشرياً، والسباحة طيراناً في الفضاء، ورؤية الأعالي بمعيَّة جناحين يحلقان بها كما تريد، ومن ثم تأمل الأرض، بمن فيها وما عليها من موجودات؟ أليس هذا المسيح الطيَراني حيازة للوجود نفسه؟
أن تحيل نفسها إلى طائر، وبلسانه تسمّي الأشياء، وبدءاً مركزياً من الغابة، إنما هو التحرر مما هو وجودي مقيَّد، ومحكوم بالأعراف والتقاليد، إنما هو الاغتساء بهواء الأعالي النقي، والتطهر من أدران الأرضي، بمقدار ما يكون إعطاء شهادة عن حصيلة هذه المكاشفة للموجودات ؟
وأن يكون الأرجواني لوناً مسمّى، إنما هو المزج في الألوان، إنما هو نصاعة لا خلاف حولها ناحية التفكير الذي يجمع بين الأشياء وكيفية مواءمتها .
وحده الطائر، رغم كل المخاطر المسمَّاة، قادر على الطيران، ودون إجازة من أي كان؟ وما فيه من خفة في التنقل والارتحال وقطع مسافات بعيدة. ووحده أهلٌ لأن يعزى إليه ما هو مفقود من لدن الكائن البشري. وما في هذه الاستعارة كامتلاك مجازي للعالم أجمع، من قابلية تقصّ للمرئي وأبعد، وليس لدينا سوى الاستعارة حيلة بلاغية، والتفاف على اللغة عينها، في توظيفها كما هو المراد منها، ليس لنا إلا أن نستعير، لأننا أنفسنا استعاريون مما هو آهل إلى الفناء بمرجعيته الأرضية: الطينية، وثمة يد صانعة، ماهرة، استثنائية كانت قادرة على أن تجبلنا بصيغ خاصة جداً، ومنْحنا تلك " الماكينة " غير المرئية، أي المحرّك المحتوي حياة لأمد محدود.
ما يجري النطق التخيلي به بلسان الطائر، تكليف بمهام، وعبر هذه المهام، ينظَر إلى خريطة جرَت رسمها، ببصيرة الشاعرة، وقواها النفسية الإبداعية.
إن جملة الأسئلة المطروحة هي عناوين محورية لما يعنينا اجتماعياً، ولما يشغلنا نفسياً ووجودياً، إنها مخاوفنا، هواجسنا، توقنا المثقَل بالتنهدات والحسرات وفقد الأحبة وخلافهم، وفقد الذات المرتقَب، ومعايشة تلك اللحظة، حيث تسجَّل هذه في عهدة آخر، يكون حاضراً: الموت .
وربما الطائر نفسه متلبَّس بأوجاع الشاعر، مكابداتها، وأدوائها،وبريء من تنسيب كلامي إليه، لكنه الكائن المعتبَر القادر على ذلك، وما في ذلك من تقدير لاسمه.
كريشنان حفظت درس الشعر، وعجنته داخلها على طريقتها، لتكون لها عجينتها الخاصة، خميرة روحها التي تذوب في بنيتها، وما ينبغي أن يكون عليه الشعر، بحميمية متخيَّلها، وهي التي على طريقة بورخيس طرحت اللغة كمفهوم، وكيف أنها " اللغة "بعيدة كلَّ البعد عما مكتبي، كيف أنها كما هو الكائن الموهوب روحاً، منبثقة مما هو منتشر براً وجواً وبحراً:الحقول، البحار، الأنهار، الليل والفجر..إنها المفردات المفاتيح الجامعة بين مقوّمات الوجود، ما يضيء بنية الوجود بالشعر.
الشاعرة لا تشكو، إنما تتلو ما يشبه البيان الشعري، وعلى طريقتها، إنما عرابة روحها الشَعرية المنشأ، ملاقاة البدائي فيها، وحرْق ما كان، جرّاء عنفه، وإيذان ببدء مختلف، أو مقاضاة ما يجعل الكائن البشري مكبَّلاً بالمخاوف والكوابيس والشكوك وسواها، تعزيز للحظة الانغمار بالمطلق، وهو الحلْم التليد المنزوع التاريخ، والرغبة الموجهة إلى أمام لا يعرَف مختَتمه لولادة مغايرة .
طي هوية الطائر
هذا الانهمام الداخلي، على طريقة صاحب " أوراق العشب " والت ويتمان، تحركٌ حرَّ لإطلاق أسماء لها علامات مميَّزة تبعاً لذائقة الشاعرة على الأشياء. كل شاعر، هو خالق ، بطريقة ما، إنما لمَا يخص العلاقة بموجودات العالم المرئية واللامرئية، وبناءً عليها، تكون يوتوبيا الشاعر هنا، ما يجعل عشب المكان طرياً ذا أجنحة هو الآخر، ندياً من الداخل تمييزاً له عن أي عشب آخر، محفّزاً على الاستحمام الدائم في الشعر، به، ما يجعل الشجرة الواحدة تستحيل غابة، ما يجعل الصخرة تتدفق ينبوعاً، ما يلبِس الصحراء أخضرها الشائق.
