حوارية
قال لي: -
أنا أعرفك منذ زمن بعيد، بيني وبينك اتصال، تخاطر، رسائلك لم تكتب بالأحرف، ليس لها مفردات، لا تتشكل من الجمل، لكني أعرفك جيدا، رسائلك كلها فيً، في مخزون ذاكرة خاصة، ذاكرة تحاصر الزمان، تحاصر المكان، تقتحم مجهول الأقبية والسراديب والدياجير.
قلت: -
وأنا أعرفك، ملامحك، كل شعرة في رأسك، كل ذرة في جسدك، خطواتك، إشاراتك، قامتك المربوعة، تحمل لي أنفاس جنة، اسمها عدن، اسمها يمن، بيني وبينك تخاطر يتصل من جوف زنزانتي بجوف زنزانتك.
قال لي: -
تاريخ نحن، مداده العذاب، الهوان، الألم، الفراق، تاريخ حمل غبار جسدينا، غبار نفسينا، في حبات أثير طار لا نعلم أين، لكنه محفوظ في جوف الفضاء، ربما جزء منه في القمر، وربما جزء منه في الشمس، وربما جزء لا يزال مسافرا في رحلة طويلة طويلة.
قلت: -
عذابنا راحة، ملتقى لسر كامن في رحم الآت، رحم مستقبل ترسمه مساماتنا، جلودنا، مساحات الألم الممتدة من فلسطين إلى عدن، من عدن إلى فلسطين، فراقنا لقاء بين ماض يتجدد، وحاضر يتعهد، الماضي والحاضر يربطان الزمن بالأثير، الشمس والقمر في حدقات عيوننا التي ترز شعاعا يشكل ألوان الأرض حين تمتزج بألوان السماء. هوان، كلمة ليست ضمن مفرداتنا، ولا في قواميس أحلامنا، لا مداد لها ولا حبر على صفحات تاريخنا أو مستقبلنا. إباء نحن، شموخ، عزم وعزيمة لكل إنسان. هوان جلادنا، سجاننا، هوان يرحل في طيات الذل والهزيمة، مفرداته بلا روح، بلا قلب، تعيش في قاموس يأكله العفن، يركِعه الزيف.
قال لي: -
لكننا نحيا، نرسم من مفرداتنا عوالم مفتوحة، لا حدود لها، لا تعرف المسافات ولا تعترف بالأبعاد، لا تخضع للأورام، نحن نكتب الفرح، نجهر بالحقيقة ليصعد الحق إلى السطح، إلى العين.
قلت: -
الكتابة خلاص من عذاب، من ازدحام النفس في طاقات لا تعرف طريقها، لا تدرك مدارها بين الكواكب والمجرات. نحن شيء بسيط، بسيط، إلى حد أننا حين نحدق بالرجال، بالتاريخ الذي كتب دون الحاجة إلى أناملهم، أقلامهم، عباراتهم، نشعر بالتقزم، التقزم الشديد. نحن نملك أداة تساعدنا على منح ذاتنا نرجسية مغلفة بالبطولة، بالصمود، بالنهوض. لكنهم هم، أولئك الرجال، الرجال الذين امتصت عقولهم وأرواحهم التجربة بكل ما فيها من نقاء، رحلوا، رحلوا دون أن تنظر أعينهم نحو الحياة، نحو اللذة، رحلوا مخلفين من هم أمثالنا يقفون على رصيف زمن لا نعرفه ولا يعرفنا.
قال لي: -
لكننا مثلهم، دفعنا الثمن، خضنا التجربة، رضعنا الألم من ثدي كرهناه، رائحته نتنة، عفنة، وكنا مع الموت في كل يوم، في كل لحظة، على موعد. رقابنا مصابة بحساسية الحبال، عيوننا يسكنها ألم الفراق، وقلوبنا تمتد خارطة من شرق إلى غرب، من شمال إلى جنوب، من فوق إلى تحت، لتتركز في عمق بؤرة هذه الأبعاد كلها، كنا بشرا نتجرع الخوف، نتعلق بحبال الدعاء والرجاء، وأبواب الزنزانة تصفق في كل حين، في كل لحظة لتذكرنا بحقيقة الموت والفناء.