طي هذه العلاقة المنسوجة أو المعقودة بين المرئي واللامرئي، كما يرى أوكتافيو باث، يكون سرَيان فعل لغة الشاعر، الشاعرة هنا، في كيفية إقامة عقود لا تنتهي مع طرح كل قصيدة جديدة، بين ما هو مادي، ملموس، وما يدفع بالذات إلى لقاء اللامرئي، لجعْل الجسد أكثر أهلية بالمعنى.
لقاء الشاعرة بالكائنات له ما يبرره، إنها كائناتها، كما رأينا في مثال الطائر الذي رفع من شأن المجموعة الشعرية، ليُرى فيها ما لم يُر مسبقاً، وكما في القصيدة الأولى، حيث الكائن البرمائي : الضفدع، يكون نموذجها، وفي عنوان يناسب البرمائي " رسالة انتحار ":
( إلى الضفدع عند عتبة داري
من غنَّى طول الليل
للزيز الذي لزِم صلاته
دون انقطاع
للغيوم الماطرة
التي حبستأنفاسها حتى انفجرت
لحدائق الياسمين البرّية
التي أزهرتْ باكراً هذا العام
للخنافس المضيئة
تعطينيني ناراً كلما احتاجَ الأمرُ . ص 15 )
هذا التوق إلى مقاربة تبصرية للأجسام ، للأشياء قائم على تبرير، ألا وهو زج المعنى المغاير في مبنى معهود، وتفعيله بعمق، وبالتالي، تحرير تاريخ مغاير له، لينظَر فيه وكأنه هو وليس هو.
ففي المثال الشعري، هناك أسماء تقوم بمهمتها الموكولة إليها، حيث الضفدع يتقدمها، ومنه وإليه تأخذ الأجسام والأشياء دلالاتها، في الوصل بين البري والبحري، والضفدع معايَن ليلاً أكثر.
الضفدع، نظير الكائر بدوره، لا يكف عن التحرك، في خفته، وفي انسكانه بالمزدوج المكاني الكثير القيمة: برياً ومائياً طبعاً، وفي المسافة الفاصلة بين نظر الشاعرة، وما تسمّيه، من خلال " إلى " يكون النائي مستجيباً لنداء الشعر، يكون الامتلاء بالوجود، نوعاً من الدازاين الهيدغري " الوجود في العالم" والانسلاخ عما هو تأطيري، وتدبيري ضيق، وكيفية تأبيد هذه الإقامة المجازة شعرياً.
ما يلاحَ في محيّا الشاعرة، وفي معمودية روحها القلقة، إن جاز التعبير، وهي تتقدم بنصوصها، أنها عاقدة أملها الاستلهامي على نفحة الشجن التي تتشرش داخلها، وهي تقول ما يشبه الرثاء لعالمها، وهي تنوح روحياً على العالم ونكباته. إذ من الصعب مكاشفة قصيدة ما دون الدخول في إهاب حِداد ما، ولو للحظة معينة. وما في ذلك من انكسار، من جرْح شاهد على طعنة وجود لها ذاكرة زمانية- مكانية اجتماعية المنشأ.
كما في " ملحٌ في قهوتي " ( هل حاولتم قرّاء ومتابعين ، تخيل النفور من مشهد بليغ كهذا؟)، هناك ما يخرجنا من " هنا " المكانية، ما يجعل الأشياء شاهدة على خلطتها المريبة:
ملحٌ تماهى على الرمال
حيث حاول البحر أن يختبىء ليلة أمس
ويداك ِ تدمغان جلدي
وكما الشاطىء يبصق في وجوهنا غضبَه
يصرخ مرة تلو مرة
بحزن يغشى عيوننا الصباحية . ص 33 ) .
إن ما يذكّرنا بمقام " ملح الطعام " وبصيغة تناسُب مقدَّرة، هو ما للملح من دور في جعْل المطعوم مختلفاً، مستساغاً، مهضوماً، مشتهىً. نبرة الحزن علامتها في عبور المادي، وفي سعي إلى لقاء اللامرئي، المختلف كلياً عن معهوده. الحزن أكثر من كونه قبضاً للروح، أكثر من اعتباره انطفاء ما من الداخل، وانكفاء على الذات، وهجْر العالم، إنه، ومن خلال هذه الخضم من الأسماء ونسْج علاقاتها وتباينات مناخاتها، وتضاداتها وتعارضاتها، إقلاع مختلف للوجود، صعود بالعلامة التي تقرَأ في نسيج الشعر إلى مستوى اللباس الذي يكون ارتداؤه هنا وهناك انعطافة في المعنى، قلباً في نظام العلاقات المكانية، وانقلاباً على السكون بامتياز، وتفجيراً له .
وهي إذ تكون المخاطَبة، أو ما تفصح عنه نبرة القصيدة ومسلكها في الكتابة، إنما تتخذ من نفسها عتبة رؤية للعالم داخلها ومن حولها كذلك.
إنه تشهير بالضعف القائم وإشهار بما هو متوخى، ودون هذا الضعف يستحيل تلمس القوة المطلوبة لبناء ما هو كوني، وليس لتخريبه، وثمة توسل إلى المعتبَر موئل الرجاء، كما في " دعاء ":
يا الله
رفقاً بنا
لا تؤاخذنا بإيماننا الضعيف
تجلّ لنا بأبسط الأمور. ص 63)
لعلنا نجد أنفسنا إزاء صك اعتراف بمدى ضعف أو هشاشة الكائن البشري،ليس لأنه هش وجوداً، وإنما جرّاء ما يقوم به، يؤكّد هشاشته وسر انحلاله في الوجود، لأنه يكابر على روحه تماماً. وفي هذا الاقتباس، ثمة تعرية لهذه الكينونة التي تجاهلت حقيقتها، وهي في ممارسة العنف، وهو نداء يعلو بالروح المنجرحة، ويشكل شهادة دامية على وجود دام ٍ، على أن المعيش اليومي، لا يرتجى منه ما يحث على الاستمرار فيه دون توقع ما هو كارثي
أليس هذا شأن ما يجعل المصدوم على مدار الساعة، كما في " مصحَّة "
ولما يموت الناس هنا
يخلّفون وراءهم حقيبة ملأى بملابس داخلية
باهتة
وخرائط مسروقة
دفاتر تحوي عناوين ناقصة
معجون أسنان إضافياً
بطاريات،
وربما ثوباً مرتّباً للجنائز
ننظف الأثاث، ونعقّم بياضات الأسرَّة
نرسم صرخات متناثرة على الحيطان
نحرق ، ونرمي ما تبقَّى . ص 93) .
تلك المعضلة " الأبوريا "، تلك هي المأساة، حيث نعي الموجود مستمر هنا، هناك، وما بينهما، من خلال مخلفاته، بقاياه، الآثار المرئية، ما يمضي بنا إلى معاينتها، ما يصدمنا في وجود معتلّ بالجاري فيه .
لكم هي منجرحة، ومأهولة بالانجراحات هذه الـ " كريشنان " لكم هي ذاكرتها الفردية تعيش " جينوسايدها " الروحي على وقْع هذه الكثافة من حضورات العالم ومكوناته، وانكشاف الحاضر، في ضوء الماضي، ومساءلة ما كان يتم طي ذاكرة جماعية متداعية من جهتها.
ذلك باعث على الغثيان المستمر، ولو بلغة هادئة، ولكنها طلقة في حجرة انفجار" القصيدة ".
ثمة وجود طللي، كشف حساب للخسائر الفظيعة، إماطة اللثام عن الوجوه وهي في تنوع أقنعتها.
إنها لا تتهم أحداً، مباشرة، ففي ذلك ما يشكل مجزرة بحق الشعر والأدب والفكر عينه، إنما تقول ما يجعل كل قارىء لها متحفّزاً لأن يرى في نفسه موبقاته، أخطاءه المتتالية هندسياً، وهو كما لو أنه بريىء ذمةَّ، كما لو أنه ليس ذاك الذي يمارس ارتكاب الأخطاء، الحماقات وبمتعة ما.
هوذا المرئي حقيقة في قصيدة " بياض " وما للبياض من فاعل إبلاغي عن صدأ الموجود روحياً:
( كل شيء أبيض
في هذا العالم المشع بالبياض
حيطان تتوهج من شدة بياضها
عيون النساء بركٌ من مساحيق بيضاء
أتلك وجوه بيضاء
أم إنها تختفي خلف قناع فضّي. ص111) .
ثمة مأساوي ما وراء هذا البياض، والبياض في أصله يتضمن مختلف الألوان، كونه ليس لوناً في الأساس، ولكنه المحتوي للألوان، وهنا الشاهد على الأقنعة التي تغيّب الوجوه داخلاً.
لا يعود البياض واحداً، إنه تنوع هائل، كثرة فظيعة، وهي بمدلولها كثافة وجود متخَم بالمخاوف.إنه شاهد إثبات على ضلالة المرئي، وتحميله ما ليس فيه.
لا شيء قادر على النطق بحقيقته كما هو في الداخل. هذا يثير أكثر من سؤال عما هو مصطنَع، وعما " تجود " به يد " خليفة الله على الأرض " من خرائب مادية ومعنوية، ما " يجود " به فكره من تصورات تسهم في تحويل الأمكنة العامرة إلى أطلال منكفئة على أحزانها.
هو ما يرتد بالقارىء إلى الطائر ثانية، طائر الشاعرة، أو الشاعرة الطائر وقد استولدت من خلاله ما يمنح الموصوف قيمة استئناف ودعوى على الناطق الوحيد والمسئول الوحيد عن خراب العالم، الطائر تأنيثاً له، حيث خصوبة المعنى، من ممتلكات الشعر الأثيرة ودفوعاته الجمالية.
يكون الطائر، وقد حمّل هوية تجنيس مؤنثة، يسمّي تلك الحمولة التي تسغرق جهات مختلفة، فلا يعود هناك مستثنى مكاني، أرضي وما فوقه،تعبيراً عما ينذر بما يتخوَّف منه، وإيقاظ للغافل.
في مسلك قول شعري كهذا، تكون الشاعرة أنورادا فيجايا كريشنان قد عزّزت كينونتها شاعرةً، لا بد أن " الوجود هناك " بعيداً بعيداً عن " الموجود هنا " قد منحها عملياً، شرِف إقامة في عالمه الرحب والواسع المدى.