قلت: -
نحن كنا نطلب الرجاء، نمد أفكارنا حبالا للتمني، لكنهم ركلوا الرجاء بأقدامهم، بل كانوا يستدعون الموت في كل لحظة ودون تأخير، بيننا وبينهم جبال من السنين، سهول من الدهور، ممتدة امتداد قدرتهم على البقاء في رحم الأرض أحياء، امتداد قدرتهم على صلب العذاب فوق سواعدهم وعلى رؤوس أناملهم. هم كانوا، وسيبقون، بوابات التاريخ الفاصل بين مراحل الزمن. أما نحن، لا شيء سوى حراس على أرضية تلك البوابات، شرف عظيم، نقبله ولا ندعيه، إن كانت تلك البوابات تحتاج أصلا إلى حراسة.
قال لي: -
نحن امتداد لهم، لتجاربهم، لامتدادهم فوق جسد التاريخ كسحابات تظللها الشمس النافرة من بين سحابات الصباح الناعم. نحن خليط متين من كل ما فيهم، نشعر بأرواحهم تسري وتكبر في أرواحنا، نشعر بدمائهم تفتح في أوردتنا وشراييننا مزيجا رائعا من الإباء والشموخ الذي يشك يفاعة ملامحنا.
قلت: -
قد يكون في هذا شيء من الحق، نفس من الحقيقة، لكن، أنا وأنت، نشعر أننا أطفالهم، نذهب كل يوم إلى بوابات جامعاتهم لنعود محملين بغموض صبرهم ورباطة جأشهم، نعود ونحن نحاول الإجابة، ولكن دون جدوى. ويبقى عمر القاسم، إبراهيم الراعي، أبو النوب، حسن كليبي، يحيى عياش، أحمد ياسين، الرنتيسي، ومثلهم كثير، يبقى من نعرف منهم ومن لا نعرف، تاريخا يمكن الوقوف على أعتابه، على مصاطبه، مع الشعور بالرهبة، بالجلال، بالغموض، وقوفنا هذا دليل على بقائنا نحتاج دوما أن نرفع رؤوسنا بشدة كي نتمكن من رؤية نورهم الدافق بالحياة، بنور الشمس وجلالها.
قال لي: -
لكننا منهم، نحن منهم.
قلت: -
ممكن، لكنهم كتبوا أسطرهم على صفحات رائعة تاركين النهاية مفتوحة. أما نحن يا صديقي، فإننا لا نزال أحياء، نحتسي القهوة، ندخن، نداعب أحلامنا وأطفالنا، هم خلفونا وراءهم، فهل ندرك ذلك؟ الجواب متروك للزمن، للنهاية، للأيام القادمة كي تقول للناس إن كنا على أقل تقدير مثل تاريخ يوم واحد، بل ولحظة واحدة من لحظات حياتهم.
" هذه الحوارية، غير موجهة لشخص بعينه، بل موجهة لكل عربي ومسلم يرى الحق البديهي خطا واحدا لا يمكن المساومة أو الادعاء عليه، حق الحقيقة التي لا تقبل التجزئة أو التقسيم، أو حتى النقاش باسم المصطلحات الجديدة التي تطالبنا بالتنصل من حق الفطرة واستقامتها بأسماء ومصطلحات يروق للبعض التشدق بها باسم الرأي والرأي الأخر، هذه الحوارية مهداة للأبطال في كل زمان ومكان، والى من يعترف بحقهم في الخلود خارج دوائر الترهات والزيف التي يتغنى بها جمع هائل من ( المثقفين ) ( الأبطال ) على ورق الخوف والانحسار والهزيمة ".
مأمون أحمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم
النرويج – 5- 8 – 2003