وهو ما يعيدنا إلى المستهل في التمهيد، ويفعّل قيمته بأكثر من معنى، وما في ذلك من إقراربحق الشعر في البقاء ومدى الحاجة إليه لأن يبقى( الطائر الذي هو أنا... مجموعتي الشعرية الأولى، أستكشف فيها هوية: الواقع، الأسطورة، الافتراضات والرغبات. تعمدتُ في هذه القصائد التجول عبر جسور معلَّقة بحبال رفيعة وفجوات واسعة بين عوالم مختلفة داخلية وغيرها. ص 13) .
كما في الأمثلة المذكورة، وما يحفّز على قراءة كل قصيدة لها موقعها المعتبر في المجموعة، وما تنطوي عليه الترجمة إلى العربية للكاتبة " صباح ديبي "من مأثرة جمالية، وتفهّم عميق وملحوظ للغة الشاعرة من الداخل. ذلك يذكّرنا بوجه من وجوه تحدي الترجمة بين اللغات، وهو أن نجاح لغة ما، يتوقف على مدى ترجمتها إلى لغة أخرى، إن عاشق اللغتين هو الشاهد على ذلك. وفي ترجمة " ديبي " كان ثمة عشق، ليس من النوع السالب للفؤاد، وإنما المضيء له ولما حولهن، وبالتالي، فإن الشعر هنا، وكما هو مقروء في لغة أخرى: العربية،إذا كان هو الكلام، لم يضع في الترجمة، كما أشير إلى ذلك في مقدمة الشاعرة " ص12"، إنما أكّد على صواب المقولة السابقة، وهي أن الشعر قد يبقى الكلام الذي يعزّز فراهة محتواه ترجمةً.
إشارة
أنورادا فيجايا كريشنان، ترجمة صباح ديبي، دار المحيط، الفجيرة، دولة الإمارات العربية المتحدة، ط1، 2022 ، في " 116 " صفحة من القطْع صغير.
كيف نفرّق بين الشعّر الذي يسمّي نفسه، والشعر الذي يسمّي قائله، ومن يكون قائله الشّعري هذا؟ وأي لقاء من النوع الشّعري يكون أو يجري بينهما؟ وأين يكون موقع الشعر في الحالات هذه؟
أتحدث عن الشعر الذي يمارس ديمومته، ويشير إلى قائله، وأتحدث عن الشعر الذي لا بد أن تكون كينونته المعتبَرة، من خلال قائله، وأتحدث عن الشعر، حين يضعف وجوداً مع قائله .
أتحدت عن الشعر الذي يذكّرني بالوردة دائماً، مع فارق، أن الوردة قد تبث عطرها ضمن فسحة معينة مكانياً طبيعةً لها، لكن الشعر متكتم على " عطره " حيث يعتمد على مقدار ذائقة قارئه له، الذائقة التي تتنوع في مقامها الجمالي، جهة الحمولة الإبداعية في الشعر، إلى درجة الإنتشاء أحياناً .
وإذا كان لا بد من النظر في الشعر في واقعه المديد، فهو الذي يفعّل فينا قراءةً، حين يفيض بما يعنيه أكثر مما عناه قائله، وهو محلَّق بخيال، وباعتماد روح لا تعيش وقدتها إلا هنا ، أي حيث يصبح قائله نفسه قارئاً، ولا يحيط بشعره، حيث قيّض له أن يشهد انبثاقته وجوداً، في لحظة غير مرتقبة، وغير مخطَّط له، خارج أي مفهوم حسابي بالتأكيد، لحظة لها حسابها الزماني- النفسي الخاص.
وما يكون متنَّفساً وجوداً بملء حضوره، فإنما يكشف عن حقيقة محتواه وما يرمي إليه أبدياً.
إلى أي درجة، تمكنت الشاعرة الهندية أنورادا فيجايا كريشنان ، أن تمارس سباحتها غطساً وغوصاً في نهر الوجود الأكثر قابلية للجريان بين منبع البدء الوجودي المفترض، ومتوخى مصبه المفترض؟
أي موعد لهذه الشاعرة الهندية مع طائرها الذي تعتبر نفسها إياه؟
أي طائر تشكَّل في صهارة مجموعتها الشعرية "الطائر الذي هو أنا " "1 "
الطائر الذي يعلونا
هوذا طائر الشاعرة كريشنان، حيث يندرج تشكيلياً في بنية العنوان. طائر يتراءى بحجمه الصغير، بما يتناسب وغلاف المجموعة الشعرية، وباللون البنفسجي المحفّز على النظر عميقاً، مسنوداً من حرف " الواو " في " هو "في نظر ٍ جانبي يساراً، وما يضيء معنىً في الداخل. لكنه الطائر الذي لا يقدَّر أو يوزَن إلا بوحدة " قياس- وزن" شديدة الاستثنائية، وليس من قبَل أي كان .
يبدو أن الشاعرة عاشت متاعبَ تترى إلى أن برزت باسمها الأدبي: الشعري، وأن صلتها بالشعر لم تترسخ، إلا على وقْع خطى دفعت بها لأن تطالع ما هو عائد إلى عالم القصيدة، في تنوعها، في توسّع مساراتها، في اختلاف أطيافها في الزمان والمكان. دون ذلك كيف يمكنها أن تسمّي الطائر اسم علَم يجلوها، أو تعرَف به، يكون نسَبها الشعري الفضائي، ولتكون إياه ؟!
شاعرة أرادت أن تقيم علاقة روحية مع الشعر، وفي مجموعتها الشعرية الأولى، وما كان من احتفاء بها، تعبيراً عن أنها اكتسبت مكانتها شاعرة بجدارة، كما هو المقروء على غلاف المجموعة، وفي اللغة الانكليزية.
في كتابة مقدمة لها للطبعة العربية، تعلِمنا بأنها عاشت حالات فينيكسية كثيرة، أي ولادات كثيرة، حتى هيّئت لتكون شاعرة، تعبيراً عن توقير الاسم: اللقب. لا شعر دون إماتة الجسد العرَضي، لا قول للشعر، دون نضج يستوفي شروطه، تتمازج فيه السماء والأرض وخفاياهما، حين تقول( كم مرة يمكن للقصيدة أن تُكتب- إن لم نحسب الأربعين تعديلاً في العقل أو على الورق- تماماً كالبستاني الذي لا يمكن له سوى التفكير بالتقليم والقص والغرس. ؟ ص 11 ) .
في كل كتابة إماتة معينة، لها عمرها، مخاضها، أنقاضها، ورياضها، وللأربعين مغزاه الرمزي، دالة الكثرة، حيث الخصوبة والانبعاث في اللاوعي الجمعي، وفي مأثور الميثولوجي التليد، وذلك التنقل بين المتخيّل مضمراً، والمتخيل مثمَراً ورَقياً. والتذكير بالبستاني يحيلنا إلى العمل في الأرض، وما يتطلبه العمل في الأرض، جهة إنماء المرغوب فيه، من تعشيب واستنبات وثمر.
يكون الشاعر بستانياً: مصادق البذرة أو الشتلة أو التربة والماء والهواء والشمس والثمر المنتظر.
أي معايشة مركَّبة تبيّنها كتابة الشعر أو القصيدة. حيث لا تسلك طريقاً، إنما تشق طرقاً لها !
في قصيدتها " الطائر الذي هو أنا " والتي أعطيَت عنواناً للمجموعة الشعرية، يمكن مكاشفة المميَّز فيها لتكون محيلة هذه المجموعة إليها كعنوان:
( في هذه الغابة من أنا ؟
لم ريشي مظلل بالأرجواني؟
أي شجري تدعوني لتكون منزلي؟
أي فاكهة سوف آكل
هل أُقتَل بمخلب أو بمنقار فولاذي ؟
هل أبدو متوحشاً ؟ هل أملك عَرفاً؟
من أنا في هذه القصة اليوم ؟
هل سيصطاني صياد
أ سحرة يسرقونني؟
...
هل أنا طائر ليلي؟
أأتودد لحبيبتي ؟
هل سأنجو من حرائق الغابات ؟
أأنا أسطورة، أُبعَث بعد الموت؟
من أنا
من أنا
هل تسمع ندائي؟ ص 86 )
ما صلة الشاعرة بالطائر، لتمثّله شعراً، ولتنسب إليه ما ليس له صلة به إطلاقاً؟ أم تراها تحيل نفسها إلى ذلك الطائر الطليق، العصي على المنع في الطيران وتجاوز الحدود المصطنعة بشرياً، والسباحة طيراناً في الفضاء، ورؤية الأعالي بمعيَّة جناحين يحلقان بها كما تريد، ومن ثم تأمل الأرض، بمن فيها وما عليها من موجودات؟ أليس هذا المسيح الطيَراني حيازة للوجود نفسه؟
أن تحيل نفسها إلى طائر، وبلسانه تسمّي الأشياء، وبدءاً مركزياً من الغابة، إنما هو التحرر مما هو وجودي مقيَّد، ومحكوم بالأعراف والتقاليد، إنما هو الاغتساء بهواء الأعالي النقي، والتطهر من أدران الأرضي، بمقدار ما يكون إعطاء شهادة عن حصيلة هذه المكاشفة للموجودات ؟
وأن يكون الأرجواني لوناً مسمّى، إنما هو المزج في الألوان، إنما هو نصاعة لا خلاف حولها ناحية التفكير الذي يجمع بين الأشياء وكيفية مواءمتها .
وحده الطائر، رغم كل المخاطر المسمَّاة، قادر على الطيران، ودون إجازة من أي كان؟ وما فيه من خفة في التنقل والارتحال وقطع مسافات بعيدة. ووحده أهلٌ لأن يعزى إليه ما هو مفقود من لدن الكائن البشري. وما في هذه الاستعارة كامتلاك مجازي للعالم أجمع، من قابلية تقصّ للمرئي وأبعد، وليس لدينا سوى الاستعارة حيلة بلاغية، والتفاف على اللغة عينها، في توظيفها كما هو المراد منها، ليس لنا إلا أن نستعير، لأننا أنفسنا استعاريون مما هو آهل إلى الفناء بمرجعيته الأرضية: الطينية، وثمة يد صانعة، ماهرة، استثنائية كانت قادرة على أن تجبلنا بصيغ خاصة جداً، ومنْحنا تلك " الماكينة " غير المرئية، أي المحرّك المحتوي حياة لأمد محدود.
ما يجري النطق التخيلي به بلسان الطائر، تكليف بمهام، وعبر هذه المهام، ينظَر إلى خريطة جرَت رسمها، ببصيرة الشاعرة، وقواها النفسية الإبداعية.
إن جملة الأسئلة المطروحة هي عناوين محورية لما يعنينا اجتماعياً، ولما يشغلنا نفسياً ووجودياً، إنها مخاوفنا، هواجسنا، توقنا المثقَل بالتنهدات والحسرات وفقد الأحبة وخلافهم، وفقد الذات المرتقَب، ومعايشة تلك اللحظة، حيث تسجَّل هذه في عهدة آخر، يكون حاضراً: الموت .
وربما الطائر نفسه متلبَّس بأوجاع الشاعر، مكابداتها، وأدوائها،وبريء من تنسيب كلامي إليه، لكنه الكائن المعتبَر القادر على ذلك، وما في ذلك من تقدير لاسمه.
كريشنان حفظت درس الشعر، وعجنته داخلها على طريقتها، لتكون لها عجينتها الخاصة، خميرة روحها التي تذوب في بنيتها، وما ينبغي أن يكون عليه الشعر، بحميمية متخيَّلها، وهي التي على طريقة بورخيس طرحت اللغة كمفهوم، وكيف أنها " اللغة "بعيدة كلَّ البعد عما مكتبي، كيف أنها كما هو الكائن الموهوب روحاً، منبثقة مما هو منتشر براً وجواً وبحراً:الحقول، البحار، الأنهار، الليل والفجر..إنها المفردات المفاتيح الجامعة بين مقوّمات الوجود، ما يضيء بنية الوجود بالشعر.
الشاعرة لا تشكو، إنما تتلو ما يشبه البيان الشعري، وعلى طريقتها، إنما عرابة روحها الشَعرية المنشأ، ملاقاة البدائي فيها، وحرْق ما كان، جرّاء عنفه، وإيذان ببدء مختلف، أو مقاضاة ما يجعل الكائن البشري مكبَّلاً بالمخاوف والكوابيس والشكوك وسواها، تعزيز للحظة الانغمار بالمطلق، وهو الحلْم التليد المنزوع التاريخ، والرغبة الموجهة إلى أمام لا يعرَف مختَتمه لولادة مغايرة .
طي هوية الطائر
هذا الانهمام الداخلي، على طريقة صاحب " أوراق العشب " والت ويتمان، تحركٌ حرَّ لإطلاق أسماء لها علامات مميَّزة تبعاً لذائقة الشاعرة على الأشياء. كل شاعر، هو خالق ، بطريقة ما، إنما لمَا يخص العلاقة بموجودات العالم المرئية واللامرئية، وبناءً عليها، تكون يوتوبيا الشاعر هنا، ما يجعل عشب المكان طرياً ذا أجنحة هو الآخر، ندياً من الداخل تمييزاً له عن أي عشب آخر، محفّزاً على الاستحمام الدائم في الشعر، به، ما يجعل الشجرة الواحدة تستحيل غابة، ما يجعل الصخرة تتدفق ينبوعاً، ما يلبِس الصحراء أخضرها الشائق.
طي هذه العلاقة المنسوجة أو المعقودة بين المرئي واللامرئي، كما يرى أوكتافيو باث، يكون سرَيان فعل لغة الشاعر، الشاعرة هنا، في كيفية إقامة عقود لا تنتهي مع طرح كل قصيدة جديدة، بين ما هو مادي، ملموس، وما يدفع بالذات إلى لقاء اللامرئي، لجعْل الجسد أكثر أهلية بالمعنى.
لقاء الشاعرة بالكائنات له ما يبرره، إنها كائناتها، كما رأينا في مثال الطائر الذي رفع من شأن المجموعة الشعرية، ليُرى فيها ما لم يُر مسبقاً، وكما في القصيدة الأولى، حيث الكائن البرمائي : الضفدع، يكون نموذجها، وفي عنوان يناسب البرمائي " رسالة انتحار ":
( إلى الضفدع عند عتبة داري
من غنَّى طول الليل
للزيز الذي لزِم صلاته
دون انقطاع
للغيوم الماطرة
التي حبستأنفاسها حتى انفجرت
لحدائق الياسمين البرّية
التي أزهرتْ باكراً هذا العام
للخنافس المضيئة
تعطينيني ناراً كلما احتاجَ الأمرُ . ص 15 )
هذا التوق إلى مقاربة تبصرية للأجسام ، للأشياء قائم على تبرير، ألا وهو زج المعنى المغاير في مبنى معهود، وتفعيله بعمق، وبالتالي، تحرير تاريخ مغاير له، لينظَر فيه وكأنه هو وليس هو.
ففي المثال الشعري، هناك أسماء تقوم بمهمتها الموكولة إليها، حيث الضفدع يتقدمها، ومنه وإليه تأخذ الأجسام والأشياء دلالاتها، في الوصل بين البري والبحري، والضفدع معايَن ليلاً أكثر.
الضفدع، نظير الكائر بدوره، لا يكف عن التحرك، في خفته، وفي انسكانه بالمزدوج المكاني الكثير القيمة: برياً ومائياً طبعاً، وفي المسافة الفاصلة بين نظر الشاعرة، وما تسمّيه، من خلال " إلى " يكون النائي مستجيباً لنداء الشعر، يكون الامتلاء بالوجود، نوعاً من الدازاين الهيدغري " الوجود في العالم" والانسلاخ عما هو تأطيري، وتدبيري ضيق، وكيفية تأبيد هذه الإقامة المجازة شعرياً.
ما يلاحَ في محيّا الشاعرة، وفي معمودية روحها القلقة، إن جاز التعبير، وهي تتقدم بنصوصها، أنها عاقدة أملها الاستلهامي على نفحة الشجن التي تتشرش داخلها، وهي تقول ما يشبه الرثاء لعالمها، وهي تنوح روحياً على العالم ونكباته. إذ من الصعب مكاشفة قصيدة ما دون الدخول في إهاب حِداد ما، ولو للحظة معينة. وما في ذلك من انكسار، من جرْح شاهد على طعنة وجود لها ذاكرة زمانية- مكانية اجتماعية المنشأ.
كما في " ملحٌ في قهوتي " ( هل حاولتم قرّاء ومتابعين ، تخيل النفور من مشهد بليغ كهذا؟)، هناك ما يخرجنا من " هنا " المكانية، ما يجعل الأشياء شاهدة على خلطتها المريبة:
ملحٌ تماهى على الرمال
حيث حاول البحر أن يختبىء ليلة أمس
ويداك ِ تدمغان جلدي
وكما الشاطىء يبصق في وجوهنا غضبَه
يصرخ مرة تلو مرة
بحزن يغشى عيوننا الصباحية . ص 33 ) .
إن ما يذكّرنا بمقام " ملح الطعام " وبصيغة تناسُب مقدَّرة، هو ما للملح من دور في جعْل المطعوم مختلفاً، مستساغاً، مهضوماً، مشتهىً. نبرة الحزن علامتها في عبور المادي، وفي سعي إلى لقاء اللامرئي، المختلف كلياً عن معهوده. الحزن أكثر من كونه قبضاً للروح، أكثر من اعتباره انطفاء ما من الداخل، وانكفاء على الذات، وهجْر العالم، إنه، ومن خلال هذه الخضم من الأسماء ونسْج علاقاتها وتباينات مناخاتها، وتضاداتها وتعارضاتها، إقلاع مختلف للوجود، صعود بالعلامة التي تقرَأ في نسيج الشعر إلى مستوى اللباس الذي يكون ارتداؤه هنا وهناك انعطافة في المعنى، قلباً في نظام العلاقات المكانية، وانقلاباً على السكون بامتياز، وتفجيراً له .
وهي إذ تكون المخاطَبة، أو ما تفصح عنه نبرة القصيدة ومسلكها في الكتابة، إنما تتخذ من نفسها عتبة رؤية للعالم داخلها ومن حولها كذلك.
إنه تشهير بالضعف القائم وإشهار بما هو متوخى، ودون هذا الضعف يستحيل تلمس القوة المطلوبة لبناء ما هو كوني، وليس لتخريبه، وثمة توسل إلى المعتبَر موئل الرجاء، كما في " دعاء ":
يا الله
رفقاً بنا
لا تؤاخذنا بإيماننا الضعيف
تجلّ لنا بأبسط الأمور. ص 63)
لعلنا نجد أنفسنا إزاء صك اعتراف بمدى ضعف أو هشاشة الكائن البشري،ليس لأنه هش وجوداً، وإنما جرّاء ما يقوم به، يؤكّد هشاشته وسر انحلاله في الوجود، لأنه يكابر على روحه تماماً. وفي هذا الاقتباس، ثمة تعرية لهذه الكينونة التي تجاهلت حقيقتها، وهي في ممارسة العنف، وهو نداء يعلو بالروح المنجرحة، ويشكل شهادة دامية على وجود دام ٍ، على أن المعيش اليومي، لا يرتجى منه ما يحث على الاستمرار فيه دون توقع ما هو كارثي
أليس هذا شأن ما يجعل المصدوم على مدار الساعة، كما في " مصحَّة "
ولما يموت الناس هنا
يخلّفون وراءهم حقيبة ملأى بملابس داخلية
باهتة
وخرائط مسروقة
دفاتر تحوي عناوين ناقصة
معجون أسنان إضافياً
بطاريات،
وربما ثوباً مرتّباً للجنائز
ننظف الأثاث، ونعقّم بياضات الأسرَّة
نرسم صرخات متناثرة على الحيطان
نحرق ، ونرمي ما تبقَّى . ص 93) .
تلك المعضلة " الأبوريا "، تلك هي المأساة، حيث نعي الموجود مستمر هنا، هناك، وما بينهما، من خلال مخلفاته، بقاياه، الآثار المرئية، ما يمضي بنا إلى معاينتها، ما يصدمنا في وجود معتلّ بالجاري فيه .
لكم هي منجرحة، ومأهولة بالانجراحات هذه الـ " كريشنان " لكم هي ذاكرتها الفردية تعيش " جينوسايدها " الروحي على وقْع هذه الكثافة من حضورات العالم ومكوناته، وانكشاف الحاضر، في ضوء الماضي، ومساءلة ما كان يتم طي ذاكرة جماعية متداعية من جهتها.
ذلك باعث على الغثيان المستمر، ولو بلغة هادئة، ولكنها طلقة في حجرة انفجار" القصيدة ".
ثمة وجود طللي، كشف حساب للخسائر الفظيعة، إماطة اللثام عن الوجوه وهي في تنوع أقنعتها.
إنها لا تتهم أحداً، مباشرة، ففي ذلك ما يشكل مجزرة بحق الشعر والأدب والفكر عينه، إنما تقول ما يجعل كل قارىء لها متحفّزاً لأن يرى في نفسه موبقاته، أخطاءه المتتالية هندسياً، وهو كما لو أنه بريىء ذمةَّ، كما لو أنه ليس ذاك الذي يمارس ارتكاب الأخطاء، الحماقات وبمتعة ما.
هوذا المرئي حقيقة في قصيدة " بياض " وما للبياض من فاعل إبلاغي عن صدأ الموجود روحياً:
( كل شيء أبيض
في هذا العالم المشع بالبياض
حيطان تتوهج من شدة بياضها
عيون النساء بركٌ من مساحيق بيضاء
أتلك وجوه بيضاء
أم إنها تختفي خلف قناع فضّي. ص111) .
ثمة مأساوي ما وراء هذا البياض، والبياض في أصله يتضمن مختلف الألوان، كونه ليس لوناً في الأساس، ولكنه المحتوي للألوان، وهنا الشاهد على الأقنعة التي تغيّب الوجوه داخلاً.
لا يعود البياض واحداً، إنه تنوع هائل، كثرة فظيعة، وهي بمدلولها كثافة وجود متخَم بالمخاوف.إنه شاهد إثبات على ضلالة المرئي، وتحميله ما ليس فيه.
لا شيء قادر على النطق بحقيقته كما هو في الداخل. هذا يثير أكثر من سؤال عما هو مصطنَع، وعما " تجود " به يد " خليفة الله على الأرض " من خرائب مادية ومعنوية، ما " يجود " به فكره من تصورات تسهم في تحويل الأمكنة العامرة إلى أطلال منكفئة على أحزانها.
هو ما يرتد بالقارىء إلى الطائر ثانية، طائر الشاعرة، أو الشاعرة الطائر وقد استولدت من خلاله ما يمنح الموصوف قيمة استئناف ودعوى على الناطق الوحيد والمسئول الوحيد عن خراب العالم، الطائر تأنيثاً له، حيث خصوبة المعنى، من ممتلكات الشعر الأثيرة ودفوعاته الجمالية.
يكون الطائر، وقد حمّل هوية تجنيس مؤنثة، يسمّي تلك الحمولة التي تسغرق جهات مختلفة، فلا يعود هناك مستثنى مكاني، أرضي وما فوقه،تعبيراً عما ينذر بما يتخوَّف منه، وإيقاظ للغافل.
في مسلك قول شعري كهذا، تكون الشاعرة أنورادا فيجايا كريشنان قد عزّزت كينونتها شاعرةً، لا بد أن " الوجود هناك " بعيداً بعيداً عن " الموجود هنا " قد منحها عملياً، شرِف إقامة في عالمه الرحب والواسع المدى.
وهو ما يعيدنا إلى المستهل في التمهيد، ويفعّل قيمته بأكثر من معنى، وما في ذلك من إقراربحق الشعر في البقاء ومدى الحاجة إليه لأن يبقى( الطائر الذي هو أنا... مجموعتي الشعرية الأولى، أستكشف فيها هوية: الواقع، الأسطورة، الافتراضات والرغبات. تعمدتُ في هذه القصائد التجول عبر جسور معلَّقة بحبال رفيعة وفجوات واسعة بين عوالم مختلفة داخلية وغيرها. ص 13) .
كما في الأمثلة المذكورة، وما يحفّز على قراءة كل قصيدة لها موقعها المعتبر في المجموعة، وما تنطوي عليه الترجمة إلى العربية للكاتبة " صباح ديبي "من مأثرة جمالية، وتفهّم عميق وملحوظ للغة الشاعرة من الداخل. ذلك يذكّرنا بوجه من وجوه تحدي الترجمة بين اللغات، وهو أن نجاح لغة ما، يتوقف على مدى ترجمتها إلى لغة أخرى، إن عاشق اللغتين هو الشاهد على ذلك. وفي ترجمة " ديبي " كان ثمة عشق، ليس من النوع السالب للفؤاد، وإنما المضيء له ولما حولهن، وبالتالي، فإن الشعر هنا، وكما هو مقروء في لغة أخرى: العربية،إذا كان هو الكلام، لم يضع في الترجمة، كما أشير إلى ذلك في مقدمة الشاعرة " ص12"، إنما أكّد على صواب المقولة السابقة، وهي أن الشعر قد يبقى الكلام الذي يعزّز فراهة محتواه ترجمةً.
إشارة
أنورادا فيجايا كريشنان، ترجمة صباح ديبي، دار المحيط، الفجيرة، دولة الإمارات العربية المتحدة، ط1، 2022 ، في " 116 " صفحة من القطْع صغير.